شعار الموقع

المرأة والجنوسة : مطالعة في لغة القرآن

محمد تهامي دكير 2020-04-27
عدد القراءات « 632 »

المرأة والجنوسة:

مطالعة فـي لغـة القـرآن

محمد تهامي دكير

الكتاب: المرأة في لغة القرآن.. دراسة جنوسية.

المؤلف: مجيد دهقان.

ترجمة: أحمد حسين بكر.

الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت.

سنة النشر: الطبعة الأولى، 2019م.

الصفحات: 345 صفحة من الحجم الوسط.

 

بين يدي الكتاب

يرى بعض المؤرّخين للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، أن تناول موضوع المرأة في الإسلام، أو البحث في موقف الإسلام من المرأة، ومحاولات الكشف عن مكانتها والحقوق التي تتمتّع بها في الشريعة الإسلامية، وكُل ما يتعلّق بالمرأة المسلمة بشكل عام، قد انطلق بشكل جدِّي ومُكثّف، بعد إصدار الكاتب المصري الشهير قاسم أمين لكتابيه، الأول: «تحرير المرأة» (الصادر سنة 1899م) والثاني «المرأة الجديدة» (الصادر سنة 1901م).

فقد استدعى صدورهما في بدايات القرن الماضي، عاصفة من الردود الفكرية والكتابات، بين مؤيّد لما ورد فيهما من آراء وتحليلات، تناقش وضع المرأة المصرية، وقضايا الحجاب وحقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية، والادّعاء بأنّ وضع المرأة المتدنّي في المجتمع قد ساهم في التخلّف الحضاري للأمة... إلخ، وبين من تصدّى لهذه الآراء بالنقد والرفض، معتبرًا إيّاها خروجًا عن ثوابت المجتمع المسلم وأعرافه وتقاليده، وأنها دعاوى لإفساد المجتمع، عن طريق نزع حجاب المرأة وإخراجها للشارع، كما هو الحال في الغرب، وبالتّالي، فالقضية ليست لها علاقة بالدفاع عن حقوق منتهكة للمرأة، على المستويين التشريعي والاجتماعي، وإنما هي دعوات للتغريب والارتماء في أحضان الحضارة الغربية، حضارة الاستعمار؟!

وقد ركّزت هذه الكتابات المناهضة على التداعيات السلبية لتحرير المرأة العربية والمسلمة، وتغيير نمط عيشها التقليدي ومكانتها وأدوارها التقليدية في المجتمع، خصوصًا مسؤوليتها عن تربية الأجيال القادمة. وقد استمر السجال بين التيارين، المؤيّد والرافض لما دعا إليه قاسم أمين وغيره من روّاد النهضة والتنوير العلماني، إلى يومنا هذا، كان من آثاره الإيجابية تسليط الضوء على واقع المرأة العربية والمسلمة، التي أصبحت موضوعًا للبحث والمناقشة والتنظير الفكري.

ما أسفر –بعد قرن من الزمان- على كم هائل من الدراسات والبحوث والأدبيات، تناولت كل ما يتعلّق بالمرأة: (الكائن، الأنثى، الحقوق والواجبات، المشاركة الاجتماعية، المساهة في بناء الحضارة، والمرأة: الواقع والمستقبل... إلخ). بحيث يمكن من خلال هذا الكم الهائل من الكتابات والتنظيرات التي تحوّلت إلى تراث فكري، أن نشكّل رؤية شبه متكاملة تجاه موضوع المرأة العربية والمسلمة.

لكن ما يعيب أو ينقص هذا التراث كونه أُنتج قسم كبير منه في إطار ردود فعل متشنّجة ومتسرّعة أحيانًا، في حركة السجال مع الرؤية الغربية للمرأة، الوافدة مع الاستعمار أو بتأثير حضارته المهيمنة. لذلك غلب على هذا الكم الهائل من الكتابات طابع الدفاع والتبرير، والنقد غير العقلاني في بعض الحالات، لكل ما يأتي من الغرب من رؤى ونظريات. الأمر الذي أفقده التركيز على البُعد التأصيلي، ومحاولة الكشف عن الرؤية الإسلامية الحقيقية تجاه المرأة: (الكائن والحقوق والوظيفة الاجتماعية... إلخ)، من خلال المصادر المعتبرة للدين (أي القرآن الكريم وما صحّ من سُنّة رسول الإسلام، القولية والفعلية)، بعيدًا عن التجربة الاجتماعية التاريخية (فهمًا وممارسةً وتطبيقًا)، لما ورد في هذه المصدرين، من قيم وأحكام ومفاهيم تخصّ المرأة وعالم النساء.

طبعًا، هذا ليس حكمًا مطلقًا ونهائيًّا، فلم يَخْلُ هذا التراث من دراسات تأصيلية متحرّرة من ضغط المماحكات والصراع مع الرؤية الغربية وانتقادها، أو دفاعًا عن الرؤية الإسلامية وتبرير ما جاء فيها، وفي الوقت نفسه، متحرّرة من ثِقل الرؤية التاريخية المتجذّرة في الممارسة الاجتماعية، وفي الكتابات الفكرية العربية والإسلامية القديمة والتقليدية.

من هنا، يمكن أن نتّجه صوب الكتاب الذي بين أيدينا «المرأة في لغة القرآن - دراسة جنوسية»، لمؤلفه الباحث الإيراني المُختصّ في قضايا المرأة والمباحث النسوية والجنوسة، الأستاذ مجيد دهقان، فهو وإن كان ينطلق من معالجة إشكالية مطروحة في الفكر الغربي ويُروَّج لها عبر العالم، ونقصد بها موضوع: «الجنوسة»، أي النوع الاجتماعي (الجندر - Gender). حيث يدور النقاش منذ مدّة في الأوساط الفكرية النسوية الغربية، عن التشكيل الاجتماعي للجنس (الذكر أو الأنثى)، وكيف يتحكّم في تحديد الأدوار الاجتماعية، لكل من المرأة والرجل، بغض النظر عن الخصائص البيولوجية أو العضوية للذكورة والأنوثة، وبالتّالي، الاعتقاد بأنّ التّغيير الاجتماعي المواكب للتطوّر الثقافي والحضاري اليوم، يمكنه أن يُعيد النظر في هذه الأدوار الاجتماعية، ما يفسح المجال أمام المرأة كي تقوم بجميع الأدوار التي حُرمت منها زمن طغيان أو سيادة الذكورة، أو ما أطلق عليه بالعصر أو النظام الأبوي (patriarchy).

ومع أن هذه الإشكالية تناقش في الفكر الغربي اليوم، وتدافع عنها التياريات النسوية، تحت شعار المساواة المطلقة، بين الجنسين، إلَّا أن موضوع الكتاب لا يخلو من اتجاه تأصيلي، لأن الباحث يُعالج هذا الموضوع من خلال القرآن الكريم كمصدر للمفاهيم والأحكام والقيم، ومن خلال لغة القرآن، للكشف عن الخطاب اللغوي الخاص بالمرأة (الأنثى، الزوجة، الأم، الأخت، المرأة في المجتمع... إلخ).

والتركيز على بحث الجنوسة في لغة القرآن، دون لغة الأحاديث والروايات النبوية، له أهمية علمية خاصة، من حيث الإجماع على مصدرية القرآن وأولويته في مجال الاستنباط والاستدلال والمعيارية لدى جميع المسلمين. لذلك فنتائج البحث فيه ستكون لها مصداقية على مستوى الكشف عن جانب من الرؤية الإسلامية تجاه المرأة، يتعلّق بالخطاب اللغوي أو وضع المرأة في اللسان العربي، باعتبار أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين.

بالإضافة إلى الردّ الضمني على الخلط والخطأ الشنيع، الذي وقع فيه بعض المفكّرين المتغربين والمتأثّرين بالسجالات الفكرية التي تدور في الغرب حول هذا الموضوع، والتي اتّخذت مواقف قاسية من الكُتب المقدّسة في التراثين اليهودي والمسيحي، دفعت عددًا من عالمات اللاهوت النسويات، إلى الادّعاء بأنّ لغة الكُتب المقدّسة تطغى عليها الذكورية، ما دفع -حسب بعضهن- «إلى تصوير الإله بوصفه موجودًا مذكّرًا فقط»..(ص29).

كما تظهر نزعة التحيّز للذكورة في أجلى صورها في الأدعية ومناجاة الرَّبّ، الأمر الذي كرّس دونيتها داخل الكنيسة وخارجًا في المجتمع. وبالتالي، لا مناص من اتّخاذ مواقف جديدة لتغيير الرؤية من داخل هذه الكتب أو تجاوزها؟!

وإذا كان لهذا الكلام مصداقية إلى حدٍّ ما، فإنّ القرآن الكريم الذي تعهّد الله بحفظه من كل تحريف أو تبديل، له نظرته المتميّزة للمرأة، وله خطابه اللغوي الخاص بها، ينسجم مع وضع اللسان العربي المبين، كما ينسجم مع موقفه العقائدي ورؤيته الوجودية لكل من الرجل والمرأة، ووظيفة كل منهما في هذا الكون.

وبما أن صاحب الخطاب هو الله عزّ وجلّ، وهو الخالق العادل والمنزّه عن أيّ ظلم، فمن المستبعد أن يكون هناك أيّ تحيّز جنسي أو طبقي أو اجتماعي ما، ضدّ المرأة في الخطاب الموجّه لها، وأيّ تمايز ظاهر، فإنما ينسجم مع الفطرة وأصل الخلق وغاية الوجود الإنساني، والدور الطبيعي الذي خلقت المرأة/ الأنثى من أجله، للتكامل مع الرجل في تحقيق أهداف الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض.

وهذا ما حاول الباحث الكشف عنه من خلال مجموعة من العناوين، احتضنتها فصول ثلاثة وملاحق سبعة، كشف فيها عن موقف القرآن من المرأة على مستوى اللغة وطرائق التعبير اللغوي، كما أجاب فيها عن أسئلة إشكالية مطروحة، تتعلّق بمدى حضور المرأة في القرآن الكريم؟ وحجم هذا الحضور؟ وطبيعته؟ وهل هو حضور فاعل وإيجابي؟ أم حضور سلبي انفعالي؟ وهل هو مستقلّ، أم مرتبط بالذكر؟ وكيف نُفسّر ذكورية الخطابات القرآنية؟ وما مدى تأثّر القرآن بالوضع السائد في المجتمع العربي الجاهلي؟ وغيرها من الأسئلة المتعلّقة أو المتفرّعة عمّا يثيره هذا الموضوع من أسئلة وإشكاليات.

فيما يلي، إطلالة سريعة، وجولة مختصرة في رحاب هذه الفصول، للتعرّف على أهم ما توصّل إليه الباحث. إطلالة لا تغني عن قراءة هذا الكتاب العميق في معالجته لهذا الموضوع الإشكالي، وما يتعلّق به من قضايا مهمّة وشائكة، لكن المنهجية الصارمة التي التزم بها الكاتب في هذه المعالجة، جعلت الاستفادة منه مُتيسّرة إلى حدٍّ كبير.

الجنوسة وعلم اللغة

قبل الشروع في الحديث عن المرأة في لغة القرآن، قدّم الباحث مجموعة من الإطلالات عن الدراسات السابقة لموضوع الجنوسة في علم اللغة، حيث أشار إلى تقارير علماء اللغة الذين عملوا على دراسة اللغات المحلية في القرن السابع عشر الميلادي، وقد ورد في إحدى هذه التقارير، ما يلي: «يخصّ الرجال أنفسهم بألفاظ كثيرة جدًّا، وهي ألفاظ تفهمها النساء، ولكن لا تجري بها ألسنتهن على الإطلاق، ومن ناحية أخرى فإن للنساء ألفاظًا وعبارات خاصّة بهن، لا يستخدمها الرجال أبدًا، لأنهم سوف يتعرّضون للسخرية والاستهزاء إذا استخدموها.. وكأن النساء لهن لغة مستقلّة عن لغة الرجال..»(ص16).

ومن الأبحاث الجادّة الأولى حول اللغة والجنوسة، البحث الذي أنجزه أوتو جسبرسن (Otto Jesperson)، وقد تبيّن من مجمل هذه البحوث وجود استخدام متفاوت للغة بين النساء والرجال، وهناك انعكاس لتباين الجنوسة في معاجم الألفاظ في جميع اللغات تقريبًا. كما أكّدت هذه الدراسات استخدام النساء لغة تختلف عن استخدامها من طرف الرجال. «وتشير هذه الأبحاث إلى أنّ النساء يستفدن من الأبنية اللغوية الأقدم والأخلص والأكثر أدبًا، كما أنّهن يستفدن من الأصوات المعيارية في نطق الكلمات أكثر من الرجال..» (ص17).

وهذا الاختلاف والتفاوت له أسباب كثيرة، من بينها الاختلاف في «الدور الاجتماعي»، فيما يدّعي آخرون أن التفاوت سببه (التابو) أي المحرّم والممنوع. وقد انعكس هذا الاختلاف والتباين للجنوسة في اللغة، وظهر واضحًا في معاجم الألفاظ، حيث نجد في بعض اللغات كالفنلندية أنه لا يوجد أي شكل من أشكال الفصل الجنوسي في القواعد الصرفية والنحوية، كما لا ينفصل الجنسان أحدهما عن الآخر في اللغة الإنجليزية إلَّا في ضمير المفرد الغائب فقط [he] للمذكر و[she] للمؤنث، وتنفصل المرأة عن الرجل في اللغة الفرنسية في ضمير الغائبين [ils] لجمع المذكر و[elles] لجمع المؤنث، وثمّة فصل جنوسي في صيغ اللغة العربية، إلَّا في صيغة المتكلم وصيغ المثنى الأربعة..(ص20).

وبناء على هذه الشواهد، فإنّ الحديث عن التذكير والتأنيث في لغة من اللغات، وأيّ الكلمات يعدّ مُذكّرًا فيها، وأيّها يعدّ مؤنثًا، يرتبط في الغالب بعقلية المتحدّثين بتلك اللغة، أو بثقافتهم.. (ص21).

أما الدراسات التي أُنجزت في الغرب عن اللغويات الجنوسية في القرآن الكريم، فإن عددًا محدودًا منها –حسب الباحث- الذي اعتمد على الاتجاه اللغوي، وإنما جنح باتّجاه البحث في عدّة مسائل مرتبطة بقضايا المرأة في القرآن أو تفسير الآيات الواردة في المرأة، للتعرّف على حقوق النساء وواجباتهن وأدوارهن الاجتماعية، وبالتالي، رؤية القرآن لموقع ودور المرأة في الحياة بشكل عام.

المرأة في لغة القرآن الكريم

من خلال شرح تفصيلي لمنهج تحليل المعطيات، قام به الكاتب، تبيّن له أن تمثيل النساء في القرآن الكريم، يمكن أن يدرس في إطار خمسة مواضيع، وتتكوّن الموضوعات الخمسة المذكورة من: التعرّف على النساء، ذكرهن أو استبعادهن، تمثيلهن الفعّال أو المنفعل، التشخيص، اتصالهن بالآخرين أو انفصالهن عنهم، شبكة المعاني والدلالات المحيطة بهن..(ص59). وقد قسّم الباحث مناقشته لهذه المواضيع إلى قسمين، في إطار منهجي ميّز فيه بين نساء التاريخ، والنساء المعاصرات لزمن نزول الوحي.

بالنسبة لنساء التاريخ: يُلاحظ أن القرآن الكريم حافل بذكر عدد منهن، حواء زوج آدم، ثم زوجات كل من أنبياء الله: نوح، إبراهيم، لوط، زكريا، أيوب، زوجة عمران، زوجة فرعون مصر، أم موسى وأخته، ابنتي شعيب، مريم بنت عمران، نساء بني إسرائيل، نساء مصر، ملكة سبأ... إلخ.

واللافت في ذكر هؤلاء النسوة، حسب القصص القرآني، هو حضورهن ووجودهن كشخصيات أصيلة تارة، كحضور السيدة مريم (عليها السلام)، أو حضورهن بجانب شخصيات أصيلة كما هو الحال في قصة موسى (عليه السلام)، مع أمه وأخته وامرأة فرعون وابنتي شعيب، كما يلاحظ اختلاف ذكر أسمائهن، بين مرّة واحدة وعدّة مرّات، كما يلاحظ ارتباط ذكر عدد منهن بعلاقتهن بأنبياء الله ورسله كزوجات وأمهات. وهناك قصة ملكة سبأ وعلاقتها بالنبي سليمان، وامرأة العزيز ونساء مصر وعلاقتهن بقصة النبي يوسف (عليه السلام).

ومن خلال هذه القصص، تظهر طبيعة العلاقة والحالة التي تتواجد عليها المرأة في هذه العلاقة، فهي ترتبط بشخصيات إلهية مهمّتها هداية البشر، والمرأة هنا قد تكون في وضع مرتبط بالابتلاءات التي يتعرّض لها الأنبياء والرسل، ومدى الاستجابة والتفاعل الإيجابي أو السلبي للمرأة وسط هذه الأحداث.

وهناك حالات خاصّة كحالة مريم بنت عمران (عليه السلام)، المرأة الطاهرة العابدة، وزوجة فرعون، المرأة المؤمنة والصالحة، التي تتحدّى البيئة الفاسدة. وهناك زوجة نبي الله أيوب التي تُواجه معه ابتلاء المرض والفقر. في مقابل زوجتي نوح ولوط، وقد اختارتا الاتّجاه المخالف لدعوة الأنبياء والهداية الإلهية. كما يُلاحظ التفاوت في البُعد والقرب من الهداية والمكانة في إطار الهداية نفسها، فمريم (عليها السلام) تتحدّث مع الملائكة، وزوجة فرعون تخاطب الله وتدعوه، وهي على درجة من الإيمان واليقين.

هل ذُكرت نساء التاريخ أم استبعدن؟

من خلال تتبّع الموارد التي ذكرت فيها النساء في القرآن الكريم، ومكانتهن وعلاقتهن بالأنبياء وأدوارهن في المجتمع، يجيب الباحث عن أحد أهم الأسئلة التي يطرحها الكتاب، وهو: هل ذُكرت نساء التاريخ أم اسْتُبعدن؟

يرى الباحث أنّ الذِّكر والاستبعاد، يعتبر أداة من الأدوات اللغوية التي يتّخذ الخطاب مواقفه من الأفراد والأفعال والأفكار من خلالها. «وقد حدث الاستبعاد في القرآن الكريم في حقّ شخصيتين من شخصيات النساء السابق ذكرهن، وهما زوجة آدم وزوجة أيوب، فالآية 117 من سورة طه، استبعدت حواء من بعض الأفعال في القصة المشهورة لآدم وحواء في بداية الخلق وقبل النزول إلى الأرض، يقول تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}. فالشقاء ما بعد الخروج من الجنة لا ينسب إلَّا إلى آدم (عليه السلام) وحده، (فتشقى). كما أن نعمة عدم الجوع (ألَّا تجوع) وعدم التّعري (لا تعرى)، وعدم الظمأ (لا تظمأ)، وعدم الإصابة بِحرِّ الشمس (لا تضحى). كل ذلك نسب إلى آدم (عليه السلام) وحده في الآيات، وكذلك يُنسب إليه وحده العصيان لأمر الله {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]. وبالتالي، نسبت إليه الهداية والتوبة {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ص68. وإذا استبعدت حواء من هذه الأفعال، فقد نُسب إليهما معًا العاقبة السيئة، بعد أن أكلا من الشجرة {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].

ويلاحظ في قصة آدم وحواء، أن شخصية آدم هي الأصلية، بحيث لا تذكر حواء بمفردها بل تأتي بجوار آدم (عليه السلام) دائمًا. ويلاحظ الباحث منها: اختصاص بعض الأفعال بآدم (عليه السلام) واستبعاد حواء منه، كما أن الأفعال السلبية التي تتواجد فيها حواء، تحتوي على حِمْل سلبي أقل بالقياس إلى الأفعال السلبية التي استبعدت منها. فاسمها يذكر في أحداث وسوسة الشيطان والأكل من الشجرة والإخراج من الجنة، ولكنها تُستبعد من الحديث عن الشقاء وعصيان الله تعالى والغي والضلال. كما يُلاحظ أن الأفعال السلبية لا تنسب إلى حواء وحدها أبدًا، على الرغم من إسناد الأفعال السلبية إلى آدم.(ص70). وهذا بخلاف ما ورد في الكتاب المُقدّس، فصورة حواء في سفر التكوين سلبية جدًّا!

نموذج آخر للاستبعاد أشار إليه الباحث، ويتعلّق بزوجة نبي الله أيوب (عليه السلام)، حيث وردت الإشارة إليها دون ذكر لفظ يدلّ عليها، وذلك في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [سورة ص: 44]. فالمضروب هنا حسب التفاسير هو زوجة أيوب (عليه السلام)، وقصة هذه المرأة في التراث اليهودي هي الأخرى قد مُثّلت بشكل سلبي. أما بالنسبة لقصة مريم (عليها السلام) فتظهر الإحصائيات تأثرها أكثر من تأثيرها، «وأكثر تأثرها في الأفعال التي يكون الفاعل فيها هو الله عز وجل، والملائكة وهو بنسبة تكرار 54%، وتتكوّن الأفعال التي تقوم فيها مريم (عليها السلام) بدور الفاعل من 34% من الأفعال اللازمة، و68% من الأفعال المتعدية».. (ص72).

في حين يلاحظ زيادة فاعلية ملكة سبأ، وتأثّرها الكبير، سواء كانت بمفردها أو بصحبة قومها، فهي الشخصية الأصلية في القصة، وتحظى بتمثيل فعّال في أحداثها، وتأتي 84% من فاعلية الملكة في الأفعال المتعدّية، و16% فقط في الأفعال اللازمة..( ص74). وهكذا تتفاوت النسب في مجال الفاعلية والانفعال، في جميع النماذج النسوية التي ذُكرت في القرآن الكريم.

تمثيل النساء في القرآن هل كان فعّالًا أم منفعلًا؟

يعتبر التمثيل الفعال أو المنفعل للشخصيات القصصية، هو الآخر أداة يُحدَّد بواسطتها الموقف من الشخصيات في أي خطاب، وقد تتبّع الباحث جميع الأدوار الواردة للمرأة في القصص القرآني، وتوصّل إلى نتائج مهمّة، منها أن حواء لا تتواجد بمفردها في أيّ فعل من أفعال القصة، وأنها تأتي في المرتبة الأخيرة من حيث الفاعلين، الله عز وجل «نسبة 42%، من التكرار، والشيطان 22%، وآدم 12.5%. ثم حواء 11%.. وتشير النسبة الكبيرة لتأثّر آدم في الأفعال الملموسة بالقياس إلى فاعلية آدم وحواء معًا في الأفعال الملموسة، إلَّا أنّ انفعال آدم أكثر من انفعال حواء»..(ص71).

والخلاصة الإحصائية التي يتوصّل إليها الكاتب في هذا المجال، هي أن تمثيل النساء في القصص القرآني ليس متساويًا، فعدد النساء ذوات الحضور الفعّال، أكبر من عدد النساء ذوات الحضور المنفعل، «60% للحضور الفعّال بواقع 9حالات من 15 حالة، و40% للحضور المنفعل، بواقع 4 حالات من 15 حالة..» (ص80).

بأيّ تشخيص مُثّلت النساء؟

حسب البيانات المنجزة والإحصائيات الدقيقة، فإنّ النساء في أغلب الحالات مُثّلن بصورة فردية، وهناك اختلاف في حالات التشخيص (87%) وعدم التشخيص (13%)، وفي إطار التشخيص يأتي التعريف (85%) والتنكير (15%). كما تصل نسبة التسمية إلى (4%). مريم مثلًا، والنسبة إلى الزوج (71%) وتحديد الهوية (88%). كما وصل تحديد الهوية على أساس الهوية الانتسابية إلى 77% من الحالات (ص82).

ومن الملاحظات المهمّة التي توصّل إليها الباحث في هذا العنوان أنّ تمثيل النساء في القرآن الكريم، كان يأتي عادة مصحوبًا بالتعريف، مضافًا إلى التشخيص، وكانت حالات التنكير القليلة في مطلع القصة وبداية التعرّف أيضًا، ثم يحدث التعريف في تكملة القصة..(ص85).

الشبكة الدّلالية التي مُثّلت فيها النساء

من خلال تحليل الشخصيات النسائية الواردة في القرآن الكريم، توصّل الباحث إلى مجموعة من الدلالات المهمّة، فزوجة فرعون مثلًا، تُصوّر في مشهد الحريص على سعادة الزوج (فرعون)، وتتمنّى ألَّا يقتل الطفل (موسى)، ليكون قُرّة عين لها ولزوجها. لكن المشهد يتغيّر ليكشف لنا عن امرأة مؤمنة، بل على درجة عالية من المعرفة، فهي مؤمنة موحّدة لله، تناجي ربّها وتدعوه، وتتبرَّأ من أفعال زوجها الظالم. وتتبرّم من عيشها داخل قصوره، وتتمنّى أن تلتحق بالجنة: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [ التحريم:11].

في المقابل، يعرض القرآن صورة مغايرة تمامًا، لزوجة لوط التي خانت زوجها، باتّباعها قومها الخاطئين والمنحرفين عن الفطرة الإنسانية، فيما تُصوّر زوجة نبي الله زكريا باعتبارها امرأة على جانب كبير من الصلاح والمسارعة في أعمال الخير والحرص على العبادة.

وأبرز ما يظهر في هذه القصص بُعد العلاقة الإيجابية مع الله عز وجل، الأخلاق العالية التي تتّصف بها هذه النماذج النسائية، حياء مريم بنت عمران وعفّتها، الأدب الرفيع الذي تميّزت به ملكة سبأ، محبّة زوجة فرعون لزوجها الظالم، في مقابل الخيانة والكيد والصفات السلبية التي تميّزت بها زوجة نبي الله لوط وزوجة عزيز مصر ونساء مصر...إلخ.

تحليل نساء التاريخ

في تحليل القصص المتعلّقة بالنساء في القرآن الكريم، يمكن الوصول إلى الكثير من الاستنتاجات كما أكّد ذلك الباحث. فهناك مثلًا تشابه بين تنوّع النساء اللاتي مُثّلن في هذه القصص، وتنوّع النساء المعاصرات للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي ذلك دلالة مهمّة تصبّ في خدمة الدعوة إلى الإسلام. كما أن أكثر نساء القصص القرآني، قد مُثّلن حول محور الرسالة الإلهية والعلاقة مع الله وتحمّل المسؤولية عن الهداية، والاختيار بين الوقوف إلى جانب الحق أو الخضوع لواقع اجتماعي ظالم ومناهض للحق.

وقد تميّز التنوّع النسائي في القرآن بنظرته الواقعية، عندما عرض لنماذج متعدّدة في أماكن مختلفة تناقضت فيها الأدوار بشكل صارخ، فهناك نساء مؤمنات صالحات عالمات إلى جانب الكافرات والفاسقات والمشركات، مع اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي، فزوجة لوط كافرة وزوجة فرعون مؤمنة صالحة، وبالتالي فالتركيز هنا على مفاهيم لا علاقة لها بالجنس (الأنوثة)، وإنما بمعايير الكفر والإيمان، التديّن والفسق.

وإذا كانت أغلب النساء اللاتي ذُكرن في القرآن، قد مُثّلن بهويتهن الزوجية، فهناك كذلك تمثيل لهويات أخرى، الأم، الأخت، الملكة... إلخ. وهناك إشارة مهمّة جدًّا لا بدّ من الالتفات إليها، وهي أنّ القرآن وهو يتحدّث عن ملكة سبأ ودورها الاجتماعي، لم يظهر أي تمثيل سلبي لها، بل ظهرت في صورة المرأة العاقلة والمُدبّرة والمحترمة في عالم الرجال (الذكور).

وبالتّالي، فهناك أبعاد محورية مهمّة تكشف عنها حياة النساء في القرآن الكريم، البُعد الإيماني في علاقتهن بالله وبأزواجهن من الأنبياء، البُعد الأخلاقي (العفة والطهارة)، البُعد الاجتماعي، أي التصدّي لتحمّل أعلى دراجات المسؤولية في المجتمع (إدارة الدولة والحُكم).

النساء المعاصرات لنزول الوحي: أي نساء مُثّلن

بالمنهجية نفسها تتبّع الباحث مواضع ذكر النساء في القرآن الكريم، لكن هذه المرّة من عاصرْنَ نزول الوحي، وكان لهن شأن، سواء مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مساهمة في أحداث الدعوة الإسلامية بشكل عام. وقد أشار الباحث إلى وجود مجموعتين من حيث التمثيل والوجود والإشارة إليهن. مجموعة أولى، لها وجود حقيقي كزوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبناته، وزوجة أبي لهب، وزوجة زيد بن حارثة، والنساء المبايعات للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)... إلخ.

ومجموعة أخرى، وردت الإشارة إليهن في عدد من الآيات لا تنحصر مصاديقها فيمن كُنّ في زمن نزول القرآن، مثل المؤمنات، الأم، الأخت، المطلقات... إلخ. والملاحظ هنا، الحضور الكبير للنساء المرتبطات بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) [قرابة النصف].

وحسب الجداول والإحصائيات التي أنجزها الباحث، فإنّ المرأة المخاطبة في مكة هي الإنسانة التي أصبحت موضوعًا للهداية والإرشاد، أما المرأة التي يدور الحديث عنها في المدينة، فهي التي أصبحت موضوعًا للأحكام الدينية (المرأة المطلقة، المرأة السارقة...إلخ). كما يُشير تكرار السياق المرتبط بمطلق الزوجة والأم والمرأة المؤمنة، إلى أن هذه العناوين الثلاثة قد حظيت بأهمية أكبر من باقي العناوين (ص123).

أما بخصوص النماذج المُستبعدة من النساء المعاصرات لنزول الوحي، فقد أكّد الباحث وجود حالات استبعاد، وذلك في الحالات التي يشتمل موضوع البحث فيها على الرجال والنساء معًا، وفي حالات أخرى. وقد تناول الباحث هذه الظاهرة بالتفصيل في الخطابات القرآنية، حيث نجد التمثيل الذكوري واضحًا في وصف الجماعات الإنسانية. وكذلك تكرار الخطابات القرآنية المستخدمة لجمع المذكّر، على الرغم من تعدّد المخاطب (يا أيها الذين آمنوا).

وهذه من القضايا التي نالت حظًّا من نقاش المفسّرين من قبل، وانقسموا حيالها إلى قسمين، وقد أفرد لها الباحث ملحقًا خاصًّا، تحت عنوان: «ذكورية الخطابات القرآنية»، ناقش فيه الآراء المتداولة حول هذا الموضوع الحساس، فقد ذهب عدد من المفسّرين وعلماء الكلام والفقهاء، إلى أن «لغة القرآن الكريم تقوم على أساس ثقافة الحوار، وإذا استخدم لفظ المذكر في هذه الثقافة، فإنه لا يأتي به في مقابل المؤنّث، بل هو أعمّ من ذلك، وقد استفاد القرآن في بعض الآيات من ألفاظ مثل (الإنسان)، (النفس)، لتشمل كلا الجنسين، كما استخدم الألفاظ المذكّرة والمؤنّثة الصريحة، يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].

وهناك أيضًا دليل عمومية المخاطب بالدّين؛ لأن الإسلام هو دين الرجال والنساء، وقد يكون الخطاب عامًّا، ويخصّص بالذكورة أو الأنوثة في بعض الموارد. وهناك عشرات الآيات خاصّة بالنساء فقط.

كما أشار الباحث إلى قاعدة التغليب التي يتبنّاها بعض النُّحاة، عند بحث الجنس في اللغة العربية (انظر الملحق 1)، والتخريج الذي جاؤوا به أن الألفاظ المذكّرة بالمعنى الأعم، قد تشمل النساء مجازًا، خصوصًا مع وجود قرينة.

والخلاصة التي يتوّصل إليها الباحث، بعد نقاش عميق وطويل لهذه المسألة، هي «أن ألفاظ المذكّر في الآيات التي استفادت من ألفاظ المخاطب، سوف تكون مجملة في مدلول الألفاظ المذكّرة، في حالة انعدام القرينة التي تجعلها مخصوصة بالرجال، أو تشمل النساء على حسب الرأي المشهور، وتشمل النساء أيضًا على حسب الرأي المختار..» (ص257).

كذلك تحدّث الباحث بالتفصيل عن تمثيل النساء في زمن نزول الوحي، وهل كان فعّالًا أم منفعلًا؟ وبأيّ تشخيص مُثّلت النساء؟ وفي أيّ شبكة دلالية مُثّلن؟ كما قام بتحليل أدوار النساء المعاصرات للقرآن.

مُفجّرًا الكثير من الأسئلة والإشكاليات، التي تحتاج إلى نقاش طويل، ومتابعة نقدية، لا تحتملها هذه القراءة الوصفية التحليلية لبعض ما جاء في الكتاب، خصوصًا في الملاحق، التي اعتُبرت مكمّلة لبحوث الكتاب؛ لأن المواضيع والعناوين التي تمّت مناقشتها في الملاحق، تعتبر مفاتيح لأسئلة جديدة، وفي الوقت نفسه قد تساعد في تعميق الإجابات أو الاختيارات الفكرية التي انتصر لها في طول الكتاب وعرضه، مثل تسليط الضوء على «الجنس في اللغة العربية» أو في ألفاظ القرآن على وجه الخصوص. و«تدنّي وضع النساء في اللغة العربية» و«طبيعة ثقافة النساء في زمن نزول القرآن».

كل هذه العناوين، لا مناص من بحثها وإعادة النظر فيها، من أجل بلورة رؤية علمية لموضوع المرأة، ليس في القرآن الكريم فقط، وإنما في الإسلام ككل، باعتباره الدين الذي يتعرّض اليوم، لهجمة تحريف وتزييف لمفاهيمه وقيمه وأحكامه، ليس من خارجه بل –مع الأسف- من طرف من يدّعي تمثيله والدفاع عنه.