شعار الموقع

ملف: عبد الرحمن الكواكبي في الذكرى المئوية الأولى لرحيله الإصلاحات الدينية والسياسية والوطنية في فكر الكواكبي

بسام البطوش 2004-10-15
عدد القراءات « 839 »

يعد عبد الرحمن الكواكبي (1)  واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين أسهموا في صياغة الفكر الاجتماعي (2)  العربي الحديث ، بما انطوت عليه أعماله الفكرية من اهتمام ملموس بدراسة المسائل الاجتماعية التي يواجهها المجتمع العربي الإسلامي ، وبالبحث عن الحلول المناسبة لها .

والمهمة الأساسية لهذا البحث هي توضيح ملامح الخطاب الاجتماعي في فكر الكواكبي ، اعتماداً على المصادر الأولية المتمثلة في أعماله الفكرية المنشورة (3)  . وذلك بعرض وتحليل ونقد الآراء الاجتماعية التي قدمها في أربع مسائل هامة ، هي: البحث في أسباب التخلف وأسس التقدم ، والأخلاق ، والعدالة الاجتماعية ، والمرأة .

أولاً: البحث في أسباب التخلف وأسس التقدم .

يمكننا القول بأن النقطة المركزية في فكر الكواكبي هي البحث عن إجابة للسؤال الكبير ، الذي شغل الفكر العربي الحديث ، هو: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ (4)  وقد بذلت جهود كبيرة في الإجابة على هذا السؤال ، ليس بالإمكان تتبعها أو نقدها في هذا المقام ، لكن إسهام الكواكبي كان مركزياً في هذه الجهود ، عبر ما قدمه من تحليل مستفيض لظاهرة تخلف المجتمع العربي الإسلامي في كتابيه الرائدين <<أم القرى>> (ضبط مفاوضات ومقررات مؤتمر النهضة الإسلامية المنعقد في مكة المكرمة سنة 1316هـ/1902م ، و<<طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد>> ، نشر لأول مرة في جريدة المؤيد (القاهرة) بين سنتي 1318 ـ 1320هـ /1900 ـ 1902م (5)  .

ويمكن تأطير رؤيته في هذه المسألة في محاور ثلاثة ، هي: الدعوة إلى الحرية ومقاومة الاستبداد ، والدعوة إلى العودة إلى الدين الصحيح ، والدعوة إلى الإفادة من علوم الغرب ، ورفض <<التفرنج>> .

1 ـ الدعوة إلى الحرية ومقاومة الاستبداد .

اهتم الكواكبي بإبراز مخاطر الاستبداد ، ودوره في صناعة حالة التخلف والانحطاط التي تعانيها المجتمعات العربية والإسلامية ، وقد وقف جزءاً هاماً من خطابه الإصلاحي على هذه المسألة ، والدعوة إلى الحرية; فهو يؤكد أن <<البلية فقدان الحرية ، وما أدرانا ما الحرية; هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه ، وحرّم علينا لفظه حتى استوحشناه>> (6)  . والحرية عنده أن <<يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم>> (7)  ، وهي تعني تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء ، وعدم الرهبة في المطالبة ، وبذل النصيحة ، وهي تشمل حرية التعليم ، وحرية الخطابة والمطبوعات ، وحرية المباحثات العلمية ، وتشمل العدالة بأسرها والأمن على الدين والأرواح ، والأمن على الشرف والأعراض ، والأمن على العلم واستثماره . والخلاصة فإن <<الحرية هي روح الدين>> (8)  .

وينبّه أمته إلى <<أن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته ، وإن بفقدانها تفقد الآمال ، وتبطل الأعمال ، وتموت النفوس ، وتتعطل الشرائع ، وتختل القوانين>> (9)  . ويشير إلى أن <<الأمم التي يُسعدها جدها لتبديد استبدادها ، تنال من الشرف الحسّي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أسراء الاستبداد>> (10)  . وأن سبب <<الفتور>> الذي أصاب الأمة الإسلامية ناجم عن الاستبداد ، وتحول الحكومة الإسلامية إلى حكومة مطلقة (11)  ، بالرغم من أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم ، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء ، وبحضها على الإحسان والتحابب (12)  . ويذهب إلى التأكيد بأن الشورى الدستورية هي الدواء (13)  لعلل الأمة .

وهكذا فإذا كان الاستبداد هو أساس <<الفتور العام>> أو التخلف ، فإن الحرية هي أساس التقدم . وإذا كان الاستبداد شاملاً ومتنوعاً ، فإن الحرية يجب أن تكون شاملة ، وهي الحرية النابعة من روح الدين والمنسجمة معه .

2ـ الدعوة إلى التمسك بالدين الصحيح .

انسجم الكواكبي مع دعوة حركة الإصلاح الإسلامي الحديث بزعامة الأفغاني ـ عبده ، وتأكيدها أن الدين هو القاعدة التي قام عليها المجد الإسلامي الأول ، وأن <<الخلل>> ناجم عن تخلي الأمة عن أصول الدين الصحيح ، وأن المطلوب هو فهم الدين فهماً صحيحاً في مجال العقيدة ، ورفض المعتقدات الباطلة ، كعقيدة الجبر ، والغلو في التزهيد ، والاعتقاد بأن الدنيا نقيض الآخرة (14)  . وكان حريصاً على التأكيد بأن الإسلام الذي يقود التقدم والنهوض هو الإسلام الصحيح غير المحرّف ، والبريء من البدع والأباطيل والتشويه ، نافياً أن يكون الدين الصحيح مسؤولاً عن حالة <<الفتور>> الملازم كملازمة العلة للمعلول للإسلامية (15)  . ويرفض الدعوة العلمانية إلى تحميل الدين مسؤولية التخلف ، متابعة للغرب في موقفه من الدين ، نظراً لخصوصية الإسلام وعدم منافاته للعلم والعقل والحرية ، وليس فيه سلطة دينية (كهنوت) كما في غيره ، وصالح لكل زمان وقوم ومكان ويتوافق مع الفطرة .

ويلتمس الكواكبي للغرب عذراً في موقفه العلماني ، نظراً لتجربته الخاصة ، ولجهله بالإسلام ، وعدم إطلاعه على دين صحيح ، مع يأسه من إصلاح ما لديه من دين (16)  .

ويدعو الكواكبي إلى ضرورة الاعتناء بأسلوب فهم الدين وطريقة الالتزام به ، اعتقاداً منه بأن <<الدين الموجود الآن بالنظر إلى ما ندين به لا بالنظر إلى ما نقرره ، وباعتبار ما نفعله لا باعتبار ما نقوله ، ليس هو الدين الذي تميّز به أسلافنا . . .>> (17)  ، وهو موقف صريح يحمّل المسلمين المسؤولية عن تشويه صورة الدين ، والخروج عن حقيقته ، <<ذلك أن الأخلاف تركوا أشياء من أحكامه; كإعداد القوة بالعلم والمال ، والجهاد في الدين ، والأمر بالمعروف ، وإزالة المنكر ، وإقامة الحدود ، وإيتاء الزكاة ، . . . وزاد فيه المتأخرون بدعاً وتقليداً وخرافات ليست منه>> (18)  .

ويبرز الكواكبي داعياً المسلمين إلى نظر جديد في دينهم ، <<نظر من لا يحفل بغير الحق الصريح ، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات>> ، مؤكداً أن الحاجة قائمة <<إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين البريء من حيث تمليك الإرادة ، ورفع البلادة عن كل ما يشين ، المخفف شقاء الاستبداد والاستعباد ، المبصّر بطرائق التعليم والتعلم الصحيحين ، المهيء قيام التربية الحسنة واستقرار الأخلاق المنتظمة>> (19)  .

وهو يؤكد على قضية غاية في الأهمية ، عندما يعيب على <<الأمم المنحطة>> اعتقادها بأن انحطاطها ناجم عن <<تهاونها بأمور دينها>> ، منبهاً إلى أن هذا غير كاف إذا لم تتنبه هذه الأمم إلى حقيقة أخرى أكثر أهمية وهي أن الدين <<بذر>> لا ينمو في بيئة الاستبداد الذي يُفسد الخُلق والدين ، موضحاً أن <<الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقاً فطرية لم تفسد; فينهض كما نهضت الإسلامية بالعرب ، تلك النهضة التي نتطلبها منذ ألف عام عبثاً>> . وناصحاً <<الأمم المنحطة>> بأن تلتمس دواءها من طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه (20)  .

الدعوة إلى الإفادة من علوم الغرب ، ورفض <<التفرنج>> .

يبدو الكواكبي حريصا ومؤمناً بضرورة التواصل الحضاري الفاعل والواعي مع حضارة الغرب وسائر الحضارات العالمية . وظهر موقفه من الغرب ـ كموقف سائر المفكرين الإسلاميين في مرحلته ـ مشوباً بالحيرة ، فالغرب يثير الإعجاب كما يثير الغضب ، ويثير الكره كما يثير الاحترام . ولم يبخل الكواكبي بإبداء الاحترام لحضارة الغرب ، والحرص على الإفادة من منجزاتها ، وهو عندما يرفض مادية الغرب والروح العدوانية الاستعمارية لديه ، وعندما يرفض بعض أخلاقياته ، واستعلاء الغربي على الشرقي (21)  ، فإنه لا ينكر فضائل الغرب ، وتقدمه الاجتماعي والعلمي والسياسي ، وتقدمه في مجال الحريات الفردية والعامة (22)  ، وفي تنظيم العلاقة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم ، وما أنجزه من إصلاح وتجديد دينيين . وهذا الإعجاب بمنجزات الغرب يقوده إلى القول مقارناً <<أن الشرقي ابن الماضي والخيال ، والغربي ابن المستقبل والجد>> (23)  .

لكن الكواكبي قادر على التفريق بين الإعجاب بمنجزات الغرب وبين داء التبعية له ، فهو يؤمن بخطورة <<التفرنج>> الذي بدأ يسري بين الناشئة في بلادنا ، وراح ينادي بأن <<من أقبح آثار هذا الخور نظر هم الكمال في الأجانب كما ينظر الصبيان الكمال في آبائهم ومعلميهم ، فيندفعون لتقليد الأجانب وأتباعهم فيما يظنونه رقة وظرافة وتمدناً>> (24)  ، وحذّر من آثار الغزو الثقافي ، شيوع <<التفرنج>> بين الناشئة ، إذ أن <<الناشئة المتفرنجة>> لا تصلح لشيء ، وأن الناشئة إذا ابتلوا بداء <<التفرنج>> يتحولون لمجرد أتباع ، وهو يرمي هنا إلى خطورة تحول الأمة مستقبلاً إلى التبعية (25)  .

وهو يناقش هذه المسألة بالحجة والدليل ، فيقول: <<ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة ، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي ، وإن تكلّف تقليده في أمر فلا يحسن التقليد ، وإن أحسنه فلا يثبت ، وإن ثبت فلا يعرف استثماره>> (26)  . والمقصود هنا هو رفض الدعوة إلى التغريب والتفرنج الكامل (27)  ، والتأكيد في المقابل على الخصوصية الحضارية ، والتمايز الثقافي بين الغرب والشرق .

ويلفت الأنظار إلى أن تقدم الغرب وتخلف الشرق ليس قدراً مقدوراً ، وطبعاً أصيلاً في كليهما ، فبالرغم من تقدم الغرب على الشرق في العلم والثروة والمنعة ، فإن تاريخ العلاقة يشير إلى تبادل في القوة والدور الحضاري القيادي <<كنا أرقى من الغرب علماً فنظاماً فقوة ، فكنا له أسياداً! ثم جاء حين من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالاً . . . ثم جاء الزمن الأخير ترقّى فيه الغرب علماً فنظاماً فقوة>> (28)  .

ويذكّر بأن الغرب قد أفاد من الإسلام ، بل إن أمم الغرب لربما يصح أن نقول قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون (29)  .

وهو عندما يعترف بتفوق الغرب في هذا العصر بالقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية ، في مقابل تخلف الشرق في هذه المجالات (30)  ، فإنه حريص على بث روح الأمل والتفاؤل في أبناء الشرق باللحاق بالغرب فـ<<الأمر مقدور ولعله ميسور ، ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد>> . وهو يعوّل كثيراً على نوعية التربية والإعداد التي تتوفر للناشئة في تحقيق حلم الشرق باللحاق بالغرب (31)  .

ويبدي الكواكبي حرصاً على حسن العلاقات مع الغرب ، ويذكّر المسلمين بأن <<أصل الإسلامية لايستلزم الوحشية بين المسلمين وغيرهم ، بل يستلزم الألفة>> (32)  .

وهذه الدعوة إلى التواصل مع الآخر الغربي ، كان من الطبيعي أن يماثلها لدى الكواكبي دعوة للتواصل مع الآخر الوطني ، فطالب بـ<<تعليم الأمة ما يجب عليها شرعاً من المجاملة في المعاملة مع غير المسلمين ، وما تقتضيه الإنسانية والمزايا الإسلامية من حسن معاشرتهم ، ومقابلة معروفهم بخير منه ، ورعاية الذمة والتأمين والمساواة في الحقوق ، وتجنب التعصب الديني أو الجنسي بغير حق>> (33)  .

وحث على تحقيق <<أصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني ، والوفاق الجنسي دون المذهبي ، والارتباط السياسي دون الإداري>> كما فعلت أمم أخرى ، وهي دعوة إلى تغليب عناصر الوحدة الوطنية على الخلافات الدينية والجنسية والمذهبية ، وإلى منح الأقليات استقلالها الإداري في كنف الوحدة السياسية الجامعة . وهذه الدعوة المتقدمة للتغلب على الإشكالات الطائفية التي استغلها الأجانب أبشع استغلال فهمها البعض فهماً رغائبياً ، انتقائياً ، أيديولوجياً ، على أنها دعوة للعلمانية ، وفصل الدين عن الدولة ، لقوله: <<دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا بالفصحاء ، ونتراحم بالإخاء ، ونتواسى في الضرّاء ، ونتساوى في السرّاء ، دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ، ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط ، دعونا نجتمع على كلمة سواء>> (34)  .

في حين أنها دعوة بريئة إلى تغليب موجبات الوحدة الوطنية على دواعي الاختلاف ، وإذا ما نظر إليها في السياق العام لفكر الكواكبي المؤمن بالإسلامية نظاماً للحكم ، تبدو بعيدة كل البعد عن تفسيرات المفكرين والباحثين العلمانيين العرب .

ثانياً: مسألة الأخلاق والآفات الاجتماعية .

فإذا كان جوهر المشروع الفكري للكواكبي هو مقاومة الاستبداد ، فإن النقطة المركزية في خطابه الاجتماعي هي مقاومة <<الاستبداد الاجتماعي>> ، فقد أولاه جلّ عنايته ، واهتم بتوضيح أسبابه ، ومظاهره الاجتماعية ، ونتائجه على الفرد والمجتمع ، وعلى الأخلاق العامة والفردية .

وقد عبّر عن اعتقاد راسخ بأن الاستبداد الاجتماعي ينحط بالحياة الاجتماعية للأمة ، ويحدث الخلل في العلاقة بين الفرد والجماعة ، كما أن الأمة تترقى أو تنحط بترقي أو انحطاط أفرادها (35)  . فالاستبداد عظيم التأثير في تشكيل الأخلاق الفردية والعامة ، ويساهم في إضعاف الأخلاق الحسنة بل ويفسدها . ويقتل في <<الأسير>> أي في الإنسان الخاضع للاستبداد إنسانيته ، ويصرفه إلى <<الملذات البهيمية>> لا يعرف غيرها ، ويحرمه من التعرف على معاني الحياة الأدبية أو الحياة الاجتماعية (36)  .

فالاستبداد يدمر المنظومة الأخلاقية والقيمية ، ويعبث بالمعايير الأخلاقية ، فيسوق <<الأسرى>> إلى الاعتقاد بأن <<طالب الحق فاجر ، وتارك حقه مطيع ، والمشتكي المتظلم مفسد ، والنبيه المدقق ملحد ، والخامل المسكين صالح أمين>> . ويقودهم إلى متابعة الاستبداد في <<تسمية النصح فضولاً ، والغيرة عداوة ، والشهامة عتواً ، والحميّة حماقة ، والرحمة مرضاً ، كما يجارونه في جعل النفاق سياسة ، والتحيّل كياسة ، والدناءة لطف ، والنذالة دماثة (37) >> ، والاستبداد يحمي الفساد الأخلاقي والفاسدين لأنه يعطل ضابطاً أخلاقياً هاماً ، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مقدور عليهما في عهد الاستبداد (38)  .

والتشديد على دور الاستبداد في تشكيل الأخلاق ، لا يجعل الكواكبي غافلاً عن عوامل أخرى تفعل فعلها في عملية التشكيل هذه ، فالأخلاق <<أثمار بذرها الوراثة ، وتربتها التربية ، وسقياها العلم ، والقائمون عليها رجال الحكومة>> (39)  . ومن هنا ، فالعوامل متداخلة ومتكاملة ، بين الوراثي والتربوي والتعليمي ، والاجتماعي والسياسي . لكنه يعتقد بصعوبة القيام بمهام التربية في ظل الاستبداد ، بل ويتحدث عن استحالة قيام الأسرى بواجبها التربوي في ظل الاستبداد المسؤول عن إنتاج <<الأسرى>> (40)  .

وبالرغم مما يطرحه الكواكبي من فكر ثوري المضمون في تشريحه للاستبداد ، وتعريته والتوعية بمخاطره ، فإنه لا ينادي بالثورة سبيلاً لمقاومته ولصناعة التغيير المنشود . وعبّر عن إيمان عميق بجدوى سلوك سبيل الإصلاح الأخلاقي الذي سار عليه الأنبياء ، والمعتمد على مبادىء التوحيد ، والإيمان ، وتنوير العقول ، وتعزيز الإرادة الإنسانية ، والتعليم والتربية التهذيبية القائمة على الإقناع ، <<وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسدوا منابع الفساد>> . وهكذا فهو يختلف مع <<قادة العقول في الغرب>> الذين يهملون العامل الديني في الإصلاح الأخلاقي (41)  . ويؤكد بأن <<الاستبداد لا يُقاوم بالشدة ، إنما يُقاوم باللين والتدرج>> (42)  .

ثالثاً: قضية المرأة .

قدم الكواكبي رؤية تقليدية في قضية المرأة ، تكشف عن حرصه على سلامة البناء الأسري ، وسلامة الأخلاق العامة للمجتمع ، والخشية من الفتنة والفساد ، كما تكشف عن موقف خاص من الدعوة المتنامية لإعادة النظر في مكانة المرأة ودورها في المجتمع العربي الإسلامي ، لكنها رؤية لا تخلو من الطرافة والتنذر ، وشيء غير قليل من الارتباك .

ففي الوقت الذي كان فيه الفكر العربي منشغلاً في الجدل حول مكانة المرأة ودورها الاجتماعيين ، وعلى قاعدة التشكيك في أو الدفاع عن قدراتها الجسدية والعقلية (43)  . كان الكواكبي يؤكد بطرافة وتندّر على فكرة سيطرة النساء على الرجال ، وتحكمهن في أخلاقهم وحياتهم ، نافياً ما يشاع عن أن المرأة ضعيفة مسكينة مسخّرةلإرادة الرجل (44)  ، ويلفت النظر إلى أنه عندما <<أمرت الشريعة برعاية الكفاءة في الزوج>> كان ذلك رحمة بالرجل ، ولذلك فإن أكثر الأئمة المجتهدين <<أغفلوا لزوم تحرّي الكفاءة في جانب المرأة للرجل ، وأوجبوا أن يكون هو فقط كفؤاً لها كي لا تهلكه بفخارها وتحكمها>> (45)  .

لكنه يعتقد من جانب آخر بضرورة تحرّي الكفاءة في المرأة لأسباب تتعلق بـ<<التخير للاستسلام (الطاعة) والتخيّر لتربية النسل ، وللتساهل في ذلك دخل عظيم في انحلال الأخلاق>> (46)  .

ولما كان الكواكبي لا يضع المرأة في حالة متخلفة عن الرجل في الكفاءة والقدرة ، فقد كان منتظراً منه أن يدعم فكرة تفعيل دورها في الحياة الاجتماعية العامة ، بما يمكّن المجتمع من الإفادة من هذه القدرات والكفاءات ، لكنه راح يهاجم النساء وعدّهنّ <<النصف المضرّ>>! لقلة مشاركتهن الرجال في أعباء الحياة ، وبقائهن عالة على النصف الآخر ، وأنهن اقتسمن أعمال الحياة مع الذكور قسمة ضيزى ، وتحكمنّ بسنّ قانون عام ، جعلن به نصيبهن هيّن الأشغال بدعوى الضعف . وصنف النساء بحسب مشاركتهن الرجال في أعباء الحياة ، فقدّم المرأة البدوية ثم الحضرية (الريفية) على المدنية المتبطّلة ، ورأى في الأخيرة عاملاً سلبياً في الحياة العامة (47)  .

وهكذا يبدو مؤيداً لعمل المرأة ، ومشاطرتها الرجل أعباء الحياة ، ليس لدواعٍ تتعلق بتحرير المرأة ، ولكن لأسباب تتعلق بإنصاف الرجل . لكن الكواكبي لا يوضح دور الرجل والمجتمع عامة في تحويل النساء إلى <<النصف المضرّ>> ، ولا يشرح الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى ذلك ، ويكتفي بتحميل النساء مسؤولية سنّ هذا القانون العام في اقتسام أعباء الحياة؟! والغريب أنه يعيب على المدنية الغربية التي تمتعت فيها المرأة بدرجة أعلى في المشاركة في الحياة العامة ، فيقول: <<وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تُسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاماً للنساء>> (48)  .

ويبدو خطاب الكواكبي مشوباً بالغموض والتناقض في هذه المسألة ، والابتعاد عن التناسق المنطقي ، إذ نجده بعد هذا كله ، وفي ظل تعالي الدعوة إلى <<تحرير المرأة>> ، وفي أجواء صدور كتابي قاسم أمين <<تحرير المرأة>> 1899م ، و<<المرأة الجديدة>> 1900م ، نجده وهو يدافع عن الحجاب الشرعي ، ويرفض الاختلاط غير الضروري للمرأة بالرجل ، ويرفض الخلوة بينهما ، راح يدافع عن <<الحجب>> الاجتماعي للمرأة عن المجتمع ، داعياً إلى بقاء النساء في البيوت ، موضحاً أن تجاوز هذه الحدود لا يتحصل منه إلا <<الفجور>> ، إذ يقول: <<وما قدّر دهاء النساء مثل الشريعة الإسلامية ، حيث أمرت بالحجب والحجر الشرعيين حصراً لسلطتهن وتفرغهن لتدبير المنزل ، فأمرت باحتجابهن احتجاباً محدوداً بعدم إبداء الزينة ملرجال الأجانب ، وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو لغير لزوم . وأمرت باستقرارهن في البيوت إلا لحاجة ، ولاشك أنه ماوراء هذه الحدود إلا فتح باب الفجور ، وما هذا التخدير إلا مرحمة بالرجال وتوزيعاً لوظائف الحياة>> (49)  .

وبهذا لم يعد واضحاً ما هو المقصود بتوزيع وظائف الحياة ، وما هي وظيفة المرأة ، فإذا بقيت في البيت اعتبر الكواكبي ذلك قسمة ضيزى وقانوناً جائراً من عمل النساء ، وإذا خرجت للعمل خارج البيت عدّ ذلك باباً للفجور ينبغي أن لا يُفتح؟! .

والكواكبي يقف موقفاً واضحاً من مسألة تعليم المرأة ، وهو موقف متقدم ، فعندما كانت الأوساط الإسلامية تناقض في مختتم القرن التاسع عشر هذه المسألة ، وتتردد بعض الأصوات المتخوّفة من تعليم المرأة القراءة والكتابة ، مما قد يفتح باباً للمفسدة ، فإن الكواكبي ، ناصر فكرة تعليم المرأة ، ورد على هؤلاء المتخوفين <<ربما كانت العالمة أقدر على الفجور من الجاهلة ، ولكن الجاهلة أجسر عليه من العالمة>> ، وعليه فإن إمكانية وقوع الفجور من <<الأجسر>> أكثر منها لدى <<الأقدر>> (50)  . وقد وافقه الشيخ محمد رشيد رضا في هذه الرؤية (51)  .

رابعاً: العدالة الاجتماعية .

عرف الفكر الإسلامي الحديث حديثاً في مضامين متعلقة بقضية العدالة الاجتماعية ، مثل التفاوت بين الفقراء والأغنياء ، والعدالة والمساواة ، وتوزيع الثروة ، ومشكلات الملكية ، والفئات المحرومة (52)  ، لكن الفكر الإسلامي الحديث لم يشهد تداولاً لمصطلح العدالة الاجتماعية (Social Justice) (53)  ، وإن كان موروثنا الحضاري ، المتصل بمبادىء الإسلام الحنيف ، عرف هذه المبادىء والمضامين ، وإن لم يعرف المصطلح بذاته .

وقد قدم الإسلام منظومة متكاملة من المبادىء الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بتوفير العدل والمساواة ، وتكافؤ الفرص ، والعيش الكريم لكل فئات المجتمع ، لكن هذه المبادىء العامة كانت تحتاج لجهد الفقيه والمشرّع القادر على استنباط المعالجات الكفيلة بحل مشكلات الواقع ، إضافة إلى السلطة الراغبة في تطبيق هذه المبادىء (54)  .

انطلق الكواكبي في معالجة هذه المسألة من تحليله لظاهرة الاستبداد الاجتماعي ، واعتبرها إحدى إفرازت الاستبداد ، وانتقد مظاهر التفاوت الاجتماعي ـ الاقتصادي في المجتمع العربي الإسلامي ، وردّها إلى جذر الاستبداد الاجتماعي ، وأكدّ أن قلة من رجال السياسة والدين يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة ، يليهم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجّار الشرهون والمحتكرون ، وأمثال هذه الطبقة <<يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصنّاع والزرّاع>> ، وبهذا فإن الظلم يقع على كاهل الصنّاع والزرّاع (55)  ، وهو يرفض الظلم والتفاوت ، لأن الإنسانية تقتضي <<أن يأخذ الراقي بيد السافل ، فيقربه من منزلته ، ويقاربه في معيشته ،‎ويعينه على الاستقلال في حياته>> (56)  .

و<<العدالة>> هي البديل المطلوب للتفاوت ، والعدل في نظره هو التسوية بين الناس (57)  ، لكنه لا يُقدم رؤية متكاملة للتسوية هذه المرادفة للعدل ، وإن كان في مواضع أخرى تحدث عن مجرد التقريب بين الأغنياء والفقراء ، دون استهداف إلغاء التفاوت بينهما كلياً .

وفي هذا السياق فصّل في تحليل ظاهرة الفقر ، ومخاطرها الاجتماعية والأخلاقية ، وعبّر عن اعتقاده بأن الفقر هو الداء العام ، كما أنه <<قائد كل شر ، ورائد كل نحس>> ، وهو <<أبو المعائب>> (58)  .

وفي مسألة الثروة ، فإنه يقول بأهمية توفر الفرد والجماعة على عناصر القوة ، وفي طليعتها قوة المال ، فهو ـ أي المال ـ عصب الحياة (59)  . لذلك فهو ينتقد المبالغة في <<التزهيد>> في الثروة ، مما يؤدي إلى التثبيط ، ويقرن رفضه للتزهيد في المال ، والثروة ، والدنيا بعامة ، بحرصه على ضرورة ضبط تنامي الثروة الفردية ، وأهمية توفر وسائل مراقبة تحصيل الثروة والاعتناء بضمان شرعية أبواب تحصيلها بالوسائل الشريفة والعمل المنتج (60)  .

وتحدث الكواكبي عن الاشتراكية وعن <<الانتظام العام>> و<<الاشتراك العمومي>> كحل لمشكلة التفاوت الاجتماعي ، وعرّف بمبادىء المدارس الاشتراكية الأوروبية ، على أنها <<تقصد حصول التساوي أو التقارب في الحقوق والحالة المعاشية بين البشر ، وتسعى ضد الاستبداد المالي ، فتطلب أن تكون الأراضي والأملاك الثابتة وآلات المعامل الصناعية الكبرى مشتركة الشيوع بين عامة الأمة ، وأن الأعمال والثمرات تكون موزّعة بوجوه متقاربة بين الجميع ، وأن الحكومة تضع قوانين لكافة الشؤون حتى الجزئيات وتقوم بتنفيذها>> (61)  . ولم يُبد أي اعتراض على هذه المبادىء ، لكنه أبدى قدراً من غير التفاؤل بفرص نجاح التطبيق الاشتراكي ، برغم اقتناعه بفائدة الاشتراكية ، إذ أنها في عرفه من أبدع ما يتصوره العقل ، وهذا الفشل مرتبط بـ<<صعوبة التحليل والتركيب بين الصوالح والمصالح الكثيرة المختلفة>> (62)  . لقد ذهب الدكتور رفعت السعيد بعيداً في الحديث عن اشتراكية الكواكبي ، ودوره في جعل المصريين يتقبلون الاشتراكية لكونه ربطها بالإسلام ، ولأنه خالف شبلي شميل في الهجوم على الدين . وفي رأي الدكتور محمد عمارة فإن جهود الكواكبي في هذا المجال نابعة من فهمه للإسلام نفسه (63)  .

ويعبر بيأس وتندّر بأن المآل سيكون للرأسمالية (التمول) فيكون الإنسان حراً مستقلاً في شؤونه كأنه خلق وحده ، وتكون العائلة كأنها أمة وحدها ، وتكون القرية أو المدينة مستقلة وكأنها قارة بذاتها لا علاقة لها بغيرها ، وتكون القبائل و الأقاليم كأنها أفلاك كل منها مستقل في ذاته (64)  . ومن الواضح درجة حنقه على ما تشيعه الرأسمالية من روح فردية مفرطة في الأنانية . وليس هذا فقط ما يأخذه على الرأسمالية ، فإلى جانب مخاطر <<التمويل>> أي تراكم الثروة الناجمة عن النظام الرأسمالي ، وما يُفضي إليه من احتكار ومزاحمة للصنّاع والعمال والضعفاء ، فإن الرأسمالية تقوم على الربا الذي به تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس ، ويسمح بتحصيل الثروة وتراكمها بطرق غير مشروعة (65)  .

والكواكبي يُقدم الرؤية الإسلامية لحل مشكلة التفاوت الاجتماعي ، متمثلة فيما أسماه <<الإسلامية>> أي النظام الإسلامي المنبثق من تعاليم القرآن ، المؤكدة على العدل والمساواة والشورى ، والمتضمن فكرة <<الاشتراك العمومي المنظم>> ، فقد أحدث الإسلام سنة الاشتراك على أتم نظام ، ذلك أن الإسلامية وضعت للبشر قانوناً مؤسساً على قاعدة: إن المال هو قيمة الأعمال ولا تجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع (66)  ، والإسلامية <<مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم ، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء ، وبحضها على الإحسان والتحابب>> (67)  ، وهي تقتضي ما تقتضيه العدالة المطلقة بأن <<يؤخذ من مال الأغنياء ويُرد على الفقراء ، بحيث يحصل التعديل ، ولا يموت النشاط للعمل>> (68)  ، وهو يقصد فريضة الزكاة التي جاءت لتجعل <<لفقراء الأمة وبعض المصاريف العمومية نصيباً غير قليل من مال الأغنياء ، بحيث إذا عاش المسلمون مسلمين حقيقة أمنوا الفقر ، وعاشوا عيشة الاشتراك العمومي المنتظم التي يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن الإفرنجي ، وهم لم يهتدوا بعد لطريقة نيلها>> (69)  .

ويأسف الكواكبي لكون الحكومات الإسلامية تخلّت عن حكمة الشريعة في فرض الزكاة ، فصارت <<تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها للأغنياء ، وتحابي بها المسرفين والسفهاء>> (70)  .

والإسلامية ـ عنده ـ لم تكتف بفرض الزكاة حلاً لمشكلة الفقر ، وتحقيقاً للعدل ، فإنها اقتضت الملكية العامة للأرض الزراعية <<يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط ، وليس عليهم غير العشر أو الخراج>> (71)  ، كما أنها تقضي ـ برأيه ـ بتحديد الملكية الزراعية كأحد الحلول لمشكلة تراكم الثروة وتفاقم معضلة التفاوت الاجتماعي ، وعليه فهو مؤيد للتجارب العالمية في تحديد الملكية الزراعية ، وينادي بتقليدها (72)  .

والإسلامية عندما قررت هذه المبادىء أو القواعد الشرعية الكلية ، فإنها قد <<أناطت تنفيذها بالحكومة>> وهذا ما تطالب به الجمعيات الاشتراكية في هذا العصر ، وهكذا فإنه يقرر مسؤولية الحكومة في مجال تطبيق هذه المبادىء (72)  ، وهو يفصّل في واجبات الدولة نحو المجتمع ، في المجالات التربوية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والثقافية ، ومع ذلك فهو مؤمن بأن دور الحكومة هو أن تلاحظ كل شؤون المرء ، ولكن من بعيد ، كي لا تُخلّ بحريته واستقلاله الشخصي (74)  .

فالحكومة العادلة ـ في معتقده ـ ترتقي بالاستقلال الشخصي للفرد ، وتوازن بين مصالح الفرد والجماعة ، وحقوق وواجبات كل منهما <<حتى أن كل فرد يعيش كأنه خالد بقومه ووطنه ، وكأنه أمين على كل مطلب ، فلا هو يُكلف الحكومة شططاً ولا هي تهمله استحقاراً>> (75)  . وهذا التوازن قد يرتقي <<إلى درجة أن يصير كل فرد من الأمة مالكاً لنفسه تماماً ، ومملوكاً لقومه تماماً>> (76)  .

الخاتمة .

تكشف هذه الدراسة للخطاب الاجتماعي في فكر الكواكبي عن إسهامه البارز في صياغة الملامح العامة للفكر الاجتماعي العربي الحديث ، وتبرز قدرته على تقديم خطاب اجتماعي قادر على الغوص بالتحليل والدرس والتعليل في أعماق القضايا الاجتماعية التي تطوق عنق المجتمعات العربية الإسلامية ، فتكاد تخنقها ، وتمنع عنها الحد الأدنى من مقومات الحياة الحقيقية .

ومن الواضح أننا أمام مفكر إسلامي صاحب رؤية عميقة ، وخطاب نابع من فهم عميق لرسالة الإسلام ، وتطورات العصر وتحدياته ، كما أننا أمام مفكر ومصلح اجتماعي يقدم تحليلاً معمقاً لمشكلات الأمة وعللها ، ولا يقف عند حد الوصف والتشخيص ، بل يجرؤ على تقديم المعالجة وابتكار الحلول الإبداعية غير التقليدية لتحديات العصر غير التقليدية بالتأكيد .

ويكشف هذا البحث عن إيمان الكواكبي العميق بالفكرة الإسلامية ، مما يثير الدهشة حول محاولات عدد كبير من الباحثين في الفكر العربي الحديث <<للسطو>> على مشروعه الفكري ، ومحاولة تصنيفه لحساب هذا التيار الفكري أو ذاك ، فالقوميون يحسبونه رائداً للفكر القومي العربي ، واليساريون يعدّونه رائداً للفكر الاشتراكي العربي الحديث ، والليبراليون التغريبيون يدرجونه في عداد دعاة التغريب والتحررية الليبرالية ، في حين يحتكره العلمانيون لصالحهم ، ويتمسحون ببعض الكلمات هنا أو هناك في كتاباته ليجعلوه رائداً للدعوة العلمانية وفصل الدين عن الدولة ، ويقف الإسلاميون موقف الحيرة والارتباك في التعامل مع رموز الفكر الإصلاحي الحديث ، ومنهم الكواكبي ، وتنطلي عليهم الخدعة ، فينساقون وراء التصنيفات المغرضة والأيديولوجية التي يقدمها الآخرون ، ويبدأون بمهاجمة رموز الإصلاح الحديث ، برؤية جزئية لا تخلو من السطحية .

والحقيقة أن الفكر العربي الحديث بحاجة إلى إعادة قراءة ، بهدف تحريره من عمليات <<السطو>> الأيديولوجي ، والتصنيف الرغائبي ، والقراءات المتجزئة ، كما هو بحاجة إلى مزيد من الدراسات في مجال الفكر الاجتماعي الذي عانى طويلاً من الإهمال .

وتظهر هذه الدراسة أن جوهر الفكر الاجتماعي للكواكبي هو اعتباره <<الاستبداد>> أساساً لكل العلل والمشكلات الاجتماعية وغير الاجتماعية ، كما أنه يُقدم <<الإسلامية>> كنظام حياة ، وكمشروع فكري قادر على الخروج بالأمة من واقعها المتخلف .

وهذا لا يمنعنا من القول بأن الدارس لفكر الكواكبي يصادف بعض الصعوبات الناجمة عن غموض بعض العبارات ، ودلالاتها ، مما يسمح بتعدد الاجتهادات واختلاف القراءات . وهكذا فإن كتابات الكواكبي قد تبدو قادرة على إثارة التساؤلات أكثر من قدرتها على تقديم الإجابات .

الهوامش

*جامعة الزرقاء الأهلية ـ الأردن

(1) ولد عبد الرحمن الكواكبي في حلب 1848 في أسرة عريقة ، تولت نقابة الأشراف ، ولها مدرسة تحمل اسمها <<المدرسة الكواكبية>> ، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها . تلقى تعليمه في <<المدرسة الكواكبية>> على الطريقة الأزهرية ، وتعلّم فيما بعد الفارسية والتركية ، واعتمد في المطالعة الذاتية في تثقيف ذاته ، عمل في الصحافة ، فأنشأ جريدة <<الشهباء>> ثم <<الاعتدال>> في حلب ، وعمل في القضاء الشرعي ، ودواوين الحكومة ، تصدى لمظالم الإدارة الحكومية ، وتعرض للمحاكمة بسبب مواقفه ، واضطر إلى الهجرة إلى مصر ، وفيها نشر كتابيه <<طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد>> ثم <<أم القرى>> ، وتوفي فيها عام 1902م . انظر أحمد أحمين ، زعماء الإصلاح في العصر الحديث ، ص249 ـ 279 .

(2) حول مفهوم الفكر الاجتماعي ، انظر أحمد زكي بدوي ، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ، مكتبة لبنان ، بيروت ، ط2 ، 1986 ، ص398 . إحسان محمد الحسن ، موسوعة علم الاجتماع ، الدار العربية للموسوعات ، بيروت ، ط1 ، 1999 ، ص489 ـ 490 . د . أحمد بيومي ، تاريخ التغير الاجتماعي ، دار المعرفة ، الاسكندرية ، 1995م ، ص20 .

(3) قام د . محمد عمارة بنشر <<الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي>> مع دراسة وتحقيق قدم لهذه الأعمال ، المؤسسة العربية للدراسة والنشر ،‎بيروت ، ط1 ، 1975م . ثم قام محمد جمال طحان بنشر <<الأعمال الكاملة للكواكبي>> مع دراسة وتحقيق ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، ط1 ، 1995 . وقد اعتمدت في هذه الدراسة على <<الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي>> من إعداد وتحقيق الطحان ، وذلك نظراً لتوفر هذه الطبعة بين يدي ، وليس لأية اعتبارات منهجية على الإطلاق . علماً بأنه قد سبق لي ودرست الكواكبي في الطبعة التي أعدها د . عمارة .

(4) رضوان السيد ، <<عصر النهضة العربية>>: <<الأسئلة الكبيرة والإجابات الحائرة>> ، مجلة الفكر العربي ، بيروت ، ع39 ـ 40 ، حزيران (يونيو) ، تشرين أول (اكتوبر) 1985 ، ص4 ـ 8 .

(5) عبد الرحمن الكواكبي ، الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي ، إعداد وتحقيق محمد جمال طحان ، مركز دراسات الواحدة العربية ، بيروت ، ط1 ، 1995 ، ص47 ـ 49 ، وسيشار إليه فيما بعد ، الكواكبي ، أم القرى ، أو الكواكبي ، طبائع الاستبداد .

(6) الكواكبي ، أم القرى ، ص291 .

(7) المصدر نفسه ، ص291 .

(8) نفسه ، ص291 .

(9) نفسه ، ص291 .

(10) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص522 .

(11) الكواكبي ، أم القرى ، ص289 .

(12) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص450 .

(13) نفسه ، ص430 .

(14) جمال الدين الأفغاني ، محمد عبده ، العروة الوثقى ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1970م ، ص92 ، والكواكبي ، أم القرى ص287 .

(15) الكواكبي ، أم القرى ، ص276 .

(16) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص454 ـ 456 ، ص461 ، ص507 ـ 509 . أم القرى ، ص446 ، 447 .

(17) الكواكبي ، أم القرى ، ص310 .

(18) نفسه ، ص310 .

(19) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص493 .

(20) نفسه ، ص494 .

(21) نفسه ، ص479 ، ص480 ، ص491 ، ص515 ، 516 .

(22) الكواكبي ، أم القرى ، ص307 ـ 308 ، طبائع الاستبداد ، ص457 ، ص515 .

(23) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص492 ـ 493 .

(24) الكواكبي ، أم القرى ، ص372 .

(25) م .ن ، ص373 .

(26) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص492 .

(27) إن الدعوة إلى التغريب والتفرنج الكامل لم تأخذ مداها الكامل في الفكر العربي الحديث ، إلا بعد ربع قرن وما يزيد على وفاة الكواكبي ، لكنه كان يستشعر إرهاصات هذه الدعوة ، ويحذر من مخاطرها . وقد برز في مقدمة دعاة التغريب كل من أحمد لطفي السيد ، ومحمد حسين هيكل في الشطر الأول من حياته ، ومنصور فهمي في بدايات مشواره الفكري ، وطه حسين ، ومحمد عزمي ، وسلامة موسى ، وأمير بقطر وغيرهم .

(28) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص518 .

(29) نفسه ، ص447 .

(30) نفسه ، ص518 .

(31) نفسه ، ص518 ـ 519 .

(32) الكواكبي ، أم القرى ، ص401 .

(33) نفسه ، ص384 .

(34) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص515 .

(35) نفسه ، ص505 .

(36) نفسه ، ص484 .

(37) الكواكبي ، أم القرى ، ص372 . طبائع الاستبداد ، ص485 ، ص499 .

(38) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص487 .

(39) نفسه ، ص486 .

(40) نفسه ، ص501 .

(41) نفسه ، ص490 ـ 491 .

(42) نفسه ، ص529 ـ 534 .

(43) لقد شكك شبلي شميل (1853م ـ 1917م) في صحة القول بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة في القدرات والطاقات والمكانة والدور ، وكتب عدداً من المقالات حول هذه المضامين نشرها في مجلة المقتطف عام 1886م ، يقول فيها <<بتفوق الرجل على المرأة في القدرات الجسدية والعقلية>> ، شبلي شميل . مجموعة الدكتور شبلي شميل ، مطبعة المعارف ، مصر ، د .ت ، د .ط ، ج2 ، ص92 ـ 104 . وتابعه عدد كبير من المفكرين العرب في هذا الموقف ، وظل الجدل محتدماً لفترة طويلة ، ولربما لهذه اللحظة حول هذه المسألة ، ولقد كان العقاد قد شارك في هذه المناقشات ، ولم يبتعد موقفه عن موقف الشميل ، عباس محمود العقاد ، مطالبات في الكتب والحياة ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ص161 ـ 173 ، العقاد ، <<المرأة الشرقية>> ، الهلال ، م33 ، ج2 ، أول نوفمبر 1924 ، ص143 ـ 145 .

(44) الكواكبي ، أم القرى ، ص370 .

(45) نفسه ، ص371 .

(46) نفسه ، ص371 .

(47) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص474 ـ 475 .

(48) نفسه ، ص475 .

(49) الكواكبي ، أم القرى ، ص371 .

(50) الكواكبي ، أم القرى ، ص370 .

(51) محمد رشيد رضا ، <<تعليم النساء>> ، المنار ، م2 ، ع21 ، 28 ربيع الأول 1317هـ ، 15 أغسطس (آب) 1899م ، ص332 .

(52) تحدث رفيق العظم (1865م ـ 1925م) عن مبدأ <<التكافل العام>> بمعنى تعاون الأمة بمجموعها على حفظ الشريعة وسلامة تطبيقها ، وسيادة العدالة بين أفرادها ، ومنع الظلم بكل أشكاله ، فهو بذلك منظومة متكاملة لصيانة العدالة الاجتماعية ، وحفظ حقوق المجتمع ، والمصلحة العامة ، وحقوق الأفراد ، وكفيل بحل مشكلة <<التزاحم بين طبقات الناس>> ، انظر ، رفيق العظم ، <<الإصلاح الإسلامي بعدل القوّام أو التكافل العام>> ، المنار ، م2 ، ج6 ، 5 ذي الحجة 1316هـ ، 15 أبريل (نيسان) 1899م ، ص81 ـ 85 ، رفيق العظم ، تنبيه الأفهام إلى مطلب الحياة الاجتماعية في الإسلام ، دار الموسوعات ، مصر ، 1318هـ ، 1900م ، ص20 ـ 22 . وقد توقف الفكر الإسلامي عن استخدام مصطلحات مثل <<التكافل العام>> و<<التكافل الاجتماعي>> ، وسننتظر إلى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين حتى يبلور سيد قطب تصوراً إسلامياً للعدالة الاجتماعية . أنظر ، سيد قطب ، العدالة الاجتماعية في الإسلام ، دار الشروق ، بيروت ، القاهرة ، ط9 ، 1983م ، ص32 ـ 62 .

(53) ظهر المصطلح في المجتمعات الرأسمالية الأوروبية بعد الثورة الصناعية ، وفي ظل تفاقم المشكلات الاجتماعية أو <<المسألة الاجتماعية>> الناجمة عن اختلال العلاقة بين من يملك ومن لا يملك ، و بين الأغنياء والفقراء ، وأصحاب العمل والعمال . فجاءت الفكرة في إطار محاولات المفكرين والمصلحين الاجتماعيين في الغرب للتخفيف من سلبيات الرأسمالية ، وتقليص معاناة الفئات المسحوقة ، عبر تدخل محدود مقنّن للدولة من خلال التشريعات ، لفرض ضرائب على الأغنياء ، تمكنها من تقديم تأمينات ومساعدات اجتماعية للفئات المحتاجة من العمال والفقراء ، والعاطلين عن العمل ، والعجزة ، والشيوخ ، وذوي الحاجات والظروف الخاصة . وتوفير شيء من تكافؤ الفرص أمام الأفراد في النمو والتربية والتنشئة وفرص التقدم ، وفقاً لقدرات الفرد ومواهبه ، وإذا كان المصطلح وافداً من الغرب . ثروت بدوي ، النظم السياسية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، د .ت ، ج1 ، ص269 ـ 371 . ميشيل حان (محرر) ، موسوعة العلوم الاجتماعية ، تعريب عادل مختار الهواري ، سعيد عبد العزيز مصلوح ، مكتبة الفلاح ، القاهرة ، ط1 ، 1414هـ ، 1994م ، ص134 . محمد عابد الجابري ، وجهة نظر نحو إعادة بناء الفكر العربي المعاصر ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1992م ، ص141 .

(54) <<مفهوم العدالة الاجتماعية في الفكر الإسلامي المعاصر>> ، إحسان عبد المنعم سمارة ، رسالة ماجستير في الفلسفة ، الجامعة الأردنية ، 1986 ، إشراف د . أحمد ماضي (غير منشورة) .

(55) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص475 .

(56) نفسه ، ص475 .

(57) نفسه ، 475 .

(58) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص482 . أم القرى ، ص305 .

(59) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص482 .

(60) نفسه ، ص476 .

(61)الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص477 .

(62) نفسه ، ص478 .

(63) د . رفعت السعيد ، تاريخ الفكر الاشتراكي في مصر ، د .ن ، د .ط ، ص231 . د . محمد عمارة (دراسة وتحقيق) ، الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1975 ، ص71 ـ 73 .

(64) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص478 .

(65) نفسه ، ص479 .

(66) نفسه ، ص476 .

(67) نفسه ، ص450 .

(68) نفسه ، ص477 .

(69) الكواكبي ، أم القرى ، ص306 .

(70) نفسه ، ص305 ـ 306 .

(71) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص477 .

(72) نفسه ، ص478 ـ 479 .

(73) نفسه ، ص477 .

(74) نفسه ، ص497 .

(75) الكواكبي ، طبائع الاستبداد ، ص520 .

(76) نفسه ، ص522 .