قد يتبادر إلى الذهن ـللوهلة الأولى ـ أننا نرمي من خلال هذه المعالجة، إلى تعزيز مركب نظري جاهز، يتقاطع مع السائد أو يناظر بناءً تأسيسياً مزمناً ، أو قد يبدو مجازفة في دحض البنى القائمة،لصالح نزوة في التيه، أو رغبة في الخروج أو الإقامة بمعزل عن المقدس. ولكننا في جملة ما نرومه في أطاريحنا، نحاول التجرد قدر الإمكان عن كل ما من شأنه إعاقة العقل العربي والإسلامي عن بلوغ هدفيته الأسمى، ألا وهي الحقيقة في مختلف تمظهراتها الموضوعية. ولعلنا طيلة فترة من التغالب السياسي والتاريخي أثبتنا نحن العرب والمسلمين، بأننا مازلنا نتأرجح بين معوقاتنا الثقافية،متعثرين في أوهامنا وهواجسنا التي تجذرت في تفكيرنا نتيجة استبداد المقدس التاريخي بوعينا. إننا ـ حقاً ـنمثل نموذجاً غير سويٍّ في رؤيتنا للأشياء، حيث استعضنا بهواجسنا عن الواقع، وحيث أننا بالمقاييس الإسلامية نفسها لم نرق إلى رؤية الأشياء كما هي، تلك الرؤية التي يتيحها التقوى من حيث هي تطهير دائم للنفوس والعقول، كي تنهض بشروط النظر القويم والرؤية النافذة. وموضوع النظام السياسي في الإسلام، هو واحد من تلك المعضلات التي مازالت تتمظهر من خلالها آفات التفكير العربي والإسلامي والمعاصر، من حيث هي الموضوع الإشكالي الأكثر إلحاحاً وشيوعاً وخطورة. بل إننا ونحن نواجه هذا المد المهول من الاتجاهات التي ترى لنفسها الصلاحية المطلقة في أن تثبت ما ترى نفسها جديرة به من التصورات والآراء الإسلامية بخصوص النظام السياسي، نرى أنفسنا أمام صورة تطغى عليها الرغبة في المطلق أو يستبد بها منزع الشمول والكليانية. ولقد ظل الفكر العربي والإٍلامي المعاصر، مهووساً بنمط من التفكير يتجه نحو تعزيز أو تبرير أنساق جاهزة أو التنويع على المركبات، في حين ظل الجانب الغائب والمهمل في تفكيرنا،هو البعد التفكيكي للبنى والأنساق، بما يتيحه للناظر من رؤية أكثر صرامة للحقيقة وطبيعة انتاجها. إن المشكلة ليست ـ في واقعها ـتتصل بالبحث عن الحقيقة أو الاستبداد بها واحتكارها.. ذلك بأن كل الأطراف المصطرعة حول هذا الموضوع،كانت تمثل حقيقة ما. إنما جوهر المشكلة يكمن في أن طرائق البحث عن الحقيقة،مسكونة بذهان مزمن،يجعل الحقيقة تنطلق من ذات مريضة،تفتعل فصاماً خطيراً بين الحقيقة والواقع،أو النص والحياة. من هنا يطغى المقدس الذي لايعني هنا ما تتظاهر به هذه الرؤية أو تلك بقدر ما يعني مظهراً لذهنية لاتملك إمكانية النظر السوي إلى موضوعها. فتغدو الحقيقة هدفاً قاراً وجاهزاً أو ثابتاً ، وليس غاية احتمالية ونسبية وديناميكية. إنها بالنتيجة، مشكلة منهج في النظر،ومشكلة نمط في الرؤية.
يتساهل الفكر الإٍلامي المعاصر، في السائد من أطاريحه، في اختبار منطلقاته وأسسه في النظر إلى موضوع النظام السياسي في الإسلام. وهذا ما يجعل الصورة التي يرسمها هذا الفكر عن النظام السياسي الأمثل، مبتورة في تفاصيلها وآلياتها ومأزومة في محتواها ومضمونها. وآية مأزمها ذاك، غياب الرؤية التاريخية لمظاهر تشكل النظام السياسي في السلام. هذا الغياب الذي عادة ما يتم بقصد منهجي أو بفعل آلية لا واعية تجعل الفكر الإسلامي، ينظر إلى موضوع النظام السياسي كمركب نهائي، يقتصر النظر أو البحث فيه أو عنه في حدود استرجاعه أو الإقامة الأمثل في منظومته.
وحيث الآلية الوحيدة المتاحة لذلك، هي تعبئة الوجدان وزخّه بأشكال وألوان من المنشطات الخطابية. وحين تستنفذ هذه الاستراتيجية التعبوية أغراضها أمام سلطة الواقع وصيرورته، أو حينما يصدمها استشكالات المخالف، فإنها تلجأ إلى حيلة العاجز، والوجه الآخر للأطاريح الخطابية،وهو العنف الذي يحمل صكه المقدس. ولكنها قلما او ربما ليس من مقدورها أن تدرك بأن النظام السياسي، هو حصيلة تراكم وتأسيس وصيرورة في الفهم، وإن كان قد توسل بأسس يبدو للوهلة الأولى أنها أصول، أو تستنجد بآليات، يظهر من أمرها أنها تنهض على طابور من الثوابت والمقدسات. فهي بالنتيجة ذاهلة أيما ذهول عن أن تدرك بأن من شأن المركب أن يكون له مسار سابق، ولكل بنية تاريخها. نعم، حتى وإن كان التاريخ قد ساهم في صياغة هذه البنية لمرة واحدة،فإن تكرارها عبر مسارات طويلة من التغالب السياسي، لايعفي النظر من أن يتجه إلى مسارات تشكلها السابقة.
ولاغرو أن الإجابة على مثل هذا السؤال، يتيح لنا إدراك التفاوت،بل التناقض في رؤية موضوعنا هذا،ما بين تأويل السلطة،وسلطة التأويل. أي أننا حتى الآن نغلب أطروحة النمط التاريخي للسلطة،تلك التي ساهم في تأسيسها الكيان السلطاني.
وهذا ما نروم الخروج منه باجتراح ما تقتضيه طبيعة النظر الموضوعي، وهو أن نخرج بموضوعنا من حيز السلطة إلى حيز المعرفة ومن تأويل السلطة إلى سلطة التأويل.
ولاشك في أن التعاطي مع النظام السياسي في الإسلام ـ كما تعرضه تلك الأطاريح المذكورة ـ على أساس الإقامة عند المركبات والتلبس بهاجس الاسترجاع للجاهز، وهو ما يولد عنفاً وعنفاً مضاداً . ويحرك النزوع إلى التغليب القائم على استراتيجية الإبادة والاستئصال الخطابي وليس على الإنزال أو الطرح القائم على المحاورة البرهانية. وسوف يظل رصيدنا ـ لامحالة ـ من العنف والعنف المضاد في تعاظم مستمر، إذا ما استمر النظر تسطيحياً ومخاتلاً داخل فضاء مشحون بهواجس تغالبية،كلها تلتقي عند هذه الحقيقة،وكلها تتوسل بالجاهز،وجميعها تضمر عنفاً أيديولوجياً ، وفي النتيجة كلها توفر للمستقبل انفجاراً أزموياً ، حتى لو هدأ روعها التعبوي بفعل إجراءات صارمة،حيث هاهنا تضمر نزوعها فتظهر ما تطلبه سلطة الدولة أو الجمهور.
إن مشكلة النظام السياسي كما يقدمه هؤلاء،أو كما يخالفهم فيه أولئك، مشكلة مزمنة،وعقدة غاية في الخطورة. ما يعني أنها لن تحل بجرعات شعاراتية ولابإجراءات أمنية. إنها تقع في صلب التصور الإسلامي للإنسان،بوصفه حقيقة اجتماعية تاريخية، تتقاطع عندها جملة من الحتميات، وتنفتح أمامها فسحة من الاحتمال. إنها قضية موكولة إلى سلطة المعرفة وليست رهينة لمعرفة السلطة، وتلك هي المفارقة الرؤيوية التي تؤسس للعنف وتشرعن منحاه.
من هنا يتعين علينا ـونحن نقصد الخروج بمخطط علمي تنحل عنده عقدة التصارع ومحل النزاع ـ اجتراح ما من شأنه إسنادنا في بلورة المنظور الأكثر انسجاماً ـ فيما نراه ـ مع جوهر التصور الإسلامي للمسألة. أي أننا بصدد إنماء رؤية نهاجية في فهمٍ امثل لفلسفة الإسلام، بما يدعمنا في النهوض بنقد جذري لتلكم الأطاريح التي في زعمها تملك ناصية الحقيقة،وهي بذلك تضع سقفاً منيعاً على الفكر الإسلامي حتى لاينأى بعيداً ، التماساً لفضاءات أوسع وأسلم للتحليق الأمثل.
المسألة في جوهرها تكمن في نمط انتسابنا للنص، بما هو البؤرة المعرفية الرئيسية التي تتحدد عندها مشروعية أطاريحنا. هذا الإنتساب الذي على اختلاف ألوانه لايبرر انتسابنا الأمثل للنص. إنّ الإنتساب إلى النص خيار استراتيجي يقوم على فهم إيجابي وديناميكي للنص، بحيث يتيح له الإعلان عن سلطته المتعالية في رصدها الموضوعي، والكشف عن إمكاناته واحتمالاته بصورة يغدوا فيها النصر نابضاً ، ومنسجماً مع العالم، متعاصراً على مدى صيرورته، ومتحداً معه بالصورة التي تجعل النص النابض بالمعنى قادراً على تحقيق وحدته بالعالم، وقادراً على تجسيد الوحدة الحقيقية للعقل الكلّي في تمظهراته الاعتبارية المحتملة والنسبية، سواء في نظام الكلمات أو نسق الأشياء. أي أننا نعيد الإشكالية في مختلف فروعها إلى أصل الموقف من النص وطبيعة الفلسفة التي نحملها عنه. وسوف ندرك بعد حين كيف أن أزمة النص، هي أساس هذا التصدع في وعينا العربي والإسلامي، والتجزئة في مواقفنا وهواجسنا. وهو أساس الثقافة البتية والحصرية والكليانية، التي تؤسس للعنف في فكرنا وتحرض على العنف المضاد تجاهنا. مع أننا نؤكد أن هذه المشكلة ليست أزمة في التفكير الإسلامي المعاصر أو القديم، أو التفكير العربي في منزعه القوماني. بل هي مشكلة التفكير الغربي أيضاً والتفكير الإنساني السائد عموماً .
ولئن كان الفكر الإسلامي قديماً وحديثاً شهد تنوعاً واختلافاً .. فإن مرجع ذلك بالأساس إلى كيفية الإنتساب إلى النص. فتكون تلك هي القضية الأساسية، حيث يترتب على القبض عليها،قدراً كافياً من الإيضاح لطبيعة النزاع وحقيقة المشكلة. إننا حينما نتأمل خريطة التفكير الإسلامي المعاصر بما في ذلك مجمل التيارات الفكرية الأخرى التي تعلن انتسابها بشكل ما إلى دائرة التفكير الإسلامي من حيث أنها في أرقى حالات تنكرها تزعم لنفسها تأسيس انفصاميتها العلمانية من داخل التصور الإسلامي نفسه لمسألة العلاقة بين الدين والسياسة. فهي في ضوء هذا التأسيس الجواني الناكر لتديين السياسة أو تسييس الدين، لا الناكر لهما، تندرج في دائرة الفكر الإسلامي في صورة من الصور.
حينما نتأمل هذه الخريطة، نواجه كيفيات ثلاث من الإنتساب إلى النص، يفتضح من خلالها مستوى أو حجم التفاعل مع النص،وأيضاً يكشف عن أن مجرد الإخبار أو الإدعاء بالانتماء إلى النص لايمثل كامل الحقيقة. إن الإنتساب إلى النص يتحدد بطبيعة الآليات المفعِّلة للنص،تفعيلاً إيجابياً مع العالم. فلا جرم إذا ما اعتبرنا النص بمثابة ذرة بلحاظ ما يحمله من خصائصها وبنيتها، التي يمكننا اعتبارها من الناحية الفيزيائية بنية فراغ. حيث وجه الشبه بينهما يكمن في أن الذرة تتألف من مدارات مختلفة المقامات ومحتملة الاتجاهات تتحدد بحركة الكهربات حول النواة (نوترون + بروتون). فالذرة بهذا المعنى هي كتلة من فراغ تتميز أجزاؤها بالحركة. وحيث أن للذرة الواحدة عدة مدارات مختلفة ومحتملة. فإن للكهرب أن يتحرك بحرية فينتقل إلى مدارات أخرى في ذرات مختلفة، وهو ما يفسر لنا طبيعة (الأيون). إن تلاقي الذرات وكيفية الصلة بين الذرات والجزيئات،يثري العالم،ويسهم في تشكيل الأشياء. إن النص أيضاً بمثابة طاقة قابلة للتمظهر والصيرورة. فالنص بهذا المعنى ينطوي على حركة باطنية ومدارات وطبقات، يمكننا تصوير مداراته،بطبقاته الممكنة وسياقاته المحتملة. فالنص يملك مدارات، ويتمتع بحركة باطنة، وأيضاً بحركة خارجية،حيث منتهاها التآلف والتواصل..وفي كل حالة من حالات التآلف والتركب، يتولد المعنى. وعليه تختلف كيفية الإنتساب إلى النص بين ثلاثة نماذج تنتمي إلى دائرة الفكر الإسلامي الأول، الموقف العلماني، حيث يزعم انتماءً علمياً لدائرة النص، فيحقق تماساً مع دائرته، الأمر الذي يعني أن المسافة الممكنة التي تحدد هذا النوع من الانتماء،هو «نقطة»، أي أقل ما يمكن تصوره كصلة.
هذا الموقف بالنتيجة لاينتمي إنتماءً حقيقياً للنص، لأنه ينطلق داخل أجواءه ولايستطيع بلوغ مداراته. فهو موقف تسطيحي بامتياز. وعليه، فإن الناظر العلماني لايتيح للنص فرصة التعبير عن نفسه ضمن حركته الخاصة. إنها نظرة جامدة للنص ومراوغة في إسقاطاتها البرانية. وإذا أصبح النص لايتمتع بالحياة، وإذا غدا الناظر يصادر على معانيه الممكنة،ويفكر عن النص بالوكالة،فإنّ انتساباً كهذا لايحظى بالمصداقية الحقيقية. ومثله تقريباً النموذج الانغلاقي السلفوي الجامد الذي،وإن بدا قادراً على اختراق السطح، فهو يقف على مدار وحيد من مداراته. وعادة ما يكون المدار الخارجي، فلايكاد يخترق المدارات الأخرى. فيكون وضعه أكثر من كونه تماساً مع النص، ولكنه يجمد على مدار واحد من مداراته، فيقتل النص ويقتل نفسه ويقتل الحياة. إنه يتيح للنص أن يقدم نفسه مرة واحدة فقط، أو أن يقدمها بصورة مكرورة واسترجاعية.. فيكون حاله حال الحكواتي حيث، وإن توالت عليه الأزمنة، يحافظ على شكله ومضمونه، فيظل صورة وفيه لمشروع أو تحفة ماضوية كافرة بالحياة وصيرورتها.
ثم إننا مع النموذج الثالث للمتعاطين مع النص، نستطيع أن نعلن بأننا أمام استراتيجية اختراقية للنص، تملك القدرة على الحركة ضمن مدارات مختلفة ومحتملة. بل يمكنها النفاذ إلى حيث تفجّر النواة، فيعم الإشعاع. وقد تكون تلك حقاً هي طبيعة النص بشكل عام. أن يتفجّر ويحيلك على معانٍ مختلفة، تحكي عن قصود متكثرة بتكثر الوجود الصائر. ونحن في مقام النص القرآني، نجدنا أمام نصّ يتجلى امتيازه في كونه نسق آيوي (نسبة للآيات) مثله في ديناميته وإيحائه ككل الآيات والظاهرات الكونية والعقلية، بل إنه كباقي النصوص آيات، لكنه آيات كريمة. ولعل لهذا الوصف معنى تعبيرياً دلالياً خاصاً ، حيث أن النص القرآني يحيلك إلى قصود معصومة متعالية. فالمتكلم هنا،ذاتاً متعالية، بحسب المعطى المتاح في الدائرة الروحية الإسلامية. في حين أن المتكلم في مطلق النصوص البشرية، ذات واقعة في دائرة الحتميات المختلفة وما يعتريها من نقائض وقلق، يجعل تلك النصوص تحيل إلى قصود مسكونة بهواجس النقص وقلقه المستديم.
أستطيع بعد ذلك أن أقرر وحدة الموقف ما بين العلماني والسلفوي، ففضلاً عن أنهما معاً أصوليان Fondamentalistes ، تتحكم في رؤيتهما أصول وثوابت وقوالب معرفية وتاريخية جاهزة،وفضلاً عن أنهما معاً تمامياً integristes ، تنهض رؤيتهما ومشروعهما على رغبة استئصالية للآخر والمخالف،فهما معاً يقفان على مدار خارجي للنص، ويفكران عنه بالوكالة. العلماني يستحضر هواجسه الحداثية التي عادة ما تنطلق بلا رقابة شعورية،ومن هنا تأتي تلفيقيته وترحيله العشوائي.. في حين يغلب السلفوي نزوعه الماضوي، وسبقيته الاسترجاعية. وها هنا يمكننا التأسيس لنمط آخر من «التكفير» يقوم على خلفية العلاقة بين النص والحياة. فيكون السلفوي المهووس بماضويته التاريخية مشوهاً حقيقياً للنص ومنكراً لإمكاناته. فهو بهذا المعنى، فصامي علماني من حيث فصله النص عن الحياة، وهكذا تفقد السلفوية والعلمانية مدلولها الأديولوجي،فتستحيل حقيقة لها معناها في كل من الاتجاهين على السواء. فالسلفوي شخص علماني فصامي فاصل بين النص والواقع، والعلماني شخص سلفوي تسطيحي، يقف عند الظاهر وكلاهما واقع في حافة التسطيح،وعاجز عن جسّ نبض النص وسماع همسه الباطن. وكلاهما ينطبق عليه النص: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا،وهم عن الآخرة هم غافلون}. على أن إحدى معاني الغفلة هذه، الذهول عن الوجه الآخر، والمعنى الباطن.
تأسيساً على هذا التقسيم الثلاثي،نستطيع القبض على الخلفية المعرفية لمظاهر العنف كظاهرة لها مدلولها الموضوعي، وحقيقتها،باعتبارها نتيجة حتمية لفكر مأزوم، وموقف قاصر عن ملامسة المعنى الخفي والمؤجل، لنص دائم الإشعاع، أو لآيات كريمة معطاءة غزيرة المعنى. إذن،ما يعرف بعنف الحركات الإسلامية ذات المنزع التمامي والأصولي كما تعبر قواميس العلمانية الفصامية. وما يعرف بعنف التيار العلماني، المارق أو الكافر بحسب التعبير السلفوي التكفيري، هو مظهر لموقف قاصر عن إدراك فلسفة النص،تحول دون تدبّر مكين في مقاماته ووجوهه، وتدبير حكيم لمعانيه ونزولاته.
إذن، النص ثابت ومتحرك.. محكم ومتشابه..إضاءة وعماء.. يقين واحتمال.. وهو رهان مفتوح على درب ممتد امتداد الإمكان.أي أنه نسبي المعنى، متعاصر أبداً . وهذا الفهم أو بالأحرى هذه المقاربة الجدلية للمعنى، هو ما يجعل النص قادراً على إفراز الوجه المطلوب، وتحقيق النزول الموضوعي. ما يجعله صائراً ، متعاصراً ، فلا مجال حينئذ للحديث عن أي شكل من أشكال الاسترجاع، مادام المعنى في انسيابه ينساق انسياق الصيرورة، إذ المعنى لايبقى زمانين. كما يغدو عبثاً الحديث عن مشروع تجديد وتنوير، طالما أن المعنى في حدّ ذاته يملك دينامية الحركة. وحيث أن أزمة التجديد تبرز لما تنهض الإراءة على آلية حصرية،مغلقة، فيكون النظر حينئذ هو المعني بالتجديد وليس النص، تماماً مثلما أن أزمة تفجير الذرة عائد إلى آلية التفجير وضعف التقانة النووية وليس إلى الذرة من حيث هي عنصر،يملك استعداداً دائماً للانفجار.
هذه التوطئة المقتضبة حول طبيعة الموقف من النص وكيفية فهمه، تفيدنا في محاولة تقريب النظام السياسي في الإسلام.على أن آلية تنفيذ هذه الاستراتيجية التأويلية الفعّالة للنص يتطلب قدراً من الإحاطة بصنعة ألسنية وفيلولوجية متينة،مآلها تكوين رؤية إيجابية ودينامية للنص، تفتحه على الإمكان والاحتمال. فالوثوقيات والحصريات والتماميات.. ليست في حقيقتها وليدة النص، بل هي نتيجة محتومة لموقف من النص،يتسم بالانغلاق والتسطيح. إذن، الموقف المأزوم من النص والمعنى، سواء أتعلق بالحالة الفصامية العلمانية أو الفصامية السلفوية ـمن حيث كلاهما فاصل بين النص والحياة ـ راجع إلى استحكام تأويل السلطة،حيث الأول محكوم بسلطة الحداثة وهواجس، أو بالأحرى أوهام التنوير. والآخر مسكون بسلطة التراث ومصارعه. بينما ينهض الموقف الثالث المتدبّر والمدبّر، متأولاً ، متترساً بسلطة أخرى، هي سلطة التأويل ذاته. ولاشك أن بين هذا وذاك بون شاسع، هو ذاته البون الفاصل ما بين سلطة المعرفة،ومعرفة السلطة!
إذا رجعنا إلى موضوعنا المحوري،بناءً على الرؤية أعلاه، سوف نكتشف أن أزمة النظام السياسي في الإسلام، هي وليدة تعاطٍ تاريخي سطحي مع المعنى، ساد فيه تغليب تأويل السلطة على سلطة التأويل،مما حدا بالموضوع إلى أن يكون إشكالياً أبداً . فساد التعميم، وغلا ذهان الاسترجاع غلواً كبيراً .. واحتلت الخطابة مكانة البرهان، وأصبحت الأطاريح الدائرة حول موضوع النظام السياسي في الإسلام تستحضر في ثناياها حمولتها المخيالية الثقيلة، فساد التعسف على النص والحياة،وحيث تشكل نمط من العلاقة متوتر بينهما. تجلت مظاهرها فيما نراه اليوم من ألوان التماميات العنيفة،سلفويات وفصاميات مأزومة.
إذن،لمّا نقول أن الإشكالية تعود إلى أصل العلاقة بالنص والمعنى، فإننا نرى أن أسلم وسيلة لاستنطاق النص واستنزال أحكامه،يتوقف على امتلاك آلية تفجير النص من داخله، وذلك بفعل تدمير سياقه الذي استنفد أغراضه،وجعله مثالاً لدوائر الماء التي تتمادى في التخلق والتوسع. وهذا يتوقف على نهج استراتيجية استبدالية - Paradigmique - تجعل النص يتحرك في أكثر من سياق ممكن، فيحقق بذلك أكثر من نزول محتمل.
لقد عولج موضوع النظام السياسي في الإسلام، باعتباره معطى جاهز، لاتاريخ له. مع أن هذا الأخير هو البؤرة الأكثر تعرضاً للمنازعة في التراث العربي والإسلامي. وكأن ما جرى من تغالب وتصارع في سبيل كسب رهان السلطة لم يخلف آثاره وتصميمه على عملية التأسيس النظري لها. وأبسط سؤال يثار هنا: إذا كان أمر النظام السياسي في الإسلام بهذه الصورة الجاهزة المتكاملة المعصومة، فأحرى بمن هم في العهود الأولى، حيث يقر العقل السلفوي بأن خير القرون الأول ثم الثاني فالذي يليه.. أحرى أن ينشأ بين أولئك قدر من السلم المجتمعي، على قاعدة الانسجام الذي يعنى به النظام السياسي في الإسلام.. لكننا نرى خلافاً لذلك، ما استقرت أركان ذاك النظام،ولا هدأ روع الاجتماع السياسي يومئذ. على أن تعبيراً أمثل على ذلك ما كان ذكره الشهرستاني في ملله، بأنه ما استل سيف في الإسلام على أمر أكثر منه في الإمامة.
يتملك العقل السلفوي التمامي هاجس خطير تجاه مشروع النظام السياسي في الإسلام، بحيث يستبد في مخياله مشروع الشريعة ضمن نماذج لاتستجيب للشرط التاريخي. إنها مشروعية الشريعة التي تطرد من صقع تفكيره كل إمكانية لتفكير شريعة المشروعية. وعلى ما في مشروعه من ثلم وثغرات يحكمها المخيال الحالم،لا الفقه العملي،فإنه يرتضي تطبيقها، فيجعل وجودها نهاية كل مشروعية أخرى. ذلك بأن فصاماً رهيباً يحدد نظرته للعلاقة ما بين مشروعية الشريعة وشريعة المشروعية. أي بين الإنسان والشريعة. تلك المسافة التي تتحدد بموضوع العدالة والاستحقاق. فحيثما حلت الشريعة، فلا مشروعية بعد ذلك للمساءلة والمخالفة. فظلم مع الشريعة أولى من عدل بلاها. فتبقى الأزمة مستفحلة داخل عقل فصامي مأزوم، لايقوى على تفعيل العلاقة ما بين مشروع الشريعة وشريعة المشروعية الغائبة واللاّ مفكر فيها في منظومة التفكير السياسي الإسلامي التاريخي.
1/ فلسفة التشريع الإسلامي ومدى استجابتها لمقتضيات الاجتماع السياسي المعاصر وحتمية المجتمع المدني.
2/ العلاقة الجدلية بين مشروعية الشريعة وشريعة المشروعية.
يمكننا القول،بأن النظام السياسي في الإسلام،مشروع لم ينجز. ومن هنا فإن ما تزعمه تلك الأطاريح من حيث أن هذا النظام مكتمل وجاهز، وهو ضرب من الإدعاء، والنزوع خارج المعطى التاريخي. إن سلسلة الانهيارات السياسية التي شهدها الكيان العربي والإسلامي وعدد الاخفاقات الكبيرة التي هدّت اجتماعه السياسي عبر تاريخ طويل، مؤشّر واضح على وجود تداعي في المفاهيم النظرية،وتهافت في الخطاب السياسي. سيما وأن الاخفاق تمَّ في اللحظة التي التحق فيها صاحب الدعوة بالرفيق الأعلى. أعني أن معايير الانتخاب والتصور السائد ـ الغالب ـ الذي يمكن استخلاصه من عموم الشعارات والمحاججات التي شهدتها سقيفة بني ساعدة، توضح بما فيه الكفاية انزياحاً فاضحاً إلى خيار الدولة العصبانية بحسب المنظور الخلدوني. وهو الإخفاق الذي قضى على كل الامتيازات التي حاز عليها مفهوم الدولة ـ الأمة بمضونها الأيديولوجي والحضاري، كما تجسد بشكل ملفت للنظر في الدولة النبوية النموذجية.
إذن، نحن أمام أطاريح، بمقدار ما تبالغ في معصومية خيارها التاريخي، تحاول إسقاط أزمتها على ما ينافسها أو يخالفها من الخيارات الأخرى. وهي بعد كل ذلك تقف عاجزة عن إجراء القراءة الصحيحة والفعالة لمشكلتها. وذلك بتقريب تاريخي يفصل النص عن التصريف التاريخي له، ويجعل السلطة للنص، لا للممارسة التاريخية المدخولة بكثير من العناصر التحريفية.
إن المسألة الجوهرية في ذلك النزاع الذي قادته تلك الأطاريح حول موضوع الحكم والنظام السياسي وتحديداً ما بين الاتجاه الإسلامي وبين الخيار العلماني،تتجلّى في مفارقة فلسفية، تتصل بأصل التشريع، ومصدر تثبيت السلطات. ففيما تنزع الأطاريح العلمانية إلى جعل العقد الحر أساساً لتوطيد السلطات ورسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس الانتخاب، والاجتهاد في القوانين طبقاً لمصلحة المجموع ـهذا في أفضل حالات العلمانية إذا ما نزعت نزوعاً ديمقراطياً وليس عسكرياً ـ تجد الأطاريح الإسلامية السائدة، تتحدث عن جاهزية مطلقة في الشرائع، وتنزيل محكم للقوانين،ومرجعية متعالية في تحديد النظام. فالسلطة في الأولى للشعب، وفي الثانية هي لله، في الأولى هي للمصلحة وفي الأخرى هي للمطلق. ومع أن الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه سلطة الشعب غارق في العمومية، إلا أنه شهد تطوراً ملحوظاً ، جعل مفهوم حكومة الشعب، تشهد تصوراً براغماتياً ومؤسسياً أكثر دقة بالقياس مع أصل الأطروحة. وذلك لأنه أتيح له أن يأخذ حظه في النمو ضمن إدارة فعّالة وممارسة مؤسسية، الأمر الذي لم يُتح للأطاريح الإسلامية، إذا ما توخينا التقييم الموضوعي.
لقد كان العنف نتيجة حتمية لصدمة حضارية مشهودة، جعلت الأطاريح الإسلامية ـ أقصد الأطاريح العنفية السائدة ـ بحمولتها التاريخية،ترى في الخيارات الوضعية بحمولتها العلمانية المتطرفة، تهديداً لعقيدتها ومسلماتها وموروثها الروحي. إنه في العمق، صراع بين خيار حكومة البشر وبين خيار حكومة اللاهوت. وكان من الخطأ الذي ساهم في طغيانه كل من أنصار الحكومة اللاهوتية والناسوتية على السواء، جعل نمط السلطة في الإسلام تعبيراً أميناً عن حكومة اللاهوت التي ترتكز على تغييب الفاعلية البشرية،صائغة لها نظماً سياسية بالوكالة. أما الطرف الآخر فقد ترجم عملياً هذه الفكرة، حيث اعتبر الحكومة الإسلامية، حكومة مجعولة ومنزلة لادخل للبشر في صياغتها أو تصريفها. ولسان حالهم «لاحكم إلا الله». وقد ازدادت المشكلة تأزماً ، لأننا نملك أكثر من اتجاه ورؤية حول مسألة الحكم في الإسلام. لكن ما هو سائد وغالب في تلك الأطاريح، يحمل شحنة خوارجية تكتفي بالشعار (إن الحكم إلا لله). في حين تراها تفتقر إلى آلية التصريف العملي لهذا الشعار. هذا الخيار يكرس تلك المسافة التناقضية بين حكم بشري وضعي خالص لإدخاله للسماء في جعله أو إقراره، وبين المصادر التأسيسية لمفهوم الحكومة الإسلامية يفهم منها أنها جعلت الشرع سيد العقلاء، بحيث في الأمور الواضحات المتعلقة بالمصلحة الواقعية للبشر، جُعل الحق للعقل بأن يشرع فيها التماساً للمصالح ودرءاً للمفاسد، ورفعاً للضرورات الإكراهات. فالعقل بما هو مدرك ـ على نحو ذاتي وليس جعلي ـ للحسن والقبح..للمصالح والمفاسد.. للطيبات والخبائث، جدير بأن يشرع، بحيث يعدوا حكمه وهديه ذاتياً وحجته ذاتية غير جعلية منزلة. وفلسفة ذلك أن الفصام المفتعل الذي أقيم بين الشريعة والعقل كان كان قد زاد في تعميق الفجوة بين ماراج من معالجات فقهية وكلامية وفلسفية. فالشريعة والعقل هما في المحصلة النهائية مظهران لحقيقة واحدة. فالعقل الفطري هو شرع، والشرع هو عقل. فهذا تكويني وذاك تشريعي، ومدار التشريع في كليهما، جلب المصالح ودرء المفاسد. إذن، لامجال لأي اثنينة بين ما يتقرر عقلاً وما يتقرر شرعاً . ولا أرى أي جدوى من الحديث عن اتصال أو اتفاق ما بين العقل والشرع. فأساس الاثنينية هنا وهمي، وذهول عن سنة التجلي والتمظهر النسبي.. والحال أن لااستقلال لهما إلاذهناً أو بحسب اختلاف اعتباري تقتضيه الحالة إلى التمظهر في حقل من الحقول، أو مرتبة ما من المراتب. أعني أنني هنا انظر إلى الموضوعين بعين الوحدة. وآية الوحدة ها هنا، أن الشرع يهدي والعقل يهدي..والنص مخلوق والعقل مخلوق.. وذاك رسول ظاهر وهذا رسول باطن.. وذاك معصوم وهذا معصوم، وإن كان الخطأ يتلبس بالعقل حتى يحكمه الشرع، فإن التحريف الذي قد يحيط بالعقل،من الممكن أن يحيط بالشرع أيضاً . وإذا كان معيار تصحيح الخطأ في المعقول هو الرجوع إلى المنقول، فإن التحريف الذي قد يحيط بالمنقول يتعين تصفيته بالرجوع إلى المعقول. وإذا كان العقل قد يفيد قطعاً أو ظناً وقد يصيب الواقع،فكذلك النصـبحسب المقرر ـقد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة في حال النص القرآني، وظني الثبوت في حال السنة، مع أنني أرى أنها ـ السنة ـ ظنية الدلالة أيضاً ، باعتبار أنها أيضاً محل للمحكم والمتشابه..للناسخ والمنسوخ.. للعام والخاص... و...و...
ولاشك أيضاً أن الجهد المطلوب في التشريع ـ اجتهاداً ـ مطلوب ايضاً في التعقيل..والنص حجة والعقل حجة..والعقل مشرع والشرع سيد العقلاء..وإذا ثبت كفر من «لم يحكم بما أنزل الله» ـشرعاً ـ فقد كفر من لم يحكم بما أنزل الله ـ عقلاً ـ رسولاً باطناً .
إذن، من لم يحكم بما أنزل الله يكفر،ويفسق، ويظلم،وكذلك من لم يحكم بما خلق الله ونزله رسولاً باطناً ، فقد كفر وفسق وظلم.. وحال الأطاريح الخوارجية في شدّة انطوائيتها وتسطيحيتها وعنفها المهدور، كفر وفسق وظلم فلإن كفر الآخرون بأحد مظاهر الشرع فإننا كفرنا بالمظاهر الأخرى له، حيث لامناص من العقل. فالإنطواء والعزلة،بما أنها سببلتخلف الثقافات وعقم الحضارات فهي كفر وحجب وجمود وتخليف.. من هنا كانت البداوة وشدة العزلة والانزواء والتوحش بذاك المعنى، كفر من وجهة نظر الشرع كما كانت كذلك من وجهة نظر العقل. إن العقل في مجال التطوير والإنماء وتحسين الأداء والنهوض بالعمران،هو تلك الفريضة الغائبة والشريعة المعطلة في تلكم الأطاريح التسطيحية. وما نلمحه اليوم من مظاهر العقلانية في الاجتماع الغربي، وعلى مستوى النظم التربوية والإدارية والسياسية.. هي ذلك الشيء المتاح/ المفقود في أطاريحنا، وهو بشكل ما غائب ومحارب في البرامج التحريفية البائسة المعطلة. ولأن أسرف الغرب في واقعيته، وسعيه إلى تحقيق الحد الأقصى من متعته المادية، فذلك بفعل اختيار ثقافي،ورهان حضاري مختلف. فالعقل المجتهد،المطهر من الرواسب والعوائق السيكولوجية والايديولوجية،قادر على إدراك القبح والحسن، فإذا أدركهما شرّع فكان حكمه جازماً قاطعاً معتبراً . لقد تفنن الغرب في أشكال المتعة وأنواع اللذة لأنها قناعته. ولكنه أيضاً تفنن في الديمقراطية بما أنها أصبحت مطلبه وقدره. إذن، سوف لانجتهد مثله في مذهبه الأبيقوري ولن نسعى إلى مزيد من التضخم في التماس اللذة، ولكن يتعين أن نفيد من تلك المكتسبات على صعيد إدارة المشهد السياسي في إطار مبدأ الشورى، فنجعل لها إطاراً وآلية لتنفيذها عقلياً ، ثم لامشاحة في الإصطلاح، طالما أن الشورى هي إشراك الشعب في الرأي وتلك إشراك الشعب في القرار..
إن الحكومة الإسلامية كما تفهم في النطاق المفهومي المرجعي،هي حكومة البشر،لأن الإنسان هدفها ومحورها. فالحكومة الإسلامية كما يفهم من المصادر المرجعية التأسيسية أنها حكومة الإنسان بما أنها موضوع التشريع الإسلامي وغايته. وبما أنها قاصدة إلى تحقيق المصلحة العليا ورفع الحرج عن الإنسان. إنها تنظيم لعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، وضمان عملي هادف إلى توطيد العدالة الاجتماعية. والعلقة اللاهوتية التي تصل بين هذه الشريعة والسماء،هي علقة روحية يقتضيها الإطار الروحي الذي يمثل البنية الثقافية للأغلبية الساحقة،وهذا ما يعني أن هذا النمط من الحكومة مشروع حتى في المنظور الهيغلي طالما أن الاختيار ينسجم مع روح الشعب. فتكون تأسيساً على ذلك، كل الأنماط الأخرى التي وإن بدا من ظاهرها أنها تحمل إطاراً معيارياً وآلياً مكيناً في تحصين الحقوق وإرساء السلم المجتمعي، فهي من حيث عدم انسجام فلسفتها مع روح الشعب، خيار غير مشروع، وفق المنظور الهيغلي السابق. وإذن، فإن وضع هذه الفئات التي تمثل عنصراً أقلياً في كيان الدولة الإسلامية هو الوضع نفسه لكل حالة أقلّوية في المجتمع الديمقراطي، حيث الأقلّي، لاينتمي للبنية الثقافية للأغلبية الساحقة. وعليه،فلا يعقل أن تسلب حقوق الأغلبية في التماس انتظام منسجم مع قناعاتها الروحية لفائدة أقليات ناشزة عن دائرتها الروحية وإن كانت مدمجة بصورة كاملة في شريعة المواطنة. لكن المشكلة الرئيسية هنا، هو أن الناظر إلى وضع الأقليات في المجتمع الإسلامي وفي ظل الحكومة الإسلامية، غالباً ما يخلط بين حق المواطنة ومشروع الأمة، لابوصف (الدولة) أو Etat-nation ، كما في العرف السياسي الغربي، بل الأمة باعتبارها تطلعاً طوباوياً يشمل برنامجاً إنسانياً عاماً ، هادفاً إلى توزيع كوني لحقيقة حضارية على أسس رسالية دعوية.
طبعاً ، مازالت أؤكد على أننا نميز بين خيار برنامجي جاهز تشتمل عليه تلك الأطاريح المذكورة، وبين قراءة شارحة ومتأملة في فلسفة الحكم، غايتها تقريب البعد المتعالي للمشروع السياسي الإسلامي حيث أثمرت المعطيات التاريخية التحريفية، وأيضاً الأطاريح البرنامجية المعاصرة للخيارات الخوارجية السائدة، رُهاباً Phobie كبيراً لدى الآخر، قد يكون هو نفسه ذاهلاً عن طبيعة هذا الخيار، أو لعله يتساهل في فهمه، إذْ ليس من مصلحته أن يساهم في تلميع صورة منافس تاريخي لدود. إذن المقاربة هي في ضوء المرجعية التأسيسية كما سنوضح. وفي السياق ذاته، يمكننا القول، أن أزمة حقيقية عانى منها البعد الأممي في مشروع الدولة الإسلامية وكذلك بالمقدار نفسه من المعاناة، البعد الدولاني لها.
إن الفهم البتّي الخوارجي هو الذي ينظر إلى المسألة باعتبارها تنزيلاً لاهوتياً خارجاً عن أي فاعلية بشرية. وقد كان هذا الموقف مما عانت منه الدولة الإسلامية ذاتها. لقد واجه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إدعاء الخوارج، وهم يومها مسكونون بالرؤية التمامية «لاحكم إلا لله» ولم يفعل الإمام علي سوى أن وجّه المعنى كي يأخذ مداه النسبي والموضوعي قائلاً : «كلمة حق يراد بها باطل وقد علمتم أنه لابد من (أمير) بر أو فاجر...».
إن الحكم لله بالمعنى الذي تفيده تلك العلقة المتاحة على قاعدة الإلزام الروحي ومتطلب القناعة والموقف العقدي، لكنها في المحصلة النهائية هي حكومة البشر. فالمسألة تكمن في غياب الرؤية النسبيةـالاحتمالية للنص،والتي تتحدد في مفهوم الوسطية الإسلامية.
تشط الرؤية الفصامية العلمانية في نقدها للشريعة نقداً مشروعاً لو أنه تخلص من هواجسه الأصولية البتية في ضبط محتوى هذه الشريعة،دون الوقوف عند المدى المتعالي لهذه الشريعة مع عدم تمكين الرهاب البتريركي، كما تختزنه الذاكرة الأوروبية بشأن الصلة المأزومة والمستحيلة بين دين يعلن في متنه عن انفصامية علمانية. على النقد العلماني حتى في مداه النفعي البراغماتي أن يحدّد النظر فيما تتيحه هذه الشريعة من شروط لنهضة مجتمع إنساني على أساس من العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي. تأتي العلمانية كاستجابة موضوعية، لا لتاريخ أزموي ساهمت في تخليفه سلطة كنسية هرطوقية. أقول تأتي العلمانية ـ فضلاً عن ذلك ـ استجابة دينية مشروعة، للنص الديني «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله». هذه الفصامية العلمانية هي في جوهرها ومنطلقها موقف ديني مشروع من الناحية التعليمية الكنسية. وكما تتبرأ العلمانية المتورطة والمتنطعة أحياناً في أصقاع العروبة والإسلام،من أي تبعة إلحادية، كان بالأحرى أن تبرئ الأطاريح الإسلامية من أي جرثومة إكليروسية. أزمة التمامية الخوارجية، هي أزمة التمامية المتأسلمة والتمامية المتعلمنة. حيث في جو التصادم والتنازع، يتضخم اللامفكر فيه،ويطغى خطاب الغوغاء. ويبقى المخرج أمام هذا الرهان التغالبي، نظرة براغماتية تخضع الرصيد البرنامجي لهذه الأطاريح إلى معايير نفعية تتحدد بما يمكن أن تحققه هذه المشاريع من نتائج عملية على مستوى السلم المجتمعي أو الإنماء الاقتصادي أو الاستقرار السياسي. وفي هذا الضوء يتعين امتحان كلٍّ من تلكم الأطاريح. ولئن ساد الرهاب الإٍلامي Islamophobie من أن تحكيم الشريعة لايضمن قيام المجتمع المدني، كان أحرى أن يتضاعف ما يمكنني نعته بالرهاب المعكوس أو الرهاب العلماني Laicitophobie ـ لو صح التعبير ـ من أن تحكيم الفصامية العلمانية لايضمن قيام الدين وسلامته. فيغدو النزاع في الأصل،نزاعاً ثقافياً ، وها هنا تكمن المشكلة، أي ما هي الضمانة التي توفرها الديمقراطية المؤسسة على خلفية فصامية علمانية لإقامة الدين وضمان فاعليته السوسيو ـثقافية. كما يتعين القول، ما هي الضمانة التي توفرها الشريعة لإقامة مجتمع مدني.
المشكلة ليست في تديين السياسة أو تسييس الدين، إذا ما أصرّ أصحاب الأطاريح الإسلامية على التصدي إلى العمل السياسي من الموقعية الدينية بل المشكلة هي في هل بمقدور هذا المشروع السياسي أيّاً كانت خلفيته أو فلسفته على توطيد دولة الحق والقانون.
في سياق تقريب مكانة المجتمع المدني في مجمل التصور السياسي الإسلامي،أسجل ابتداءً بأن الموضوع إذا ما بحث في سياق الممارسة التاريخية، سوف نكون مخطئين إذا ما اعتبرنا ذلك تجربة نموذجية. وذلك لأن الاستبداد في التاريخ السياسي العربي والإٍلامي ظهر مبكراً في تلك التجربة التاريخية.
وظل يمثل السمة الرئيسة للتجربة السياسية التاريخية في المجال العربي والإسلامي. ثم إذا ما حاولنا التنويع على ما سبق تأسيسه من أحكام سلطانية ونصائح ملوكية فإننا سنقع على تأويل السلطة. والحال أننا نروم التأسيس في ضوء سلطة التأويل، فنكون جديرين بأن نعلن أزمة الخيار السياسي الخوارجي.
إن الملاحظ على السائد من الأطاريح السياسية الإسلامية،هو أنها تعكس اختلافاً وتصدعاً مهولاً . وعلّة ذلك اختزانها لرصيد من الاحتقان التغالبي التاريخي،حيث ينهض على مشروعيات متدابرة، تتكرس ضمنها عناصر النفي والاستبداد بالرأي والتفسير.ومع أن المشترك بين كافة هذه الأطاريح هو الاصل المتعالي للشرائع، والمرجعية الإسلامية في عموماتها العقائدية، وربما أيضاً بعضاً من عموماتها الفقهية، إلا أن اختلافاً يكاد يكون جذرياً بين طبيعة تصريف مراد الشريعة وتحديد مشروعية من ينفذ حكم الله. وعليه فإننا أمام توتر حقيقي يستحضر ذاكرة مأساوية،حيث لم ينهض التأسيس التاريخي للنظام السياسي الإسلامي على قاعدة مشتركة وموحدة على صعيد المشروعية، في حين يبقى الطرف المقابل يملك قاعدة مشروعية موحدة. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أولوية النظر في شريعة المشروعية قبل المضي في بحث مشروعية الشريعة. وهكذا بات من الصعوبة تحديد قاعدة واضحة تقوم عليها المشروعية في كافة هذه الأطاريح،ما يعني أن المهمة صعبة للغاية، سيما وأنها تتصل اتصالاً وثيقاً بالبعد التاريخي والسوسيو ـ ثقافي العربي والإٍلامي، فضلاً عن اتصالها بالمصدر التأسيسي المتصل بالنص أو الموروث الاجتهادي. إذن فحل النزاع قائم في الحقل التداولي الإسلامي ذاته لمفهوم النظام السياسي الإسلامي قبل أن ينتقل إلى المقترب المقارناتي حيث يكون محل النزاع بين حقلين مختلفين في أصل تصور النظام السياسي.
إن النظام السياسي الإسلامي، حسب المعطى التاريخي ـ حيث نُصرّ على انجرافه نحو الخيار العصباني ـينهض على تراث سوسيو ـ ثقافي وسياسي معقّد، تتجذر في أرضية تكوينه ثلاث منظومات قيمية، جميعها متواطئ على رجّ مشروع المجتمع المدني وقيم الحرية والشراكة في تداول السلطة. فلو رجعنا إلى البنية السوسيو ـثقافية العربية،لوجدناها بنية قبلية، عصبية كما يؤكد تاريخ الممارسة السياسية العربية ما قبل تأسيس الدولة النبوية بالمدينة وبعد وفاة صاحبها. فهي دولة غلبة وشوكة كما أحسن توصيفها عبد الرحمن بن خلدون. ولذا فهي تختزن إمكانات مستمرة للتمرد وعدم الاستقرار، بما أن المعول عليه في المشروعية هو الشوكة والعصبية. ومن هنا نجد مساحة كبيرة في الفقه السياسي الإسلامي التاريخي، يقر ويشرعن هذا المعيار القبلي العصباني بطرق مختلفة، كمؤشر واضح على سريان العقل السياسي العربي الماقبل إسلامي في صميم الممارسة السياسية الإسلامية التاريخية. هذا بالإضافة إلى أن الواقع السوسيو ـ ثقافي العربي، هو واقع تمرد وتوحش.. الأمر الذي يناقض مشروع المجتمع المدني ودولة القانون. هذا التوصيف طبعاً ، ليس وليد فلسفة القانون المعاصرة،بل هو توصيف خلدوني نابع من تأمل جوّاني أدرك مداه مفكر سياسي معايش ومراقب لطبيعة العمران السياسي والاجتماعي العربي والإسلامي. ثم لاننسى بأن التأسيس اللاحق للفقه السلطاني الذي تزامن مع الاندماج الفارسي في الحقل السوسيو ـ ثقافي والسياسي العربي، نمّ عن تسرب كبير لمنظومة أخرى من التفكير السياسي، مسكون بطبائع الاستبداد، حيث ـونظراً لوجود تطور للمنظور السياسي الشاهنشاهي الفارسي مع مجدده انوشروانـ نكون أمام أرقى نموذج سياسي للاستبداد المقنع حيث تتشكل فكرة المستبد العادل أو العادل المستبد. على أن هذا المنظور الأكثر نمواً مقارنة مع النسق السياسي العربي ـ القبلي، سوف يباد من أساسه مع مسلسل الانهيارات التي اصابت المركزية الخلافاتية للدولة الالغارشية العباسية، وحلول دويلات مختلفة المناحي والمشاريع والمنازع والعصبيات. وقد كانت أكبر ضربة أعادت الاجتماع السياسي الإسلامي إلى ما قبل نموذج المستبد العادل، تلك التي تتعلق بالسيطرة العثمانية على مقاليد الخلافة الإسلامية. حيث مثلت نموذجاً للدولة العسكرية الاستبدادية. إذن، نحن أمام منظومة قيمية لاتستجيب بأي حال من الأحوال إلى المتطلب السياسي الذي نحن بصدد المراهنة عليه، أقصد المجتمع المدني ومشروع التداول السلمي للسلطة. حيث هي منظومة تتناغم مع العقل العربي الخازن في لاوعيه السياسي لقيم التوحش والتمرد والنزوع خارج مقتضيات الدولة.. كما هي في الوقت ذاته منظومة تتناغم مع العقل الفارسي الطامح إلى ترسيخ علاقة الطاعة بالشاه أو المنصور كما تتناغم مع العقل السياسي التركي ذي المنزع العسكري.. وكلها نماذج حاكية عن قيم الاستبداد والتنكر للتداول السلمي للسلطة. وقد جاءت تلك المدونات المؤصّلة للنظام السياسي في الإسلام، في سياق تشكل هذا العقل السياسي والسوسيو ـ ثقافي، ما يعني أنها سعت إلى التكيف معه، ومن ثمة النزوع تحت طائلة الإجبار إلى تبرير عقل سياسي برمته، ومحاولة التأسيس لبنية تتناغم داخلها كل عناصر ذلك الحقل السوسيوثقافي كما أشرنا سابقاً . طبعاً ،نستثني هنا ما تحتويه المنظومة القيمية الاغريقية،التي وعلى الرغم من تداخلها مع الحقل المعرفي العربي ـ الإٍلامي، بفعل الترجمة، حيث لم تبرح مجال الاقتباس الفلسفي بمعية العلوم البحتة المتاخمة للقول الفلسفي الاغريقي، فإن العقل السياسي الاغريقي لم يتمكن من اختراق الموروث السياسي العربي ـالإسلامي. وهو الاستثناء الباعث على الاستفهام، كما نحا علي عبد الرازق، إذْ علل ذلك بموقف متآمر وممارسة انتقائية جرت تحت رقابة سياسية. ونحن وإن كنا لانستبعد أن يكون التصور السياسي الفارسي قد غزا الدولة العباسية بصورة مقابساتية واعية وقاصدة في انتقاءاتها النفعية، إلا أنني أضيف عاملاً آخر مهماً ، ألا وهو عدم وجود قوة سوسيولوجية داعمة للمنظور السياسي الاغريقي، بعكس ما لقيته الفلسفة السياسية الفارسية المدعومة بقاعدة سوسيو ـ ثقافية، وأيضاً بنخبة سياسية وثقافية خولت مهمة التدوين والتأسيس المعرفي للثقافة العربية ـالإسلامية، ومنح لها حرية في انتاج خطابها الفكري والأدبي والسياسي، متمثلاً في أعمال مترجم وأديب فارسي متأسلم، هو ابن المقفع. ناهيك عن جيل كامل من الفلاسفة والعلماء من ذات العيار. إذن نحن أمام معطى تاريخي قد نخطئ أو نغالط أنفسنا إذا ما استصحبناه في استقالة عن المقترب التاريخي.
تعتقد الأطاريح الجامدة، بأن القضية الجوهرية فيما تقدمه جاهدة في سبيل إثباته، جازمة في وثوقيته، قاسية في التبشير به، تنحصر في أن تحكُم الشريعة. حتى وإن اتخذ الاستبداد ديكوراً فقهاتياً أو ماكياجاً شرعياً . وكأن الظلم والاستبداد ليسا حقيقة واحدة، وإن تمظهرت بشتى العناوين،وإن استندت على مختلف الخيارات. ثمة غياب كامل في الأطاريح الخوارجية لما يمكن أن يسمى بفقه الدفاع عن الحقوق، وفقه المساءلة والاعتراض على المستبد، وإن تبنى عناوين الشريعة. ذلك لأن المقصد الأعلى للشريعة ذاتها،هو ردّ الحقوق والمظالم وإقرار العدالة الاجتماعية وصياغة الاجتماع السياسي على أسس الحرية والعدالة. وهذه المشكلة ليست في جوهرها مشكلة الشريعة. بل هي بالأحرى مشكلة ذهنية قائمة على تسطيح النظر،ووعي زائف بالمضامين الحضارية والمدنية للشريعة. والحال، أن مثل هذه الفئات الاستئصالية، خطر على الأمة تقدحه ظروف قهرية،وتبعثه إكراهات مضاعفة..إنها الذهنية التي تنشأ في أحضان مجتمع تنخره الأمية وتستفزه مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي، فيما يلفظه الشارع العام من حالات الانحراف وانهيار القيم،والتحطيم الممنهج للتقاليد والأعراف المحلية، وتفريخ يومي للدعارة ومدمني المخدرات وقراصنة الرشوة.. ويزيدها استفزازاً واقع ترعاه علمانية متنكرة، مستبدة، مستهترة بخصوصية شعوبها، أو ترعاه مؤسسة دينية مفرغة من محتواها الحضاري الفاعل، إذْ بقدر ما تتمادى في تحريفيتها وجمودها وتقليدانيتها، تتيح فرصة انتهاض الخيار الخوارجي، وتمكنه من العبث،والتهام اليابس والأخضر. ولذا قلّ أن تجد في صفوف الخيار الخوارجي فكراً أو فقهاً ينهض بخياراتها إلى حيث متطلب المجتمع المدني. إنها خيارات تعلن حالة من الانتحار في بؤرة العمومية والماضوية حفاظاً ـ على ـ وضماناً لإسلامها من حداثة تجرف أركانه وتهد بنيانه. وإن كان في ذلك ما فيه من الصدق، فإن الخيار الخوارجي يجهل بأن الحداثة مطلب إسلامي ثابت، وبأن لاخوف على الإسلام من الحداثة. بل الخوف كل الخوف عليه من علمانية أصولية غير قادرة على استيعاب المغايرة في نشدانها المجتمع المدني، كما الخوف كل الخوف عليه من سلفوية غثيانية غير قادرة على الخروج من ظلاميتها وهواجسها وأوهامها.
يتعين على الناظر في موضوع النظام السياسي في الإسلام أن يميز بين متطلبين جدليين، يحتويهما المنظور الإسلامي،ضمن رؤية إيجابية. المتطلب الطوباوي، من حيث هو سعي مشروع إلى الارتقاء بالكيان السياسي إلى أرقى مستوياته، حيث تنحل نهائياً عقدة الظلم الاجتماعي ومن ثمة تنهض العدالة الاجتماعية في صورتها المطلقة، فتكون الدولة الطوباوية بهذا المعنى هي التجسيد السياسي والاجتماعي لكل القيم الإسلامية الكبرى، حيث تغدو دولة الإسلام هي دولة الإنسان المتفوق. وهذا المعنى يتميز عن المراد «النّتشي»، حيث الإنسان في التصور الإسلامي خلق لكي يكون متفوقاً . إنها في الحقيقة تلك الطوبا utopie التي أسرف في الحديث عنها فريدريك نيتشه. وبسبب أنه لم يفسح المجال أمام الإمكانات المتاحة،وتعلق بالطوبا أولاً وأخيراً ـ معبراً عن أزمة الوسيط في النشوئية الاجتماعية ـانتهى به الأمر إلى اعلان التفوق وإبادة الضعفاء. في حين كان هدف الدولة الطوباوية في المنظور الإسلامي، تحويل الضعفاء إلى أقوياء، ولتجعلهم الأئمة والوارثين.ولهذا السبب تحديداً ، إذا ما تعلقت الأطاريح الخوارجية الطوباوية بهذا المعنى للدولة،فسوف يكون مآلها، مزيداً من التطرف والديكتاتورية وإعلان موت الإنسان تنويعاً على موت الإله النتشوية.
إن الدولة الطوباوية في المتصور الإسلامي تتعالى على شروط الدولة الواقعية نفسها، لتجعل الدولة مؤشراً على نهاية النضج البشري، أي موت الإنسان بالمعنى الأكثر إيجابية،حيث دولة الطوباوية لاتتسع في مداها الكبير للضعفاء والقابعين في أحضان النوع، بل هي دولة المتفوقين،والإلوهيين. وهذا يتماشى مع فلسفة الإسلام الروحية التي تهدف إلى إخراج الإنسان من وحدة بشريته ـحيث {وجعلناه أسفل سافلين}ـومن صقع النوع ومهوى النزول، إلى آفاق الربيين والعارفين. فإذن دولة الإسلام النموذجية، هي دولة ربيين وإلوهيين. وهذه الدولة التي تسعى إلى أن تقفز بالنوع إلى خارج النوع،طلباً للإقامة في الأمثل والأفضل، هي دولة مطلوب من المسلم أن يقيمها في صقعه الذهني ويتمثلها مفردات في سلوكه العقلي والروحي. أي دولة الطوبا، دولة الآخرة،النموذج الأمثل للحياة، حيث يحيى المسلم الآخرة في دنياه ويتمتع بجنّته في أرضه، باعتبار أن الآخرة {لهي الحيوان لو كانوا يعقلون}.
إن دولة الطوبا، ليست دولة تداول على السلطة ـبل لعلها دولة المسلطين على أنفسهم مطلقاً ـلأن الشرط الإجتماعي يختلف هنا بعد تحول العلائق وارتقائها ضمن قانون مختلف،يستجيب للحظة من العرفان والإشراق الروحي، ولمنطق ينزع منزعاً معصومياً . فدولة الطوبا ليست دولة نوازع ونزوات ومصالح متخالفة،وهي اساس ضرورة العقد الاجتماعي، بل هي دولة النوع الأرقى، والإنسان المتفوق،إنها بالتالي دولة طوباوية أو جمهورية فاضلة. وفي التعبير السياسي الحديث جداً ، هناك مفهوم La meritocratie . وهو مصطلح فرنسي ترجمه البعض بـ «حكم النخبة». وهي ترجمة أرفضها مطلقاً ، لأن فعل meriter يأتي بمعنى استحق. فلو كان معناه انتخب، لكان أنسب أن يعبروا عنه بـ Lelitocratie ، ولأمكننا ترجمتها بحكم الملأ أو الصفوة. لكن La meritocratie ،تعني حكم أو حكومة الكفوء، أو إذا أردنا مزيداً من الدقة لقلنا هي حكومة الفاضل،وذلك بلحاظ الجدل الكلامي القديم حول خلافة الفاضل والمفضول. لذا أنسب ما تكون ترجمتها بحكومة الفاضل أو الحكومة الفاضلة، حيث القيادة للأفضل والسعي للأفضل والإقامة في الأفضل. وهذا معناه أن الجدل السياسي الجاري اليوم في أفق غياب الضمانة المطلقة في اختيار الأجدر، في النظم الديمقراطية، نلاحظ أن تطلعاً لايزال خجولاً إلى نموذج الحكومة الفاضلة. وبما أن الأفضل مطلقاً لايمكن إنجازه أو اختياره باليسر الذي يتصوره الناس، فإنه يغدو تلك الطوبا التي تحيى في الأذهان وتأخذ لها معنى البرنامج البعيد المدى في أفق انعدام آلية اختيار الأفضل مطلقاً . من هنا الحاجة إلى إيجاد دولة ممهدة لهذا النموذج، أعني دولة الإسلام الواقعية. ذلك لأن دولة الطوبا بما أنها ذهنية لامكان لها ولا زمان، أي مفتوحة على خيار الإنسان في كل أرض وفي كل جيل، فإنها بمثابة الجمهورية المثالية، اللامكانية utopique . إذن الدولة النموذجية هي دولة طوباوية.. ومعناه،أنه يلزمها مقدمات تاريخية لتأهيل الإنسان أولاً للخروج من مهواه البشري إلى مدارج الربية والتفوق. ومادام هناك بشر،فلابد من إعلان دولة الإسلامية الواقعية كمرحلة وسيطة وحتمية بين دولة اللاإنسان ودولة الطوبا. وبين دولة اللاإنسان في مستواها الأدنى ـحيث {إن هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً }ـودولة اللاإنسان في مستواها الأرقى ـ حيث {وكم من نبي قاتل معه ربيون كثير} ـ هناك دولة الإسلام الواقعية أي دولة الإنسان، تلك التي تنفتح على كل ما من شأنه أن يهب الإنسان جزءاً من الكرامة والأمن، أي السلم المجتمعي والأمن الروحي والثقافي والمادي، كما عبّر الإمام علي بن أبي طالب {لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين وكان الظلم فيها عليّ خاصة}. ونحن نرى أن دولة الحريات وحقوق الإنسان والتداول السلمي على إدارة السلطة على قاعدة حفظ الخصوصية وحماية الهوية من الهدر والاستلاب، هي الدولة الإسلامية الواقعية المناسبة اليوم. طبعاً ، لانعني أن الديمقراطية كما هي اليوم مستهلكة في الإعلام المتعولم، هي الديمقراطية الحقّة والعلمية كما حلم بها العقل السياسي الحر. لكن المسلمين إن هم عاشوا الديمقراطية الحقّة ـ وليس المقنعة ـفلا خوف عليهم وعلى إسلامهم. لأن الإسلام هو ثقافة هذه الشعوب. والديمقراطية سوف تؤهلهم إلى صياغة علاقة أفضل مع إسلامهم. وسوف تكون علاقة هذه الشعوب مع إسلامها متميزة بكثير من النضج والقوة والتحرر،وليست علاقة مأزومة ومحكومة بالضعف والحصر والأوهام. وهنا نقول، أنه آن الأوان كي نكشف عن مقترب آخر في المشروع السياسي الإسلامي، يختزل فلسفة وسطية توازنية، جدلية وليست تلفيقية. على أساس ذلك نقول،بأن المشروع السياسي الإسلامي يوفر ـطبقاً لفلسفته الوسطية التنجيمية المرحلية ـأطروحتين، إحداهما مقدمة للأخرى. أعني مشروع الدولة الواقعية التي تنهض على إعلان الحقوق وبناء دولة القانون والمؤسسات بما في ذلك الفصل بين السلطات مع إقرار نظام صارم للعدالة الاجتماعية،وهي كلها مفاهيم، لها مضامين واضحة وراسخة في الفكر السياسي الإسلامي. وبما أنها نتائج عقل سياسي مجتهد في طلب العدالة وهي غاية الإسلام، كان من المتعين أن تلقى احتفالاً في مبدأ الفكر السياسي الإسلامي ونصوصه الناهضة إرشاداً لشريعة العقل. فهي بهذا المعنى مشروع دولة الإنسان الكريم والحر. وإلى جانب ذلك دولة الطوبى التي تقوم في مجتمع الإلوهيين حيث يرقى الفرد والمجتمع فوق تأثير الحتمية التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. إن مجتمع الإرادة العليا، مجتمع الجمهورية الفاضلة.
التماهي هنا غير مطلق، وأحياناً يكون مفتعلاً . كما أن الفصام النهائي ذهول عن مجالين تداوليين وسياقين مفهوميين واشتقاقيين على درجة فائقة من الاختلاف. وقد يكون التقاطع النسبي، هو الأمر الوحيد المشروع فيما بين الشورى بحمولتها القيمية الإسلامية، وما بين الديمقراطية بمحتواها القيمي العلماني من جهة ثانية. إننا حينما نعلن انفصالاً تاماً ما بين الشورى والديمقراطية أو نقيم تماهياً بينهما من قبل هذه الجهة أو تلك، فإننا نتصارع حول معادلة وهمية، أو إن شئت بالمعنى المنطقي، نكون أما قضية سالبة بانتفاء الموضوع.
كان علينا أن نميز في مقتربنا لهذه العلاقة بين حقلين تداوليين، أعني البعد الواقعي في المشروع السياسي الإسلامي، والبعد الطوباوي في نفس المشروع، مع كثير من المفارقة في واقع غير مهيأ لاحتضان مشروع الإلوهيين. وهو الأمر الذي يدعوهم إلى رفض الديمقراطية وتقاطعها مع المنظور الشوري الذي يختزل في التصور الخوارجي وأطاريحه معنى نظام الشريعة المفرغ من محتوى العدالة الاجتماعية كما ألمحنا سابقاً .ففي المشروع الطوباوي الإسلامي تمثل الديمقراطية ـمن حيث هي آلية في انتخاب الحاكمـ أمراً آخر عن الشورى كآلية في صنع القرار في ظل حاكم قائم. بمعنى آخر نقول بأن الآلية التي أقرها الفكر السياسي الإسلامي طريقاً في اختيار أو انتخاب الحاكم، في المدى الطوباوي، هي البيعة القائمة على التنصيب والجعل الاستحقاقي. وهي في المدى الواقعي لها، البيعة القائمة على الاستحقاق الشوري في صورته المعلمة والملزمة والشاملة. وها هنا يمكن أن تتقاطع الآليتين في مجال الانتخاب وأيضاً في القضايا الأخرى حيث تمثل الشورى المرادف السياسي للديمقراطية من حيث هي آلية في الاستقرار السياسي وصنع القرار السياسي أيضاً . فهي الصورة العقلائية الأكثر تناغماً مع أهداف الدولة العادلة في المنظور السياسي الإسلامي.
إن الشورى كعنوان كبير في صنع القرار وأيضاً في توفير الاستقرار السياسي للدولة،تعرضت في الممارسة التاريخية إلى كثير من التحريف بل والنسيان. وظل السبب الرئيسي الذي مكن في أن تظل الشورى مخترقة بفعل أيديولوجيا عصبانية تحريفية،كما جعلها تتخلف طيلة قرون عن أن تجد لها صيغة مناسبة لتفعيلها ومأسستها، إنما هو بقاؤها على غموضها وازدواجيتها وعموميتها. وكان أحرى أن ينهض اجتهاد عقلاني وعقلائي في وضع ضابطة لتنظيم مبدأ الشورى وصيانته من الاختراق التحريفي. ولعلنا اليوم أمام معطى تاريخي جديد،تحققت فيه النقلة الكبرى ـرغماً عناـ في حقل النظم السياسية والاجتماعية، حيث نهضت كل هذه المباني على العقل،بل واختيار صارم في عقلانيته المصانة والمحصنة بيقظة جماهيرية واعية،عالمة،متحررة. وحيث أن العالم اليوم واقع في سياق عولمة جارفة وتداخل وتواصل واتصال.. وتبادل وتعاون وتثاقف.. كل هذا له إيجابياته القمينة بتحريرنا من هذه التحريفية التاريخية التي استبدت وعبثت بمبدأ الشورى، وعطلت آلياته. ونحن وإن كنا نحمل مضموناً مختلفاً عن هذه الديمقراطية،فإننا من ناحية براغماتية بحتة نراها آلية فاعلة وقادرة على تحريك مضمون نملكه. فإذا كنا حتى الآن لم نتمكن من صنع تاريخنا واجتماعنا الحر، تحت وطأة الإكراهات المضاعفة لتأويل السلطة،فإننا اليوم بفضل الثورة الإنسانية والعقلانية والتحررية المعاصرة، الكبرى ـ وإن بدا لنا عنصر التدمير كامناً في ثنايا مضامينهاـ أحرى بنا أن نفيد من ذلك في سبيل دعم خيارنا في سلطة التأويل التي تملك أن تنتج رؤيتها ضمن سياقات مختلفة دون أن تقع في فخ التلفيقية أو الانغلاق. إنّ التاريخ الذي فشلنا في صنعه، وانفلتت عراه من قبضتنا، أمكنه اليوم أن يخدم فكرنا بكثير من النضج والعقلانية،وهذا ما يجعل لمكر التاريخ ـالهيغليـ معنى جديراً بالاحتفال. حيث إن للتأريخ منطقه الخاص،وقانونه الذي يسير على خطى ماكرة وفي تقية وتدبير خفي.
المشكلة إذن ليست في الديمقراطية أو الشورى في حد ذاتهما. فهما كآليتين سياسيتين قابلان للتطور المستمر. فالديمقراطية الأثينية لم تكن تناقض واقع العبودية والرق المقرر.. وها هي الديمقراطية في أوروبا تقطع كل تلك الأشواط، وفي كل مرحلة تأخذ لها طابعاً راقياً ومزيداً من النضج، في ظل تغيرات موضوعية على الصعيد الاجتماعي والثقافي وأنماط الانتاج. والأمر ذاته بالنسبة للشورى حيث لاتتاح لها فرصة للنمو، والتطور مفهومياً ومؤسسياً . إذْ لاغرابة أن تكون الشورى ـبهذا المعنى الذي حددناه في إطار دولة الإسلام الواقعية ـ هي ديمقراطية الإسلام كما عبّر «محمد عمارة». والفرق إنما هو في المضمون الثقافي والمعرفي للشورى، من حيث هي ساعية إلى بناء الإنسان وتحريره، في حين نجد الديمقراطية في الغرب تهدف إلى تحرير الإنسان وإعطائه فرصة فقد للتعبير عن نفسه، لكن من الممكن أن يشترى منه تعبيره في ظل سيطرة محكمة للرأسمال والثقافة الرأسمالية. ومن هنا لم تكن الديمقراطية قادرة على الارتقاء بالجماعة تربوياً ، بل قصارى ما انتهت إليه سلماً مجتمعياً وأمناً تنكرياً في الاجتماع السياسي الغربي.
إن صناعة القرار وصنع الاستقرار بما يوفر أداءً سياسياً ناضجاً وتماسكاً اجتماعياً ـسياسياً كبيراً هي إحدى أهم النتائج التي تنبع منها الحاجة إلى إقرار الديمقراطية. وهذه الأخيرة بهذا اللحاظ هي التعبير الآخر عن الشورى، حيث كانت هي الأخرى آلية في صناعة القرار وتحقيق الاستقرار. وكونها آلية في صنع القرار فذلك مما فاضت به النصوص وحثت على تكامل الرأي وتلاقي العقول. فما خاب من استشار.
وأما كونها آلية في صناعة الاستقرار، فقوله تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله} (الشورى/59).
إننا حينما نستنطق المصادر الإسلامية بهذا الخصوص، نجد استخداماً مختلفاً وعاماً لمصطلح الشورى، بعضها يفيد معنى الإلزام وبعضها الآخر يفيد معنى كون الشورى غير ملزمة. والواقع أننا إذا نظرنا إلى الموضوع بهذه الرؤية التشطيرية المشتتة،فلن نستطيع القبض على التصور الحقيقي لمفهوم الشورى. وهي الرؤية التي لاتنهض على أساس علمي وعلى تصور مستوعب للمرتكزات الحقيقية للفكر الإسلامي، حيث أبرزها الوسطية،ليس بالمعنى التلفيقي، بل بالمعنى الذي نفهمه من الوسطية أي النسبية والاحتمال. فعلى أساس هذا المنظور الوسطي والنسبي نرى أن الشورى لها أكثر من معنى وتداول. ولعل الخلط بين المجالات والمواضيع هو ما يجلعنا نتردد بين تداولين يتراءى لنا انهما متناقضين. والواقع أن ليس ثمة تناقضاً في المسألة ففي بعض الحقول الشورى تأتي بمعنى الإلزام وفي حقول أخرى تأتي بمعنى الندب. والملاحظ أن هذا التضخم الكبير في تعاليم الشورى الإسلامية،التي تبدأ من فعل المشاورة في حيز الأسرة، إلى المجتمع وانتهاءً بالسلطة، هو مؤشر على أن الإسلام كان حريصاً على تأسيس مبدأ الشورى في الاجتماع الإسلامي يبدأ نزولاً من أصغر تكوين في الاجتماع وهو الأسرة إلى قمة الهرم السياسي وهو السلطة. وهذا معناه،أن بعضاً من هذا التداول «الندبي» اللا إلزامي يحمل في طياته مضموناً إجتماعياً وتربوياً ، يراد منه تأهيل المجتمع إلى استيعاب ثقافة الخلاف والتكامل الاجتماعي. ومعناه أيضاً ، أن التداول المختلف لمبدأ الشورى يفيد بأنها تارة تكون من أجل صناعة القرار، وتارة هي من أجل صناعة الاستقرار. حيث تارة يفهم منها أنها صمام أمان في الاجتماع،وعامل للتكامل والتماسك الاجتماعيين، وأحياناً يفهم منها أنها تثري الرأي وتدعم العقل وتفيد في القرار السياسي. وفي هذا الإطار نستطيع تبين المؤدى الواحد لكلا المفهومين (الديمقراطية والشورى)، إذْ يغدو الخلاف اصطلاحياً ، والحال، أن لا مشاحة في الإصطلاح.
إذن المشكلة ليست في الديمقراطية ـباعتبارها آلية قابلة للأداء الفعّال وايضاً قابلة للاستغلال ـوإنما المشكلة تكمن في المحتوى الذي يثوي خلف الديمقراطية الغربية. وهذا له علاقة بفلسفة كاملة قامت عليها الحداثة في الغرب. وأيضاً يعود الإشكال إلى منزع المركزية الغربية Eurocentrisme ، المسؤولة عن خلق هذه الحالة من التماهي والاتحاد ما بين الديمقراطية والمحتوى اللائكي أو العلماني الذي مثّل خياراً فلسفياً للغرب وليس مجرد موقف انفصالي من الدين. إن صميم الفلسفة المادية الغربية غير المتوازنة في تصورها للحياة والاجتماع في أوروبا ـ ولانريد هنا التوسع في إجراء إحصائيات على انهيار نظام القيم الذي نتج عنه انهيار في التماسك الاجتماعي ـهي المشكلة وراء ذلك،حيث أصرت على أن الديمقراطية غير قابلة للانفكاك. والحال، أن الديمقراطية هي آلية قابلة لأن تفعل داخل نسق ثقافي مادي، وقد تفعل أيضاً داخل نسق ثقافي يراعي التوازن الروحي والمادي. إذن الديمقراطية بمحتواها المادي المعاصر، حيث لاتوفر برنامجاً تربوياً للمجتمع والفرد داخل الكيان الاجتماعي والسياسي، هي التي تجعل الديمقراطية قابلة للانحراف والانجراف وبأن تستغل من قبل أصحاب النفوذ، أو الأقليات الخطرة المتنفذة. لانزعم هنا أن الديمقراطية هي سبب تفتت الكيان الاجتماعي الغربي،إذا ما استوعبنا مضمونها الاجتماعي الذي يُعتبر أهم عامل في التماسك الاجتماعي. بل المسؤول عن تفتت المجتمع الغربي هو تلك النزعة المادية المسرفة والرؤية اللامتوازنة ما بين متطلبات الروح والمتطلبات المادية. ولهذا كثير من الأقليات المنسجمة في المجتمع الغربي تجد نفسها الكيان الأقوى في المجتمع الديمقراطي الغربي. مما يشجع هذه الأقليات المتنفذة أن تستبد من خلال تنظيماتها الضاغطة كما هو شأن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، تكسب القوة داخل هذا المجتمع،وتستطيع بالتالي أن تؤثر على القرار السياسي داخل الدولة. وهذا معناه، أن الديمقراطية في ظل هذا الواقع الاجتماعي المفكك حتى وإن استطاعت أن تصنع استقراراً ـ مقنعاً ـ سياسياً في المجتمع، فهي غير قادرة على توفير شراكة حقيقية على مستوى صياغة القرار. وهذه مشكلة كما أكدنا مراراً لها علاقة بخيار ثقافي،وليس بالديمقراطية كآلية في صنع الاستقرار وصياغة القرار وصيانته.
لقد حرص الإسلام على أن يجعل من مبدأ الشورى ثقافة في الاجتماع الإسلامي. قاصداً بذلك مزيداً من التماسك الاجتماعي. فالإعلان عن مجتمع الخلاف والتعددية، هو دعوة إلى تكامل الرأي وقوة القرار. إذن الفرق الأساسي بين مبدأ الشورى في الإسلام ـ ذلك المبدأ الذي تأخّر مأسسياً بفعل تحريفية تاريخيةـ وبين الديمقراطية الغربية إنما يكمن في المحتوى الثقافي لكليهما. أي أن الفارق هو بين الفلسفة والتصور الإسلامي وبين الفلسفة والتصور الغربي.فالحوار هو إذن ليس حواراً سياسياً بين خيار الديمقراطية وخيار الشورى، بل هو في العمق حوار حضاري.
الشورى بمحتواها الثقافي الإسلامي لاتهدف فقط إلى صناعة الاستقرار السياسي في المجتمع، بل هي حريصة على أن ترقى بالمجتمع كجماعات وأفراد إلى مستوى تربوي أعلى. والتطوير هنا، لايعني التطوير التنموي الاقتصادي في الحدود التي يقتضيها مجتمع الإستهلاك.لكن الديمقراطية حين تكون مفرغة من محتوى ثقافي وروحي متوازن، تأكل أطراف الاجتماع وتدمر مكوناته وتماسكه. أعني الثقافة الفصامية المتجهة إلى نمط الاستهلاك وتأمين الرغبة الجنونية للرأسمالية المتوحشة إلى مزيد من الانتاج والاستهلاك. لهذا نقول أن الديمقراطية كما هي ممارسة في الاجتماع السياسي الغربي ـ وليس كما هي مبادئ وتصورات ـ في شكلها الخارجي هي حكم الشعب بصورة من الصور. ولكن أي شعب؟! الشعب المنخور في العمق،والمفرغ من محتوى الروح..والذي ليست له غير ثقافة الاستهلاك.. هذا الشعب لايمكنه أن يحكم نفسه، لأنه محكوم بسلطة الرأسمال، وتوجيهه وإعلامه وثقافته، وهو في كل الأحوال لايدرك مصلحته الحقيقية. نعم، هو يقظ وواعي بكل ما يتهدد كيانه الاقتصادي والاستهلاكي.إذن هناك قطيع من المستهلكين تتفنن الرأسمالية الجشعة والمخاتلة في صناعة أذواقهم وخلق أنماطهم بحيث يتحول المجتمع إلى مسرح لنوازع وأطماع ومصالح..مما يمكن الرأسمال المتنفذ في أن يستغل بسهولة مثل هذا المجتمع المسلوب الإرادة أمام الرغبة في تأمين المصلحة الفردية الطاغية في الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية.
إذن، الحاكم في المجتمع الغربي هو الرأسمال. وليست الديمقراطية هي العصا السحرية في إيجاد وتأمين الحرية والعدالة الاجتماعية. إن الديمقراطية أو الشورى ـتبعاً لذلك ـكآلية إذا لم تُسند بثقافة متوازنة ورؤية ودعوة حقيقية لإخراج المجتمع من مشكلته الثقافية لن تصنع شيئاً . إذن المشكلة في الغرب،هي ثقافية. ومؤشر ذلك قيام معارضة ثقافية من داخل الغرب نفسه،تدعو إلى كسر الطوق عن الفكر من استبداد هذه المركزية الغربية والانفتاح عن الخيارات الثقافية الأخرى ودحض كل الأوهام التي تزعمها الحداثة، مثل وهم التنمية ووهم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. فما يجري في الغرب فيه كثير من انتهاكات حقوق الإنسان. ومن هنا نجد الديمقراطية أحياناً تستثمر في بلاد العالم الثالث في شكلها المتنكر والمحتال، وحيث الديكتاتورية في العالم الثالث تتسربل بالديمقراطية، كما أن الديمقراطية الغربية ساهمت في قيام ودعم عسكرتاريات جنوبية كثيرة. إن القضاء على الاستبداد هو لو شئنا بتعبير عبد الرحمن الكواكبي، قضاء على طبائع الاستبداد. وهذا رهين قيام استراتيجية ثقافية داعمة للديمقراطية الغربية أو الشورى الإسلامية سواء بسواء. فالطغيان والاستبداد قبل أن يكون إجراءات هو ثقافة. ومن هنا نرى كيف لعبت فكرة الجبر دوراً كبيراً في نصرة الديكتاتورية العربية وديمومتها. إذن المخاطر تأتي من طبيعة التعامل الرأسمالي مع الديمقراطية، حيث لايقبل بتجريدها من محتواها الثقافي العلماني والمادي. ولايقبل بتصديرها إلا معلّبة كاملة كمنتوج استهلاكي يفرض على المستهلك دفع ثمن توابعه «واكسسواراته» غير الضرورية والملزمة.
نحن إذن لانحمل مشروعاً لصناعة الاستقرار السياسي فقط أو التوزيع العادل للحقوق وما شابه ذلك. ولكننا نحمل أيضاً مشروعاً لصيانة المجتمع وحمايته وتحصينه بحيث نكسبه مناعة من أن يتورط فيما تورطت فيه المجتمعات الغربية،من التيه والانحراف والتدمر والباب المسدود. إننا نحمل خيار دعوة تريد أن تنهض بالمجتمع العربي والإٍلامي وتنتقل به من مستوى الاجتماع غير المتجانس إلى الاجتماع المتجانس.. ومن مستوى المجتمع المفكك الذي تطغى عليه النوازع الفردية والمصالح والنفوذ العشائري أو الأليغارشي أو البرجوازي والرأسمالي إلى المشروع الجماعي ومفهوم الأمة، وهو مفهوم يقع كنتيجة قصوى وغاية للاجتماع السياسي والنظام السياسي في الإٍلام. هذا التحول يتعين جريانه في أفق معافى بشرط الحرية والديمقراطية،وأيضاً بشرط اليقظة والممانعة الحقيقية،حتى لاتستغل الديمقراطية في المجتمع العربي والإسلامي لصالح قوى رأسمالية متوحشة ومحتالة ومجرمة تسعى إلى أن تحول مجتمعاتنا إلى أسواق ومستهلكين ومفككين وعبدة للهمبرغر والبيبسي والمنتوج الهوليودي.. وإلى اجتماع مسلوب الإرادة، يُقاد بلا وعي في عملية صياغة القرار. وهذا ما يجعل «الديمقراطية»ـبمحتواها الغربي الرأسمالي ـ أفيوناً حقيقياً للشعوب وحتى لاتكون كذلك، فإننا نريدها ديمقراطية حقيقية تمنح شعوبنا يقظة واستقراراً ووعياً وانسجاماً وقدرة. ولذا فإننا بقدر ما ننتقد الخيارات الخوارجية المغلقة نوجه النقد ذاته إلى الفصاميات والأرثوذكسيات العلمانية المتطرفة، التي تستغفلنا وتستحمرنا حينما تزعم أنها تقدم لنا مادة عقلانية. ولكنها في الحقيقة،لم تحلّ أزمتها العقلانية. ويكفي في ذلك ما يشهده الغرب من مدّ مهول، يطعن في مصداقية هذه العقلانية الممركزة، التي تمثل الآن أكبر الأوهام في بلاد الغرب، الذي يشعر بخطورة موقفه الذي يتهدد اجتماعه بشكل واضح لا أقلّ على مستوى المستقبل القريب.
وفي ختام هذا التحليل، يجدر بنا أن نشير إلى هذه النتائج:
1/ أزمة التفكير السياسي في الإسلام التاريخي هي أزمة وعي وبالتالي أزمة علاقة بالنص.
2/ الأطاريح العلمانية والخوارجية هي وجهان لعملة واحدة في معنى الكفر بالوجوه المحتملة للنص، وفي عجزها عن إدراك المعنى النسبي.
3/ المسألة الأساسية في مقاربة النظام السياسي في الإسلام،هو بحث العلاقة الجدلية ما بين مشروع الشريعة وشريعة المشروعية.
4/ يتعين على الناظر في الفكر السياسي الإسلامي كما تنطق به النصوص المرجعية،وجود طرحين متكاملين أحدهما مقدمة للآخر، وأحدهما غاية قصوى للأول، أعني دولة الإسلام الواقعية ودولة المثل الإسلامية.
5/ دولة الإٍلام الواقعية، هي دولة الإنسان الواقعة مرحلة وسيطة ما بين دولة اللاإنسان في شكله الأدنى ودولة اللاإنسان في وضعه الأعلى، أي دولة الإلوهيين الأحرار.
6/ في الدولة الإسلامية الواقعية،لامعنى للتناقض بين الديمقراطية والشورى، والخلاف هو في أساس المحتوى الثقافي الذي يشكل حقلاً تداولياً لهذه الآلية أو تلك..
7/ ولأن الشورى أو الديمقراطية هي آلية في الأداء السياسي، فإن الخطر ينفذ إليها من الخيار الثقافي. وعليه فإن الصدام اليوم،ليس بين خيار سياسي ديمقراطي وخيار سياسي شوري، بل الصدام هو صدام حضاري، مما يستوجب حواراً حقيقياً بين الحضارات.