«الحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم» (1) .
لايكاد يختلف إثنان على امتداد وطننا العربي والإسلامي على تزايد أهمية «الحرية» في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويذهب العديد إلى أن غيابها يعد السبب الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا. وأن خروجنا من هذه الحالة لايتأتى إلا إذا نسجنا من خيوطها (الحرية) نهجاً يوجه مآلات فعلنا الفردي والجماعي.
وقد تكثفت الدعوات للمطالبة بها، بعد تيقظ الوعي العربي والإسلامي على خطورة ما نسجته «الدولة الحديثة» في حياتنا من مظاهر الاستلاب والاستبداد. فإذا كان مشروع النهضة في بواكيره حدّد لنفسه أهدافاً يتجاوز بها حالة الانحطاط بالتخلص معاً من مظاهر الاستعمار المباشر ورواسب التخلّف في نسيجنا الاجتماعي المنسوب إلى مراحل سابقة من تاريخنا. فالمقاربات الراهنة استفاقت على أن مشاريع «التحديث» التي قامت بعد مرحلة الاستعمار المباشر، لم تحقق المنشود. بل في أحد مظاهرها «استنسخت» مراحل غابرة من تاريخنا وتاريخ المستعمِر.
وأصبحت مقولة الحرية من القواسم المشتركة الجامعة لكل الأطراف من ليبرالية وقومية وماركسية وإسلامية. وتوجه كل طرف للتنظير والإدعاء بكون «الحرية» هي مقوم أساسي من مقومات مشروعه، بل هي الفاعل الجوهري في بنيته النظرية ولاتفترق في هذا الإدعاء السلطة عن المعارضة. ولكن يبقى الإشكال العملي قائماً. فالممارسة اليومية هي المحك لصدقية الشعارت والدعوات. وقد حاول البعض التغلّب على هذه الإحراجات بتوظيف التاريخ في الدفاع عن صورته في الماضي ولكن دون أن يكون قادراً على سحب ذلك على الحاضر والمستقبل. الأمر الذي يستدعي مواجهة حقيقية وجرأة في الطرح. ونحسب أن مقاربة الأستاذ توفيق السيف (2) تتحرك في هذا الفضاء، إذ هي تهدف إلى تناول إشكالية الحرية من منظور الإسلاميين بعيداً عن تعظيم التاريخ أو تهوينه، ودون أن تكون مجنّحة في التنظير، إذ الهدف هو الكشف عن إمكانية التنزيل العملي للمشروع الإسلامي من خلال التأكيد على مطلب الحرية في واقعنا المعيش. محاولاً استكشاف مواطن الضعف والخلل في «منظور الإسلاميين» بعقلية المشارك والمنخرط في المشروع لا المنافح أو المشكك، الأمر الذي يعطي للمقاربة مصداقية نقدية تفتقد إليها كثير من كتابات الإسلاميين اليوم.
والمقاربة في اعتقادنا هي صورة جديدة لطموح الإسلاميين في المساهمة في تجديد الفكر السياسي العربي والإسلامي. وهو ما سنحاول تبيانه في قراءتنا السريعة لجديد الأستاذ توفيق السيف. مستجيبين لدعوة المؤلف الذي يدعونا لقراءة نصه «بعين الناقد لابعين المتلقي السريع الاستجابة، ليكون الحوار قائماً بين الكاتب والقارئ ولو عن بعد».
يذكر الأستاذ توفيق السيف أن العنوان الذي اختاره في البدء لمصنفه هذا هو «نقد المشروع الإسلامي»، وتخلّى عنه بناء على نصيحة من زملائه، لأنه عنوان ملتبس، ربما يؤدي إلى سوء فهم أو بالأحرى سوء «استقبال». ولسنا هنا في وارد مصادرة حق المؤلف في تحديد العنوان الذي يراه ملائماً للكتاب وفق ما حدده من أهداف عند نشره. ولكن هناك ملاحظة جديرة بالذكر هو إن تغيير العنوان إما لاعتبارات تقنية أو جمالية أو علمية أو مادية أو نفسية لاشك أنه يشير إلى عقلية المصنّف وتأثير ذلك في الأفكار المُراد بثها في الكتاب. «فالحذر» الذي قاد الأستاذ توفيق السيف إلى تغيير عنوان كتابه لامسناه أيضاً في متن الكتاب. إذ اتسم في كثير من مسائله «بالتعميم» و«الحذر» وعدم الجرأة في التطرق لإشكاليات هي بأمس الحاجة إلى الطرح خاصة من الإسلاميين أنفسهم. ونحسب أن المتتبع بدقة للكتاب يشعر بوجل الكاتب الذي لايفصح عن نفسه إلا عند ذكر مسألة اختيار العنوان.
ولكن رغم ذلك نحسب أن هذا «الحذر» و«الوجل» ليسا بذميمة للكاتب إذا كان هدفه هو شيوع فكرة النقد في مجتمع لانقدي. فالتدرج ومراعاة المقام والحال ضرورة لابد منها لمن يروم بناء مشيداً. ونحسب أن العنوان الجديد اقرب إلى حقيقة ما يتضمنه الكتاب.
أما فيما يتعلق بالمنهجية المعتمدة فهي استقرائية، إذ عمد المؤلف إلى استقراء النصوص الدينية وتجربة الإمام علي في موضوعة حرية الرأي. ولانشك في قدرة هذه المنهجية في الوصول إلى تحديد الكلّي في الرؤية الإسلامية للمسألة المطروحة. وذلك من خلال المرور بجمع واستقراء الجزئيات التي ندعي بأن لها علاقة بالمسألة. والتي جمعت كما ذكرنا من بعض النصوص الدينية ومن أقوال الإمام علي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه ان همّ الكاتب في هذه المقاربة ليس التنظير للحرية وتقديم مقاربة متكاملة. وهو ما لايدعيه. ولكن همّه تفكيك العقلية القائمة على مهمة التنظير للمشروع الإسلامي، وتبيان مظاهر الخلل فيها والتي تمثل عوائق ابستمولوجية في أسلوب عرض الإسلام والتي يمكن إجمالها في:
1ـ الخلط المنهجي في لاوعي الإسلاميين بين النص الديني ومشاريع قراءته.
2ـ الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل.
3ـ قيمة العيب وتحكمها في العقلية الإسلامية.
4ـ قلق الفتنة وتأثيرها في الحراك السياسي الداخلي والخارجي.
وبقدر ما ركز الأستاذ توفيق السيف على إبراز العوائق الابستمولوجية بقدر ما غيّب الحديث عن المعوقات السوسيولوجية التي لاينكر أحدٌ أهميتها ودورها فيما تشهده الساحة الإسلامية من مظاهر الخلل.
«فالعقلية التعميمية» التي تسيطر على الذهنية الإسلامية من الأكيد أن لها أسباب تاريخية ـ سوسيولوجية تتجاوز مشاريع القراءات المختلفة للنص والتاريخ وهو ما سنحاول الاتيان عليه في إبانه.
بنى المؤلف رؤيته لحق الاختلاف في الإسلام على مجموعة أدلة مباشرة وغير مباشرة في محاولة لفك الارتباط بين معنى «التعدد» ومعنى «الخلاف في الدين وشق عصا المسلمين». وذلك بغية إلغاء هذا الفهم الملتبس في ذهن المسلم والذي يرجعه الكاتب إلى «حرمان المسلمين لقرون طويلة من ممارسة الحرية والجمود في فهم النص القرآني والتفسيرات الخاطئة، المقصودة أحياناً والعفوية أحياناً أخرى». وللحقيقة أن الفكرة المستهدَفَة (فتح الدال وفتح الفاء) هي فكرة خطيرة وهي سائدة بين الإسلاميين والتي مفادها كما يقول د. صالح كركر «أن كل تجديد وتغيير للمألوف يمثل تهديداً لسلامة الدين، ودساً من الأعداء ضده، وذلك على أساس قاعدة خاطئة مفادها أن كل مخالف لنا هو خصمنا، ومن هو كذلك فهو عدو لنا وعدو للإسلام، فاسق عنه!» (3) . ويرجع د. كركر سبب سيادة هذه الأفكار والتعميم في الفهم والعرض إلى «أن الحركة الإسلامية لم تسلك مسلكاً يكوّن لدى أفراد مجتمعاتها «العقلية المجهرية» ويزيح الستار على ملكات العقول الإبداعية، وبقيت بسبب التقليد متأخرة عن دورة الزمن تجتر خطاب التراث التعميمي، فبقي خطابها تعميمياً غير قادر على تقديم البديل العملي والمميز» (4) .
ونعود إلى الأدلة التي اعتمدها الكاتب في تأكيده على مشروعية الاختلاف في الإسلام. وقد بدأ حديثه بالأدلة غير المباشرة أي غير النصية والتي هي: 1ـ التفريق بين الدين والمعارف الدينية.
2ـ اعتبار التخطئة في الاجتهاد.
3ـ أدلة الشورى.
4ـ فردية التكليف والاختيار.
5ـ أدلة الاجتهاد، وكما يرى الكاتب أن «الاجتهاد ليس في حقيقته سوى استخدام المجتهد لحقه في مخالفة رأي الغير».
أما الأدلة المباشرة أي النقلية والمستمدة مباشرة من القرآن الكريم فقد اقتصر المؤلف على إبراز النصوص الدالة على المعاني المقصودة من خلال التمثيل بثلاثة سياقات للآيات القرآنية:
1ـ تشنيع القرآن على الذين رفضوا الدعوة الربانية تقليداً لآبائهم.
2ـ تجهيز الخالق تعالى للإنسان بالوسائل التي تمكنه من حرية الاختيار.
3ـ منع إكراه الغير على ما لايريد.
ونقدر بأن المؤلف أفلح في إبراز شرعية الاختلاف عقلياً ونقلياً. ولكن كان مروره سريعاً، خاصة وأن الاستدلال النصي يستدعي استدلالاً نصياً معارضاً له، الأمر الذي يدعو إلى تقديم مقاربة نقدية للمنهجية النصوصية (5) التي يعتمدها الطرف السلفي، وللمنهجية الإسقاطية التي يتبناها بعض «التحديثيين»، والأمر يدعو إلى إبراز منهجية بديلة، وهو ما يتوجه إليه المؤلف ولكن من الواضح أن عقبات حالت دون تحقيق ذلك.
كنا أشرنا سابقاً أن الكاتب حاول إبراز مجموعة العوائق الابستمولوجية في هذا العرض والتي يتطلب تجاوزها. وهي مطالب أساسية في عمليتي العرض والتطبيق للمشروع الإسلامي في ساحة العمل السياسي العام. فوحدانية الصورة بين النص وقراءته تمثل أولى العوائق. وقد أكد العديد على خطورة هذه المسألة، ونحسب أن الوعي الإسلامي اليوم بدأ يتجه وبشكل واضح وملموس إلى الإقرار بتعدد القراءات. وإن كانت عقلية نشر الضوابط هي المهيمنة في هذا المجال. ولكن في اعتقادنا هي صورة أولية لتجاوز حالة التردد والخوف على الذات من الآخر.
أما الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل فيعود إلى التباس في الوعي بين التفصيل في تقديم المشروع الإسلامي والابتداع في الإسلام. فالبقاء في مرحلة الشعار يحقق الوحدة والكفيل بعدم السقوط في البدعة!
فالمرحلة الأولى تحافظ على طهارة وقداسة الإسلام وبالتالي على قوة الخطاب الإسلامي في مواجهة بقية الخطابات العلمانية. بينما المرحلة الثانية تجعلهم في نفس المرتبة وهو ما يفقدهم الكثير في صراعهم. وإن كان د. صالح كركر يرجع ذلك إلى غياب «العقلية المجهرية» وجمود الذهنية الجماعية ولكن لاشك أن الاعتبارات البسيكولوجية والسوسيولوجية لها دور لاينكر. ولايمكن تقديم تفسير موضوعي لهذه المسألة دون اعتمادها مع بقية الاعتبارات. ونحسب أن الاعتبارات النفسية والاجتماعية والتاريخية لم تغب كلياً عن التحليل إذ حديث الكاتب عن «قيمة العيب» و«قلق الفتنة» يصب في جوهر المسألة. ففهم آلية النقد وماهيته عند الإسلاميين خطوة ضرورة للكشف عن العقلية التي تقف خلفه والأمر يستدعي هنا تناول العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بعملية النقد بالتحليل والتفكيك والتي تعج بها الثقافة الشعبية والتي للأسف الشديد لاتزال تأسر الوعي الإسلامي والعربي عموماً. وبما أننا نؤكد على المجال السياسي أكثر من غيره فتجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة قراءة مدونات السياسة الشرعية والآداب السلطانية، لأن باكتشاف بعض مفاعيلها في العقل العربي والإسلامي اليوم يمكن تجاوز الكثير من السلبيات التي تعج بها حياتنا. وللحقيقة يعد كتاب د. كمال عبد اللطيف الأخير من أفضل ما نُشر في هذا المجال. وكما لاحظ د. عبد اللطيف أنه في «أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية» (6) ، خاصة وأن الكتابة السياسية في نظام الآداب السلطانية: «كتابة تنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر العامة من مغبة نقد السلطة أو الخروج عليها. كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر، بحجة المحافظة على النظام، والتغلب على أزمنة الفتن التي تزهق فيها الأرواح، وتُمتحن فيها الرسالة التي تحملها الأمة وترعاها السلطة» (7) .
وهذه الكتابة هي المَعين الأساسي للفكر السياسي الإسلامي المعاصر. لذلك فإعادة قراءة الآداب السلطانية مهمة آنية لاغنى للمتتبع للفكر الإسلامي المعاصر من إنجازها، ودون ذلك لايستطيع فهم الكثير مما يروج في هذه الساحة.
تبقى مسألة أخيرة لابد من الاتيان عليها والتي حظيت في تقديرنا بالتحليل القيم من طرف الأستاذ توفيق السيف، وهي مسألة التكفير والتي يعتبرها في صورتها الحديثة «هي انعكاس لضيق إطارات التعبير عن الذات، أو اليأس من تحقيق الأهداف بالطرق السلمية، أو القلق من العجز عن الجدل المفتوح»، ولكن لابأس هنا من إضافة بعض الأسباب الدافعة لظهور هذه الموجة والتي أجملها د. رضوان السيد في (8) :
1ـ القلق الشديد على الهوية ورموزها من الحداثة العصرية اللادينية.
2ـ سرعة تحول أولئك الإسلاميين إلى الحزبية والسرعة النسبية لتبلور الإسلام السياسي.
3ـ الصراع على المرجعية.
بينما يرى د. صالح كركر بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين: 1ـ التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير.
2ـ الصفة السياسية والحزبية.
وفي هذه الأخيرة يقول كركر: «والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعانا نفسها فيýأشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته» (9) .
وتبقى الأسئلة التي تثيرها مقاربة الأستاذ توفيق السيف مفتوحة وتبقى الحاجة إلى إعادة قراءته ومعاودتها ضرورة ملحة.
الهوامش:
1)ـ ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة التونسية للتوزيع. د. ت. ص170.
2)ـ السيف، توفيق، الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق، بيروت، دار الجديد، ط1، 2000، ص126.
3)ـ كركر، صالح، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، فرنسا، 1998، ص19.
4)ـ المصدر نفسه، ص16.
5)ـ في هذه المسألة انظر، صافي، لؤي، إعمال العقل، دمشق، دار الفكر، ط1، 1998، خاصة الفصل الثالث من الباب الثاني.
6)ـ عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1999م، ص270.
7)ـ المصدر نفسه، ص266ـ267.
8)ـ السيد، رضوان، قراءة النص وتوظيفاته السياسية والثقافية (1)، في «السفير» يوم 7/10/99، ص19.
9)ـ كركر، صالح، مصدر سابق، ص22.