شعار الموقع

الكلمة بعد ربع قرن .. حضور ومواكبة وعطاء فكري

ميلود حميدات 2019-10-05
عدد القراءات « 754 »

الكلمة بعد ربع قرن..

حضور ومواكبة وعطاء فكري

الدكتور ميلود حميدات*

إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن نسجّل الحضور، ونشارك بهذه المناسبة السعيدة، بهذه الكلمة التي تواكب مجلة الكلمة، وهي تحتفي بمرور خمس وعشرين سنة من العطاء والوفاء لمبادئ الأمة وتطلعاتها، والاستمرارية والصمود كل هذه السنوات الطويلة، متحدية كل الظروف والمعطيات التي تواجه النشر في العالم العربي.

لقد سعدنا بمعرفتنا لهذه المجلة منذ أكثر من عشر سنوات، فقمنا بتتبع أعدادها منذ ذلك الوقت، وتعلّقنا بها، واستفدنا منها، كما تشرّفنا بأن نكتب فيها بعض دراساتنا، وذلك لأننا وجدناها مجلة تسير وفق خط سليم، فهي تراعي وحدة الأمة العربية والإسلامية، وتتبنّى قيم الاعتدال والوسطية، وتنبذ الخلاف والعصبية، وتنتهج الدقة والموضوعية، وتستمد من مبادئ الدين الحنيف، أسس التسامح والتضامن والوحدة، مصداقًا لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[1].

إن صمود واستمرارية هذه المجلة دون كلل أو ملل كل هذه السنوات الطويلة لدليل على صوابية خطها، وصحة نهجها، وصلابة عودها، وإخلاص القائمين عليها، وهو ما يؤكد أيضًا تلاحم كتّابها، وتوافقهم على القضايا التي تعالجها، ومواكبتها للموضوعات المهمة، التي تصب في صلب مشكلات الفكر العربي الاسلامي، تحليلًا وتشخيصًا وتعليلًا، مع احترامها للرأي والرأي الآخر، في إطار من الموضوعية والالتزام الأخلاقي.

إن نجاح مجلة «الكلمة» في التأسيس لخط أصيل، والتزامها الموضوعية في التحليل، واعتمادها الحجة والدليل، في المعالجة والتعليل، والصدور في وقتها دون تطويل، وظهورها في شكل جميل، كلها عوامل أدّت إلى حصولها على توافق ليس له مثيل، بين كتّاب ومفكري المشرق والمغرب العربيين، على مصداقيتها ومكانتها العلمية، وهو ما أدّى -دون شك- إلى إنشاء قاعدة لتبادل الأفكار، وفتح باب النقاش والحوار.

إن العامل الذي يؤرّق الكتّاب الملتزمين بقضايا الأمة هو التأخّر الحضاري الذي تعانيه الأمة، والتخلّف الثقافي والعلمي والتكنولوجي، حيث صرنا نستورد كل شيء ولا نصنع شيئًا من حاجاتنا، ممّا يهدّد وجودنا ومستقبل أبنائنا، إن ضرورة النهضة أمر يفرض نفسه علينا، ويلزم المثقفين والنخب كطليعة الأمة، أكثر من غيرهم بالمساهمة في التفكير للنهوض بالأمة، والمساهمة في زيادة الإنتاج الفكري؛ لأن قدر المفكّر أن يعيش هموم أمته، ويتبنّى قضاياها المصيرية، ولا يعيش لمشاكله الخاصة.

وخاصة أننا في زمن عزَّ فيه الوفاء، وعمَّ فيه البلاء، والأمة تعاني تكالب الأعداء، وقلّة الأصدقاء، فما أحوجنا إلى كلمة سواء، واجتهاد المفكّرين والعلماء، بجد وموضوعية خالية من الأهواء، لتشخيص أسباب الداء، والعمل على إيجاد الدواء، ولعل «الكلمة» الصادقة بكتّابها الأوفياء، قد بادرت برفع اللواء، وساهمت وتساهم في النداء بمشروع حضاري يعمل على الإحياء لقيم الأمة السمحاء، التي تجمع كل الأبناء، من أجل التنمية والبناء، لنكون في مصاف الأقوياء.

إن المتتبّع للموضوعات التي عالجتها المجلة يلمس التنوّع والثراء، ويدرك الجدية والتركيز في المعالجة، والموضوعية في الطرح. كما أن الموضوعات تلامس أهم قضايا الفكر العربي الاسلامي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قضايا وحدة الأمة، والمشروع الحضاري العربي، في ظل الحوار الموضوعي بين أبناء العالم الإسلامي والحضارات المختلفة، والتحديات التي يواجهها الإسلام مع الغرب، وضرورة التفاهم والوئام عوض التصادم والخصام، في ظل العولمة وثورة المعرفة والمعلوماتية، التي تفرض العصرنة والتجديد الحضاري، مع الزامية رعاية حقوق الانسان والمجتمعات في الحرية والتفكير، مع عدم نسيان الشخصيات الإسلامية، التي ساهمت بإبداعاتها قديمًا وحديثًا في تطوير الفكر الانساني.

ومع كل هذه الموضوعات تقترح المجلة نقاشًا علميًّا موضوعيًّا، حول المسائل التي تؤرّق المفكّر العربي تراثية كانت أم معاصرة، وحتى في المجالات الأدبية والثقافية المهمة، لتفتح صفحاتها للمبدعين والأدباء من العالم الاسلامي، ليثروا المجلة الملتزمة في كل طروحاتها بخط معتدل رزين، يجمع ولا يفرّق، يبني ولا يهدم، ويقرّب ولا يتعصّب، مؤمنين بالحق في التفكير، والحرية في إبداء الرأي، وأن الاختلاف سنة من سنن الكون.

لقد فتحت المجلة -منذ نشأتها- آفاقًا واسعة للتفكير لكثير من المفكّرين الشباب من جامعات مختلفة من المشرق والمغرب، وأخصّ بالذكر أساتذة الجامعات الجزائرية الذين نعرف الكثير منهم، وقد وجدوا في «الكلمة» مجالًا للتعبير عن أفكارهم العلمية، وعرض آرائهم الفكرية، ومشاريعهم البحثية، وبعث مجال النقاش مع غيرهم من الوطن العربي الكبير، وقد ساهم ذلك دون شك، في التعريف بمنتوجهم الفكري، وفي تطوير أدواتهم البحثية، وترقّي درجاتهم العلمية.

كما ساهمت المجلة من خلال رصيدها المتميّز من البحوث والمقالات والمشاريع في إثراء الرصيد المعرفي والبحثي للباحثين، وأصبحت بأعدادها الكثيرة أرشيفًا بحثيًّا معتبرًا يحفظ كمًّا لا يستهان به من قضايا الفكر العربي، كذلك صارت منبعًا لا يستهان به للباحثين الشباب لاستلهام قضايا البحث الجديدة سواءً من الموضوعات، أو من الشخصيات التي كتبت عنها المجلة، أو كتبت فيها، وذلك للقيام بالدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية، لنيل الدرجات الجامعية العلمية المختلفة.

إن انفتاح المجلة على المفكّرين من المغرب والمشرق قد ساهم كثيرًا في تعريف المشرق بمفكّري المغرب القدماء أو المعاصرين، والعكس صحيح، وأدّى ذلك التلاقح في الأفكار، والتحاور بين الآراء إلى تقريب وجهات النظر في المسائل الخلافية، وتوسيع قاعدة التوافق في غيرها من القضايا الفكرية، في إطار من النقاش الهادئ والهادف.

وقد أصبحت المجلة تشكّل منتدى للمفكّرين العرب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، وانعكس ذلك إيجابًا في التأسيس لحسن الاستماع للآخر، وتقبّل الأفكار مع الاختلاف في الطرح، وهذا دليل على الرّقي والموضوعية، ونبذ التعصّب والذاتية، وهو أمر قلَّما يتوفّر لمجلة علمية عربية تتوسّع جغرافيًّا بهذا الشكل أفقيًّا وعموديًّا، لتشمل مفكّرين كثر، وقضايا قديمة وحديثة من العالم الإسلامي أجمع رغم اتّساعه.

لقد كان مغزى «الكلمة» دائمًا عنوانًا للتدبّر والتفكير، ورمزًا مختصرًا للدقة في التعبير، فالكلمة هي التي تدخل صاحبها إلى الجنة، أو تهوي به إلى النار، فهي التي ترفع صاحبها إن كانت كلمة حق صادقة إلى الأنبياء والقديسين، وتسقط بصاحبها إلى الأشقياء والشياطين إن كانت كلمة باطل.

فما بالك إن كانت هذه المجلة قد أسّست لتصدح بالكلمة الطيبة، التي تجمع أبناء هذه الأمة على حرية التفكير، وعلى مشروع حضاري يقدّس الكلمة، ويؤمن بالوحدة بينهم، وتُعلي من دور الفكر البنّاء الذي يخدم قيم الإنسانية جمعاء، فتصبح بذلك الكلمة نور يستضاء به، وكلمة حق تُتّبع، وطريق مستقيم يُهتدى به، كل هذه المعاني المستنيرة للكلمة، التي تسعى مجلة «الكلمة» لتستلهمها، كما يجب أن نسعى جميعًا لتجسيدها واتّباعها.

فالحقيقة أن هناك كلمات تبقى محفورة في أذهاننا مع طول السنين، وأخرى تنسى في يومها، ولنا مثل في ذلك، لقد علّمنا أستاذنا ونحن في الابتدائي كلمات لم تغادر أذهاننا إلى اليوم، ولا نعرف السر في ذلك، وعرفنا لمّا كبرنا أنها تنسب للخليل بن أحمد الفراهيدي، ولا يسعنا إلَّا أن نشارككم إياها حيث تقول: «الأرض بأسرها لا تسع متباغضين، وشبرًا في شبر يسع متحابين، أحبب غيرك كنفسك، المحبة تبني والبغضاء تهدم».

لذا لا يخشى من بنى بنيانه على المحبة والوفاء، والتقوى والإخلاص، وسعى إلى ما فيه الخير لأمته، وهو ما نحتسبه في مجلة «الكلمة».

إن المتتبّع لأعداد المجلة ليلاحظ -دون عناء- الالتزام المهني، والوفاء لقرّائها، والاستمرارية في الصدور، مع تنوّع وجدّية في الموضوعات، وعمق في المعالجة، وموضوعية في الطرح، تدلّ على اجتهاد وتفاني هيئة تحرير المجلة، والقائمين عليها، والملتزمين بتغذيتها من كتّابها، مع إقرارنا بالنقص في كل عمل إنساني، فالكمال لله، والمهم في كل هذا هو العمل بإخلاص النية، والسعي المستمر إلى الأفضل والأحسن، فإن لم تتحقّق الإصابة في بعض الأحيان، يتحقّق على الأقل أجر الاجتهاد.

في الأخير لا يسعنا إلَّا أن نُهنّئ كل من ساهم من قريب أو من بعيد، ولو بكلمة طيبة في وجود هذه المجلة، وفي استمرارها من الأولين والآخرين، ونترحّم على الذين غادرونا إلى دار الحق، راجين من الله أن يتقبّل عملهم، وأن يزكّي مساهمتهم كصدقة جارية لهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، متمنين للمجلة الاستمرارية والدوام في خطّها العلمي الملتزم، وفي عطائها الفكري المتميّز، لأجيال وأجيال كثيرة، ولأعوام وأعوام مديدة، سائلين المولى عزَّ وجلَّ، لها وللقائمين عليها، مزيدًا من النجاح والتألّق، والتوفيق والسداد.

 

 



[1] سورة آل عمران، الآية ١٠٣.