شعار الموقع

حول مفهوم العلم في الإسلام: نموذج أبو حيان التوحيدي

لاهاي عبد الحسين الدعمي 2004-10-14
عدد القراءات « 730 »

تهدف هذه الورقة بصورة رئيسية إلى تناول مفهوم «العلم» في الإسلام، وذلك بتصفح ما جاء في «مقابسات» أبي حيان التوحيدي الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 1989. أما الهدف الثانوي لهذه الورقة فهو أنها تسعى إلى تزويد الدارسين والمهتمين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بتصوّر حول المبادئ والمسلمات الفكرية التي تستند إليها النظرية الإسلامية في علم المناهج، التي يصعب بدونها فهم وتقييم العديد من مصادر التراث الإسلامي، القديم منها على وجه الخصوص.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلا أننا لانسعى من خلال هذه الورقة إلى تعقب آثار مفهوم «العلم الحديث» في التراث العربي الإسلامي، وإنما وكما ذكرنا في ورقة سابقة (1) ، نبحث عما هو مختلف ومستقل ومتميز في حضارةٍ مختلفة ومستقلة ومتميزة.. الإسلام مصدرها.
تتكون المقابسات من مائة وست مقابسات، عرض فيها أبو حيان مجموعة متنوعة من الأفكار والتساؤلات وخلاصة المناقشات التي شارك فيها أو استمع إليها أو جمعها، وذلك في العديد من مجالس الفكر والثقافة التي ضمت نخبة من علماء ونوابغ الفكر الإسلامي في بغداد القرن الرابع الهجري (الحادي عشر الميلادي)، يوم كانت بغداد تزهو بقمةِ مجدها العلمي والحضاري. ومعروف أن أبا حيان نفسه كان واحداً من أولئك النوابغ ورجال الفكر ممن أتحف المكتبة العربية ـ الإسلامية بعددٍ مهم من الكتب والمخطوطات خالدة الذكر، مثل الامتاع والمؤانسة، الإشارات الإلهية، البصائر والذخائر، مثالب الوزيرين وعدد من الرسائل المشهورة ومنها رسالة السقيفة ورسالة في علم الكتابة ورسالة الحياة وغيرها الكثير.

في الموقف الشخصي

تعرض التوحيدي إلى الكثير من المدح والقدح فيما يتعلق بموقفه الشخصي من الإسلام. فقد تباينت الأراء حوله في هذا المجال، حتى أنها تبلورت باتجاهين رئيسيين: فمن قال بحسن عقيدته وإسلامه، ومن قال بأنه أحد أخطر ثلاثة على الإسلام، إلى جانب الراوندي والمعري (2) . والذي يهمنا التأكيد عليه هنا هو أننا غير معنيين كثيراً بما لحقه شخصياً ودينياً من قدح ومدح، فتلك مسألة لاتقع في صلب المعالجة التي نحاول القيام بها في هذا الموضوع. ولكن الذي يعنينا هو أننا وجدنا في «المقابسات» خيطاً قوياً، متصلاً ومتماسكاً يشدّ الإطار الذي يحيط بها، ويضفي مسحة إسلامية واحدة وموحدة، بالحتم واليقين، عليها. وهذا يوفر، بنظرنا، مبرراً كافياً لاعتبار مراجعة عمل من هذا النوع والوزن.
وتكمن أهمية ذلك في هذا الوقت بالذات، حيث يشهد العالم مختلف أشكال العنف والصراع لفرض قوى الهيمنة توجهاتها على مصادر الفكر والمعرفة، والعمل على تسييد النموذج الواحد، والسعي المحموم لتغييب الثقافات، وتجاهل الحضارات وحجب مساهماتها في إثراء التراث الإنساني للعالم.

في الموقف من المقابسات

من الجانب الآخر، تعرضت «المقابسات» ذاتها إلى الكثير من النقد والتجريح، الأمر الذي تبلور باتجاهين رئيسيين أيضاً: فاتجاه رأى فيها سجلاً فريداً لما جادت به قرائح عدد من نوابغ الفكر والثقافة في بغداد آنذاك. واتجاه آخر رأى أنها لم تزد على أن تكون من صنع التوحيدي نفسه.. كتبها ونمقها وزخرفها، ثم نسبها إلى مَن سِواه. ويقلل هذا بالتأكيد من أهميتها الفكرية والثقافية إلى درجة كبيرة، إن لم يؤدِ إلى إفراغها من أية قيمة البتة.
ولنا أن نثبت هنا أن للمقابسات قدرة على وضع هيكلية أولية تصلح لأن تكون أساساً لنظرية محدثة في علم المناهج في العلوم الإنسانية. ويشكل هذا دليلاً يدعم مصداقيتها ويؤكد، بمثل ما يوثق، أهليتها للاستعمال والاعتماد، من خلال التركيز على الإطار النظري لمفهوم العلم في الإسلام على أقل تقدير. فلو كانت «المقابسات» مجرد عملية جمع حيادية لا مِقْودَ يقودها، ولافكرة تتقدمها، لما تمكّنت أو مكّنت من وضع إطار يسهل فهمه، ويجوز وصفه بالإسلامي، ذلك أنه يرتبط، من حيث المبدأ والأساس، بأركان الفكر الإسلامي.. هذا الفكر الذي يضع الباري جَلّت قدرته في مرتبة مستقلة ومنفصلة لاتدانيها أخرى. ومن ثم تأتي مراتب الفكر الإنساني في الإسلام، والتي تتميز أولاً وقبل كل شيء، بهيمنة «العقل» باعتباره آلة العلم الهادف إلى معرفة الله إيماناً واعتماداً وتوكلاً.
وتأتي بعد ذلك فكرة العمل لتجسيد مبادئ العلم العقلية بصورة أنماط سلوكية وممارسات اجتماعية واعية وبنّاءة، بالضرورة لا بالاختيار. ويبرز فيما بعد، ذلك المزيج الذي يتداخل في كل خطوة وفكرة ومعتقد ومَيِل إلى التصديق بقدرة الخالق جل وعلا، ذلك المزيج الذي يتمثل في الموقف الإيجابي للعلم الإسلامي من دور الوجدان والعاطفة والضمير. هذا إلى جانب أن الأخلاق تعمل كمجسٍ ومقياس لصحة السلوك والتصرف الإنساني المصمم أصلاً للتعبير عن الإيمان والانقياد لإرادة الخالق والخضوع لمشيئته.
ويمكن للمطّلع على جوهر مبادئ الفكر الإسلامي أن يجد شيئاً، أو ربما الكثير من الألفة في هذا الإطار (الفكري) الذي سنأتي على تفصيله في سياق عرض مفهوم العلم في الإسلام، كما أبصره التوحيدي. ولابد أن يصل بنا هذا إلى خلاصة مفادها أنّ ليس من المفهم أن يكون أبو حيان التوحيدي قد ابتكر أو صنع أو اعتقد بمجموعة من الأفكار التي ضمّنها مقابساته، أو أنه لم يزد على أن يجمع ما جادت به قرائح الرجال النوابغ وأعلام الفكر الإسلامي في تلك الفترة المهمة من تأريخ الحضارة العربية ـ الإسلامية، ذلك أنه فردياً في غنى عن المجد الشخصي بدلالة أعماله الكثيرة الخالدة المعروفة للمثقف العربي والمسلم.
المهم هنا هو تلك الوحدة الفكرية التي ترتكز «المقابسات» إليها، والتي تنسجم تمام الانسجام مع أركان الفكر الإسلامي. وهذا هو بالضبط مصدر قوتها ورمز مجدها وعنوان تألقها، والشهادة التي تقدمها لِمن وضعها أو كتبها أو جمعها، سواء بسواء، الأمر الذي شاء الزمن أن ينال الحظوة فيه أبو حيان التوحيدي، رجلاً ومفكراً وعالماً.

مرجعية «المقابسات»

تزخر «المقابسات» بفكرة التبجيل والإجلال للباري عزّ وعَلا، الذي يشار إليه بمسميات عدة، مثل «الحق الأول» و«الغاية القصوى» و«الرتبة الكبرى» و«العلة الأولى». وتتعزز هذه الفكرة باعتبارها الأساس والمرتكز ونقطة التبلور والإنطلاق، ليس في العلاقة مع مفهوم العلم وحسب، بل وفي العلاقة بالعديد من الموضوعات الفلسفية والاجتماعية والثقافية الأخرى التي عَنَت «المقابسات» بها. من هذه الفكرة الإسلامية الجوهرية التي تقود «المقابسات» يمكن للدارس والمتعلم والقارئ أن يغذّ الخطى لتقليب مفهوم العلم في الإسلام. ولعل للبداية أُماً تبدأ من تحديد مفهوم الفلسفة، لكونها المجال الطبيعي الذي يسبَح مفهوم العلم فيه أكثر من غيره.
في معرض الرد على تساؤل حول معنى الفلسفة يرد، أنها تعني حب الحكمة. ويضيف على لسان أحد الجالسين بالقول: «حب الحكمة لايتم إلا بالجمع بين العلم بالحق والعمل بالحق» (3) . وفي مقابسة أخرى يرد، أن «العلم والعمل جزءا الفلسفة» (4) . وبهذا التحديد يوضع الرداء الإسلامي على التسمية اليونانية الشائعة للفلسفة، كمجال من مجالات الفكر والمعرفة، والتي يكتفى بتحديدها عادة على أنها حب الحكمة لاغير. فالعلم بالحق والعمل بالحق ركنان رئيسيان في الإسلام.. يرتبط الأول منهما بمسألة الإقرار العقلي بقدرة الله سبحانه وتعالى. والخضوع لإرادته والسير بمشيئته التي لامنازع لها والتي تعد الأساس لما يليها.
وتأتي بعد ذلك فكرة العمل بالحق، وهي التي ترتبط بفكرة العلم بالحق. أي العمل لوجه الله ومن أجل الله وبإرادة الله والتوكل على الله. كل ذلك من أجل تجسيد رؤيته والتعبير عن الطاعة له والقبول بحكمه والاجتهاد في محاولة كسب عفوه والفوز برأفته ورحمته، باعتباره الأمل والمرتجى وينبوع الخلاص.

العلم في ثنائيات ثلاث

يمكن النظر إلى مفهوم العلم في الإسلام ضمن ثنائيات ثلاث. العلم والعمل، العلم والوجدان، العلم والأخلاق.. وقبل الخوض في ماهية هذه الثنائيات الثلاث لابد من التأكيد على أن خصوصية مفهوم العلم الإسلامي لدى التوحيدي إنما ترتبط، بتقديرنا، بالعوامل الثلاثة: العمل والوجدان والأخلاق، مما تنأى مصادر الحضارة الغربية المعاصرة عنه، بالظاهر، على الأقل. فمفهوم العلم في الحضارة الغربية يؤكد على الموضوعية والحيادية والتجريبية، والبعد عن الذاتية والتخلص من الوجدانية والتحرر من المقاييس الأخلاقية.
إن دعاة المفهوم الغربي للعلم لايقبلون فكرة الباري عز وجل، ويعدّون ذلك انتهاكاً واضحاً لقواعد المنهج العلمي، واقحاماً لامبرر له في دائرة الفكر الديني العقائدي، أو الايديولوجي، المنحاز سلفاً. ولااعتراض لدينا على هذا، فلكل حضارة وأمّة طريقها ونمط تفكيرها لإدارة شؤون رعاياها ومؤسساتها. بَيدَ أن ما يذكي الحاجة إلى التمعن في وجهة النظر الإسلامية، في هذا المجال، والتي لاتخفي تحيّزها لصالح الخير ضد الشر والصواب ضد الخطأ، إنما يرتبط لدينا بالانتقادات المتزايدة التي يقوم بها العديد من الحركات والجماعات والمؤسسات والأفراد في المجتمعات الغربية المعاصرة، والتي ضاقت ذرعاً، كما يبدو، بالصورة البراقة الفضفاضة التي يعمل مفهوم العلم الغربي على تسويقها.
لهذا فإننا نجد اليوم العديد من الحركات والتشكيلات والأحزاب في الغرب تسعى وتعمل لإماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للتحيّز العرقي والتعصب القومي، وللذاتية الحضارية والانتقائية الاجتماعية التي عمل مفهوم العلم الغربي الحديث على تغطيتها تحت اسم الموضوعية والحيادية والتجريبية وما إلى ذلك.
بالمقابل فإن الإسلام لايتردد في التأكيد على الصلة العضوية بين العلم والعمل، العلم والوجدان والعلم والأخلاق. لأنه بصريح العبارة وصادقها ضد الموضوعية والحيادية التي تستبعد الدين والأخلاق، ومع الانحياز إلى الله والمقاييس الإلهية؟ ومن هذا يستمد مفهوم العلم في الإسلام أسباب التوازن في مواجهة كل ما يمكن أن يعرض أركان المعادلة إلى الخلل.

العلم والعمل في الإسلام

يمثل العلم والعمل الثنائية الأكثر أهمية والأعمق جذرية في نموذج التوحيدي لمفهوم العلم في الإسلام. وترد هذه الثنائية في «المقابسات» في أكثر من مقابسة، لتؤكد عمق الصلة التي تجمع بينهما. بل انها سرعان ما تتمخض عن ثنائيات أخرى تالية، تنتقل بالقارئ من مستوى معين من مستويات الفهم والإفهام إلى آخر أكثر دقة وأكثر تحديداً وأقل تجريداً، وبالتالي أكثر قدرة على استيضاح المعنى المرتبط بها. وهو ما يؤشر نقطة البداية لذلك التواتر الواضح المؤكِد على أهمية مفهوم العلم. فالعلم هو، «حياة الحي في حياته، والجهل موت الحي في حياته.. وإذا كان العلم حياة الحي في حياته، فلا شك أنه يكون حياة له بعد وفاته» (5) .
ويرد في توضيع للصلة بين العلم والعمل أن «مَن عُرّيَ من العلم ولزم العمل كان كخابط عشواء.. ما يفسده أكثر مما يصلحه. ومَن لزم العلم وخلا من العمل كان كلابس ثوبيّ زور». وانطلاقاً من ذلك يشبّه العلم بالعافية في البدن، والغنى في الحال، والبصر في العيون. بينما يقف الجهل على النقيض من ذلك ليتمثل في المرض والفقر والعمى. ومرة أخرى يعود التوحيدي إلى الله من خلال فكرة الحق الأول، ليقول: «العلم فنون، وأشرَفَهُ معرفة الحق الأول. والعمل ضروب، وأشرَفَهُ ما كان في التشبّه بالحق الأول». و«العلم مُبلْغٌ إلى الغاية التي لامطلوب وراءها، والعمل مُهيءُ لك نحو المسلك إلى سعادتك» (6) .
وفي محاولة للتبحر في العلاقة بين العلم والعمل يقدم ثنائية العقل والحس بالتقابل، فـ «العلم قِوام المعقول، والعمل قوام المحسوس». و«لولا الحس لاستغنيَّ عن العمل». وتظهر أهمية العلم وارتقاؤه على العمل وأولويته عليه من خلال القول: «الحسُ محطوط عن سماء العقل.. والحسّ كل ما ظهر بالطول والعرض» (7) . أما العقل فكل ما بطن بالذات والجوهر. ومن ناحية المجال فإن «الحس ضيق الفضاء، قلق الجوهر، مستحيل الصورة..» بينما العقل «فسيح الجو، واسع الأرجاء، هادئ الجوهر..». الحس يعمل كما لو كان آلة أصلها المادة، العقل فإنه «على هيئة محضة لأنه نور».
ثم يدور الحديث حول معرفة الله، أهيّ ضرورة أم استدلال؟ فيأتي الجواب، إنما هي «ضرورة من من ناحية العقل واستدلال من ناحية الحس» (8) . ويتحقق الاستدلال في معرفة الله من خلال قيام الحس بالتصفح والاستقراء المعزز بالعقل الذي يحث على الاعتراف بالله وحظر انكاره أو التشكيك به. وبينما تعتمل بالحس مختلف ضروب العواطف والمشاعر، من جذب وإجبار وحمل وإكراه، فإن العقل يمضي لطيفاً، يعظ ويلاطف وينصح ويخوّف، وما إلى ذلك.
هكذا تتضح العلاقة بين الحس والعقل باعتبارها علاقة بين الأسمى والأدنى. فالعقل يتصف بالصفاء والطهار والبعد عن الدنس والدرن، والحس يشوبه الكدر «الذي لاثبات له ولا مستقر» (9) . وتبعاً لهذه الصورة، عن العقل والحس، فإن الأخير يوصف على أنه أشبه ما يكون بالحاكم المستبد، والساعي الفاسد، والقاضي المنحاز، والدليل المضلل، والصديق المتملق، والشريك السارق، والوافد الكذاب.. بينما يوصف العقل بالدوام والسلامة والانتظام والصحة والاستقامة والعفة والعدل والمحبة (10) .
وفي حين يرتبط الحس بالطبيعة فالموت، يظل العقل محلقاً ومتطلعاً إلى الباري جلت قدرته ليحقق من خلال ذلك صلته بالحياة (11) ، وذلك بنَيل «السعادة الكبرى من العلة الأولى» (12) . وهنا يُحذر الإنسان من استشارة العقل وهو ملطخ بأوساخ الطبيعة المعبرة عن الحس، لأن العقل ينأى عن الاستجابة لمن به دنس وفساد، بل هو يوجب الطهر ليلقى الرشد ويُغمر بالغبطة. والعلم يتم بالعمل وليس العكس. فاحتمال أن تتوق نفس العالم الذي لايعمل إلى العمل، أكبر من احتمال أن تتوق نفس الجاهل إلى العمل (13) .
ويطرح سؤال حول الفرق بين العلم والمعرفة، فيأتي الجواب ليقيم درجة أخرى على طريق الصلة بين العقل والحس في مجال العلم والعمل. فالعلم يختص بالمعقولات والمعاني الكلية، والمعرفة تختص بالمحسوسات والمعاني الجزئية. لهذا يقال في الباري عزّ وجل: يعلم وعالم ولايقال يعرف وعارف (14) . وفي مقابسة أخرى تعرف المعرفة على أنها إدراك لصور الموجودات ذات الصلة بالمحسوسات (15) . وتأتي المعرفة بطريقتين، فهي إما أن تأتي بالفطرة، وإما أن تأتي بالفطنة، وذلك تبعاً لحاجة الوصول إليها. فإن «كانت ضرورة فهي نتيجة الفطرة، وإن كانت استدلالاً فهي ثمرة الفطنة». أما العلم فهو «الرأي الواقع على كنه حقائق الأشياء وقوعاً ثابتاً لاينتقل عنه» (16) .

العلم والوجدان

يمثل الوجدان العنصر الثاني المهم في مفهوم العلم لدى التوحيدي: نلاحظ هنا أن الإسلام لايسمح فقط، بل يشجع حضور الوجدان الإنساني وما يرتبط به من مشاعر ذاتية ووعي وضمير وعواطف قلبية فياضة. وهذا ما يُعبر عنه في «المقابسات» بتعابير من نوع «طمأنينة الحق» و«برد اليقين» و«سرور النفس»، وما إلى ذلك. وفي هذا المجال نقرأ أنه «ليس يرى مجد الحكمة (والتي هي كما مرّ بنا، العلم بالحق والعمل بالحق) إلا مَن كان بصر عينيه في قلبه، لابصر قلبه في عينيه» (17) . بل ان العلم بحد ذاته إنما هو «وجدان النفس ومطلوبها» (18) . ذلك أن النفس إذا وجدت مطلوبها «توحدت به واتّحدت فيه». و«العلم انفعال ما، ولكن باستكمال يؤدي إلى النفس سرورها وحبورها اللذان هما خاصان لها».
هكذا تصبح عملية البحث عن «العلة الأولى» والوصول إلى «الغاية القصوى»، ومحاولة الاقتراب من «الرتبة الكبرى» وإدراك «الحق الأول»، إنما هي عملية نفسية وجدانية تكتنفها المشاعر والأحاسيس الخاصة، وليس مجرد عملية ميكانيكية فنية معزولة عن الذات العميقة في الإنسان. ولهذا السبب نفسه، فإن وجدانية فعالية العلم والعملية العلمية في الإسلام يجب أن تكون فعالية صادقة ونابعة من العمق السحيق للذات وهي تتوجه إلى بارئها وخالقها ومبتكرها.. ويستفاض على دور الوجدان في عرض مفهوم التوحيد. فعند الإجابة على سؤال التوحيد، نسمع أنه «اعتراف النفس بالواحد لوجدانها أياه واحداً.. ذلك لأن العقل يجد العلة الأولى وجداناً على أتم صورة، وأشرف نعت، وأبلغ قول..» (19) .

العلم والأخلاق

من خلال هذه الثنائية يظهر على الفور أن مفهوم العلم في الإسلام إنما هو مفهوم منحاز بدءاً. فهو منحاز إلى كل ما هو صحيح وخيِّر وسليم. وبما أن الله سبحانه وتعالى، الذي يسعى العلم الإسلامي إلى معرفته والتوحد معه وإياه، إنما هو الخير بحد ذاته، فإنه ينأى عن نقائضه التي يصفها التوحيدي بـ «الفتنة والسقم» (20) . وكما عرفنا مما ألفيناه في باب «العلم والوجدان»، فإننا نقع هنا على وضع مشابه، إذ يمتزج الموقف الأخلاقي امتزاجاً يجعل من الصعب فصله أو تحديده حتى على سبيل البحث والتقصي. فـ «المقابسات» تبحث عن الجدوى والفائدة والثمرة في كل ما تتناوله بالشرح والجدال والتحري. لذلك فإنها تنتقد علم التنجيم الذي تصفه بأنه خلوٌ من الفائدة، عاجز عن تغيير المجرى، حتى وإن أصاب المنجم وشخَّص، وإن أكثر تنبؤاته دقة لاتعدو من أن تكون حدساً في أحسن الأحوال.
بالمقارنة فإن «المقابسات» تطري على عدد من العلوم الأخرى، لقدرة هذه العلوم على تقديم النافع والمفيد. فعلم الطب علم حميد لأنه يرمي إلى «استدامة الصحة»، والنحو كذلك لأنه يهدف إلى «فتق المعاني وصحة الألفاظ وتوخي الإعراب»، أما الفقه فيسعى إلى «إصابة الحكم واقتضاب الفتيا» (21) .
وفي التأكيد على فكرة الخير التي تمثل عصب الموقف الأخلاقي الصحيح نقرأ أن «الخير معرفة الحق والعمل به». وفي مكان آخر «الإنسان الجاهل ميت، والعالِم المتجاهل عليل، والمؤثر للخير حي صحيح» (22) . وفي تأكيد الصلة العضوية بين العلم والعمل وارتباطهما بمعرفة الله سبحانه وتعالى، بكونه خالص الخير وعنوانه الساطع، يأتي القول: «أحرص على أن تَعلمَ جيداً، وعلى أن تنوي خيراً، لا على أن تحث على خير، وعلى أن تعمل بما ينبغي، لا على أن تدّعي ما ينبغي».
وفي التعامل مع الأخلاق باعتبارها موقفاً سلوكياً، فضلاً عن أنها موقف فكري واضح ومحدد، فإن «المقابسات» توجه الخطاب على نحو مباشر وتفصيلي لتقول: «كنّ عاقلاً حتى لاتغتر، وخيّراً حتى لاتغرّ». وفي اعلاء السلوك الصحيح أخلاقياً، نقرأ «إنما تستثار النجابة من الإنسان بالتعليم» (23) .
على سبيل إيجاز ما تقدم وفي محاولة تعقب ملامح مفهوم العلم في الإسلام على وفق ما رشحته قريحة «أبو حيان التوحيدي» والمجالس التي ائتلف إليها، وضعنا الجدول التوضيحي التالي الذي يعرض الهيكل العام لهذا المفهوم.

الثنائيات الثلاث على المستوى الإنساني
العلم والعمل
العلم والوجدان
العلم والأخلاق
العقل الحس
الصدق
الفائدة
الجوهر الجسم
التوق
الثمرة
الضرورة الاستدلال
الطمأنينة
المغزى
النفس
السرور
الصواب
الطبيعة
برد اليقين
الخير
العلم المعرفة
المعقولات المحسوسات

* باحثة من العراق، عضو هيئة تدريس جامعة قار يونس في ليبيا.

الهوامش:
1ـ الدعمي، لاهاي عبد الحسين، «في الموقف الإسلامي من قضية المرأة». مجلة الكلمة، السنة السادسة، العدد (22)، 1999م.
2ـ التوحيدي، أبو حيان، «المقابسات»، الطبعة الثانية، دار الآداب، 1989، بيروت، مقدمة المحقق، محمد توفيق حسين، ص8.
3ـ المقابسة رقم (62) ص204.
4ـ المقابسة رقم (67) ص227ـ230.
5ـ المقابسة رقم (40) ص143ـ144.
6ـ المقابسة رقم (43) ص149ـ152.
7ـ المقابسة رقم (41) ص144ـ147.
8ـ المقابسة رقم (42) ص147ـ149.
9ـ المقابسة رقم (50) ص173ـ179.
10ـ المقابسة رقم (99) ص337ـ338.
11ـ المقابسة رقم (58) ص194ـ195.
12ـ المقابسة رقم (62) ص200ـ217.
13ـ المقابسة رقم (66) ص223ـ227.
14ـ المقابسة رقم (70) ص236ـ238.
15ـ المقابسة رقم (91) ص282ـ300.
16ـ المقابسة رقم (106) ص355ـ382.
17ـ المقابسة رقم (66)، ص223ـ227.
18ـ المقابسة رقم (106)، ص355ـ382.
19ـ المقابسة رقم (106) ص355ـ382.
20ـ المقابسة رقم (43) ص149ـ152.
21ـ المقابسة رقم (2) ص57ـ80
22ـ المقابسة رقم (62) ص200ـ217.
23ـ المقابسة رقم (65) ص221ـ223.