بحسب تصوري عندما نتحدث عن ألفية ثالثة، فإنما نتحدث عن حضارة مختلفة دخلت الآن في ألفيتها الثالثة. أما حضارتنا نحن المسلمين أو عصرنا فليس في الألفية الثالثة، وإنما نحن في القرن الخامس عشر الهجري، وقد مضى منه 21 سنة، هذا أولاً. ثانياً وقبل أن نتحدث عن مستقبل الخطاب الإسلامي، لابد من التذكير بأهمية التاريخ لأن الذي لايعرف ما حدث في التاريخ أو في الماضي لايستطيع أن يفهم الحاضر، ولا أن يتصور المستقبل. لذلك من الأهمية بمكان أن لاننسى ما حدث في التاريخ، سواء تاريخنا نحن المسلمين أو تاريخ البشرية بشكل عام، لأن الله يقول: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة/143]، والشهادة تعني الحضور والمعرفة، فالغائب تقبل شهادته وليس لي الحق في أن يشهد، لأن الحضور شرط ضروري للشهادة.
كذلك يجب أن نعرف ونكتشف تطور تاريخ الإنسان، لأن معرفتنا به تكشف لنا عن غاية الوجود الإنساني، وأهداف الرسالات الإلهية المنزلة، خصوصاً بالنسبة لنا نحن المسلمين الذين نملك كتاباً مقدساً، وشباباً يريدون بل يعملون على إحياء قيم هذا الكتاب وتعاليمه، وإن كانوا لايعرفون كيف سيحيون هذا الكتاب على الوجه الأكمل والأشمل. أما كيف يتجسد هذا الحضور الآن، فنحن نرى أن التاريخ كان يسير أحياناً بدون تدخل البشر، بل إنهم كانوا يعملون ويخدمون التاريخ دون شعور منهم، لكن سعيهم كان يصب في نهاية المطاف في التاريخ. يظهر ذلك في الأحداث الكبيرة التي عرفها تاريخ البشرية، وهذا ما يقع الآن في العالم الإسلامي الذي عرف ويعرف تحولات كبيرة ومهمة خصوصاً في العقود الثلاثة المنصرمة مثلاً الهجوم على الكعبة من طرف مجموعة من الشباب الإسلاميين، هذا الحدث كان فاصلاً ووقع في قلب العالم الإسلامي، لكنه أُهمل ولم يعالج أو يحلل لمعرفة أبعاده ولماذا تم اختيار الأول من محرم 1400هـ، وهي بداية قرن جديد؟!
كذلك انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وامتداد الصحوة الإسلامية في كل مكان من العالم الإسلامي، وعلى المستوى العالمي شهدت السنوات الأخيرة أحداثاً مهماً فقط سقط الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الإشتراكي واستعادت عدد من الدول استقلالها السياسي. وفي العالم العربي انتهت الحرب الأهلية في لبنان بعدما دامت (17 سنة)، لتنفجر الحرب الأهلية في الجزائر، وقبل ذلك ما وقع في أفغانستان أثناء الإحتلال السوفياتي وبعده، هذه كلها آيات إلهية يجب علينا أن نحللها ونعيد النظر فيها، ونتيجة هذه الأحداث والتطورات بدأنا نشعر كذلك بتحول في الرؤية لدى الناس بطبيعة الأمور والقضايا وحقيقتها، قبل الإفصاح عنها أو الحديث حولها، لكن بالتأكيد هناك رؤية جديدة للأمور وللواقع بدأت تتبلور وتحل محل الأفكار والرؤى القديمة، مثلاً لقد بدأ العرب والمسلمون يشعرون في قرارة أنفسهم بأن العنف لايحل المشكلات، وهذا ما أكدته الأحداث الكبيرة التي استخدم فيها العنف على نطاق واسع مثل حرب الخليج الأولى والثانية. وقد كنت من الذين جهروا وأعلنوا هذه الحقيقة قبل أن تتفجر هذه الأحداث وتُعرف تداعياتها السلبية والمدمرة، لذلك أستطيع ان أؤكد بأن الناس لم تعد تنظر إلى البطولات العنفية نظرة احترام أو تقدير مثل الماضي، وهذا تحول في الرؤية، ويفترض أن يتحول إلى وعي عام.
وهذا التحول أو الوعي الجديد الذي يجب أن ينتشر هو تحول أساسي ومن أهم أهداف التاريخ أن يَعْدِلَ الإنسان عن سفك الدماء لحل المشكلات، فهذا السفك والعنف لن يحل أية مشكلة بل سيزيد الأمور والقضايا تعقيداً، ولدينا مثال تاريخي مهم جداً فالرسول (ص) استطاع أن يبني مجتمع المدينة دون أن يسفك دم إنسان واحد، بل استقبلته الجماهير مرحبة وانقادت له، وشرع الرسول (ص) في تأسيس دولة وحضارة جديدة مبنية على احترام العقل والمعرفة وليس احترام عضلات الإنسان وإعطائها الأولوية عند الاحتكام أو الفصل في الأمور والقضايا المختلف حولها.
ولدينا مثال آخر مهم يكشف عن هذا التحول بوضوح، وهو حدث خطير هز العالمن ونقصد به الثورة الإسلامية في إيران، لقد قام الإمام الخميني بعمل مختلف عن أعمال نواب صفوي، فقد كان يخاطب الناس والجماهير ويطلب منهم الخروج إلى الشوارع عندما كان الشاه يعلن حالة الطوارئ ويمنع التجول، ويأمرهم بتقديم الورد للجنود ليهزوا قلوبهم بدل أن يضربوا صدورهم بالنار. كان يطلب منهم بأن يحاولوا دخول قلوب الجنود بالإقناع، والنتيجة وبفضل هذا النهج السلمي العقلاني حدث ما أفزع العالم الغربي، حيث انتصرت الثورة الإسلامية، وكان لهذا الانتصار ردود فعل خطيرة، منها الهجوم على أفغانستان وبداية الحربة العراقية الإيرانية إذن يمكن أن نتحدث عن أهمية تبلور الخطاب الإسلامي في هذا الاتجاه وأن يهتم بهذه الحقائق وأن ينطلق منها باعتبارها أرضية لتشجيع الحوار وبيان أهميته في حل المشكلات والمعضلات التي يعاني منها العالم الإسلامي، بعدما فشلت كل الوسائل العنفية والإقصائية، بل عمقت الأزمات وجعلتها تستعصي عن الحل أكثر فأكثر.
من مهام الخطاب الإسلامي كذلك سواء الآن أو في المستقبل، التركيز على الوحدة والاتحاد بين دول العالم الإسلامي وشعوبه، وقد جاء في الأثر عن الرسول (ص) أن الأمة الإسلامية ستتبع سنن من كان قبلها، ونحن نعرف أن الاعتبار يكون بالصواب والخطأ، وأمامنا الآن الحضارة الغربية تقوم بإنجاز شيء لم ينجز من قبل، ونقصد به الاتحاد الأوروبي، شعوب ودول مختلفة تجتمع وتتحد على كلمة سواء، دون أن يخسر أحد شيئاً. لاملك ولا أرض ولا زعامة، ومع ذلك يربح الجميع. لقد كان مالك بن نبي يرى بل يرسم خريطة يؤكد فيها بأن الإسلام قد انطلق من نقطة ومركز معين، وبعد ذلك انطلق وانتشر من هذا المركز وامتدت اشعاعاته في جميع الجهات، لكن الآن ينبغي أن يكون الامتداد عكسياً ينبغي أن ننطلق من الفروع لنجتمع ونلتقي في المركز، وهذا يشبه ما قامت به أوروبا، فلم تعد هناك توسعات استعمارية أو نابوليونية أو هتليرية، وإنما وحدة واتحاد ينطلق من الفروع، لتجتمع حول مركز وقانون متفق عليه. وبالنسبة لنا هذا ممكن الوقوع إذا سلكنا الطريق وأزلنا العقبات، وتنازلنا عن المنهجيات والتفكير الضيق في المعالم الشخصية، أو التعلق بالأوهام والآمال الخرافية وانتظار البطل العربي الذي يظهر فجأة ويوحدة العالم العربي مثلاً.
على الخطاب الإسلامي أن يكشف هذه الأوهام ويقدم للمسلمين الحقائق والسنن الإلهية في التغير، ويحثهم على سلوك طريق الوحدة والاتحاد، لأن ذلك ممكن ويحتاج إلى انتشار الوعي بأهمية هذه الوحدة والسبل الواقعية لتحقيقها وما سيترتب عنها من نتائج إيجابية للجميع. إن بلدين عربيين في الشرق الأوسط يتحدان على كلمة سواء يمكنهما أن يقلبا الموازين وتغيير المعادلات السياسية العالمية، وقد حدث ذلك في حرب عام 1973 مع إسرائيل، فالاتفاق بين مصر وسورية أدى إلى تحقيق بعض الانتصار، وكذلك الأمر عندما تم الاتفاق على التوقف عن إمداد الدول الغربية بالنفط العربي، فقد حدثت تغييرات وتحولات كبيرة ومهمة..
لكن لابد من الإشارة هنا إلى نقطة مهمة، وهي عدم تعليق الآمال كثيراً على السياسيين، لأن إنجاز هذه الوحدة أو تحقيقها يتطلب الاهتمام بالثقافة والتثقيف العام ونشر الوعي بين الناس بأهمية هذا المطلب، بحيث يصبح مطلباً جماهيرياً لايجد السياسيون بُدَّاً من العمل على إنجازه وتحقيقه. إذن لابد من العمل على تغيير الأنفس بنشر هذا الوعي الجديد، وعلى الخطاب الإسلامي المعاصر أن يتحمل مسؤولية تغيير هذه الأوضاع بنشر هذا النوع من الوعي، وكذلك البحث وتوجيه النقد للكثير من الأفكار والقناعات القديمة، وإعادة النظر في القضايا المسكوت عنها، فلم يعد هناك مبرر للوقوف أمام المرض والخوف من علاجه إذا تحققت المعرفة العلمية بهذا المرض. لابد من ممارسة النقد والتشريح لجميع الظواهر السلبية والبحث في أفضل الطرق والسبل لتجاوز هذه الأوضاع المتخلفة.
على الخطاب الإسلامي المعاصر والمستقبلي أن يهتم بقضية الوحدة، وأن يروج لها على أسس عقلانية تاريخية، ويتحدث عن إنجازها بالسبل الطبيعية والواقعية واتباع السنن الكونية وليس بالأماني الخوارقية، لأن البعض فسر حركة الإسلام الأولى وسعي الرسول (ص) لبناء دولة الإسلام على أساس الخوارق وتجاوز السنن الطبيعية. لكن في الواقع نستطيع أن نفسر حركة الرسول (ص) واجتهاده وانتصاراته تفسيراً سننياً، وهذا ما حاول الكشف عنه الدكتور علي شريعتي رحمه الله، الذي تحدث عن سنن التغيير في علم الاجتماع، وكيف يتداخل عالم الغيب بعالم الشهادة في المجتمع الإنساني، فتحدث التغييرات الكبرى بعيداً عن التفسيرات أو التعليلات الخرافية. كذلك الأمر مع مالك بن نبي الذي بحث في الظواهر الاجتماعية بأسلوب علمي وبحث في عللها ومحركاتها.
إذن فالخطاب الإسلامي الآن مطالب بمعالجة هذه القضايا بأسلوب علمي موضوعي ليتمكن من إعادة النظر في الكثير من المسائل التاريخية والتي ينظر إليها نظرة خاطئة وغير صحيحة، مثل الطائفية والمذهبية لأن هذه القضايا على وجه الخصوص تساهم في إبقاء حالة التمزق في الجسد الإسلامي، ويتم الاستنجاد بها في أي وقع يراد للصراع أن يتأجج أو يشتعل بين شعوب العالم الإسلامي أو فئاته وتياراته الفكرية والدينية المختلفة، لابد من توجيه الأنظار إلى ضرورة الاحتكام إلى العقل والبرهان والدليل، لأن فكرة أبناء الله وأحباؤه، أو من يدخل الجنة إلا من كان حنفياً أو شافعياً على غرار قول من سبقنا من اليهود والنصارى. هذه الأفكار والاعتقادات والقناعات يجب أن تزول، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولن يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} [النساء/123]، لابد من إعادة قراءة القرآن لاكتشاف السنن الإلهية في جميع المجالات حتى يتمكن الإنسان المسلم من تحرير نفسه والخروج من رحم الآباء ومن الفكار الخرافية، وتصبح لديه آنذاك القدرة على الشهادة بالحق، على نفسه أولاً وعلى الآخرين ثانياً. وإعادة النظر في التاريخ الإسلامي بمنهج علمي نقدي والإفصاح بكل صراحة عن الحقائق التي يتم الوصول إليها والكشف عنها، مقدمة لتجاوز الكثير من العقبات التي تقف الآن في وجه وحدة المجتمع الإسلامي، لذلك على الخطاب الإسلامي أن يهتم بهذه القضية وأن يوليها العناية التي تستحقها.