شعار الموقع

الإسلام.. وحداثة الغرب الأولى..

رسول محمد رسول 2004-10-14
عدد القراءات « 660 »

ـ 1 ـ

شهدت العشرية الأخيرة من القرن العشرين إهتماماً ملحوظاً بمسألة علاقة الإسلام بمعطيات العصر الجديد الذي نعيش منجزاته العلمية وتحولاته الفكرية ذات الأُفق السياسي والاقتصادي، الذي يقود بشكل أو بآخر إلى الأفق الثقافي والحضاري وبالتالي يطرح أسئلته على أُفق وجودنا ومصيرنا في هذه المرحلة.
إن معطيات العصر الجديد لاتبدو أحادية الجانب، إنها متشابكة ومعقّدة ومرد ذلك إنما يعود إلى ثراء المعارف والعلوم وتداخلها البنيوي رغم ظهور أطروحة التخصص الدقيق أو التفرغ العلمي الحاد، فنحن إزاء معطيات معرفية وعلمية مَهولة في نزوعها إلى الكم ورغبتها في التوالد المعرفي غير المتناهي تفرض سطوتها وعلى نمط جارف من السرعة، وهذا ما أخذ يؤثر وينعكس على مقولات فكرية وأنظمة الخطاب المتزامنة مع هذه المعطيات العلمية. وقد هيأت ثورة الاتصالات والمعلوماتية إمكانية أن يجد المسلمون أنفسهم في خضم التحوّلات الجارية كطرفٍ فاعل في الحياة المعاصرة، فهو مزاحمة حضارية وثقافية، وهو فاعلية دينية فضلاً عن كونه حائزاً، في جغرافيته، على موارد طبيعية توضع أبداً على رأس قائمة الحسابات والمصالح الدولية عامة والاقتصادية منها خاصة.

وفي غضون السنوات العشر الماضية إنشغل عدد غير قليل من مفكرينا في مسألة العلاقة مع الآخر، هذا الآخر المختلف دينياً وثقافياً وعلمياً في تقدمه الحضاري، سواء في الغرب أو في اليابان، وفي إطار هذا الإنشغال كان النقاش والجدل يستند إلى مفاهيم وشرعة من التصورات، تلك التي يتم بمقتضاها تداول الفكر في العلاقة بين الإسلام والآخر. وقد وجدنا أن مفهوم «الحداثة» قد استأثر باهتمام مفكرينا العرب والمسلمين، وكالعادة نُضدّت عشرات المقالات والبحوث ثم الندوات للكشف عما تستبطنه رؤى مفكرينا في هذه المسألة، ولم يكن ذلك بأساً فهو مؤشر للتاريخية والثراء المعرفي، إلا أن مفهوم «الحداثة» مفهوم مراوغ، فهو أكثر من ذاته أبداً، ويقول أكثر مما يقال فيه وعنه، ولأنه يمضي في زمن خطي فإنه يدفع بالحاضر.. والآن.. إلى خلفه ليمارس حضوره وآنيته من جديد، وهكذا إلى ما لانهاية، يحفل بالجديد ويمارس فعل الإدهاش دون هوادة. ما يعني أنه في حركة واندفاع دائمين، ولما كان المسلمون غير منفصلين عن حركة الزمن والتاريخ وغير منقطعين عن المشاركة الفاعلة في الحياة المعاصرة فإن ذلك، ربما لوحده، قد يكون سبباً لأن يتم النظر الدائم والمتجدد بما لايدعو إلى الملل في معطيات هذا المفهوم وعلاقاته بالوجود الإسلامي، ولكن ماذا تغني الحداثة؟

الحداثة مفهوم مراوغ، «ولاشيء يميز الحداثة أكثر من هذا التنوّع الهائل وتواتر التغير الجذري بها، فالتنوّع كبير جداً إلى حد يشك معه المرء فيما إذا كان بوسعه أن يتكلم عن الحداثة كشيء أو حد» (1) ، لكنها «ذات حضور جوهري في أفكارنا وممارساتنا» (2) ، وهذا ما يملي علينا أنْ نفكر في أوضاعها، وهي بلا شك مفهوم (حد) له جذوره المعجمية، التي تعود إلى أصل لاتيني، فهناك كلمة مودوس modus وتعني: «مقياس» أو «حجم» أو «كمية» أو «منهج» أو «نظام» أو «طريقة»، ومن الكلمات المشتقة من الجذر نفسه كلمة «مودو modo»، وتعني «مؤخراً» أو «لتوه» (3) . ومن هنا «بدأ تعبير الحديث modern مرادفاً ـ بدرجة تزيد أو تنقص ـ لتعبير «الآن» أواخر القرن السادس عشر..، لكن سرعان ما غير «الحديث» معناه من «الآن» ليصبح «الآن مباشرة»، أو حتى، «حينئذٍ»، ولفترة من الزمن، أصبحت دلالته تنصرف إلى الماضي، الذي يصبح «المعاصر» مناقضاً له من حيث هو حاضر» (4) .
أنْ تكون «الحداثة» ما هو آني ومباشر، مدرك ومحسوس، فلا يعبِّر ذلك لوحده عن تعقّد دلالات هذا المفهوم، فالآن هو جزء من دلالة فيه، فهناك كلمة «حديث» بمعنى «الجديد»، وهناك كلمة تتضمن الفعل والحركة هي «التحديث modernization»، أي: نقل مستوى العيش من حال إلى آخر عبر استخدام الوسائل الصناعية الجديدة وإدخالها إلى مجال حياتي لم يشهدها من ذي قبل، ولذلك نجد التحوّل من مجرد الإرتباط بالزمان الآني إلى تفعيل الحضور في (الآن) عبر الحركة والفعل الذي يحقق تجديداً في سبل الحياة بجهد أقل، ومع ذلك لاتبدو «الحداثة» هي: «الآن» وتفعيله، بل هي أكثر من ذلك، إنها رؤية جديدة إلى الحياة وقطيعة مع رؤى أخرى مختلفة، فهي تحفل بـ (الآن)، وتقدّس الحضور فيه، ولكن بمعنى طَموح يتطلع إلى المختلف في العيش، ذلك الذي يتم فيه التأكيد على أن الإنسان هو مايفعله (5) ، أبداً، وفي هذا المعنى تفتح الحداثة أفق معانيها الجديدة، فالإنسان وفعله هما محوراها الذهبيان.
والاهتمام بالإنسان وأفعاله، وبالطبيعة من حوله، هو ما كان موضوعاً لثقافة عصر النهضة الأوروبية وكل ما أنتجه العلماء والفلاسفة والأُدباء والمفكرون في هذه المرحلة هو الأرضية التي انطلقت منها الحداثة، أما أهم «الحركات التي كوّنت المجتمعات الحديثة، إلى جانب النهضة، فهي: الإصلاح الديني والتوسّع الجغرافي والتجاري والثورة العلمية الأولى والتنوير الذي تلاها والتطور الدستوري والثورة الصناعية في إنجلترا والثورتان الأمريكية والفرنسية وقيام الدولة القومية والإمبراطوريات العالمية والثورة الشيوعية والثورة العلمية والصناعية الثانية المعاصرة» (6) .
لقد إنطلقت هذه الثورات، أو التبدلات الكبرى، من مجموعة تبدلات فلسفية حوّلت رؤية الإنسان من بؤرة تأمل إلى مُعاينة مباشرة والانتقال من دراسة (الوجود) إلى دراسة (الموجود)، ومن التفكير بالمطلق إلى التفكير بالعيني والمحسوس، ففي مجال المعرفة تميزت الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية، وفي مجال علم الطبيعة طرأ تغير كبير، فقد كانت الطبيعة نظاماً متكاملاً يتَّسم بنوع من التناسق الأزلي الذي يعكس الحكمة العلوية المبثوثة في كافة ارجاء الكون، بينما كانت النظرة الجديدة تنظر إلى الطبيعة كامتداد كمي هندسي وحسابي وهو التحول الذي حدث مع غاليليو، ناهيك عن التحول بالتصور العضوي والغائي في الطبيعة إلى التصور الميكانيكي والديناميكي العلي، وتحويل الطبيعة إلى معادلات رياضية وأشكال هندسية، أي إلى هياكل عظمية فارغة كما يقول برتراندرسل، أو إلى مجرد مخزن للطاقة مَنذور لأن يتحوّل إلى موضوعات قابلة للاستهلاك كما يقول (هيدجر)، وفي مجال الزمن والتاريخ فإن غائية التاريخ بدأت تختفي وتتضاءل لصالح الميكانيزمات الداخلية والحتميات المختلفة التي تتدخل في تحديده تحديداً لا تُعرف وجهته إلا من خلال مقارنة العوامل الفاعلة فيه، أي ثمَّ تحول فكري قاد إلى إظهار أن كينونة التاريخ تتمثل في الصيرورة، أو بعبارة أخرى، فإن تحول الكينونة إلى فعل وصيرورة إبتدأ في الطبيعة ثم سرى إلى التاريخ، فقد أصبح التاريخ سيرورة وصيرورة، أي مساراً حتمياً تحكمه وتحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس أو حروبهم وصراعاتهم، أما ما يتعلق بالإنسان فقد تميزت الحداثة بإيلائه قيمة مركزية نظرية وعملية له أي جعل الذات مركزاً ومرجعاً، الذات كعقل وإرادة (7) ... ويمكن لنا أن نميز هذه المعطيات من خلال مفاهيم مختزلة، فالحداثة هي الإيمان بالعالم الطبيعي وبالإنسان وبالعقل وبالقوى والروابط الإنسانية (8) .


ـ 2 ـ

تستند الحداثة إلى إرث النهضة الأوروبية من حيث عودتها إلى الموروث الفكري اليوناني الذي حفل بما هو متعالٍ وروحي كعطاء إنساني، أي افتراض كائن أعلى هو نتاج للعقل البشري، كما هو حال (الصور) عند أفلاطون و(المحرك الذي لايتحرك) عند أرسطوطاليس، بل كما هو حال (الواحد) البارميندي نسبة إلى (بارميندس)، هذه المزّية هي التي أجالت النظر من ما هو متعالٍ مطلق منزّل من عالم غير العالم المادي إلى ما هو مكوَّن داخل الكون المادي، بمعنى الركون إلى ما للإنسان فيه شأن وجوده وتكوينه وخلق فاعليته في عالم البشرية، وهذه الرؤية تجاورت مع معطيات التخلي عن المنطق الاستدلالي كما هو عند (أرسطوطاليس) واللجوء بدلاً من ذلك إلى المنطق الاستقرائي وهو ما فعله (فرنسيس بيكون) والفلاسفة الذين تأثروا به، بل والعلماء الذي أخذوا بهذا المنطق عملاً وتطبيقاً، والذي أصبح فيما بعد منطقاً للثورة الصناعية منذ نحو ثلاثمائة عام.
لقد أنتجت هذه الثورة بفعل منطق الاستقراء خصائصها، فالحضارة الحديثة هي حضارة صناعية تستند إلى مبادئ موجّهة تسود كل نشاطاتها وفعالياتها وقد وضع (آلفن توفلر) عدداً من هذه المبادئ، منها: التوحيد القياسي والتخصص والمزامنة والتركز والحد الإنتاجي الأقصى والمركزية (9) ..، وقد إنعكست هذه المبادئ على سلوك الشخصية الغربية الحديثة، فهي شخصية تحدوها الرغبة في المغامرة والتهيؤ للدخول في أنشطة جديدة تشمل العلاقات مع الأفراد وتعلم طرق جديدة لحل مشكلات الحياة اليومية والاتجاه نحو التحرر منýأثر القيود التقليدية..، والإيمان بقدرة العلم على حل مشكلات الحياة وتوظيف العقلانية والمعرفة العلمية عند مواجهة الصعاب، وارتفاع درجة التطلعات والطموح ليحل الفرد إلى أعلى المستويات في مجالي التعليم والعمل والميل إلى الإنضباط فيه والتقيد بالمواعيد والتخطيط لأنشطة المستقبل بما في ذلك الأنشطة اليومية والاهتمام بالمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والسياسية على المستوى الوطني (10) . ولعل السؤال يطرح ذاته هنا حول النتائج التي أدت إليها دفة التغيير الجذري للحداثة وبشكل عام واجهت الحداثة نقداً شديداً وعلى كل الأصعدة الفلسفية والعلمية والأدبية والدينية، وهذا يعني بالطبع شمولها وكونية مشروعها، لكنه يعني ـ إلى جانب ذلك ـ سطوتها وسلبيتها رغم حسناتها الجمّة، ولعل أهم نتائجها أنها فاقمت الصراع بين الإنسان وبين وجوده الذاتي والموضوعي، فعلى المستوى التقاني والاقتصادي كما يرى (دانيال ليجي) (11) : تحدد الحداثة نوعاً جديداً من العلاقة مع الطبيعة، فهذه الأخيرة لم تعد إنعكاساً ولا مقياساً للإنسجام الأزلي، إنها مستودع القوى المنتجة التي يتصرف بها البشر، وما عاد الإنسان عنصراً من عناصرها بل سيداً لها، وما عاد يتموضع فيها بل في مواجهتها، وعلى المستوى القانوني/ السياسي نلاحظ الفصل القائم بين دائرة الحياة العامة ودائرة الحياة الخاصة، والفرد هنا يتميز بوعيه المستقل ونفسيته ونزاعاته الشخصية ومصلحته الخاصة وحتى بلا وعيه وباستلابه وتجريده، أما على المستوى النفسي الثقافي فقد أدت الحداثة إلى نزعة الهدم النسبي، هدم الجماعات والحقائق الجماعية كلها، العائلة، الكنيسة، القرية، المنطقة، التجمع المهني، التي كانت تؤمّن سابقاً تحقيق الذاتية والتكامل بين الأشخاص.
إن النقد الذي يوجهه (ليجي) إلى الحداثة الأولى يرتبط بمؤثرات الحداثة على الدين في معناه السماوي، والذي ترمي إليه الحداثة حسب رأي (ليو ستروس) هو تحقيق الجنة فوق الأرض بوسائل إنسانية صرف (12) ، وقد ينطوي هذا التوجّه على قدر من الإيمان بمبدئية الدين لكنه، من وجهة أخرى، يتقاطع مع جذرية الدين كرؤية شمولية للحياة على الأرض والخلود في العالم الآخر، ومن هنا تقطع الحداثة الأولى الزمن الديني ولاتحفل إلا بالزمن الدنيوي، وهذا هو موئل العلمانية في صلب هذه الحداثة، فهي في عناية دائبة بالكون القريب للإنسان، المرئي والمحسوس، ولا يُعدُ ذلك مشكلة. فالأديان السماوية تحث الإنسان أن يكتشف أسرار كونه القريب والبعيد إلا أنَّ التطرف في هذا المسعى قاد إلى نتائج عكسية حسب تجارب الحداثة الأولى التي اكتسحت كل قطاعات الحياة، أن الحداثة كما يقول (شايغان): توقظ التشككات بقدر ما تولد التخيلات الأكثر إرتباطاً بالمستقبل (13) وهو ما عُدَّ تجاوز للشك الديكارتي المنهجي، ونزعة الشك المتطرف هذه أدّت إلى الفردية المطلقة، فردية الإنطواء على الذات وهذا ما لايريده الدين، فلا فردية مطلقة بدلاً من ذلك يحث الدين الإنسان إلى الاندماج في المجموع عبر علائق قيمية، وأدّت نزعة الشك هذه إلى دفع مفهوم العقلانية باتجاه أداتية صارمة من شأنها السيطرة والقوة والنفوذ غير الأخلاقي تلك التي وجدت ملاذها في العقلانيات الثقافية المفرغة من المعاني الإنسانية، بينما العقل نبت إنساني في أوله وآخره وطاقة لايمكن لها أن تنفصل إنفصالاً مطلقاً عن قوى الإنسان الأخرى، وهذه النظرة التكاملية يحفل بها الدين أيما إحتفال، ومن ناحية نلاحظ أن نزعة التشكيك في عقل الحداثة الأولى، أدت إلى ما يسميه (مارتن هيدرج) الفيلسوف الوجودي المؤمن بالدين، بالنزعة العدمية، أي افتقاد القيم العليا لقيمتها وغياب الأهداف الكبرى، ما يعني إنحسار الإنسان في غياهب النسبية الرخيصة التي أفقدت الإنسان براءة توجهاته إلى المعاني السامية في الحياة والوجود، فالإنسان كائن قيمي، لكن الحداثة الأولى دمرت وشوهت إرادته في أن يكون قيمياً، والحياة والعيش فيها دون شرعة من القيم ودون الإحساس بها، بل والإيمان بأهميتها لاتعدو أن تكون بدئية همجية لا أكثر، والخلاصة لا اعتراض على مبادئ الحداثة الأولى كما هي، وفي برائتها الأولى، فالدين يدعو الإنسان إلى إعمال عقله ويدعوه إلى أن يرى نفسه كشخص ويحثه على العمل من أجل المجموع ويدعو إلى العمل للكشف عن كون الإنسان الذي يعيش فيه ولايتقاطع مع تقدّم الإنسان في وجوده وحياته الدنيوية على أن يتم كل ذلك بتوازن (منطق قيمي) يرى في الإنسان قيمة أخلاقية سامية وليس مجرد كائن بشري شيئي في وجوده، وكل هذا لايعني أن الحداثة الأولى في خطابها النظري والعملي، تلك التي إمتدّت لنحو ثلاثمائة وخمسون عاماً، خالية من القيم، ففيها لحظات مشرقة عززت في الإنسان شأنه الفاعل في الحياة والوجود وأكدت أن الإنسان طاقة لامتناهية للعمل والإنجاز والعطاء والإبداع والتعايش والتواصل، هذا ما نراه فيما حققه الإنسان لحياته من منجزات علمية ومعرفية تَفوق تصوره كنقطة صغيرة في هذا الكون خلال هذه المرحلة من عمر البشرية، كما أن الحداثة زادت من التعارف البشري أكثر وقرّبت المسافات أكثر..


ـ 3 ـ

وعلى وفق هذه الرؤية العقلانية راح عدد من مفكرينا المعاصرين في دائرة الثقافة الإسلامية يؤشرون همزات الوصل بين الحداثة الأولى وبين المشروع الإسلامي المعاصر مُخففين بذلك من حدة المواجهة المطلقة بين الحداثة وبين الخطاب الإسلامي كمشروع دنيوي في أحد جوانبه، هذا الخطاب الموائم يطلق عليه المفكر العربي الماركسي محمود أمين العالم: (الحداثة الدينية) ويفترض إلى جانبه حداثتين أخرتين، الحداثة الليبرالية والحداثة القومية، وتقوم الحداثة الدينية ـ من منظوره ـ على ثلاثة دعامات هي: بناء حضارة مستقلة متميزة عن الحضارة الغربية، ثم إتخاذ الوحي مرتكزاً للعقل والعمل، وبالتالي تحقيق تنمية مستقلة نابعة من الذات..، وعلى ضوء التجربة المصرية المعاصرة في هذه الحداثة يرى (العالِم) أن هذه الدعوة في حقيقتها هي دعوة ترمي إلى تنمية رأسمالية مرشدة تحت مظلة سلفية..، ويخلص ـ في خاتمة المطاف ـ إلى أنه لاتوجد فواصل عميقة حاسمة بين فكر الحداثة الليبرالية وفكر الحداثة الدينية وفكر الحداثة القومية، فما أكثر ما بينها من تداخل، ولعل القاسم المشترك بينها جميعاً هو التوفيقية وإن إختلف مستواها من تيار فكري إلى آخر، ولهذا تكاد تشكل هذه التيارات الفكرية الثلاثة ما يمكن أن نسميه الحداثة التوفيقية (14) .
نبقى في الدائرة الماركسية فإذا كان محمود أمين العالم مازال مصراً على ماركسيته فإننا نجد في الدائرة ذاتها ماركسياً نفذ إلى الفكر الإسلامي عبر معطيات الفلسفة الظاهراتية، وعقدَ صلحاً مع الإسلام منذ كتابه (تجديد التراث)، وفي إطار مشروعه نراه يسأل: إلى أي حد توجد مفاهيم الحداثة هذه في الإسلام؟ وهو به يسعى إلى تأصيل مفاهيم الحداثة في الإسلام، ويرى أن «مفهوم الطبيعة في الإسلام هو أحد مقومات هذه الحداثة»، ولما كانت هذه الأخيرة تقوم على العقل والعقلانية فإن القرآن الكريم ذكر ـ العقل ومشتقاته ـ تسعاً وأربعين مرة أكثرها في صيغة.. أفلا تعقلون، لعلكم تعقلون، إن كنتم تعقلون.. وفي العلوم الإسلامية ظهر العقل أساساً للنقل في علم أصول الدين عند المعتزلة، ومن يقدح في العقل يقدح في النقد عند الفقهاء، وكما قال ابن تيمية «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، والدليل العقلي يقيني بينما الدليل النقلي ظني، ويمكن البرهنة على صحة العقائد كلها بالعقل: وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، وبالنسبة للإنسان الذي هو أداة الحداثة وغايتها فقد كان أحد المحاور الرئيسية في القرآن الكريم مع الطبيعة، فقد ذكره خمساً وستين مرة ـ كما أن تركيز الإسلام على المجتمع أوضح من أن يشار إليه، فالمسلمون أمة واحدة كتعبير عن الله الواحد..، أما التاريخ فإنه واضح للعيان في القصص القرآني ووصف دور الأنبياء في تقدّم التاريخ وانتصارهم في معاركهم السياسية والاجتماعية وقيادتهم لشعوبهم ضد مظاهر الظلم والطغيان والفساد الاجتماعي..، كما ظهر التقدّم في صلب الوحي في النسخ عندما أصبح الزمان والتطور أساس إعادة صياغة الأحكام الشرعية كما كان الواقع من قبل مناسبة إستثارته ونزوله.
وحتى هنا لاتبدو عملية تأصيل (حسن حنفي) لخطاب الحداثة في الإسلام بمستوى البناء المعرفي الرصين، لأنه يؤصلها على ضوء ثنائية السلطة السياسية/ المعارضة، أي يتوسل الجدل طريقاً لإنشاء نظريته، وفي هذا المجال يقول: ان التحدي أمام الإسلام الآن ليس في عدم وجود مقومات التحديث ( وهنا يخلط بين التحديث والحداثة بينما مقاربته تقوم على الحداثة وأُسسها في الإسلام) فيه ولكن في غيابها عن وجداننا القومي منذ هزائمنا الأخيرة في عصر التدهور والانهيار، منذ سقوط الأندلس وعصر ابن خلدون حتى الآن. والسؤال لنا: كيف يُمكن إعادة بناء مخزوننا النفسي في وعينا القومي من أجل تقليص ثقافة السلطة التي استقرت وثبتت منذ ألف عام حتى يمكن إبراز ثقافة المعارضة التي حملت مقومات الحداثة (15) . وهنا تبقى الأسئلة قائمة هل حقاً أرست نظم المعارضة الفكرية والسياسية في تاريخنا العربي الإسلامي شيء من الحداثة، هل تمثلت مبادئ الحداثة وانعكس ذلك في سلوكها، أم مجرد الإختلاف مع السلطة هو لوحده الكفيل بأنْ تكون المعارضة مجال حيوي للحداثة!
شيء من الإيجاب أن يبحث ماركسيونا العرب مسألة علاقة الإسلام بالحداثة، ربما هذا عطاء تاريخي يُسجّل لهم، لكن مفكراً شغلته مفاهيم المعارفيّة الغربية مثل (محمد أركون) يتحوّل بتأصيل الحداثة في تراثنا من مجرد التسمية المفاهيمية القسرية أحياناً، مثلما وجدنا الأمر عند محمود أمين العالم وحسن حنفي إلى تسمية تجارب من إنخراط في إحداث الحداثة في ذلك التراث، أي تشخيص النماذج من علماء الإسلام ومفكريهم، ومنهم فيلسوف قرطبة الكبير (ابن رشد)، أحد أفضل ممثلي التيار العقلاني والفلسفي والعلمي عندنا، بل يرى «إنه أفضل مثال يمكن أخذه من الجهة العربية لكي ندرس موضوع الحداثة ومشكلة الإسلام والحداثة، فهو من جهة مفكر مسلم وفقيه مشهور، وهو من جهة أخرى صاحب تيار مشهور داخل الفكر المسيحي القروسطي»، وقبل ابن رشد كان هناك الإمام (الشافعي) الذي «قام بحركة إيجابية نافعة» حين وضع رسالته الشهيرة في أصول الفقه (16) .
إن أركون هنا لايريد إستحضار ما أنجزه (ابن رشد والإمام الشافعي) من فكر بقدر ما يُريد إستحضار واستلهام الإرتباط الجوهري لهذين العالمين بعصرهما وهو ما يمكن أن يقوم به أحد فقهاء أو علماء الحاضر، بحيث «يستطيع من خلال التراث والسنة أن يدفع بالأمور إلى الأمام ويطورها لكي تصبح قابلة للإندماج في عصر الحداثة وفكر الحداثة وعقلانية الحداثة، فقد كان هم (الشافعي) أن يحارب الفوضى التشريعية والقضائية السائدة في عصره، كان يريد أن يخلع على الفقه والتشريع نوعاً من التماسك والجدية على العمل العقلي للقاضي وعلى العمل العقلي للفقيه عندما يتنطحان للإفتاء في مسألة ما، أو لحل مشكلة ما..».
إن الحداثة من منظور (أركون) هي: موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، موقف الروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصّل إلى معرفة ملموسة للواقع..، والحداثة ـ من جهة أخرى ـ تعني الحركة والانفجار والإنطلاق.. والإسلام في لحظة انبثاقه التاريخية كان يمثل الحداثة..، أي لحظة تغيير وتحريك لعجلة التاريخ، إن إنبثاق الخطاب القرآني كان يمثل تغيراً، بل وتغيراً جذرياً بالقياس إلى ما قبله، وكان يمثل حركة تاريخية مندفعة بكل قوة وانطلاق وعلى كافة الأصعدة، ولكن بعد أن ترسّخت الدولة الإسلامية فإن التغيير استمر لبعض الوقت على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ثم تشكّل تدريجياً فكر ثابت تحول بالتدريج من طاقة تغييرية انبثاقية إلى تصور ثابت وثبوتي للحقيقة، إلى تصور ملجوم ومسجون للحقيقة، أي أنه ملجوم من قبل متخصصين معروفين بهذا العمل هم: «فقهاء» و«علماء» (17) .

إن رؤية المفكر الجزائري محمد أركون هنا أكثر نقدية وأكثر واقعية كونها تتوسل الروح الإسلامي في علاقته بالتاريخ والحضارة، تذهب إلى جوهر الإسلام كونه مشروعاً للتغيير الجذري في حياة البشرية، وتدعو إلى استلهام هذا الجوهر للدخول في مُعترك تأسيس حداثة إسلامية جديدة متجاوزه بذلك التناقض الظاهري الذي غالباً ما يضفيه أولئك الذين يسعون إلى المقاربة بين الإسلام والحداثة، حيث يقحمون مفاهيم الحداثة الغربية على رؤية القرآن دون وشائج دلالية كافية وهو ما أراد المفكر السعودي (زكي الميلاد) تجاوزه أيضاً حيث أعاد قراءة هذه المقاربة بين مفاهيم الحداثة والخطاب الإسلامي في مكوناته الرئيسية، القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والسلالة المحمدية من علماء الدين والفقه، ويرى الميلاد: أن عنوان الحداثة والإسلام هو حديث جديد لم يكن مطروحاً قبل الانبعاث الإسلامي، وقبل ذلك كان مجرى الحديث عن الحداثة والتراث، القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة (18) ، ويرى: أن الحداثة بحاجة إلى مراجعة ذاتية خصوصاً في علاقتها بالإسلام (19) ..، حيث كانت رؤية خطاب الحداثة قد وصمت الإسلام بالماخوية والتراثية وعدم القدرة على مواكبة الزمن وتحولات العصر ومجاراة الحضارة، وحان الوقت الذي يراجع فيه خطاب الحداثة في الوطن العربي والعالم الإسلامي هذه المنهجية في فهم ومعرفة الإسلام، خصوصاً بعد الانبعاث الإسلامي الذي كشف عن قدرة الإسلام الهائلة على الإحياء والنهوض والتجديد (20) .
إن التلكؤ الحاصل في غياب قراءة جادة تحكم العلاقة الحقيقية بين الخطابين، الإسلامي والحداثي إنما تعود بنظر الميلاد إلى: مشكلة الانفصال والقطيعة بين النصوص الدينية والعلوم الاجتماعية والإنسانية (21) ..، لذلك نجده يسلط الأضواء خلال مقاربته في كتابه (الفكر الإسلامي) على هذه الجوانب، ويربط مفاهيم عدة وردت في الخطاب الإسلامي بمفاهيم رئيسة في خطاب الحداثة على ضوء علاقتهما بالواقع الإسلامي، الإنسان والمجتمع والتاريخ والمستقبل، ومن هذه المفاهيم مثلاً: المعرفة (اقرأ)، إستعمال القرآن العقل كفعل وليس كأسم، أولوية العلم، السُنن والقوانين، الاجتهاد، العلاقة بين الذات والعمل، الزمان وعلاقته بالتغيير.. الخ.
وإذا كانت الحداثة هي رؤية للإنسان، فإن الإسلام جاء بأفضل رؤية عن الإنسان تتكامل فيها الأبعاد المختلفة الروحية والعقلية والمادية (22) ، ويضيف: إن المتأملين في القرآن يكتشفون أن معارفه تتجدد لهم بتجدد الزمان، وليس هناك من يظن أن القرآن استنفد معارفه مع كل ما حصل في العالم من تطور وتقدم شامل في العلوم والصناعات والاتصالات وغيرها، بل ان العالم اليوم يكتشف أكثر من أي وقت مضى فاعلية المعاصرة في الإسلام، الذي يتزايد حضوره في العالم ويطرح كأحد الخيارات العالمية الكبرى في مواجهة الأزمة الحضارية المتفاقمة في العالم (23) .
ومهما تكن جدية هذه الرؤى والتفسيرات التي يكشف عنها الفكر النقدي العربي الإسلامي المعاصر فإن المسؤولية اليوم هي أكبر على عاتق المفكرين عندنا في المفاصلة النقدية بين الخطابين، الإسلامي والحداثي، لأن التقاطع قائم في صميم رؤية كل واحد منهما، حيث تقوم حداثة الغرب على العلمانية بينما يختلف الأمر مع الإسلام فهو دنيا وآخره وهذا لاينفي القواسم المشتركة بين رؤيتي الخطابين وحصتنا في المشاركة الحضارية والتعارف الثقافي يجب أن تنصرف إلى هذه القواسم بل واستنفار تأصيلها المتبادل في المرجعيتين، الإسلام والحداثة، سواء في المماثلة الدلالية بينهما، دون التماهي المطلق ومراعاة الخصوصية، أو تكريس قراءة جديدة لمعنى الإنسان وفاعليته الوجودية كما يراه القرآن وربط ذلك بحركية التاريخ والتنافذ الزماني بين الإنسان والحياة.
لقد تجاوز الغرب حداثته الأولى ودخل حداثته الثانية بينما نحن مانزال ندور في إشكاليات علاقتنا بالأولى، ولم نحسم أمرها لا مع أنفسنا ولا مع غيرنا، وتبقى طريقة فهمنا لذاتنا.. ولغيرنا.. هي رهان مشاركتنا الفاعلة في التاريخ.


* باحث من العراق

هوامش واحالات
1ـ ليو ستروس: موجات الحداثة الثلاث، تر: مشروحي المصباحي، مجلة (فكر ونقد)، عدد (2)، 1997، ص125.
2ـ الان تورين: نقد الحداثة، ص ، تر: أنور مغيث،
3ـ د. عبد الوهاب المسيري: التحديث والحداثة، ضمن كتاب: (الحداثة وما بعد الحداثة)، ص60، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، 1998.
4ـ رايموند ويليامز: طرائق الحداثة، ص52، تر: فاروق عبد القادر، (عالم المعرفة)، الكويت، 1999.
5ـ الان تورين: نقد الحداثة، ص
محمد سبيلا: التحولات الفكرية الكبرى للحداثة، ص36 وما بعدها مجلة (فكر ونقد)، عدد (2)، سنة 1997، الرباط.
6ـ قسطنطين زريق: مجلة المستقبل العربي، نص ورد في كتاب (الحداثة) ص10ـ11 (دفاتر فلسفية/ نصوص مختارة) اعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، توبقال، المغرب، ط1، 1995.
7ـ محمد سبيلا: التحولات الفكرية الكبرى للحداثة، ص36 وما بعدها من مجلة (فكر ونقد)، عدد (2)، سنة 1997، الرباط.
8ـ د. زريق: المصدر السابق نفسه.
9ـ الفن توفلر: حضارة الموجة الثالثة، ص55، تر: عصام الشيخ قاسم الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، ط1، 1991.
10ـ د. مصطفى عمر التير: خواطر حول الدور الاجتماعي للثقافة، مداخلة في ندوة: (الواقع الراهن للثقافة العربية)، الدار البيضاء، 1991.
11ـ دانيال ليجي: دين وحداثة ودنيوه، (مواقف)، عدد (63).
12ـ ليو ستراوس: المصدر السابق، ص125.
13ـ داريوش شايغان: أوهام الهوية، ص ، تر: دار الساقي، لندن، ط1، 199.
14ـ د. محمود أمين العالم: التيارات الحداثية في الفكر العربي، عن (لوموند ديبلوماتيك)، الكراس العربي، جوبي غشت، 1989، كتاب (الحداثة)، ص98ـ99.
15ـ د. حسن حنفي: مقومات الحداثة في الإسلام، المصدر السابق نفسه.
16ـ د. محمد أركون: الإسلام والحداثة، مجلة (مواقف) العددان 59ـ60، سنة 1989.
17ـ د. محمد أركون: المصدر نفسه.
18ـ د. زكي الميلاد: الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، ص81، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، 1999.
19ـ الميلاد: المصدر نفسه، ص84.
20ـ الميلاد: المصدر نفسه، ص85.
21ـ الميلاد: المصدر نفسه، ص89.
22ـ المصدر نفسه، ص85.
23ـ المصدر نفسه، ص90.