المشروعية الإنسانية للشورى والديمقراطية:
الحالة السودانية مثالًا
الدكتور وائل أحمد خليل الكردي*
* باحث من السودان، البريد الإلكتروني: wailahkhkordi@gmail.com
إطار نظري
أورد إسماعيل مظهر في مقدّمته لترجمة كتاب: (أصل اﻷنواع) للعالم الإنجليزي تشارلز داروين «إن البحث في استجلاء غوامض المادة مرتبط بالبحث في أصل الحياة، وما يحيط بالكائنات العضوية ونتائج فعلها المستمر. ولذا كان البحث في أصل المادة وما يتبعها من قوانين الوحدة الطبيعية، ألصق ما يكون بالعقول، منذ أن بزغ فجر المدنية حتى قامت المدنية الحاضرة على أنقاض ما سبقها من المدنيات البائدة» .
بغض النظر عن الموقف من نظرية التطوّر الداروينية، كانت تلك إشارة إلى أن هناك أصلًا بعيدًا تتوحّد فيه اﻹنسانية على هيئتها في الخلق على الفطرة اﻷولى بما تعارف عليه في الاصطلاح المعاصر بحالة (الحسّ المشترك)، ثم أتت من بعد ذلك اﻷشكال الحياتية المركّبة والتعقيدات الشخصية لهذا الحسّ المشترك لتأخذ نواحي واتجاهات مختلفة ومتباينة، اﻷمر الذي من شأنه تصعيد خلافات قد تبلغ حد الحروب، وقد بلغت.
لذلك كان لزامًا إعادة جمع الناس على كلمة سواء حول هيئة فطرية ملزمة للجميع بكونها مصدرًا لمنح المشروعية لكل نشاط إنساني بسيط أو معقّد، أوّلي أو متقدّم. وقد تأكّد تمامًا هذا الحال بقول الله تعالى وهو صاحب الخلق اﻷوحد: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[1]، فكان هذا الاختلاف عن اﻷصل المشترك اﻷول هو السبب الكافي لبعث الرسل بالرسالات.
وعلى هذا اﻷصل أتت الشرائع السماوية -وفي خاتمتها الدين اﻹسلامي- لتوضّح للناس حقيقة هذه الهيئة الفطرية اﻷولى وربطها بالتوحيد، وتذكّرهم بعوامل اﻹنسانية المشتركة بينهم والتي تتأسّس عليها كافة القيم الضابطة لسلوك الفرد والمجتمع على السواء، بما ينفع الجميع بلا استثناء، ويمنع التعدّي باﻹثم بينهم.
والنشاط السياسي هو أحد الميادين التي وقع فيها الخلاف الشديد حول النظم المتقدّمة في إدارة الدول والمجتمعات. فكان لزامًا، من أجل حسم الخلاف السياسي حول مراجع النظم الحاكمة وحدودها، أن يتمّ تأسيس ثابت ومهمّ لمبدأ (المشروعية) لغرض تسويغ الحكم ورسم طريقة اﻹدارة فيها على ما هو أوفق لهذه المشروعية.
وكان لا بد لهذا التأسيس لمبدأ المشروعية أن يضع يده على المصدر اﻷصل والحقيقي الذي تبنى عليه القيم التي أقرّتها الشرائع تبعًا لسنة الخلق الإلهي، ومن أجل تحقيق أفضل قدر من الحياة السليمة.
وباعتبار أن السّمة البارزة للبعد السياسي في عصرنا الراهن هي مطلب المشروعية في كل منظومة بافتراض ضروري لها كمكوّن شرطي لقيادة الدولة المدنية، كان لا بد من تعيين مصدر لهذه المشروعية أولًا، ثم تعيين مصدر لتقنين هذه المشروعية.
ولما كان من أهم مميّزات المشروعية هو فرضها واستيعابها للقاعدة الجماهيرية العامة على اختلاف اتجاهات اﻷفراد، فذلك كان من الحكمة الإلهية في الخلق بجعل نوع من المعيارية اﻷولية الموحّدة متضمّنة في حقيقة الوجود الإنساني، والتي صارت مقصدًا تعمل عليه التشريعات لغرض الضبط والتقنين.
ومن هنا كان تداول الإدارة للمجتمع يتمّ بقيادة اﻷغلبية الديمقراطية المنتخبة، بكون الديمقراطية هي الشكل المدني الأوفق للتنفيذ السياسي والمعارضة السياسية تحقيقًا للعدالة وللحرّيات اﻷساسية. ولكن ليس على معايير هذه القيادة على نحو الخصوص وإنما على مقاصد مرجعية المشروعية الإنسانية العامة.
لذلك كانت برامج التجمّعات السياسية المتنافسة على القيادة التنفيذية للدولة إن هي إلَّا وجهات نظر على خطّة التنفيذ وترتيب اﻷولويات الإدارية والتنموية وليست برامج للتشريع، وهذا ما فرض استقلالية السلطات الثلاث عن بعضها.
عليه، كان لزامًا الاتجاه نحو تحليل اﻷساس الفلسفي للمشروعية اﻹنسانية للديمقراطية بما يتضمّن حقلًا ذا تجربة تاريخية في الممارسة الديمقراطية متّخذين من السودان مثالًا، وبما يمكن أن يتأسّس في هذا الحقل وفق رؤية مستقبلية بتجاوز الوقوع في سلبيات الماضي من خلال تصويب المفاهيم.
أولًا: الفلسفة العامة للمشروعية والمشروعية اﻹنسانية
بنحو ما جاء تلميحًا في الفقرة اﻷولى المقتبسة بالإطار النظري، فإن «الحقيقة اﻷزلية في انتساب اﻹنسان للكون هي قاعدة ومرتكز شرعية أشواقه تجاه الوجود المطلق والكمال المطلق. كما أن شرعية أشواقه هي قاعدة ومرتكز لسعيه المشروع صوب إنجاز مسيرة الكمال اﻹنساني».
فيمكن القول بأن المشروعية هي المصدر اﻷولي الصلب لمنح الحق وتعيين الواجب. وهذا التعريف للمشروعية افترض تصوريًّا خلق الله تعالى لفطرة اﻹنسان ابتداءً ثم أتى عليها بالشرائع لحفظها ورعايتها وتصحيح مسار ما انحرف عنها، وهو ما كان من دلالة قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}[2].
يصبح اﻷمر على وجه من بساطة القول بأن منبع القيم العليا (مُثُل العدالة والحرية والمساواة) التي جاءت بها اﻷديان والقوانين والنظم لتثبيتها في المجتمع هو التفاعل الاجتماعي المشترك بين الناس، والذي لم يكن ليتجانس ويتطوّر إلَّا إن كان هناك الحد اللازم من (الحس المشترك) -common sense- بين أفراد البشر جميعًا، وحيث يمكن تعريف هذا الحسّ المشترك بأنه «الاتفاق الفطري التلقائي على الحاجات اﻹنسانية واتجاهات السلوك البشري».
وتبعًا لهذا كانت هناك حقائق ضابطة للحسّ المشترك، فكان من أبرز هذه الحقائق حقيقة المساواة على سبيل المثال، باعتبارها «الإقرار بالحقيقة الكونية بقدر ومقام الإنسان، وأن كل فرد إنساني يقف على قدم المساواة مع اﻷفراد اﻵخرين. وكحقيقة فلسفية فإن هذه المساواة ملازمة للإنسان منذ مولده إلى يوم موعده غير ما تخلّف لموجباتها ومقتضياتها».
وأيضًا حقيقة سيادة اﻹنسان «أي سلطته على فعل كل شيء ضمن الالتزام الاختياري بالنظام، تزوّده بمعطيات التأثير على ذاته وعلى غيره. فسلطته على نفسه تتحكّم في تقرير مصيره الفردي والكل الواحد المتكامل لذاته ممّا يمكنه السيطرة على ملكاته وتصرّفاته، وممّا يوفّر له شروط الالتزام الإرادي بالنظام وشروط موجبات المسؤولية» .
ولهذا كان من مسقطات العقوبات والحدود فقدان هذه السيادة على الذات بفعل الإكراه من الغير. ومن جهة أخرى، فإن هذا يجعل من الضروري أن يكون أمر جماعة الناس مشتركًا بينهم فيما يتعلّق بالشأن العام لهم، وحتى لا يتعلّق القرار فيه بإرادة ذات واحدة ﻷحد الأفراد دونما المرور على موجبات الحسّ المشترك بينه وبين سائر الناس.
وهنا أتت اﻷديان السماوية بعدما كان الناس أمة واحدة ثم اختلفوا لتضبط وتثبّت هذا الحق الذي جعله الله تعالى في الإنسان، وهو الفطرة اﻷولية المتجسّدة في مفهوم الحسّ المشترك. فالنص القرآني في هذا الشأن يتكامل مع حالة الخلق باعتبار أن كلاهما من مصدر واحد.
إذن، فعندما نتحدّث عن مشروعية إنسانية، فإننا نتحدّث عن حالة طبيعية أتت تبعًا لها الحالة النصية، فإذا استشكل النص على التفاسير بفعل تعقّد الحياة ومستجداتها وتداخل وتعارض إرادات البشر، كان لا مناص من الرجوع إلى الحالة الطبيعية لتبيان اﻷمر بكونها سنة الله في الخلق، ولتأكيد فهم النص الذي تقوم عليه فيما بعد الصفة القانونية التشريعية في التعاقد والالتزام والمسؤولية المترتّبة على مسبّبات منح المشروعية، والتي تنطلق من اﻷصل اﻷول للإنسان مرورًا بالعرف الاجتماعي في خلق الله الناس على هيئة شعوب وقبائل {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...}[3]، وختم بالنصوص الضابطة والمنظمّة والمرشدة ﻹنفاذ هذه الحالة النظرية (العرف الاجتماعي).
ويمكن الإشارة هنا إلى أن الدلالة النصية على الحالة الفطرية للحسّ المشترك لدى اﻹنسان، تستمد من آية اﻷكل من الشجرة الممنوعة في القرآن الكريم بقول الله تعالى: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}[4].
ليصبح الشاهد في هذا أن حالة الوعي القصدي عند اﻹنسان، قد توفّرت لديه بعد اﻷكل من الشجرة المعلومة باكتشاف ما هو فيه أصلًا من مبادئ وحقائق أخلاقية مثل (الحياء) وما نحو ذلك. ونقول: إن هذا بواقع اﻵية كان اكتشافًا وليس كسبًا. ثم ترتب عليه السلوك الدالّ عليه وهو ستر عورة الجسد بورق الشجر.
وعلى السياق نفسه وردت الإشارة ذاتها في (التوراة) في (سفر التكوين) حيث النص «فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل. فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا ﻷنفسهما مآزر... فنادى الربّ الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت ﻷني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟».
وبغض النظر عن النقد الديني على نصوص العهد القديم، وبغض النظر عن دلالة صورة الله تعالى في هذه النصوص، فاﻷمر هنا مقتصر على الحالة اﻹنسانية فقط وعلى أيّ نحو تكون.
ويأتي الاستدلال بهذه النصوص على عموم أطروحة المشروعية اﻹنسانية كمصدر أولي هو أن توفّر حالة الوعي باكتشاف المبدأ أو القيمة اﻷخلاقية، ثم ترتيب السلوك التلقائي عليها كان في قصة (آدم وحواء) شيئًا مشتركًا تمامًا، وفي الوقت نفسه وبالسلوك ذاته من جانب الطرفين. وهذا بدوره ينقل الاستدلال إلى مسألة مشروعية الديمقراطية في الدولة المدنية من خلال التكييف التشريعي لها.
ثانيًا: التكييف التشريعي للمشروعية اﻹنسانية
للديمقراطية في الدولة المدنية
البديهية هي قضية بيّنة بنفسها وليس من الممكن أن يبرهن عليها، وتعدّ صادقة بلا برهان عند كل من يفهم معناها، ولها الخواص التالية:
١- البينة النفسانية، أي وضوحها مباشرة للنفس بلا واسطة ولا برهان منطقي.
٢- اﻷولية المنطقية، بمعنى كونها مبدأً أوليًّا غير مستخلص من غيره.
وتسمّى البديهية أحيانًا باسم القضايا المشتركة، وذلك بمعنى أنها مسلّمة من كل العقول على السواء.
وعلى أساس منظومة البديهيات يتمّ بناء أيّة دراسة علمية، كما يتمّ أيضًا عليها بناء التفسيرات اﻷولية الضرورية للنصوص التشريعية. وبالتالي فإن النص التشريعي ينطلق من مشروعية تستند في أصولها إلى منظومة بديهيات تمثّل فيما هو علم بالحسّ المشترك بالضرورة، ثم تأتي بعد ذلك اﻷحكام التركيبية المعقّدة بحسب كل مرجعية يعتمد عليها مجتمع ما أو دولة ما، فإذا كان السياق هنا هو تداول حكم الدولة وتوابع ذلك ضمن منظومة إصدار القرارات السياسية والاقتصادية، فلا بد إذن من تعيين النظام اﻷمثل الذي يتم من خلاله إدارة مقتضيات الحكم.
ويعدّ من البديهيات –أي العامل الذي ينطبق عليه شرط الوضوح بذاته ولا تقوم عليه البرهنة وإنما تقوم به لغيره– هو أن يقوم اﻷمر على ما هو مشترك بين جميع الناس، وهذا يقتضي أن يتمّ الاختيار ﻷيٍّ من توابع منظومة حكم الدولة بمشورة كل فرد من أفراد المجتمع تلبية للحاجة اﻹنسانية المشتركة بين هؤلاء اﻷفراد.
ولذلك أتى التشريع السماوي محقّقًا لهذا المطلب اﻹنساني العام في سياسة أمور الناس على قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[5] لتكون بذلك صفة الوجوب واﻹلزام على أخذ الشورى لدى الناس أجمعين، إذ لم تخصّص اﻵية الشورى على فئة بعينها دون غيرها، وذلك لضمانة تقرير حق يعتبر هو من بديهيات الحسّ المشترك ألا وهو حقّ الشعب في الوحدة الوطنية من خلال تساوي الفرص في منح الرأي من أجل تحقيق هذه الضمانة، ولكي تكون المحصلة النهائية هي تحقيق السيادة الشعبية على النفس واﻷرض بمواردها.
ورد عن عبد الرحمن عبد العزيز القاسم أستاذ القضاء والتقاضي بجامعة الملك سعود قوله: «إن من المبادئ الأساسية ومُثُل الحكم العليا في العصر الحديث –بل وفي كل عصر– مبدأ الشورى، أو مبدأ الاستفتاء أو الاقتراع أو الانتخاب، ولقد وصلت إليه النظم السياسية بعد مراحل عديدة وتطوّرات مختلفة في نظم الحكم... فلقد قرّر الاسلام في دستوره العظيم هذا المبدأ وأمثاله من المبادئ التي يجب أن تكون أساسًا لحياة سياسية واجتماعية حكيمة، فيشترك الحاكم والمحكوم في تسيير دفة الأمور. وكان من حكمة الله أن قرّر هذا الأصل كغيره من الأصول دون تفصيل، إذ جاء مجملًا لكي يفسّر ويفصّل عند تطبيقه وفق ظروف كل مكان وزمان على أساس مبادئ الشريعة وأهدافها التي جعلت مصالح العباد أساسًا لها».
إذن، فمبدأ الشورى هو ما جاء تقريره في التشريع اﻹسلامي كمبدأ كلي عام متوافق حتمًا مع الجِبلّة الفطرية للإنسان في أيّ مكان على اختلاف شعوبه وقبائله. وهذا المبدأ الكلي العام يحتاج بالضرورة إلى وسيلة أو آلية من أجل تنزيله على واقع الناس، إذ إن هذه الشورى في اﻷمر كمبدأ كلي عام لازم للحسّ المشترك يفترض بها ابتداءً وصول اﻷمر إلى جميع الناس وكل اﻷفراد. وهذا يكون غير ممكن في حالة المبادئ الكلية العامة، ولذلك كان لا بد في اﻷساس من التواضع والاصطلاح على اصطناع وسيلة تنظيمية تسهل تحقيق هذا المبدأ الكلي العام، ويتم الاصطلاح والاتفاق على هذه الوسيلة بحسب أحوال ووقائع وظروف وبيئة المجتمع أو الشعب المحلية.
وهنا يأتي دور (العرف) أي الحالة الخاصة لدى أيٍّ من المجتمعات والشعوب في صياغة نمط ومقوّمات وعناصر هذه الوسيلة بعد تحديدها. وبصدد تعيين مفهوم (العرف)، يقول جوستاف لوبون في مقدّمة كتابه (سيكولوجية الجماهير): «إن مجمل الخصائص المشتركة المفروضة من قبل الوسط المحيط والوراثة على كل أفراد شعب ما تشكّل روح هذا الشعب. وبما أن الخصائص ذات أصل عائد إلى اﻷسلاف فإنها ثابتة جدًّا. ولكن عندما يحدث أن يتجمهر مؤقّتًا عدد كبير من اﻷفراد بتأثير من عوامل عديدة، فإن الملاحظة العيانية تبيّن لنا بأنه تنضاف إلى خصائصهم السلفية الموروثة مجموعة أخرى من الخصائص الجديدة مختلفة أحيانًا إلى حدٍّ كبير عن خصائص العرق الذي ينتسبون إليه، وتجمهرهم يشكّل روحًا جماعية جبارة».
ولكن مع اتّساع الرقعة والتداخل بين اﻷعراف في ظلّ روابط حاكمة تتجاوز الحالات اﻷولية أو البسيطة في أشكال المجتمعات التي هي القبائل والعشائر هو ما يخلق كيانًا جديدًا أكثر تعقيدًا وتركيبًا، وأشدّ صعوبة في تجسير التواصل بين اﻷعراف والعشائر بأعرافها، ويسمّى هذا الكيان (الدولة المدنية).
يقول لوبون أيضًا: «إن الجمهور النفسي هو عبارة عن كائن مؤقّت مؤلّف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصّو الصفوف للحظة من الزمن. إنهم يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكّل عن طريق تجمّعها وتوحّدها كائنًا جديدًا يتحلّى بخصائص جديدة مختلفة جدًّا عن الخصائص التي تملكها كل خلية».
فربما قد لا يتاح في توصيل الشورى –التي هي حقّ للأفراد باﻷحرى وليس المجتمعات– إلى كل فرد إلَّا في المجتمع ذي الشكل البسيط القائم على العرف الواحد المشترك، وإن هذا قد يصعب كثيرًا في حالة الدولة المدنية ذات التركيب المعقّد من كثير من الكيانات والأعراف البشرية.
قال توفيق الحكيم: «فليس الحكم العادل وحده هو الذي يصنع علم القانون، كما يُعرف في اﻷمم الكبرى. فما أكثر اﻷحكام العادلة التي تصدرها مجالس التحكيم عند البدو أو عند كثير من القبائل الفطرية، فهل نستطيع أن نسمّي هذه اﻷحكام قضاء بالمعنى القانوني؟ لا، لماذا؟ ﻷنه ينقصها الفقه الذي يجمعها ويمحّصها ويرتّبها ويستخرج منها الاتجاهات والنظريات والمذاهب والمبادئ».
فهذا تمامًا ما تتميّز به الدولة المدنية وما يميّزها؛ لذا لزم في هذه الدولة المدنية الاتفاق على صفة تعاقدية لتوصيل الشورى أي التعاقد بين اﻷفراد على نظام انتخاب الحكومة العامة واختيار التمثيل النيابي البرلماني عن كل كيانات مجتمع الدولة المدنية. فهذا هو إذن (النظام الديمقراطي) الذي يفيد تنزيل اﻷمر في الدولة المدنية للشورى بين الناس عبر هياكل توسطية بين عموم الشعب والحكومة، وهي ما تعرف بالمجالس النيابية البرلمانية، ومن ثم تقسيم السلطات إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية.
وعلى هذا فالديمقراطية ليست أيديولوجيا أو منظومة فكرية جاهزة يتمّ اختيارها من بين أنساق فكرية أخرى، وإنما الديمقراطية هي محض أداة أو وسيلة أو طريقة لتحقيق اﻷصل العام وهو الشورى. فإذا كانت الشريعة اﻹسلامية قد أتت بفرض هذا اﻷصل العام كمبدأ كلي، فإن علينا نحن أن نختار الوسيلة التي تناسب واقعنا ومكاننا وراهننا الحضاري من أجل تحقيق وتنزيل هذا الأصل العام أو المبدأ الكلي. ولهذا كثيرًا ما حثّ التشريع اﻹسلامي وبصورة أساسية على التفكّر والتدبّر والاجتهاد باعتبارها السبل لإيجاد النظم المناسبة.
ومن جهة أخرى، فإن الشكل الضابط لهذه الوسيلة في تداول أمور السلطة وتأليف الحكومة وعمل المجالس النيابية هو (القوانين)، فالدولة المدنية الديمقراطية هي بالضرورة دولة قانون. فإذا كانت المشروعية هي مصدر الحقّ لأية جهة تتبّع لمصادر التشريع، فإن القانون هو التعبير النصي الملزم عن المشروعية. ولذلك يمكن إعادة الصياغة للقوانين في قالبها اللغوي من حين إلى آخر، ولكن تظل المشروعية ثابتة.
ثالثًا: المشروعية اﻹنسانية للديمقراطية في الحالة السودانية
إن المجتمع ذو الكتلة الواحدة وذو النسيج الاجتماعي المتقارب ويشابه كل طرف الطرف اﻵخر منه فإن العنصر الواحد فيه يمثّل الكل، وهذا قد لا يحتاج إلَّا إلى الشكل اﻷولي في العملية الشورية بنحو ما. وهذا بعكس المجتمع ذي الكتل المتعدّدة كما السودان تتباين وتتنوّع فيه الإثنيات والثقافات والبيئات المحلية والأشكال الاجتماعية بخصوصية تقاليدها وأعرافها، ويتعدّد فيه النموذج البشري من حيث اتّساع الرقعة الجغرافية رهنًا بتعدّد ضروب العيش على هذه الرقعة. هناك تكون الحاجة ملحّة إلى الشكل اﻷعقد في العملية الشورية المتمثّلة في التمثيل النيابي البرلماني.
ولا بد في هذا الصدد أن نميّز بين حالتين في المجتمعات المؤلّفة من مكوّنات قبلية (قبائل). الحالة اﻷولى، هي المجتمعات التي تتألّف من (القبلية الأسرية)، وهي أن المجتمع ككل ينتمي إلى أصل عرقي واحد مشترك أقرب الشيء، ولكنه ينقسم إلى قبائل على أساس تنوّع اﻷسر تبعًا لرؤوس هذه اﻷسر من العصبية الذكورية على خط اﻷب والرابطة الرحمية على خط اﻷم مع بقاء الهوية العرقية العامة لديهم معًا واحدة.
وهذه المجتمعات التي تتألّف من قبائل أسرية لا تخرج عن تصنيفها ضمن المجتمعات ذات الكتلة الواحدة، وبالتالي قد يصحّ في حقّها أنماط من غير نمط التعدّدية في التمثيل النيابي مثل النظام الملكي وما نحوه. وهذه الحالة تمثّلها بعض مجتمعات العرب الأقحاح ذوي اﻷصول البدوية.
والحالة الثانية، هي المجتمعات التي تتألّف من (القبليات العرقية)، أي إن المجتمع يتألّف من قبائل تنتمي إلى أصول عرقية مختلفة ومتباينة تجمعها الدولة باعتبارها هيئة عامة. فمثل هذه الحالة لا يصلح فيها غير التعدّدية النيابية التمثيلية للتعبير عن حالة كل قبيلة من قبائل المجتمع بحكم الوضع الحضاري والقطعة الجغرافية والمقوّمات البيئية والموارد الطبيعية –هذا هو الحد اﻷدنى الطبيعي لتطبيق التمثيل النيابي، ولكن الحد اﻷكبر في هذا هو تشكيل اﻷحزاب السياسية وكتل اليمين واليسار السياسي. والديمقراطية على هذا تسري سواء تمّ تشكيل أحزاب أو لم يتمّ– ومثل هذا النوع من المجتمعات يجد مثالًا واضحًا له في بعض الدول الافريقية.
وحالة المجتمع السوداني هي إحدى المجتمعات من هذا النوع اﻷخير. ولذلك ففي السودان قد لا نجد مسوّغًا للحديث عن (هوية سودانية) مفردة وإنما عن (هويات سودانية)، ولذلك لا يمكن الجمع بين هذه الهويات في دولة واحدة إلَّا على أساس (المواطنة) أي الحق في مشاركة الوطن بحكم الانتماء الطبيعي له ولمكوّن من مكوّناته القبلية أو الإثنية وبحكم الحدود الجغرافية السياسية للدولة القائمة على هذا الوطن.
ولهذا فالدولة المدنية ذات الأعراق القبلية المتعدّدة إنما تقوم على المواطنة وليس على مبدأ الهوية الواحدة. وهنا تمثّل الجغرافيا الطبيعية والسياسية والسكانية عاملًا حاسمًا في الانتماء للدولة والتوطّن فيها، ومن ثَمَّ تأسيس العقيدة الوطنية للأفراد على ذلك، وبحيث إن هذه الهويات المتعدّدة إذا استقلت بعضها عن بعض سياسيًّا وجغرافيًّا صار لدى أيٍّ منها عقيدتها الوطنية الخاصة بمعزل عن العقيدة الوطنية العامة التي كانت تجمعهم تحت ظلّ دولة واحدة فيما سبق.
وتحضر في هذا المقام بالضرورة حالة (جنوب السودان) كنموذج عملي يتمّ القياس التاريخي عليه. فبعد انفصال جنوب السودان عن جمهورية السودان تولدت ونمت تدريجيًّا عقيدة وطنية جديدة بصدد (دولة جنوب السودان) المستقلّة، وهذه العقيدة هي المنشئة في اﻷصل لصفة الدولة هناك. ولذلك قد يجعل هذا الوضع اﻹنساني الجديد وحالة المواطنة بالانتماء الطبيعي هناك عودة الاندماج الكامل بين السودان وجنوب السودان مرة أخرى أمرًا عسيرًا ومعقّدًا للغاية.
وربما نجد الإشارة هنا دالّة على أن بذرة الشعور لدى أبناء جنوب السودان بهذه العقيدة الوطنية الخاصّة بمنطقتهم الجغرافية دونًا عن السودان ككل، إنما تَمَّ بذرها مسبقًا منذ عهد الانتداب البريطاني على السودان بسبب نوع السياسات في خلق المناطق المقفولة في داخل المجتمع الواحد.
ويمكن القول: إن حالة جنوب السودان هذه ذات دلالة على تعدّد هويات السودان في مقابل حالة الهوية الواحدة إلَّا من خلال مبدأ المواطنة. فيمكن أن نستدلَّ من هذا أن استقلال مناطق خرى عن السودان الأصل يمكن بسهولة أن يخلق لديها عقائد وطنية جديدة بناءً على وحدة العرف والهوية لكل سكان منطقة مستقلّة (لعل الإشارة في هذا تكون واضحة إلى منطقة النوبيين ودارفور)، وفي هذا تفتيت لمحور الارتكاز والقوة في الدولة الكبيرة.
وكما أنه من المعقّد جدًّا على جنوب السودان بعد تأسيس عقيدته الوطنية المستقلّة على أساس الجغرافيا والهوية العرقية ذات اﻷصل الواحد أن يعود بعد انفصاله إلى عقيدة وطنية كبرى تجمعه مرة أخرى مع السودان الكبير، ولكن فقط وعلى أقصى تقدير أن تكون هناك روابط ذات طبيعة متميّزة وخاصّة على مستوى العلاقات الدبلوماسية بين دولة جنوب السودان وجمهورية السودان بحكم المشترك التاريخي السابق، فكذلك سيكون الحال إذا حدث واستقلّت أيّة هوية أخرى من هويات السودان بأرضها وجغرافيتها وسكّانها.
وعلى هذا، نعود ونؤكّد القول بأن أنسب أشكال الدولة للسودان هو شكل الدولة المدنية ذات النظام الديمقراطي، وتعدّدية التمثيل النيابي دون الاخلال بالدستور القومي للبلاد جرّاء تعدّد هذه الهويات السودانية ومناطقها.
وهكذا فرضت المقوّمات اﻹنسانية اﻷولية والضرورية للتعايش بين الناس والمجتمعات المحلية، المشروعية الطبيعية اللازمة لتأييد شكل الدولة السودانية ونظمها المناسبة، على نحو ما ذكر من أجل تحقيق التماسك العام لهيئة الدولة في حيّزها الكبير بنحو ما هو ماثل في نموذج الولايات المتحدة الأمريكية بنحو قريب.
خلاصة ونتائج
1- إن المشروعية اﻹنسانية السياسية تفيد أن اﻹنسان هو صانع قراره وهو المسؤول عنه، ولذلك كان اﻷمر الشرعي بالشورى بأخذ الرأي من لدن كل فرد في الشعب.
2- إن أخذ الرأي من كل فرد في الشعب قد يتعذّر في بعض الدول نسبة لطبيعة تكوين مجتمعاتها، لذا يلزم لها الوسيلة المناسبة لتنزيل هذا اﻷمر.
3- الشورى بهذا المعنى هي مبدأ كلي عام، والديمقراطية هي وسيلة لتحقيق هذا المبدأ العام. ولذلك في الدول ليست ذات الكتلة الواحدة وإنما ذات تعدّدية للهويات تكون الديمقراطية بالتمثيل النيابي عن فئات الشعب هي الوسيلة اﻷنسب.
4- التمثيل البرلماني الانتخابي يعني افتراض اختيار اﻷمثل للممثلين كنوّاب عن الشعب وفق معايير الكفاءة السياسية والإدارية.
5- بالتالي كما تكون المشروعية اﻹنسانية قائمة للشورى كمبدأ عام فإنها تنسحب بالضرورة على الوسيلة المحقّقة لها وهي نظام الديمقراطية.
6- المشروعية الإنسانية للشورى هنا ليست معنيّة باتّخاذ القرار وإنما بآلية اتّخاذ القرار، إذ إن اتّخاذ القرار في السياسات العامة وقضايا الحكم يأتي لاحقًا لمرحلة الشورى عبر الديمقراطية ويتمّ إصداره وفق التهيئة التقديرية ﻷنسب الخيارات أو البدائل لدى السلطة المخوّلة بذلك (تشريعية، قضائية، تنفيذية).
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- الكتاب المقدس، العهد القديم، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
3- توفيق الحكيم، فن الأدب، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973م.
4- شارلز دارون، أصل الأنواع، ترجمة: إسماعيل مظهر، بيروت: مكتبة النهضة، 1973م.
5- عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة الثالثة، 1977م.
6- عبد الرحمن عبد العزيز القاسم، الإسلام وتقنين الأحكام، مصر: مطبعة السعادة، الطبعة الثانية، 1977م.
7- غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، القاهرة: مركز إبصار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2016م.
8- ميرغني النصري، مبدأ الشرعية في الفكر الإسلامي والعالمي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأولى، 2005م.