شعار الموقع

ما العولمة: إنهم ينادون من مكان بعيد

تركي علي الربيعو 2004-10-14
عدد القراءات « 785 »
الكتاب: ما العولمة (سلسلة حوارات لقرن جديد)
الكاتب: د. حسن حنفي ود. صادق جلال العظم
الناشر: دار الفكر، دمشق
الصفحات: 299 من القطع الوسط
سنة النشر: ط/ 1999م

تعاظم الكتابات حول العولمة

تتكاثر الخطابات العربية المعاصرة من حول العولمة، شرحاً وفهماً وتأويلاً وغزلاً بفتوحاتها ورجماً بنتائجها وتحذيراً منها باعتبارها حصان طروادة الأخيرة الذي سيفتح جميع القلاع بدون استثناء على حد تعبير بنجامين باربر، أو سيقوم هذا الثعبان والتشبيه لباربر بابتلاع جميع الأرانب. فلا عجب أن تتكاثر الخطابات العربية من حول العولمة، فثمة عالم جديد يتشكل بسرعة مع ظاهرة العولمة، فنحن إزاء فتح كوني على حد تعبير المفكر اللبناني علي حرب، فتح يتغير معه سير العالم على ما كان يجري عليه حتى الآن، بحيث تغدو العولمة واقعة العصر الأولى وانقلابه الكوني الخطير. وقد شهد عقد التسعينات من قرننا العشرين المنصرم فيضاً من الدراسات التي طالت العولمة، ومن شأن أية بيبلوغرافيا عربية أن تبين لنا هذا الفيض الذي ترجمته الدوريات والمجلات والصحف والكتب والندوات بحثاً وتحليلاً للظاهرة، وليس هذا فحسب، بل جدالاً وسجالاً ، وما أكثر السجالات في هذا الخضم الذي تاه فيه الخطاب العربي المعاصر وانقسم أهله بين من هو مع العولمة وبين من هو ضدها، وبين من يجهلها (هذا ما صرَّح به صادق جلال العظم في مجلة الطريق)، بين من يراها فتحاً كونياً وإمكاناً حضارياً ، وبين من يراها ثعباناً وغزواً ثقافياً ونمطاً استهلاكياً يهدد الخصوصيات الثقافية في العالم الثالث ويمهد إلى تبعيتها وذوبانها، وقد غلب هذا الاتجاه الأخير في ثقافتنا وهنا تكمن المفارقة كما يرى علي حرب، فقد تعامل أصحاب المشاريع الثقافية (وأشير هنا إلى أطروحة محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز في كتاب وندوة «العرب والعولمة» وكذلك أطروحة حسن حنفي التي سنقرأها بعد قليل) من دعاة التحديث والمعاصرة والساعين إلى تكوين قطب ثنائي جديد كما يدعو حنفي إلى تغيير المعالم كما يطرح أن يطرح أنور عبد الملك، أقول تعاملوا مع العولمة على سبيل السلب والنفي، بوصفها وكما يقول حرب استباحة للقيم وغزواً للثقافات وفخاً للهويات وتسلطاً على الشعوب والمجتمعات. وفي رأيي أن الخطاب العربي الداعي إلى مواجهة العولمة مستعيراً بذلك لغة كفاحية وايديولوجية لاينجح إلا في تكرار نفسه وفي الهروب إلى الأمام وفي ابقائنا أسرى المفردات البلاغية الجميلة التي تقول نفس الشيء عن كل شيء.
في هذا السياق، وفي إطار الدعوة إلى حوارات من أجل قرن قادم وجديد، أصدرت دار الفكر كتابين ضمن هذه السلسلة عن العولمة، الأول وقد شارك فيه الدكتور حسن حنفي والدكتور صادق جلال العظم، أما الثاني فهو بعنوان «ثقافة العولمة وعولمة الثقافة» وقد شارك فيه الدكتور برهان غليون والدكتور سمير أمين واللذان سبق لهما في قضايا «الدين والدولة».
في هذه المراجعة سوف نقف عند الكتاب الأول «ما العولمة» لنتعرف على آراء حسن حنفي كواحد من أبرز المدافعين عن الخصوصية الثقافية في مواجهة قوى العولمة، وعند آراء الدكتور العظم هذا الماركسوي العتيد الذي يرفض أن يغادر حقل الماركسية الأرثوذكسية حتى الآن مع أن السيل قد بلغ الزبى.

من مثقف وطني إلى مثقف غربي: ما العولمة؟

بهذا التوصيف المؤدلج والموجه إلى صادق جلال العظم، قام الدكتور حنفي بحسم أمرين اثنين في رده على التساؤل ما العولمة وفي رده على توصيفات العظم وقراءته لظاهرة العولمة. وكما يلحظ قارئ الكتاب فإن رد حنفي على العظم بقي مضمراً بالاتهام والإقصاء من جهة، وبالنصيحة من جهة ثانية، وهذا هو ديدب خطابنا التقليدي في العقود المنصرمة، لابل إنه ديدب ظاهرة الاتجاه المعاكس التي باتت تشكل علامة فارقة في خطابنا المعاصر، فبمقدار ما تساهم هذه الظاهرة بين المثقفين العرب في تعميق الإشكالية المعرفية حول الموضوع المطروح، بمقدار ما تساهم من جهة أخرى في فضح زيف الخطاب الليبرالي الديمقراطي الذي يدعي احترام الآخر والبحث عنه وإيجاده والإصغاء إليه لا إلغاءه.
من البداية إذن، يعلن حسن حنفي إقصاء صادق جلال العظم، فهو مثقف غربي الهوى والعقيدة، يستعير معظم دوافع التعبير عن فهمه للعولمة من إيديولوجيا حداثوية تعطي الأولوية للايديولوجيا على حساب العلم ولا تساهم إلا في قراءة أحادية الجانب، لا بل إنه وبعد أن يموقع العظم في داخل المؤسسة العربية الموالية للغرب، نراه يجنح باتجاه العظم مجدداً بأن قطاره يسير على قضيب واحد بعكس قطار حنفي الذي يسير على قضيبين، وأن عربات العظم كلها من الدرجة الأولى في حين أن عربات حنفي تتسع لجميع الأخوة الصعايدة.
أعود للقول إن هذه الاتهامات التي لاتشجع على المذي في سبيل فهم ظاهرة العولمة كظاهرة كونية، وذلك على الرغم من أنها لها أرض حقيقية في فكر العظم، كانت قد استهوت حسن حنفي في تقريعه للعظم على أمل طلب التوبة منه. ولكني سأنحيها جانباً لأقف عند موقف حنفي من العولمة.

المدخل الثقافي لفهم العولمة

في الحقيقة إن ما يجمع حنفي والعظم أنهما يجعلان من المدخل الثقافي مدخلاً ؟ أساسياً في فهم العولمة، لكنهما سرعان ما يذهبان في الاتجاه المعاكس وذلك على الرغم من تعريفهما الاقتصادي المشترك للعولمة.
يؤكد حنفي بشيء من الرتابة والتكرار، على أن العولمة ليست ظاهرة فقهية تختلف من حولها الآراء، بل هي مسألة صراع ومقاومة دفاعاً عن الاستقلال ضد التبعية، وإنها ليست بالجديدة، بل قديمة قدم التاريخ، وإنها شكل من الاستعمار الجديد، وهذا ما يشاركه به محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز وكثيرون [أنظر ندوة «العرب والعولمة» والصادرة في كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت]. ويمضي حنفي في هذا الاتجاه، فالعولمة رغبة الشمال في السيطرة على الجنوب، وهي إحدى مراحل النمو الرأسمالي، وإنها على الضد من الإرادة الوطنية للدولة الوطنية في العالم الثالث، وفي النتيجة فهي الماركة المسجلة والاسم الحركي للأمركة التي هي التعبير الحقيقي عن مركزية غربية دفينة في الهيمنة على العالم. ما يلفت للنظر حقاً ، هي تلك النتائج المتسرعة التي يقودنا إليها حنفي في توصيفه للعولمة على أنها الضد من الدولة الوطنية، ففي هذا الإطار تظهر الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات وحرية المرأة وحق التعبير على إنها أفكار مستوردة، لنقل أحصنة طروادة جديدة تهدف إلى دك حصون الدولة الوطنية وتهديمها، من هنا تنكره لهذه القيم واعتبارها كلمة حق يراد بها باطل، فالاستقلال الوطني يفوق ما عداه، وما على هذه القوى إلا أن تنتظر حتى تنجز الدولة الوطنية استقلالها. إنها أيضاً كلمة حق يراد بها باطل، بصورة أدق يراد لها تبرير استبدادية ما تسمى بالدولة الوطنية مهما كانت الضحايا التي ترافقها، وهذا ما وقع به الكثير من المثقفين العرب الذين باركوا دولة الاستبداد والظلم وبذلك خانوا الأخلاق والسياسة معاً .
باختصار فإن اللغة الخطابية المضاعفة والجميلة عند حسن حنفي في توصيفه للعولمة، تستعير هي بدورها معظم مفرداتها من لغة ايديولوجية كفاحية ونضالية بآن. لغة تدعو إلى مواجهة العولمة على صعيدين. على صعيد عالمي من خلال السعي المشترك إلى تكوين قطب ثاني خارج المركز الغربي، وعلى صعيد وطني من خلال التأكيد على أهمية المسألة الثقافية العربية ودورها في حماية الأمة ومن خلال إبداع مفاهيم جديدة من داخلنا لاتستهلك المفاهيم الغربية ولا تعيد انتاجها. باختصار أيضاً فإن لغة حنفي التي تستثير فينا الهمم وتشحذ عندنا النضال تنتمي بكليتها إلى الطوبى، والطوبى كما تقول كتب التفسير، هي شجرة في الجنة طولها مائة عام،‏يحلم الهاربون من جحيم العولمة والداعون إلى مواجهتها بالتفيؤ تحت ظلالها الوارفة. وذلك لأن هذه اللغة ـ على وجوبها ـ لاتجد ما يسندها في الواقع ولايمكن مقارنتها مع ما تنتجه فيديولوجيا عالم ماك وورلد على حد تعبير بنجامين باربر، التي تغزو العالم وعلى جميع الصعد. ولذلك فإن هذه اللغة الجميلة تمارس هروباً إلى الأمام بالرغم من أنها تستثير فينا الهمم، وقد تكون هذه هي شيمة الخطاب العربي المعاصر في الثلث الأخير من قرننا المنصرم كما بين الجابري في قراءته التشخيصية لعيوب «الخطاب العربي المعاصر».

في المقابل يسعى العظم إلى تطوير مدخل ثقافي إلى فهم العولمة، لكنه لايفلح في ذلك عندما يخلط بين العالمية الثقافية كما تجسدها كتابات إدوارد سعيد (الاستشراق) وفرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) وصموئيل هنتنغتون (صراع الحضارات) وبين العولمة، ويظهر هذا أيضاً بمثابة نتيجة، فقد صرَّح العظم وكما أسلفت لمجلة الطريق اللبنانية اليسارية بأنه لايفهم العولمة، لكنه عاد ليدبج لنا خطاباً ‏مطولاً عن العولمة يستعير معظم دوافع التعبير عن نفسه من لغة نضالية إيديولوجية ميتة ومن ماركسوية هرمة وشائخة على حد تعبير المفكر العربي علي حرب (حديث النهايات،‏فتوحات العولمة ومآزق الهوية،‏ص44).
يؤكد العظم إن العالم اليوم يعترف بصوابية التحليل الماركسي لطبيعة الرأسمالية المعاصرة وبدقة تشخيصه لميولها وديناميكيتها وتكيفاتها. من هنا تعريفه للعولمة بأنها «حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ» وهنا يقوم العظم باستدعاء هذا الفيض الكبير من الخطاب الماركسي الدارج والممتد على طول القرنين التاسع عشر والعشرين في سبيل فهم العولمة، وذلك بدون الرجوع إلى الكتابات الحديثة عن العولمة باستثناء استعراضه السريع وتهجمه على أفكار بعض المثقفين العرب وسخريته منهم وهو بهذا يثبت لنا من جديد أن قطاره يأبى السير إلا على قضيب واحد ويثبت اتهام حسن حنفي له بإنه يتجاهل النقد المضاد للعولمة.
إن تجاهل العظم للنقد الحديث لظاهرة العولمة مضمر بالسعي إلى إثبات صحة اجتهادات وتنبؤات ماركس ولينين بأن العولمة هي أعلى مراحل الإمبريالية على غرار كتيب لينين الذائع الصيت «الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار» وقد دفعه حماسه إلى اثبات صحة اجتهادات السلف الماركسي إلى التركيز على الجانب الاقتصادي للعولمة مهملاً الجانب الثقافي فيها مع أنه كان مدخله إلى فهم العولمة.

وفي رأيي أن حوار القرن هذا عن ماهية العولمة الذي يجمع مفكرين عربيين، يكشف لنا عن نزعة خطابية تستسهل الحديث عن العولمة وكأنها موضوعاً إنشائياً ، وتجعلنا نغوص بين خواطر حسن حنفي السهلة والعفوية، إذ هي لاترقى إلى أكثر من ذلك، وهنا يصح اتهام العظم له، وبين لغة إيديولوجية ممركسة وتقليدية ميتة تصف العولمة وكأنها قادمة من كوكب بعيد على حد تعبير زكي الميلاد. بهذا يثبت مفكرونا ولعهم في السير في الاتجاه المعاكس مستقلين كل منهما قطاراً يسير على قضيب واحد. وبهذا يثبتون للجميع أن القضية أبعد من كونها قضية مثقف وطني وآخر ماركسي. فهذه تصنيفات ايديولوجية وحزبية قاصرة عفا عليها الزمان، ويثبتون لنا أيضاً ‏أن عرب اليوم أكثر خوراً ‏وضعفاً ‏لأنهم لايزالون يجهلون ما هي العولمة وأين تكمن فتوحاتها وأفخاخها وطلائعها من أحصنة طروادة الجديدة: «إنهم ينادون في مكان بعيد»؟