شعار الموقع

النزعة الإنسانية في الفكر العربي.. محددات القراءة

رضوان جودت زيادة 2004-10-15
عدد القراءات « 1574 »

أولاً : النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي ـ‏عصر النهضة والتنوير.

من الممكن القول أن مصطلح النزعة الإنسانية (humanisme) قد بدأ مع عصر النهضة الأوروبي كما هو معروف، إذ كان يشير في البداية إلى طائفة من المتخصصين في دراسة لغات وآداب الحضارات القديمة، أو ما كان يطلق عليه الأدب الإنساني (humani litterie)، وذلك في مقابل دراسة الوحي الإلهي أو الكتابة المقدسة، إلا أن تتبع الأصل التاريخي للمصطلح تكشف عن التطور الدلالي والانزياح المفهومي الكبير الذي تعرض له هذا المصطلح، فكما يذكر آلان بالوك في كتابه (التقليد الإنساني في الغرب) (The Humanist Tradition in the West) أنه عند العودة إلى اليونان القديمة نلحظ أن ثمة عبارة معينة هي (Enkiklia Paedia) تشير إلى (التعليم المتوازن) وفكرة التعليم لدى اليونان (Paedia) تشير إلى نسق المعارف الإنسانية المتمثل في الفنون الحرة السبعة: القواعد اللغوية،‏البلاغة،‏المنطق، علم الأعداد، الفلك، التجانس الصوتي (Harmony). وهي المعارف التي كانت تقدم تقنية للتعليم والنقاش في عالم بلا كتب،‏يعتمد على التمكن من اللغة،‏والدقة في التفكير والمهارات الجدلية،‏كذلك تنطوي عبارة (التعليم) على فكرة أن الطبيعة الشخصية الإنسانية يمكن التأثير في نموها عن طريق التعليم،‏وكانت الكلمة اللاتينية التي اختارها شيشرون لفكرة التعليم المتوازن اليونانية هي Humanitas).
وأصبح مصطلح عصر النهضة الخاص بالمواد المدروسة في مجال اللغات والآداب الكلاسيكية هو (Studia-Humanitatis) التي تترجم الإنسانيات (Humadnities) ومدرس تلك الإنسانيات كان يسمى (Humanist) وكانت الدراسات (الإنسانية) تشير في القرن الخامس عشر إلى دراسة القواعد اللغوية والبلاغة والتاريخ والأدب والفلسفة الأخلاقية، وكانت تتكون من قراءة النصوص اللاتينية الخاصة بالعصر الكلاسيكي ما قبل المسيحي، وتشتمل أيضاً ‏على الترجمات اللاتينية اليونانية،‏وبقدر اقل،‏قراءة النصوص اليونانية القديمة نفسها.
أما كلمة (Humanisime) فلم تكن معروفة للقدماء ولا لعصر النهضة كما يؤكد بالوك، وإنما صاغها المفكر التربوي الألماني ليثامر عام 1808 أثناء مجادلة حول مكانة الدراسات الكلاسيكية في التعليم الثانوي، أما من طبقها على عصر النهضة فقد كان المؤرخان بروكهاردت وفويجت في كتاب (إحياء الكلاسيكيات القديمة أو القرن الأول للهيومانز) عام (1859)، بعد ذلك يعود بالوك ليؤكد أن تسميته للهيومانز بالتقليد الإنساني يستند إلى فرضية قوامها أن الهيومانز ليست مدرسة فكرية أو مذهباً فلسفياً ‏وإنما يمكن اعتبارها بعداً ‏محدداً في التفكير والاعتقاد أو جدالاً ‏مستمراً يحتوي داخله في أي وقت من الأوقات على وجهات نظر مختلفة بل متعارضة أحياناً لا تربط بينها أية بنية موحدة بل افتراضات وانشغالات معينة تدور حول مشكلات وموضوعات ذات خصائص محددة،‏وهي مشكلات وموضوعات تتغير هي نفسها من وقت لآخر.

وحدد بالوك توجهات الفكر الغربي في موقفه من الإنسان والكون، وهي توجهات يمكن تحديدها في ثلاثة أنماط رئيسية:
الأول: هو الموقف المتعالي أو ما فوق الطبعي، حيث يتمحور التفكير حول الله،‏باعتباره الحقيقة الموجهة والمحددة لكل ما سواه، والإنسان هنا ينظر إليه باعتباره جزءاً ‏من الخلق الإلهي ويتم التعامل مع قضاياه ومشكلاته من هذه الزاوية،‏وقد ساد هذا الموقف العصور الوسطى بصورة واضحة.
الثاني: هو الموقف الطبيعي أو العلمي، حيث يتمحور الاهتمام فيه وتمنح الأولوية للطبيعة، وحيث ينظر للإنسان فيه باعتباره جزءاً ‏من نظام الطبيعة متماثلاً ‏في ذلك مع باقي الكائنات العضوية،‏ويتم التعامل مع قضاياه ومشكلاته من هذه الزاوية، وقد تبلور هذا الموقف في القرن السابع عشر.
الثالث: هو الموقف الإنساني، وهنا يتمحور الاهتمام حول الإنسان،‏أي حول الخبرة الإنسانية باعتبارها نقطة البداية في معرفة الإنسان لنفسه،‏ولله،‏وللطبيعة، حيث تصبح الحياة الإنسانية والارتقاء بها وممارستها على نحو يلبي الاحتياجات البشرية، هدفاً ‏في ذاته،‏وهذا الموقف تبلور تاريخياً في عصر النهضة في أوروبا.
إلا أن بالوك يستدرك على التقسيم معتبراً ‏إياه مفيداً ، ولكن بشرطين، الأول أن يؤخذ النمط الواحد على أنه يعبر عن ميل يمكن أن يتآلف مع الميول الأخرى. بطريقة أو أكثر، أي لا يعتبر نمطاً ‏جامداً منفرداً بذاته دائماً ، أما الشرط الثاني فهي ألا يعتبر ذلك التقسيم صياغة أخرى لمراحل «كونت» الثلاث حيث يسود موقف منها في مرحلة معينة ضمن ثلاث مراحل متتالية. فمنذ القرن السابع عشر أصبحت الأنماظ الثلاثة مستمرة في الفكر ولها أتباعها، وأخذت العلاقات بينها تتراوح بين استبعاد كل منها للآخر من ناحية وبين تداخلها وتآلفها من ناحية ثانية.
ويعتبر بالوك أن ما يميز دعاة النزعة الإنسانية عن غيرهم هو نطاق موضوعات التفكير التي يهتمون بها، حيث تدور حول استكشاف الإنسان لنفسه ولثراء الخبرة الإنسانية، كما يتميزون أيضاً بالأسلوب الذي يتناولون به تلك الموضوعات والذي يتخذ غالباً ‏شكل الحوار، فتطرح تساؤلات أخلاقية وسيكولوجية واجتماعية بهدف استكشاف الجوانب المختلفة للخبرة الإنسانية، دون أن تستهدف إحلال نسق فلسفي جديد محل النسق الفلسفي المدرسي (السكولائي).
وهنا يصل بالوك إلى تحديد نقطة بالغة الأهمية تتعلق بعدم وجود فلسفة خاصة ذات نسق متميز بها اسمها الفلسفة الإنسانية وإنما تتحدد النزعة الإنسانية بالموضوعات التي يتم تناولها والأسلوب الذي يتفق مع هذه الموضوعات، وبذلك يمكن القول أن غالبية المشروعات الفكرية العربية التي أرادت تشييد فلسفة إنسانية عربية وعلى رأسها مشروع حسن حنفي في تجديد علم الأصول إنما تحرث في غير أرضها ولا تعي السياق التاريخي الذي تولدت فيه النزعة الإنسانية في الفكر الغربي (2) ، وإذا كانت هذه تمثل إشكالية وتتعلق بالتلقي العربي للنظريات الغربية ليس هنا مجال بحثها، فإننا سنحاول تتبع تطور النزعة الإنسانية في السياق الغربي محاولين ما أمكن قراءة المحددات المعرفية والاجتماعية والسياسية التي ساعدت على تشكيل هذه النزعة.
فمن المعروف أن الدين المسيحي إبان العصور الوسطى تبنى نزعة زهدية تميل إلى اعتبار انكار الذات مثلاً أعلى، يجب أن يتخذ أساساً لكل كمال شخصي واجتماعي بحيث لم يبق متسع لتحسين النظم والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية، أما المدرسة الفلسفية فكان شغلها الشاغل هو المقولات المنطقية والتساؤلات الميتافيزيقية وبذلك تميزت استدلالاتها العقلية المجردة بالبعد تماماً عن الحياة الإنسانية العادية،بل إنها كانت غير مبالية بالمسائل الحيوية مثل طبيعة الإنسان وهدف حياته ومصيره.
إلا أنه يمكننا القول إن هذه المدرسة الفلسفية السكولائية في العصور الوسطى قد مهدت بشكل من الأشكال لظهور النزعة الإنسانية في عصر النهضة، إذ لم تكن ثمة قطيعة تامة بين العصر الوسيط وعصر النهضة، لقد كان هناك استمرارية إلا أن هذه الاستمرارية لا تعني التماثل.

وبذلك يكون عصر النهضة هو العصر الذي تمكن من إدخال الحس التاريخي في فهم أسس قيام الحضارات القديمة، وهذا ما ساعد على إبراز العامل الإنسانية وتظهيره بشكل واضح وهذا ما لاحظناه في طبيعة الموضوعات التي كانت تدور حولها المسائل الفكرية والفلسفية في عصر النهضة كالحديث عن التصادم بين تصاريف القدر وفضيلة الإنسان في مقاومته والكلام عن صورة الإنسان ومحاولة إنتاج معيار تقديري جديد للقيم وغير ذلك،‏كما أن النزعة الإنسانية بدأت تتضح ملامحها أيضاً في الفنون، إذ نلحظ تطور أسلوب جديد في الرسم يتميز بطبيعته‏المتفردة في تصوير المناظر الطبيعية واستعادة الشعور الكلاسيكي بالتناسب والحركة ثم البحث عن نظرية رياضية للتناسب في الجسم الإنساني تتحقق بها الفكرة الأفلاطونية المحدثة في التجانس المستمر بين الإنسان والطبيعة من جهة، والفكرة الكلاسيكية حول التناظر من جهة أخرى، وهنا علينا أن لا ننسى دور العامل العمراني في الإسهام بظهور هذه النزعة لاسيما النمو الاستثنائي للمدن الإيطالية نتيجة التوسع التجاري خاصة فلورنسا وجنوه وفينيسيا وغيرها.
لقد كان عصر النهضة بمثابة المخاض الحقيقي الذي تمكن بعده عصر التنوير من الولادة، فالثورة الكوبرنيكية التي طورها جاليليو والرحلات والاكتشافات الجغرافية المترامية والمتعددة والتعرف إلى «العالم الجديد» واكتشاف نيوتن لمبدأ الجاذبية العام ومجيئه بقوانين الحركة الثلاثة التي وضعت الأساس ليس للفيزياء الكلاسيكية فحسب وإنما لتفتح الطريق أمام اكتشاف كل ما لم يكن قد تمت معرفته بعد، وبذلك تتحدد الملامح الأساسية لإنسانية عصر التنوير في اكتشافها للعقل النقدي بعد أن تكمن عصر النهضة من تلمس الحس التاريخي وساعد كل ذلك في بدايته صياغة العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث ظهر تأثير اكتشاف العقل النقدي في مجال الدين والقانون والعادات الاجتماعية وأصبح المنهج السائد يكمن في ضرورة تطبيق التفكير النقدي وتحدي الرأي السائد في أي موضوع، ليس بهدف إحلال رأي آخر محله، وإنما أساساً بهدف فتح آفاق التفكير على إمكانات واحتمالات جديدة، وينطبق ذلك ليس على المذاهب الفلسفية والدينية والأخلاقية فقط وإنما على العلم أيضاً .

وظهر ذلك في المجادلات الفلسفية والعلمية المتعددة كما في كتابات مونتسيكو وروسو وهيوم وكانت وجون ستيورات ميل وغيرهم، وترافق ذلك كله مع حدوث الثورة الفرنسية وإعلانها لحقوق الإنسان والمواطن وسبقتها الثورة الأمريكية في إعلان مبادئ الاستقلال الأمريكي.
مع حلول القرن التاسع عشر كان التفكير اللاهوتي والميتافيزيقي يتجه نحو الانحسار الشديد لحساب الأفكار العلمية والوضعية كما جسدتها كتابات أوجست كونت ثم دارون وتبعه سبنسر وظهور ماركس بنزعته الاقتصادية، وهنا يدور جدل كبير حول مسألة شرعية انتماء الماركسية للنزعة الإنسانية،‏إلا أن المتعاطفين معها يحاولون إعادة قراءتها في ضوء النزعة الإنسانية لتأكيد ما فيها من جوانب يمكن تقاطعها مع الفلسفة الإنسانية كما فعل (ايسايا برلين) الذي اعتبر أنه حتى لو رفضنا الماركسية كأيديولوجية وأثبتنا عدم صحة تنبؤاتها فإننا لن نستطيع إلا الاعتراف كما يقول بأهمية ماركس في خلق موقف جديد تماماً تجاه المسائل الاجتماعية والتاريخية وفي فتح آفاق جديدة أمام المعرفة الإنسانية.
أما القرن العشرون فقد شهد تطوراً ملحوظاً فيما يتعلق بنشأة علم الاجتماع وعلم النفس، فالظاهرة الاجتماعية تم توصيفها كموضوع مستقل يجب بحثه ودراسته بأدوات منهاجية جديدة كما برز ذلك مع دوركهايم وماكس فيبر، أما علم النفس فقد شهد ثورة حقيقية بمعنى الثورة المعرفية على يد فرويد وكارل يونج واريك فروم فيما بعد وغيرهما.
بذلك يمكن القول أن النزعة الإنسانية تتحدد بخصائص معينة لكن لا يمكن الزعم بأنها موضوعية أو نهائية بل تظل دائماً ‏بمثابة وجهات نظر لاسيما أن النزعة الإنسانية لا تمثل كما ذكرنا نظاماً فلسفياً ‏أو تعاليم محددة وإنما هي حوار دائم شهد وجهات نظر مختلفة،‏هذه الخصائص يمكن تحديد ملامحها كالتالي:
أولاً : إنها على خلاف النظرة اللاهوتية للإنسان التي تراه جزءاً ‏من نظام إلهي والنظرة العلمية البحتة التي تراه جزءاً من نظام طبيعي فإن النزعة الإنسانية تركز محور اهتمامها على الإنسان، وتبدأ من الخبرة الإنسانية،‏وترى أن نشاط البشر يجب أن يظل داخل ذلك الإطار. إلا أن ذلك لا يعني رفض الاعتقاد الديني أو البحث العلمي لكنها تنظر إليهما على أساس أنهما معارف ناشئة عن فعالية العقل الإنساني في الخبرة الإنسانية.
ثانياً : القناعة بأن الفرد الإنساني ذو قيمة في حد ذاته وأن احترام هذه القيمة هو مصدر كل القيم الأخرى.
ثالثاً : الأهمية التي تعطيها للأفكار، التي لا تتكون ولا يمكن فهمها بمعزل عن سياقها الاجتماعي والتاريخي من ناحية، والتي لا يمكن أن تختزل لتصبح مجرد عقلنة للمصالح الطبقية أو الاقتصادية أو للدوافع الجنسية والغريزية من ناحية أخرى.
لكن النزعة الإنسانية مثلها مثل أي توجه فكري وسلوكي تطرح إشكاليات عديدة حول علاقتها بالدين وموقفها منه، وهذا ما يناقشه بالتفصيل ر.ل.جونسون في كتابه حول الإنسانية الدينية (Humanism and Beyond) إذ يدافع فيه عن الإنسانية الدينية والمسيحية تحديداً ،

وينتقد الإنسانية العلمانية كما يسميها في نقاط أربع:
1ـ التسوية بين العلم والدين من حيث الجدارة النظرية والمستوى المعرفي.
2ـ يؤكد أفضلية الدين على العلم من حيث قدرته على منح المعنى وعلى تأسيس القيم.
3ـ يرد مثالب الدين إلى حالة خاصة من حالاته وليس إلى طبيعته ذاتها.
4ـ يؤكد على أن الإنسانية العلمانية هي إنسانية هشة بالمقارنة مع الإنسانية الدينية.
بعد ذلك يبدأ جونسون بتوضيح ما يسميه الفرضية الدينية التي تقوم على أساس الإيمان بوجود مبدأ عاقل منظم للوجود وفقاً لغاية نهائية هو ما نسميه الله، والألوهية مفهوم يعتبر بمثابة الأساس النهائي، المفرد،‏المشخص للعالم،‏وهي مصدر كل أنواع الوجود، لذلك فالعلم يفضل الدين من حيث الجدارة المعرفية والنظرية وفي قدرته على منح المعنى وتأسيس القيم،‏ذلك أنه إذا كانت القيم والحقيقة ليستا متطابقتين فذلك لا يعني وجود انفصال كامل بينهما،‏ولا يعني أنهما يمكن فهم كل منهما بمعزل عن الآخر، وبالتالي يجب أن يكون ثمة معيار للتحقق من صحة القيم ذاتها،‏فحقيقة القيم ليست أقل أهمية من أية حقيقة أخرى،‏وبناءً على ذلك ففكرة الاكتفاء الذاتي للإنسان التي تقوم عليها الإنسانية العلمانية،‏لا تستطيع اكتشاف الغاية النهائية ولا المثل العليا وبالتالي لا تقدم أساساً ‏لتحقيقها،‏بينما الدين لكونه يربط بين المبدأ المنظم للوجود وبين الغاية النهائية،‏يصبح بمقدوره تأسيس المثل العليا أي تأسيس القيم ومنح المعنى للوجود الإنساني، ذلك ان التفسير الطبيعي للوجود الإنساني يقدم صورة جزئية عنه، بينما الجزء الآخر (الروحي أو المعنوي أو القيمي) يتطلب تفسيراً متجاوزاً ‏لذلك، أما النقد الموجه لدور الدين السياسي والاجتماعي والفكري تاريخياً فإنما يرجع إلى حالة خاصة أو نوعية خاصة من الممارسة الدينية لا إلى المكونات الأساسية للمنظومة الاعتقادية الدينية،‏وهنا ينقد جونسون ما يسميه الدين التقليدي معتبراً أن تأكيد أصحاب هذا الدين دوماً ‏على البعد الإلهي على حساب مسؤوليات الإنسان الأساسية تجاه نفسه وتجاه العالم يعطي الحق للعلمانيين في إدانة الدين بصورته الكلية.
إضافة إلى ذلك فإن جونسون يرى أن القصور الأساسي في الإنسانية العلمانية يكمن في تصورها أن الحاجات العميقة للإنسان يمكن تلبيتها من خلال إمكاناته الذاتية وحدها فهي تكتفي بالبعد الأفقي دون الرأسي في الوجود الإنساني، وإذا كان الإنسانيون العلمانيون يمجدون قيم العدالة والكرامة الإنسانية والرقي الإنساني،‏فإنهم بذلك يمجدون قيماً ‏مستمدة من التراث القديم بما فيه التراث اليهودي والمسيحي، ذلك أن الأنبياء هم أنفسهم أبطال العدل الاجتماعي كما يرى جونسون.
لذلك فالعلمانيون حينما يذهبون إلى أن الوجود ليس له علة أو غاية نهائية فإنهم لا يستدلون على ذلك عقلياً ، ولا من خلال التحليل المنطقي، رغم أنهم يتصورون أن العقل والمنطق إلى جانبهم، فالعقل بالنسبة لهم يتخلل العالم الطبيعي كله، لكنه يختفي حينما يتعلق الأمر بالمبدأ المفسر لوجود هذا العالم الطبيعي، بينما التفكير المنطقي يقضي بأن هذا الوجود لابد أن يكون له علة كافية لوجوده، وهي علة وإن استعصت على الإثبات إلا أنها لا تتنافى مع العقل.
يضيف إلى ذلك جونسون ان التصور الديني للعالم يستطيع أن يقدم إجابة تتمتع بالجدارة المعرفية والمنطقية فيما يتعلق بمعنى الوجود الإنساني أو إضفاء قيمة ومعنى على هذا الوجود.

إلا أن عاطف أحمد يعتبر أن التصور الديني للوجود الإنساني هي غاية تختص بالذات الإلهية لا بالإنسان، هي عبادة الله وطاعة أوامره، وهذه الأوامر صادرة من طرف واحد وليس بوسع الطرف الآخر سوى التسليم والتنفيذ، لذلك يبدو الإنسان هنا كما يرى مجرد وسيلة أو أداة تستخدمها الإرادة الإلهية لإثبات ذاتها هي،‏ويضيف أن هذا الفهم العقلاني للدين يبدو مفقراً ‏وقليل القيمة والقدرة معاً في إضفاء معنى على الوجود الإنساني، إلا أن الفهم الشعوري للتصور الديني هو الذي يمكننا من إضافة معنى على هذا الوجود، فعندما يشعر الفرد أنه موضع عناية ورعاية قوة كونية مشخصنة تقف إلى جانبه، تهتم بأموره،‏وهو يعقد معها صلة شخصية متخيلة تصاحبه في الممارسات والأحداث الحياتية المختلفة، هذا الشعور هو محط ومحور التعلق الإنساني بالدين،‏يضاف إلى ذلك عندما يشعر الفرد بأن حياته الزمنية الراهنة ليست هي حياته الوحيدة، ذلك أن الموت ينقله إلى حياة أخرى، ويكف الموت بذلك عن أن يكون النهاية الأبدية والتي بلا رجعة،‏بل يصبح لحظة انتقال إلى عالم أفضل. فما لم يحققه الإنسان في حياته يستطيع أن يحققه في الحياة الأخرى بصورة أفضل، حيث ينال ما يتمنى بلا آلام، ولا عذابات، ولذلك ينتهي إلى أن التصور الديني في مركباته الشعورية لا العقلية البحتة هو الذي يمنح المعنى للوجود الإنساني.
وهكذا يختلف عاطف أحمد مع جونسون في تحليلاته المتعلقة بعلاقة النزعة الإنسانية مع الدين ويعتبر أن النزعة الإنسانية إنما تنمو وتتبلور في المجال العلماني،‏إذ يعرف العلمانية على أنها موقف معرفي من الواقع، والواقع هذا له منطقه الخاص ومعطيات وتكوينات علينا دائماً أن ندركها ونحللها ونتعامل معها بخبرتنا ومعارفنا وتفكيرنا المستقل، لذلك فعلينا عند التعامل مع هذا الواقع أن نتحرر من أية سلطة معرفية تدعي أنها ذات مرجعية مجاوزة للواقع، وهذا هو جوهر العلمانية عندما تؤكد استقلال العقل الإنساني في تعامله مع نفسه ومع العالم.
إلا أنه عندما ينحاز للعلمانية على أنها جوهر وتحقيق للنزعة الإنسانية ينساق إلى تعريف للنزعة الإنسانية رفضه مسبقاً ‏عندما رفض اعتبارها كفلسفة أو نظام معرفي محدد وثابت الخطوط والقسمات، ذلك أن النزعة الإنسانية بما هي موقفٌ يعمد دائماً ‏على تأكيد جوهر الإنسان وإعادة الاعتبار لقدرته ومعارفه تتقاطع مع المجال الديني في كثيرٍ من النقاط مما ينفي هنا عن المجالين هذا الانفصال التام والناجز الذي افترضه بينهما.

ثانياً : النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي ـ عصر الوحي

وهذا ما تؤكده الدراسة القيمة التي قدمتها د. منى طلبة بعنوان (قراءة القرآن بين الوعي الشفاهي والكتابي تأملات في نشأة النزعة الإنسانية في الثقافة العربية)، إذ تعتبر أن النزعة الإنسانية في الفكر العربي من خلال قراءات ثلاث شهدها النص القرآني شكلت كل قراءة منها لحظة تحول في تطور الوعي العربي الإسلامي، إذ كانت القراءة الأولى هي كتابة الوحي التي افتتحت للمرة الأولى في التاريخ العربي وعياً ‏بمركزية الكتابة التي ارتبطت حينذاك بتلقي النص المؤسس للوعي والسلوك في المجتمع العربي الإسلامي، وهو التلقي الذي ارتبط بدوره،‏ومنذ البدء، بمبدأ تعدد القراءات وبجعل القراءة إلزاماً دينياً ، وكانت القراءة الثانية في جمع القرآن في مصحف واحد دون أن ننسى أنها تمت خلال تحريات دقيقة إلى حد كبير للمصادر المتاحة وأنها وحدت النص المركزي بصورة تجعل وحدة الأمة أمراً ممكناً ، أما القراءة الثالثة فهي القراءة المؤسسة لبنية الثقافة والحضارة العربية الإسلامية فيما بعد، فضلاً ‏عن القيام بضبط النص القرآني، حيث نشأت حوله علوم مستقلة في مختلف المجالات في اللغة والنحو والفقه والتفسير وعلم الكلام والفلسفة والعلوم والأدب والفنون،‏بل إن الأصول التراثية ما قبل الإسلامية شهدت هي نفسها عملية إحياء من خلال تدوينها. وبذلك شكلت هذه القراءة لحظة التأسيس الفعلي للوعي العربي الإسلامي في كافة المجالات، وبذلك فإن النزعة الإنسانية تتجلى في عمليات القراءة هذه بلحظاتها الثلاث بناءً على اشتمالها على تدوين التراث الإنساني وبإعلائها من قيمة الفرد وبتأكيد انتماء الفرد للجماعة وباستيعاب المسلمين للبنية الكتابية العميقة للقرآن. وأخيراً بإبرازها للدور الإنساني في إعادة صياغة المقدس وفهمه وتأويله.
وتحليلها لهذه القراءات الثلاث ينطلق من فرضية أساسية تقوم على أن بزوغ القرآن في الثقافة العربية كان محوراً ‏أساسياً لانتقال هذه الثقافة من الوعي الشفاهي إلى الوعي الكتابي، ومن ثم أسس القرآن للقيم الإنسانية التي اقتضاها الوعي الجديد. ولكن لما كانت هذه القيم موجودة في كل حضارة مرت بهذا الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية،‏على اختلاف الأحداث التي مكنت لهذا التطور وتراوح زمانها، فإن هذا الانتقال في الحضارة العربية الإسلامية يستبطن خصوصية قرآنية على حد تعبيرها الذي لم يقف عند حد الانتقال بالثقافة العربية من وعي لآخر، بل جعل من الوعي الجديد فرضاً دينياً من جهة، كما سمح بوعي وسيط يصل ما بين الوعيين الكتابي والشفاهي من جهة ثانية.
فالكتابة كانت معروفة في العصر الجاهلي لكنها لم تكن منتشرة أو مشكلة لبنية الوعي في هذا المجتمع، إذ كانت مقصورة على بعض أفراد من الطبقة المثقفة، وكانت مستخدمة في قضاء مصالح بعثها. إذ كتب أهل الجاهلية عهودهم ومصالحهم،‏لكنهم لم يمارسوا تدويناً لآدابهم أو علومهم،‏هذا ما نلحظه في استدعاء الشاعر الجاهلي لصور الكتابة ومعجمها، إذ نجد سخرية ومقاومة للوعي الكتابي ولإرادة البناء، فكل بناء سيصير طللاً وكل معنى مستطرف مبهج سيصير تميمة، وكل رسم وخط هو إشارة صماء على شفاهية حارة قد تبددت وكان يُرجى دوامها،‏تزدوج الإشارة إلى أن هذه الشفاهية لم تكن في الواقع إلا طللاً بالقوة، هذه الرؤية السلبية للكتابة هي ما ستتبدل بكتابة الوحي القرآني.
فلحظة التحول هذه حققت ما يسمى بالقطيعة التاريخية بين الماضي الجاهلي (الكتابة الطلل) وبين (الكتابة المقروءة) لذلك فإن من يجعل من «الكتابة الطلل» أصلاً للوعي العربي الإسلامي لا يدرك أبعاد الانقطاعة التاريخية والثقافية التي حققها القرآن، وقيمة هذا التحول الهائل للمجتمع العربي بمقتضى كتابة الكتاب (3) .
وبهذا المعنى نفسه يمكن أن نفهم لماذا قاوم الجاهليون دعوة الدين الكتابي الجديد، إذ فيه تفتيت لماضيهم الشفاهي، ولنموذج الحياة المقدس في حمى القبيلة، ونفهم أيضاً ‏لماذا كان الأمر بالقراءة هو أول ما نزل به الوحي،‏ولماذا جعل الرسول «ص» تعليم القراءة والكتابة تمثل افتداءً لأسرى المشركين،‏إذ أن استتباب الوعي الكتابي وشيوع المعرفة باللغة بين جموع المسلمين هو ما كان يلزم الرسول «ص» لتتمة معنى النص الموحى به إليه،‏ففي هذه الكتابة وهذه القراءة مكمن الثورة على المجتمع الجاهلي الشفاهي الذي تصدى للوعي الكتابي مكرساً لصنمية القيم العليا للقبيلة المستبدة.

وبذلك يكون القرآن قد شكّل في جمعه الثابت الكتابي والمتحول القرآني البنية العميقة لانطلاق أضخم حركة تدوين عرفها التاريخ إذا اقتضت كتابية القرآن الملزمة بالقراءة معرفة لغة الكتاب،‏والأديان السابقة عليه،‏والأصوات التي رددتها كلماته، والسياق التاريخي للمتلقين له،‏وبذلك يكون القرآن قد حقق الشرط الأول من شروط النزعة الإنسانية،‏وهو الاعتداد بالتراث الماضي بشكل مختلف عن ذلك الاعتداد الجاهلي القبلي، فهناك نزعة إنسانية ينسحب فيها العقل الإنساني إلى أبعد نقطة في ماضيه ليتخذ منها نقطة انطلاقه، إلا أن ما حققه النص الكتابي القرآني من نقلة تاريخية في مستوى الوعي لن يحقق نتائجه كما هو مطلوب منه، ذلك أن السياق الحيوي الماضي الذي نزل فيه القرآن كماضٍ طللي يبكي على فواته ويرجي تكراره مثله في ذلك مثل القصيدة الجاهلية، جعل المساحة الإنسانية الجديدة التي اكتسبها القرآن بكتابيته تتراجع أمام استرداد العقلية الجاهلية لماضيها وتراثها ووعيها الشفاهي القبلي الجاهلي وتثبيتها له كأصل للقرآن، مما أخلى هذا التراث الجاهلي نفسه من تجربته الإنسانية العميقة التي أثبتتها له الكتابة، وأدى إلى تقديسه كنص مرهص أو مواكب للقرآن.
وهكذا مضى بعض المسلمين بكتابية القرآن في اتجاه عكسي لما كان يراد بها من الانطلاق نحو مستقبل القراءة،‏ومن هذه الزاوية لم تستطع الثقافة العربية الخروج من أسر هذه الإزدواجية، تعتملها الذاكرتان معاً ‏الذاكرة الجاهلية الشفاهية المكررة للنص النموذج والتي تنطوي على نزوع للمنازلة،‏ولجذب الآخرين إلى معركة لفظية، وإلى حفز الجمهور للاستجابة بحماسية عالية لما يقال، والذاكرة الكتابية القرآنية المنفتحة من قلب النص النواة على مستقبل القراءة، والتي تنطوي على التجريد الذي يبعد المعرفة من ساحة النزال، على هذا بدا إقرار النبي «ص» لمبدأ تعدد القراءات في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام وكأنه تنبؤ بالهجمة الشفاهية الجاهلية على النص المقدس، فكأن النبي بهذا المبدأ الهام قد أراد أن يتمم أمر كتابة القرآن،‏وأن يحرره من صنمية النموذج الجاهلي ومن الحركة النادبة المكررة والمتعصبة المنبثقة عنه، وأن يؤسس في النهاية للحركة الإنسانية المنبثقة عن الذكر القرآني بوصفها حركة متنوعة مجتهدة تقدس النص وتصله بواقعها القرآني وطموحها المتعالي الغائي.
ذلك أن هناك فارقاً ‏كبيراً بين القراءة السطحية التي تهتم بإعادة منطوق الكلمات، وبين القراءة العميقة التي توازن بين المنطوق والمكتوب، بين الذاكرة والتحليل، بين اللاوعي المكبوت أو المنسي والوعي المستعيد لهذا اللاوعي ليواجهه، مثل هذه القراءة تنحو أكثر فأكثر نحو كتابية الكلمات، أي نحو ما تبين عنه من توسع وابتكار للحقل الدلالي والفكري، ببساطة القراءة لا تصادر على الصوت الآتي إلينا من بعيد ولا تكرره،‏ولكنها تتفكره،‏وبهذا يصبح التحليل أو البحث عن المعنى في القراءة ضرباً ‏من المعرفة المقاومة للرغبة في الكلام،‏فما يستعاد من غياهب النسيان أو الكبت يوضع وفي نفس اللحظة على طاولة الوعي، ‏وعلى هذا تصبح مسيرة القراءة العميقة المتجددة موازية لتحقيق فضيلتي المعرفة والترقية للنفس معاً ، كما أن الفرد يقوم بدور مهم في الفهم عن النص المقروء، في حين أن تلقي الصوت الخطابي أو الإنشادي في إطار الجماعة له خصيصة التوحيد والنفاذ إلى داخل النفوس،‏وتقوم فيه الذات بدور محدود، وبهذا المعنى نفهم إقرار الرسول (ص) لمبدأ تعدد القراءات ـ أو القراءة الأولى للقرآن كما تسميها الباحثة‏ـ وذلك ترسيخاً لكتابة النص وتأسيساً لدينه الجديد كعلاقة بين الإنسان والمقدس قوامها المعرفة والترقية المستمرة للنفس، علاقة يقوم فيها الفرد والضمير (لا القبيلة أو الكهنوت أو سلطة التقاليد) بالدور الفعال في إطار الجماعة الملتفة حول الكتاب، فكل قراءة جادة تشكل ضميراً للقارئ وتقوى لله، وكل قراءة في النهاية لا تعدو أن تكون تفسيراً للمقروء، مما يجعل الكون كله كتاباً ، والنشاط المعرفي الإنساني كله في بحثه عن القانون المتحكم في ظواهر هذا الكون أو في تطلعه لمعناه ليس في العمق إلا نشاطاً قارئاً ‏مفسراً للمادة المعطاة،‏خاضعاً لحدود التفسير الموجودة من داخل الكون ـ‏النص أو من خارجه (أي السياق) الذي تتم فيه القراءة،‏وطامحاً مع ذلك لتجاوز الحدود وللمزيد من الكشف عن معنى النص وقانونه.

ومن خلال مراجعة الأحاديث النبوية التي تعرضت لتعدد القراءات واستعراضها تلحظ الباحثة أن هذه الروايات على اختلافها تقوم بوظيفتين معاً ، وظيفة تشريعية تبيح تعدد القراءات، ووظيفة معرفية غرضها التعريف بقراءة القرآن وشروطها، ومن ثم كانت اجتهادات المسلمين في تفسير القراءات السبعة على معنى التوسعة على الخلق أو على معنى الحصر استجابة لهاتين الوظيفتين، وكانت مثل هذه التفسيرات بدورها نواة لنشاط معرفي واسع شمل علوم اللغة والبيان والبلاغة والتفسير وغيرها، غير أن هذا النشاط المعرفي الإنساني بوصفه علاقة جديدة بالمقدس ما كان يمكن أن ينجز إلا بفضل القراءة الثانية للقرآن والتي تمت في عهد الصحابة،‏وهي القراءة التي حددها عثمان وجماعته للنص القرآني،‏وأثبتوها في نسخ مكتوبة،‏وزعت على الأمصار الإسلامية وتبرز الأهمية التاريخية لهذه القراءة عند ملاحظة أن المكتسب الذي حققته القراءة الأولى لم يحقق وظيفته ودوره، إذ سرعان ما انقلب التدوين إلى تقديس للمعارف التراثية الإنسانية السابقة على النص القرآني،‏ورغم أن مبدأ تعدد القراءات الذي أقره الرسول «ص» كان الهدف منه الارتفاع بقيمة الفرد، إذ لكل شخصية خصوصية ذاتية جديرة بالعزة والاحترام، ذلك لأنها قادرة على المبادرة وعلى إبداع المعنى،‏وعلى الدخول مباشرة في علاقة المقدس دون وساطة من خلال القراءة،‏ولكن ذات الإنسان ليست بالضرورة ذاتاً خيرة صادقة،‏ولهذا أدت حرية القراءة إلى كثرة الاختلاف وإلى التزييف والتعصب، لذلك كان لابد من هذه القراءة الثانية التي تضع النص في إطاره المكتوب، حتى لا يفقد الكتاب الديني أية موضوعية ممكنة،‏فقد كان الهاجس الذي أرق المسلمين وقد كفلت لهم حرية القراءة، هو كيفية التوفيق بين الالتزام والحرية، بين وحدة أمة المسلمين وتنوع إبداع أفرادها، بين جلال حفظ المقدس وترقي الجهد الإنساني لقراءته، وكيف لا يقلقون وقد ألزموا قراءة القرآن،‏وألا يتأتوا كتابهم ودينهم عبر وسيط، ومن ثم كانت السلطة التي اجتهد المسلمون على صناعتها بموجب هذا الإشكال هي سلطة معرفية موضوعية منظمة ضابطة للقراءة، فما عاد من الممكن أن تظل حرية القراءة مجرد حساسية وتذوق فحسب، أو تعبير عن مصالح فردية وعصبية تجنح بالقائمين عليها إلى مزاولة مشوهة للنص، من هنا كان اجتماع الرأي منذ عهد أبي بكر،‏وحتى عهد عثمان بن عفان على قراءة جديدة للنص حافظة لطابعه الكتابي بما يسمح لآلية تعدد القراءات في النهاية بالاستمرار دون أن تصبح مادة للتقاتل وتكفير الرأي، كان من المهم الانفتاح بالقرآن على آفاق جديدة من التأويل الكتابي، وبذلك بدأ المسلمون من خلال القراءة الثانية مسيرة لتأسيس المجتمع الإسلامي الأممي الذي تتلاقح فيه المعارف لتلد جديداً من خلال تحديد لمشارف الكتاب المقدس المعني بتعدد القراءات،‏بدلاً ‏من المجتمع القبلي الذي تتكرر فيه المعارف لتعاود صراعها الأبدي، لذلك أتت القراءة الثانية بلحظتها التاريخية وسياقها الاجتماعي المفروض وهي لذلك لم تكن قراراً تعسفياً عشوائياً ، فهذه قراءة تمت فيها الموازاة بين قراءة الرسول «ص» وقراءة المسلمين في حياته ومن بعده،‏على اختلاف هذه القراءات وعلى تقاربها،‏ولو كان الأمر يسيراً ‏وواحداً ‏لما احتيج لكل هذه الجهود للاتفاق على أداء قرائي وكتابي واحد للقرآن، ولما احتاط زيد بن ثابت في الاستماع لشاهدي عدل على الأقل حتى يستوثق من صحة القراءة،‏ولما استبعدت قراءة بأكملها وأقرت أخرى، ذلك أن هذه القراءة لم تقم على دعوى عصمة حافظي القرآن من التحريف والنسيان والخطأ كما ندعي، اليوم وإنما قامت على أساس التحقيق وعلى هذا لم يكن قطع الرأي أمراً يسيراً ، وإنما تم الاتفاق على نسخة واحدة للقرآن وفق عمليات رائدة في الثقافة العربية من المضاهاة والموازنة بين المكتوب والمحفوظ، فنحن إذاً إزاء مشروع تحقيق قرائي هائل اجتمعت عليه الأمة وشكله تنوع مجهودات أفرادها لإعادة قراءة القرآن.

إلا أن السؤال الذي يُثار هو عن مدىدقة عملية التحقيق القرائي (4) ، هنا تؤكد الباحثة أن حرية المسلمين في القراءة التي أتاحها الرسول «ص» لهم لم تكن تعدو الاختلاف في اللهجة أو الحركات أو بعض الحروف والكلمات كما نلاحظ في تفسير المفسرين للقراءات، وما يعزز إيماننا بدقة هذا التحقيق أيضاً أن الوعي الشفاهي يتيح تغييراً محدوداً في إطار الصيغة،‏ولا يتيح تغييرات كبيرة أو جوهرية في النص المحفوظ. وهكذا تحقق الشرط الثالث من شروط النزعة الإنسانية الإسلامية في هذه القراءة الثانية وهي إنتماء الفرد إلى الجماعة،‏فإذا ما كانت كتابة القرآن قد استدعت تقييد الآثار والأخبار الماضية بالكتابة، بما يجعل الماضي مخزوناً ثقافياً صالحاً للمعرفة والتجاوز، وإذا كان إلزام القرآن للمسلم بالقراءة، مقترناً ‏بمبدأ تعدد القراءات، قد تعالى بقيمة الفرد الإنساني بما يكفل حريته ومسؤوليته،‏فإن مبدأ الاتفاق على ما يفيد الأمة كان تتويجاً ‏أو تثقيفاً ‏لهذه الجهود والحريات الفردية بما يطوعها في سبيل القيم الكبرى المشتركة، فلا يكفي للإنسان كي يكون إنساناً أن يكون حراً ومريداً ‏فحسب،‏وإنما أن تكتمل هذه الحرية والإرادة بانتمائه للآخر ولقيم تعلو على قصور أو غرور أو حتى نجاح شخصه ومصالحه الخاصة، وهذا بالضبط هو ما يعرف النزعة الإنسانية إذ يطلق لفظ إنساني على كل من يهتم أو يتخذ هدفاً ‏له الصالح العام لجميع البشر.
إلا أن هذه القراءة الثانية للقرآن اتخذت ذريعة لتفتيت وحدة الأمة فيما يعرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، ذلك أن التنوع لم يعد قاصراً ‏على التنوع في الأداء الشفاهي للنص، وإنما تحول إلى اختلاف في التأويل للنص المكتوب، إذ تم تسييس الدين وإخضاعه لنفس الآلية التي وضعت القصيدة الجاهلية بموجبها في إطار دعائي قبلي، فما معنى رفع المصاحف على الرماح في هذه الفتنة الكبرى،‏إن لم يكن الاحتكام لكتاب الله يقصد به الاستناد لموضع النفوذ أو السلطة الكتابية الكلية للنص، تلك التي يدعي كل سيف حيازتها،‏وهكذا ظلت النزعة الإنسانية التي أريد تحقيقها بالقراءة الثانية للقرآن قيد التوتر بين ماضيها الشفاهي الجاهلي،‏ووعدها الكتابي القرآني، وعلى هذا لم يكتف المسلمون بهذه القراءة، وتوالت قراءات أخرى ساعية إلى الحفاظ على الطابع الكتابي للقرآن، وعلى الطابع الحيوي الإنساني لقراءته في آن.
وهذا ما استدعى القراءة الثالثة للقرآن التي تمتد منذ جمع المصحف بين دفتين وحتى أفول الحضارة الإسلامية الذي يؤرخ له المؤرخون ببداية القرن السادس الهجري، ولم تكن هذه القراءة الثالثة للقرآن منبتة الصلة بالقراءتين السابقتين،‏وإنما كانت اجتهاداً ، بالغاً من قبل المسلمين لتجاوز مشكلات القراءة الأولى الحرة وما قد ينحرف بها إلى الفوض المزكية للمصالح الأنانية والخاصة للأفراد، ومشكلات القراءة الثانية الموحدة للأمة وما ينحرف بها إلى نزاع دوجماطيقي متقاتل من أجل السيطرة على الجماعة،‏ولذلك حاولت القراءة الثالثة تقديم أطروحتها الخاصة بالموازنة بين الفرد والجماعة في قراءة كتاب الأمة الإسلامية،‏فتميزت هذه القراءة على سابقتها بخصيصتين وهما الاجتهاد والابتكار الفردي، وخصيصة الانتماء إلى الجماعة على اتساع مناحيها،‏إذ شارك في هذه القراءة المسلمون على اختلاف مذاهبهم وأصولهم الجنسية والثقافية والعرقية والدينية والسياسية،‏وتحركت هذه الموازنة بين الفردي المبتكر والجماعي المتسع بين حدين: الحد الأدنى من الاتفاق وهو ضبط النص القرآني ضبطاً كتابياً محكماً ‏وحد أقصى غائي وهو الاجتهاد في فهمه واستنباط معانيه وأسراره، وبين الحدين الحد الثابت والحد اللانهائي،‏تم توليد العلوم المستقلة عن النص القرآني مثل علوم النحو واللغة والعمارة والفلسفة والرياضة وغيرها من علوم الحضارة الإنسانية، ولم يكن القرآن بهذا المعنى كتاباً علمياً أو تشريعياً أو سحرياً ، أو كتاباً ‏يحتوي على كل العلوم أو ينبئ بالنظريات العلمية والأحداث التاريخية الجزئية،‏وإنما هو كتاب ديني محفز للاستعلام وللمعرفة من جهة،‏ولتشكيل ضمير أخلاقي يتعالى بالمعارف على اتساعها واستقلالها عنه من جهة ثانية،‏فالحضور المعرفي في القرآن هو حضور محفز وحضور غائي وليس حضوراً ‏حرفياً للمعارف والعلوم الإنسانية.

وبذلك فبالقراءة الثالثة للقرآن تم انتقال الأمة إلى طور أبعد في وعيها الكتابي، وإلى استحداث تغييرات في البنية العقلية والاجتماعية لمستخدمي اللغة العربية،‏ذلك أن المجتمع العربي تحول بالقرآن إلى منظومة معرفية كبرى‏ميزت حضارته الإنسانية المبدعة وهي «منظومة قراءة القرآن» وقد حقق القرآن المقروء ميزة الوصل بين الجماعة المؤمنة به وميزة إبداع الأفكار المتجددة،‏فالقيم هنا ليست كامنة وراء النص ولا في البنية الظاهرة له،‏ولا في السياق المعاش الذي نزل فيه (5) ، وإنما هي منبسطة أمامه تتطلب القراءة والاستكشاف، وذلك لأن الكتابة تحدث في الخطاب تغييراً أساسياً ، إنها تلغي مسألة المرجع كتجربة حياتية معاشة،‏لصالح المعنى القائم على شبكة من العلاقات الداخلية في النص ذاته (6) بين الرسالة التي تحملها الكلمات وبين المعنى المسكوت عنه والمختفي، وبين تراكب عدة طبقات من المعنى، أو حتى الارتباط الخاص بين عدة شفرات خارجة عن النص وقد استعيد توظيفها من داخل بنية النص ذاته،‏الكتابة لا تلغي الوظيفة الأساسية للخطاب (المنطوق والمكتوب) والتي تتمثل في قائل يقول شيئاً ‏لآخر عن شيءٍ ما. ولكن الكتابة تحول هذه الوظيفة من إطارها الشفاهي الذي يواجه فيه المتكلمون بعضهم بعضاً ، ويشيرون إلى العالم المحيط بهم الذي يشتركون فيه، إلى إطار متعال، تواجه فيه الكلمات كل من يستطيع القراءة،‏مشيرة إلى عالم ليس هنا بين المتكلمين، وإنما إلى عالم النص ذاته.
وتتميز القراءة الثالثة للقرآن بطول الحقبة التي تحققت فيها، وتتمثل أهم خصائصها في كونها قراءات فردية طابعها الابتكار شارك فيها المسلمون على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم،‏وقد استفادت هذه القراءة من سابقتها في أنها شجعت على تدوين مختلف القراءات الشاذة للقرآن ثم تم تقصي هذه القراءات وتصنيفها لمجال واسع من الاختيارات والدراسات العلمية،‏وهكذا ساهم علم القراءات مع علم التجويد في اتساع العلوم اللغوية، إذ اقتضى رصد أوجه الخلاف بين القراءات، مراجعة الإعراب والنحو والتفسير والقصص والفقه ولهجات العرب وطرق نطق الحروف وخصائصها، مما أدى إلى نشأة علم الأصوات التي اختصت بدراسة الحروف وصفاتها، مما قراءة جديدة للقرآن، قراءة تكشف عن الخصائص اللحنية للغة،‏فجاءت التلاوة مشبعة للحس الجمالي بلغة القرآن، فالقرآن ليس مجرد متتاليات نثرية من التعاليم أو القصص او الحكم والأمثال، فلكل هذه الأشكال جمالها الخاص، ولكنه نص يثير إحساساً بالجمال من خلال موسيقاه اللغوية الداخلية والظاهرة،‏وربما كان هذا العمق الموسيقي التجريدي الذي يعتمد في المقام الأول على إيقاعات حركات الحروف في تنوعها وتنوع مواضعها وعلاقاتها ومخارجها، أو علاقة ما تثيره الحروف والكلمات من حركة وتناغم في سياق زمني، هو ما أراد القراء إبرازه من خلال الأداء اللحني للنص.
هكذا ساعدت القراءة الثالثة للقرآن على تحقيق الجهود المعرفية الروحية للأفراد على اختلاف ثقافاتهم وفي ذلك تحقيق للشرط الرابع للنزعة الإنسانية والذي يتمثل في استيعاب المسلمين للبنية الكتابية العميقة للقرآن،‏فالنص القرآني ليس مجرد جامع لنصوص دينية سابقة،‏وإنما هو إعادة توظيف لها بما يجعلها تتضام على تقديس الخالق الأعظم «الله» وبما يضعها في إطار تجريد متعالٍ إلى ما يجذبها نحو غايات إنسانية كبرى، فقراءة القرآن تضع الإنسان في حدود دائرة الممكن الإنساني، وهذا الممكن هو بالضبط ما يجعل الإنسان يعرف الله،‏فهذا الممكن ينفتح به كقارئ على إمكانات الإبداع اللانهائية،‏ويحده كإنسان في ذات الوقت، ليس ثمة تطابق بين الله والإنسان أو تبادل لمواقعهما (فكلمات القرآن ليست صنماً ، والقارئ ليس إلهاً ) ولكن هناك علاقة بين الطرفين (أي بين الوحي والخلق الإلهي) والفهم والتدبر الإبداعي الإنساني لغايات الخلق والوحي قوامها القراءة، وكأن القرآن نفسه ومنذ الوحي هو تحقق مجازي لمفهوم الخلافة الإنسانية على الأرض.

وتنتهي الباحثة إلى أنه على الرغم من كل السلبيات التي مارس من خلالها المسلمون قراءة القرآن،‏فقد ظلت كتابة القرآن وقراءته الإيجابية هي مكمن الاستنارة في الحضارة الإسلامية وما أنتجته من قيم إنسانية عليا راقية،‏فقد كان مفهوم إعجاز القرآن ذاته محرراً للطاقة البشرية وراعياً لها،‏فلفظ الإعجاز يشمل معنيين: الأول أن القرآن هو الجامع لغاية الفصاحة والثاني هو تحدي التعبير القرآني لكل محاولات التقليد، وكأن الغاية من ذلك صرف المسلمين عن تكرار النموذج القرآني على غرار النموذج الشعري الجاهلي إلى إبداع نصوصهم الإنسانية الخاصة دون تقديس أي منها،‏وبما انفتح بالثقافة العربية على حدود لانهائية من ابتداع العلوم وتوسعها، هكذا لم تكن فكرة الإعجاز في العمق تحديداً للطاقات البشرية بل تحريراً لها من نمطية التقليد ومن معيارية القراءة،‏ونوعاً ‏من شحذ الملكات الإنسانية لإبداع نصوص خارج نطاق آلية تكرار النموذج،‏وتجنباً لتقديس أي نص إنساني إبداعي أو تفسيري مهما ارتفع قدره،‏مما أدى إلى ازدهار حركة النثر والعلوم بشكل لا مثيل له،‏وبالتالي كسرت قراءة النص القرآني التضاد التقليدي بين المقدس والإنساني، لتبين أن المقدس كان الشرط الأساسي لازدهار ما هو إنساني، ولكن يبقى كما تقول الباحثة أن تبقى هذه العلاقة القائمة على القراءة المبدعة تقتضي ألا يكون المقدس صنماً وألا يكون الإنسان متألهاً .

ثالثاً : النزعة الإنسانية في الفكر العربي ـ‏العصر الوسيط والمعاصر.

أما حسنين كشك فقد حاول أن يبحث في علاقة النزعة الإنسانية مع الحركات الاجتماعية خلال التاريخ العربي الإسلامي من خلال مقاربة سوسيولوجية، حيث افترض الباحث أن الفكر الديني قد لعب خلال هذا التاريخ دور الأيديولوجية الوحيدة في الصراع الاجتماعي، بحيث كان الصراع بين التأويلات الدينية تجسيداً ‏للصراع بين المصالح المادية والطبقية،‏وكان الاستغلال شديداً ‏ومكثفاً بصورة استبعدت الفئات الشعبية من دائرة الانتماء الإنساني، الأمر الذي أدى إلى حدوث أشكال متنوعة من المعارضة الثورية التي تمثلت في حركات اجتماعية سياسية مثلما حدث مع الخوارج والقرامطة والزنج والحركة البابكية وغيرها،‏وهكذا لا تخرج هذه الدراسة عن مجال الدراسات الماركسية التي حاولت قراءة التاريخ العربي الإسلامي (7) من خلال تشكلاته الطبقية وتفسير التداخلات الثقافية والدينية على أنها انعكاس للبنى المادية التي تشكل حقيقة الطبقات الاجتماعية وهكذا لا تقدم هذه الدراسة جديداً ‏على المستوى المعرفي بالنسبة لما يتعلق بالنزعة الإنسانية وكل ما نحصل عليه دراسة وصفية تاريخية لمجمل الحركات الاجتماعية خلال التاريخ العربي الإسلامي ثم اعتبار هذه الحركات أنها تمتلك أفكاراً ‏تحريرية تنزع إلى المساواة وتتسم بالتالي بما يسمى بالنزعة الإنسانية،‏وهنا تتم عملية الإسقاط الايديولوجي لمفهومٍ يعلن بداية تحرره من سلطة الايديولوجيا التي تتعامى عن الواقع ولا تقرأ إلا أفكارها. لذلك فالنزعة الإنسانية لا يتم قراءتها من خلال حركات اجتماعية ثورية يثبت تاريخ ممارستها تضاداً مع النزعة الإنسانية بمعنى احترام قيم الإنسان وجوهره.
أما علي مبروك فقد درس تطور النزعة الإنسانية في تطور الثقافة العربية، إذ يعتبر أن تحقق الإنسان في العالم العربي الإنساني مشروطاً تحديداً بإعادة إنتاج الوحي في التاريخ،‏عن طريق تأويله المتجدد بتجدد شروط الحياة، ولكي يصبح التأويل فعالاً فيجب أن ينبع من الوحي ذاته، وان يتم في إطار معرفي بعيداً عن المصالح السياسية، وأهم مسألة يتحقق فيها هذا التأويل هي مسألة الإمامة أي الدولة بكل ما تتضمنه من أسس تنبني عليها الهياكل والأبنية السياسية والاجتماعية،‏وهذه العملية لم تتم في التاريخ الثقافي الإسلامي، فبنية الثقافة المهيمنة ذاتها كانت بنية معرفية استبدادية، لم تنج منها حتى التيارات المعارضة التي انسربت إليها آلياتها، ذلك أن الثقافة العربية إنما نشأت من السياسة وطبيعتها السلطوية وتحول المبدأ المؤسسýإلى مبدأ خارجي بعد أن كان أو كان من المفروض أن يكون باطنياً ، ومن هنا ضرورة أن نستعيد عن طريق تأويل الوحي كما يرى الباحث،‏مبدأ باطنياً يحقق بعث الحياة الثقافية من جديد في عالمنا العربي المعاصر، ويمنحها طابعاً إنسانياً ، إذ يستحيل الحديث عن أية حقوق للإنسان في إطار خطاب لانتاج التسلط يسكننا ويمارس فاعليته في وعينا، وعلى ذلك يقتضي الأمر بداية تحرراً من هيمنة مثل ذلك الخطاب، عن طريق تفكيكه وخلخلته وتعرية آلياته وكسر طوق قداسته برده معرفياً إلى التاريخ الذي أنتجه والأيديولوجيا التي وجهته.
وهكذا يخلص الباحث إلى أن الخطاب التراثي استحال فيه التسلط إلى ثابت بنيوي لا يمكن نفيه إلا عبر نفي الخطاب ذاته، والخطاب العربي المعاصر لا يعرف إلا النبذ المتبادل بين نماذجه وتشكلاته الأيديولوجية،‏ومن هنا يأتي غياب كل ما هو ديمقراطي وإنساني من واقعنا الراهن، ومن دون الوعي بذلك توطئة لخلخلته وزحزحته فإنه لا سبيل البتة للحديث عن أفق لتطور ديمقراطي وإنساني في العالم العربي.

وتبعاً لذلك فإن أزمة الديمقراطية في العالم العربي ليست أزمة تنظيمات أو وثائق سياسية ودساتير بقدر ما هي أزمة ثقافة لا تنتج غير التسلط، وهكذا فإن الأفق الوحيد للتطور الإنساني في العالم العربي أفق الثقافة لا السياسة.
أما أنور مغيث فقد درس النزعة الإنسانية عند الفلاسفة المسلمين مبتدءاً بتحديد السمات العامة لما يطلق عليه النزعة الإنسانية معتبراً أنها تعتمد على أسس ثلاثة،‏الأساس المعرفي ويتمثل مبدأ بروتاجوراس وهو (الإنسان مقياس الأشياء جميعاً )، ثم الأساس القيمي حيث يقوم الإنسان نفسه بتحديد قيم للأشياء المحيطة به ومعايير للسلوك انطلاقاً من غاياته الخاصة وأخيراً الأساس الغائي، حيث يرى أن النزعة الإنسانية الحديثة ومع ديكارت تحديداً ‏قد ارتبطت بتحقيق التقدم العلمي والتقني الذي يحقق رفاهية البشر ويؤدي إلى أن يصبح البشر سادة الطبيعة وملاكها حسب تعبير ديكارت،‏أو يؤدي لاستعباد الطبيعة لانتزاع أسرارها حسب تعبير فرنسيس بيكون،‏ثم يستعرض مآلات هذه النزعة الإنسانية مع كل من هيدغروفوكو وسارتر وغيرهم من الفلاسفة الذين ارتبطت منظوماتهم الفلسفية مع الإنسان وغاياته، وهنا يتضح اهتمامه الرئيس بالفلسفة، ذلك لأنه يعتبر أنها المجال الذي تتحول فيه النزعة الإنسانية من مجرد شعور عام إلى نظرة عقلية متماسكة للعالم والإنسان،‏وهذه النظرة لها بالضرورة آثارها في السلوك وفي الممارسة الاجتماعية والسياسية،‏بعد ذلك يتعرض لتجليات النزعة الإنسانية في الثقافة العربية كما تجلت عند الفلاسفة المسلمين،‏إذ يبدأ برسالة الكندي في دفع الأحزان والتي تهدف إلى تزويد الإنسان بحكمة عملية تساعده في تجاوز أحزانه،‏ثم الفارابي الذي يعتبره المؤسس الحقيقي للنزعة الإنسانية بالمعنى الشامل في الفلسفة الإسلامية ويرصد ذلك من خلال تصوره للميتافيزيقيا والسياسة ثم يبرز الإسهام الأصيل لابن طفيل في تمجيد الإنسان الفرد وتأكيد قدرته معتمداً في ذلك على عقله في الوصول إلى الحقيقة.
بعد ذلك يشير إلى ألية التكفير كما يسميها التي أطلقها الغزالي وقدظهرت كخطر يهدد بتقويض النزعة الإنسانية وهذا ما دفع ابن رشد إلى الاشتباك الصريح مع هذه الآلية وإلى التأكيد مستخدماً التأويل والبرهان على قدرة العقل البشري على بلوغ الحكمة بطريق مستقل، وأخيراً يستعرض تأثير الفلسفة العربية بوجه عام والفلسفة الرشدية بوجه خاص على انبعاث النزعة الإنسانية في الفكر الغربي،‏كصورة توضح مدى ما تجنيه النزعة الإنسانية من تعميق وازدهار من خلال تفاعل الثقافات.
أما عاطف أحمد فإنه ينهي الكتاب بدراسة علاقة النزعة الإنسانية العربية مع حقوق الإنسان بهدف تأسيس مشروعية ثقافية لحقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية، ثم يبدأ بتحليل الشخصيات التي تمثل النزعة الإنسانية في الفكر العربي فلا يعثر إلا على ابن الراوندي و«عصابة المجان» ورئيسها أبو نواس وجابر بن حيان وغيرهم ممن أثر عنهم نزعة إلحادية ونقد لنظرية النبوة معتبراً ‏إياهم أنهم ارتفعوا بالقيم الإنسانية الخالصة في مقابل القيم الإلهية والنبوية (8) ، والسؤال الذي يطرح نفسه أنه إذا كانت النزعة تتجسد في أمثولات شخصية أو في أفكار أشخاص بعينهم كما ينهي إلى ذلك إلى محرر الكتاب فكيف إذاً نستطيع دراسة تطور النزعة الإنسانية في الثقافة العربية،‏إذ التطور يعني استمرار التواصل،‏أما شخصنة الأفكار فإنها تنطلق من فرضية الطفرات المعرفية التي تظهر مع أشخاص لا تلبث أن تزول بزوالهم،‏يضاف إلى ذلك أن الأفكار والآراء التحررية الناقدة للدين والتي اعتبرها تمثل قمة النزعة الإنسانية في الثقافة العربية ليست أفكاراً ‏عربية خالصة بل هي ذات تأثيرات غنوصية وهرمسية‏وهي سيئة معظمها ذات مواريث يونانية متأخرة وفارسية مما يجعلنا نتشكك بداية في نسب هذه الأفكار أو خلاصتها إلى الثقافة العربية الإسلامية،‏إن دراسة النزعة الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية يجب أن يتم دراستها بناءً على مجالها التداولي العام الذي نشأت فيه وفي سياقها الخاص كما حاول محمد أركون (9) ، وهذا يفرض علينا مسبقاً ‏عدم إسقاط نموذج إنساني معين ذي سياق تاريخي خاص به على ثقافة أخرى لها محدداتها وخصائصها وذلك دون أن ننفي تلاقح الثقافات وتلاقيها ودور هذا التفاعل في التطوير المتبادل والفعل الخلاق،‏ربما شكلت مجموع هذه الدراسات بادرة جديدة لموضوع طال غيابه وتناوله في الفكر العربي وبدأ التحسس له متأخراً بعد صعود منظومة حقوق الإنسان وما رافقها من ضرورة إعادة النظر في الكثير من المقولات التأسيسية التي تضاد أو تمنع نشوء ثقافة حقوق الإنسان.

* باحث من سوريا.

الهوامش
1) أحاول هنا أن أقدم قراءة لكتاب (النزعة الإنسانية في الفكر العربي، دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط) مجموعة من الباحثين، تحرير عاطف أحمد (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 1999)، دون الاكتفاء بذلك، إذ سنجد إشارة إلى عدد من الدراسات التي حاولت أن تقرأ هذا الجانب في الفكر العربي المعاصر.
2) انظر في ذلك مشروع حسن حنفي في إعادة قراءة علم الأصول التي يرى أنها كانت مبنية خلال التراث العربي الإسلامي على الله فيحاول هو العمل على إعادة بنائها وتشييدها لتنطلق من الإنسان،‏حسن حنفي،‏من العقيدة إلى الثورة، المقدمات النظرية. ج1، (القاهرة: مكتبة مدبولي، [د،ت]) ضمن سلسلة التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم،‏وتكفي قراءة المقدمة التي تطول إلى 140 صفحة لفهم مشروعه الذي يتبلور على هذه الفكرة الشديد التجريد النظري.
3)انظر في ذلك أدبيات مؤسسي النزعة القومية العربية على اختلاف توجهاتهم ويمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في كتابات زكي الأرسوزي الذي يعتبر أن الجاهلية تمثل العهد الذهبي للأمة العربية،‏بل هو عهد الفطرة القومية الأصلية الصافية، البدائية والبدئية،‏الطبيعية والأولية، والبعث القومي هو العودة إلى ينبوع الحياة المتمثل في العهد الجاهلي، قبل تأثير الدخلاء والأغيار والأعاجم والمستعمرين واعتلائهم «لفيض الأمة» اعتلاء الحشرات الضارة على الموج فسكبت في الينبوع سموماً ‏حتى افسدت مبعث انتعاشها، زكي الأرسوزي، المؤلفات الكاملة،‏المجلد الأول (دمشق: مطابع الإدارة السياسية، [د،ت]) ص278، وانظر تحليلاً ضافياً ‏ووافياً لذلك في محمد جمال باروت، الدولة والنهضة والحداثة مراجعات نقدية (اللاذقية، دار الحوار، 2000/ ص16، وما بعدها.
4) آثار العديد من الباحثين مثل هذه الشكوك،‏بل وحولوها بمثابة اليقينيات القاطعة دون كثير من التدقيق والتحقيق،‏ويبدو نموذج صادق جلال العظم بارزاً في ذلك من خلال كتابه ذهنية التحريم سلمان رشدي وحقيقة الأدب (لندن: دار رياض الريس/1992) حيث قام بانتقاء الكثير من النصوص التراثية التي تدل حسبما يرى على عدم مصداقية حفظ القرآن ووصوله إلينا بصورته الأصلية نفسها.
5) حاول كثير من الباحثين الماركسيين تأكيد النزعة التاريخية في النص القرآني بغية نفي صلاحيته الزمانية والعصرية،‏معتمدين في ذلك أن دراسة السياق التاريخي والبيئوي والاجتماعي الذي نشأ فيه النص القرآني ومحاولين دائماً ‏إعادته إلى بيئته الاجتماعية،وتبدو دراسة خليل أحمد خليل، جدلية القرآن (بيروت: دار الفكر اللبناني،‏1994) أوضح معبر عن ذلك، وقد قام محمدýأبو القاسم الحاج حمد بدراسة مثل هذا النوع من القراءات للقرآن محاولاً ‏إبراز محدداتها الأيديولوجية وسقطاتها المعرفية انظر، العالمية الإسلامية الثانية،‏جدلية الغيب والإنسان والطبيعة (بيروت: دار ابن حزم، ط2، 1996).
6) تمثل هذه الفكرة خلاصة معرفية في غاية الأهمية، لاسيما إذا استذكرنا المناهج اللسانية الحديثة ومنها المنهج السيميوطبقي التي تؤكد وجود المرجع كبعد ثالث في دراسة النص بالإضافة إلى الدال والمدلول، إذ يمثل المرجع صلة الوصل بينهما،‏وهنا يتضخم دور المرجع أحياناً ليخفي شكل الدال وغاية المدلول كما في مقولة موت المؤلف التي أطلقها رولان بارت،‏وكما في نفي القصدية وأحقية التأويل كما نجد ذلك عند هانز جورج غادامير، لذلك فالمرجع في المنهج السيميوطبقي يمثل الخلفية الاجتماعية والثقافية للنص وهذا ما حاول تطبيقه نصر حامد أبو زيد في كتابه مفهوم النص قراءة في علوم القرآن (بيروت: المركز الثقافي العربي،‏ط2، 1993) وأثار الكثير من الردود، وتمثل فكرة د.‏منى طلبة هنا في أن النص القرآني ألغى مسألة المرجع وتأويلاته المتعددة لحساب المعنى القائم في تشكيلات النص رداً محكماً على الدراسات التي تعمل على تأكيد النزعة التاريخية في النص القرآني.
7) يبدو عدد هذه الدراسات متضخماً ‏لا سيما في السبعينيات من القرن الماضي،‏ومن أبرز هذه البحوث، حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (بيروت: دار الفارابي، ط4، 1981) ج2، وطيب تيزيني،‏مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط (دمشق: دار دمشق، ط2، 1971) وأدونيس،‏الثابت والمتحول بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (بيروت: دار العودة، ط2، 1980) ج3.
8) انظر في ذلك عبدالرحمن بدوي، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،‏1947).
9) محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي. جيل مسكوية والتوحيد، ترجمة هاشم صالح (لندن: دار الساقي،‏1997).