شعار الموقع

من مراجعات الخطاب الإسلامي

عادل القاضي 2004-10-14
عدد القراءات « 812 »

من خلال متابعة متواضعة لنماذج من الخطاب الإسلامي المعاصر، يمكن القول إنّ هناك جملة من الانتقالات يتعين على هذا الخطاب بقنواته المتعدّدة. المقروءة والمسموعة والمرئية والمعلوماتية. الأخذ بها حتى يمكن بعد ذلك ترتيب الأولويات ووضع اللبنات المستقبلية لهذا الخطاب الذي يمتلك في داخله قدرة جبّارة على المواجهة والتشكّل والمعالجة والمعاصرة، بمعنى إمكانية أن يطرح نفسه في قبال ما هو مطروح من خطابات منافساً بثقة، ومهاجماً بثقة، ومتحدياً بثقة.
من هنا ستعمد المداخلة ـ ما وسعها ذلك ـ إلى جدولة سريعة بأهم خصائص الخطاب الإسلامي المعاصر، وإلى جدولة مقابلة بأهم ما يمكن أن تكون عليه انتقالات هذا الخطاب، وهي محاولة استذكارية استحضارية منطلقة من تقدير شخصي خاص أكثر منها حصراً واستقراءً وإحاطة.

1ـ حتى يكون خطابنا الإسلامي المعاصر مختلفاً عن مراحل تخلّفه أو مراوحته، لا بدّ أن ينتقل من إطلاق المصطلحات إلى تحديدها، حتى يمكن الركون إلى مفاهيمها ودلالاتها غير الملتبسة، الأمر الذي يخلق قاعدة فهم وتفاهم مشتركة يمكن الانطلاق منها إلى مساحات عطاء أوسع ومساحات لقاء أرحب، فمازال خطابنا في بعض فصوله ومظاهره غير دقيق أحياناً في تحديد معاني الشورى والولاية والمرجعية والحزبية والديمقراطية وغيرها.

2ـ في الإطار نفسه لا بد من الانتقال من الإطلاقية والتعميمية في الأحكام إلى التخصيص واعتبار النسبية هي الأصل فيما يمكن أن أصل إليه من نتائج وما يمكن أن تصل إليه من نتائج. إن دراسة العينات حتى العشوائي منها لايمكن أن يقدم نتائج استقصائية قابلة للتعميم، فهي محددة وخاصة بما اشتملت عليه من الشرائح المستبينة وقد لا تصدق على عينات أخرى.

3ـ الانتقاءات الموسوعية إلى الاختصاص المتحّض، ذلك أن المفكر أو الباحث أو الكاتب كالطبيب ما لم يكن ملمّاً باختصاص في مجال معين وإنما ينقل خطاه في حقول المعرفة هنا وهناك، يبعث على الاستخفاف بل على عدم الاطمئنان أيضاً.

4ـ الانتقال من الانفعالية والتعقب إلى العقلانية العلمية، فما لم تطرح تترك وتترك للآخر حرية أن ينقده ويعترض عليه ويحاججه وربما يدحضه ويفنّده، من دون أن تعتبر ما لديك الحقيقة المطلقة التي لاجدال فيها ولا مجال لمناقشتها أو الطعن فيها، تكون قد أغلقت أبواب العقل والرأي على الآخر والحوار والاجتهاد وتصحيح المفاهيم المتوارثة والمغلوطة والدخيلة، وفتحت في المقابل باباً عريضاً للمتخذين المضلين عضداً..

5ـ الانتقال من التجزيئية إلى الشمولية، أي النظر إلى الكل المتكامل لا من زاويةواحدة أو مقطع عرضي، بل من خلال دراسة محيطة مستوعبة لتأتي النتائج والأحكام مستخلصة من المنظور الكلي للموضوع قيد البحث.

6ـ الانتقال من العموميات في الطرح والمعالجة إلى الدخول في التفاصيل والمصاديق والأمثلة. إنّ الخطاب القرآني شاهدنا في ذلك ورائدنا، فهو قد يتحاشى التفاصيل إذا كانت ثانوية وغير ذات صلة مثرية للموضوع الأساس. لكنه يوردها حينما يريد رسم ملامح الصورة كاملة، وحينما تعتبر التفاصيل ذات مدخلية مهمة في إثراء الموضوع (قصة موسى ويوسف مثالين).

7ـ الانتقال من خطاب التنظير المجرّد إلى خطاب يقدّم الآليات الموصلة إلى الأهداف المرجوّة، ذلك أن مشكلة كم غير قليل من أرشيف خطابنا الإسلامي أنه تنظيري بحت لايقدّم الحلول والمعالجات، قدر ما يثقّف بالمشكلة تاركاً للآخرين أو للزمن حلّها. (سخر أستاذ جامعي قومي من أن الإسلاميين لايمتلكون صورة عن الحكم الذي يطالبون به، وإنهم يتركون ذلك لحين وصولهم إلى السلطة).

8ـ الانتقال من تكفير الآخر وتضليله وتفسيقه إلى احترامه مهما كانت درجة الاختلاف والافتراق معه، فالتكفير ؟؟؟ خطيرة لغلق باب الاجتهاد والإبداع والتجديد بالشمع الأحمر.

9ـ الانتقال من البحث عن نقاط إثارة الحساسيات (التأريخية والجغرافية) ومواطن الاختلاف والتصادم، إلى البحث عن الكلمة السواء، فلا بد لخطابنا الإسلامي وهو يبحث عن مستقبله الأفضل أن يوفّر أرضية مشتركة للحوار والتفاهم، وحتى لو لم يفلح ـ في مرحلة لاحقة من تقليص الفجوة وردمها ـ فإنه يكون قد كسب الوقت لتحقيق إنجازات ولو أولية.

10ـ الانتقال من خطاب (الرواية) إلى خطاب (الرعاية) و؟؟ من خطابٍ مستمعٍ محكوم بآراء الغير، إلى خطابٍ قارئ مطّلع محكوم بنظرته الحرّة المثبتة والمتفحّصة لما يقرأ ويسمع ويرى. (ثبت أن الكثير من الكتب التي أثير الجدال حولها وتعرّضت إلى هجوم ناقد لم يقرأهابعض من انتقدها، لكنه أسهم في الحملة ضدها من موقع عقل جمعي يصل إلى حد الغوغائية أحياناً).

11ـ الانتقال بخطابنا من القراءات المكتبية (المكاتب والمكتبات) إلى القراءات النازلة إلى المرافق والحقول الميدانية، بمعنى ضرورة أن نقرأ كتاب الواقع إلى جانب مانقرأمن كتب النتاج الفكري والثقافي، أي أن لانتحدث عن الواقع من دونما معايشة، فقد تصحح لنا الدراسات الميدانية الكثير من شطحات خطابنا الناظر من خلف الطاولات المكتب أو نظّارات المكتبة.

12ـ الانتقال ببعض جوانب خطابنا من اللغة المعقّدة والتي تصل أحياناً إلى درجة الغموض المنحل أو الرمزية المغرقة، إلى الشفافية والوضوح وإدراك المطلوب دونما جهد جهيد في فكّ الطلاسم أو العبارات العسيرة الهضم التي تسرق المتلقّي من فهم النص واستيعابه إلى محاولة فهم العبارة المغلقة، وبالتالي فقد يصرفه ذلك عن متابعة قراءة النص.

13ـ الانتقال من تقليد الآخر، سلفاً صالحاً كان أو معاصراً، شرقياً أو غربياً، بأن يكون خطابنا صورة عنّا وعن عصرنا، غير أن ذلك لايمنع من الإفادة من أساليب التعبير الحديثة لا من جهة عقدة البحث عن الحداثة، بل من منطلق الحديث بلغة العصر، واللغة هنا، كما لايخفى، ليست المفردات فحسب، بل طريقة العرض والفهم والتفاهم أيضاً.

14ـ الانتقال من محاكاة النصوص المأثورة وتقديسها وترديدها على عواهنها، إلى نقدها واستنطاقها وعرضها على المقدّس ليتبين منها ما هو حق وما هو باطل، وماهو دخيل وما هو أصيل.

15ـ الانتقال من جلد الذات حدّ الإدماء، إلى محاسبتها ومشارطتها وتلقينها وتحصينها وتحليل خطواتها. وهنا انتقالة إيجابية تنشل الخطاب من السلبية السوداوية المحضة إلى الإيجابية المس؟؟ الناهضة بالذات من شعورها بالعجز والقصور إلى إشعارها بالتقاعس والتقصير، وغير خافٍ أن الأول يقصد بها عن الحركة فيما الثاني ينزع بها نحو الحركة.

16ـ الانتقال بخطابنا الإسلامي من خطاب النخبة إلى خطاب الجمهور، ولكن إلى خطاب متعدد المستويات، فلا بد للنخبة من خطاب، كما لابد للجمهور العريض من خطاب وقد راعى القرآن ونصوص المعصومين (ع) كلا الخطابين أو كلا المستويين.

17ـ الانتقال من الهموم الذاتية أو الترفيه أو البعيدة المساس بهموم وقضايا الأمة، إلى خطاب رسالي هادف يصنّف أولوياته في المعالجة حسب الحاجة الملحّة التي تطرح نفسها في المقطع الزمني الذي يعيشه الخطاب. أي لابد أن نعالج الموضوعات العاجلة على طريقة اسباب النزول، ونرجأ البحث في لا حاجة فعلية إليه في الوقت الراهن. فق يعالج خطابنا موضوعات مهمة لكنها ليست بنت الساعة أو الساحة مما قد يعطي انطباعاً أنها شيء من الترف الفكري الذي يتحرك بعيداً عن هموم الأمة وقضاياها.

18ـ الانتقال من حالة الترهّل والزوائد المشوية إلى حالة الترشيق، فلقد أضحت المسبهات والمطوّلات والملاحم والخطاباتالاستطرادية نابية عن ذوق العصر. فنحن بحاجة إلى خطاب مكثّف ومضغوط ومختزل وحامل لرسالة واضحة المعالم محدّدة الأبعاد تقول ماتريد قوله بأقصر مسافة. إن ما يمكن تقديمه في عشر دقائق لاينبغي أن يقدّم بنصف ساعة، وما يمكن أن يعرض أو يوجز في عشر صفحات لايصح أن يقدّم في خمسين صفحة. وهكذا.

19ـ الانتقال من الأطر المذهبية الضيّقة إلى الفضاءات الإسلامية الواسعة، فالآخر ينتظر خطاباً إسلامياً غير مشوطّر أو محجّم في عقد الطائفية وترسبات التأريخ، ولايريد أن يبقى في الحيرة أيّ إسلام يأخذ إسلام إيران أو إسلام أفغانستان أو إسلام السودان، إن من بين مسؤوليات خطابنا الإسلامي القادمة أن ينقذ متلقيه في أسر الطائفية والمذهبية ما أمكنه ذلك.

20ـ الانتقال من التداخلية الموضوعية المتفرّعة المتشعّبة التي يكثر فيها الخروج عن السياق، إلى خطاب يتوحّد فيه الموضوع بداية وهيكلة وخاتمة واستخلاصات، إننا ـ كجمهور متلقين ـ غالباًما نفتقد وحدة الموضوع فيما نقرأ ونسمع مما يسبب لنا متاهات لانعرف فيها أين الطريق؟ وأين الهدف؟

21ـ الانتقال من موقع التبريرية التي تجد لكل شيء عذراً، وإذا لم تجد تلتمس لأخطائها وسقطاتها وخطاياها ربّما عذراً، إلى موقع الاعترافية والإقرارية بالخطأ والفشل والتقصير والعجز والهزيمة وما إلى ذلك. إن الإجهار بالرأي قوة للخطاب الإسلامي تزرع في نفوس متلقيه الثقة على عكس مايتصور بعض القائمين عليه.

22ـ الانتقال من مرحلة الخطاب السردي أو الإنشائي أو التجميعي النقلي المجرّد، إلى مرحلة خطاب موضوعي موثّق بالوثائق والأدلّة ومدتمم بالبراهين والأرقام ومستند إلى الحقائق الدامغة والأدلة الثبوتية، وتلك خصيصة من خصائص الخطاب العلمي بقطع النظر عن معاصرته وعدم معاصرته.

23ـ الانتقال من خطاب طرح الأسئلة إلى خطاب الإجابة عليها. ولقد كانت الأسئلة ومازالت مفتاحاً للبحوث والدراسات، لكنها إذاوقفت عند عتبة الاستفهام القلق ولم تتعده إلى مدخل البحث عن إجابات شافية ومقنعة ومراعية لمقتضيات العصر وظروف الأمة، تجعل المتلقي يتساءل: من إذاً المعني بالإجابة على هذا الكم المتكاثر من الأسئلة؟

24ـ الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، أو لنضمّ الهجوم إلى جانب الدفاع، فالدفاع مطلوب في خطابنا الإسلامي، لكنه يجب أن لايطغى على المرحلة فيصيغها بصبغته، إذ لابدّ أن نضع الخصم في موضع الدفاع ودائرة الاتهام فيما نشنّه عليه من هجمات على أهدافه المفتوحة بالنسبة لنا، أي أننا بحاجة إلى خطاب (الفعل) كخطّ لاخطاب (ردّ الفعل) على طول الخط.

25ـ الانتقال من خطاب التحرّك الآني والموضعي، إلى خطاب الحضور الدائم، أي الخطاب الذي يسجّل حضوره في المسائل الحياتية والثقافية والفكرية والسياسية، كما لو كان في حالة استنفار دائم، لا الذي يظلّ برأسه في مؤتمر سنوي هنا وندوة دورية هناك، فالمفكر كالسياسي لابد أن يكون لديهموقف من كل مايحدث في الساحة من تحديات، ومبادرة في تحريكها بالجديد.

26ـ الانتقال من الوعظية الباردة إلى التحريضية المقلقة، وذلك بأن تخز الواقع وتصدمه وتهز الأرض تحت أقدام الراقد عليها حتى يعي أكثر، ويشعر أنه معني بالخطر الداهم بدرجة أو بأخرى، لا الغائب المفترض.

27ـ الانتقال من خطاب التهديم وإسقاط الرموز والتركيز على المثالب، إلى خطاب بنّاء يقدّم البديل الأصلح، ومقترحات الحل، والمعالجة الموضوعية، والتسديد الناصح المشفق، فلقد أتخم خطابنا تهجماً وسلبيات وتهماً ورّداً للتهم، وشتائم وشتائم مقابلة، وبذاءات وبذاءات أكبر، حتى تحوّل إلى ساحة مصارعة حرّة لا تراعي أيّ التزام رياضي أو أخلاقي يحدّ من غلواء المتصارعين.

28ـ الانتقال من اللهاث خلف الحداثة وما بعد الحداثة، لأنه لهاث لاطائل تحته ولأنّ إثمه أكبر من نفعه، إلى البحث عن الأصالة وتأصيل ما نبحث ونطرح على ضوء المناهج العلمية المعتبرة. يقول الإمام علي (ع) في نظرته إلى التطور وما أحدثه الناس: «واعلموا عباد الله أنّ المؤمن يستحل العام ما استحلّ عاماً أول، ويحرّم العام ما حرّم عاماً أول، وإنّ، أحدث الناس لايُحلّ لكم شيئاً مما حرّم عليكم، ولكن الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله». الخطبة 175 من نهج البلاغة.

29ـ الانتقال من الدين المحض أو العبادي البحث إلى الديني ذي الصلة الوثيقة بالدنيوي، والدنيوي المتطلّع إلى الآفاق الأخروية {وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولاتنسى نصيبك من الدنيا} القصص/77. لئلا نقع في المزيد من مطبات الازدواجية بين ما هو محصور في المسجد وما ينبغي أن يجعل من الحياة مسجداً كلها.

* كاتب عراقي