يتميز واقع العالم في مطلع الألفية الثالثة، بسقوط مختلف حواجز السيادة القطرية على مستوى الدول، ضمن ما يسمى بظاهرة العولمة، التي شملت مختلف مناحي الحياة السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عموماً، مع هيمنة مركب صهيوني أمريكي رأسمالي، يتمتع بقوة مالية واقتصادية وإعلامية وعسكرية ضاربة، ويتحكم في مختلف مؤسسات القرار الدولية من مجلس الأمن إلى المنظمة العالمية للتجارة، مروراً بصندوق النقد والبنك الدوليين، التي يسخرها لخدمة مصالحه وممارسة غطرسته وجبروته على كل ضعيف. في حين يعاني العالم الإسلامي من التجزئة والتفرقة والتبعية والاستبداد والعجز، هذا إضافة إلى ضروب من الحروب الداخلية والعدوان الخارجي التي تعرفها العديد من مواقعه. وتتصدر حركة النهوض الإسلامي واجهة المقاومة كما تتصدر مبادرة الإصلاح والتغيير بشتى الوسائل.
لا يجادل أحد في كون معظم بلاد العالم الإسلامي، تعيش على المستوى السياسي ألواناً من الاستبداد والتسلط وهضم الحقوق، غير أن مسيرة الإصلاح والتغيير إضافة إلى ما عرفه العالم من أحداث وتحولات، أبانت أن التردي السياسي ليس إلى الوجه البارز والكالح لأزمة معقدة وعميقة وشاملة، تتداخل فيها عوامل الفساد الداخلية والإكراهات والضغوطات والاعتداءات الخارجية، والمخلفات التاريخية والجغرافية، والثقافية. وليست أزمة العالم الإسلامي إلا إفرازاً للأزمة الحضارية الشاملة التي يعيشها عالم اليوم.
غير أن أخطر وأنجع أشكال الهيمنة والذي يعتمد على الدوام، فيتمثل في التغريب الذي يطال مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمن حملة عالمية تستهدف علمنة المجال الاجتماعي من خلال قضية المرأة والأسرة، إلى ضغوط دولية لتعميم المنظومة الليبرالية في المجال الاقتصادي، إلى تعميم شكل الدولة القطرية المركزية وأشكال الممارسة السياسية الغربية، إلى خضوع الفن المعماري، في البلاد الإسلامية إلى التصاميم الغربية، إلى هيمنة مفهوم الطب الغربي علماً وممارسة وأدوية.. الخ. ولاشك أن الدول التي تكابد في جسدها قساوة الحصار على الأدوية تدرك الأهمية الاستراتيجية لقطاع الطب والصيدلة، واخترق التغريب مفاهيمنا وعلومنا ومناهج بحثنا وطرق تربيتنا، بل وأساليب أكلنا وشربنا. والتطويق الثقافي أخطر، لأنه يؤدي في النهاية إلى الاستسلام الطوعي أو إنتاج مجتمع هجين، شكله إسلامي، ومضمونه غربي. ولا يمكن لنهضة أن تتم على أسس ثقافية مستوردة.
ونعت أزمة العالم اليوم بـ «الحضارية» أو «الثقافية»، قائم على كون هذا المنحى العدواني الغربي ليس مجرد أخطاء أو انحرافات لأصحاب القرار هناك، بل نتاج ثقافة نشأت عليها شعوب وأجيال بكاملها. والعمود الفقري لهذه الثقافة هي العالمانية نسبة إلى العالم وليس إلى العلم كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري التي تعني فصل مختلف مناحي الحياة البشرية عن أية مرجعية دينية أو خلقية أو إنسانية، مما يؤدي إلى إسقاط كل قدسية على الكائن البشري واعتباره مجرد شكل متطور من الموجودات الحية، لا حرمة ولا له خصوصية، فهو مجرد مادة استعمالية ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من الموجودات التي يستعملها الإنسان.
وتؤدي العالمانية كذلك إلى انفصال مؤسسات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، عن بعضها البعض، بحيث تعمل كل واحدة منها وفق منطقها وقوانينها الخاصة الكامنة فيها، من دون الرجوع إلى قيم دينية أو خلقية أو إنسانية خارج ذاتها، وهذا ما ينتج النزعة النفعية الفجة وسياسة الكيل بمكيالين التي يندد بها المسلمون، والتي تعتبر حالة طبيعية في العقل الغربي.
وأول قطاعين تم تحريرهما من قيد الدين والأخلاق، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، هما القطاع السياسي والاقتصادي. وبعدهما استقلت الفلسفة حيث ظهرت العقلانية التي أقصت كل عقيدة أو إيمان بالغيب أو مركزية خاصة للإنسان في بحثها عن الحقيقة. وتلا ذلك علمنة الأخلاق، حيث سادت الروح العملية «البرجماتية»، والإيمان بأن البقاء للأصلح وأن الدافع الوحيد للسلوك هو حب الذات، وتمت علمنة الأدب والجنس والأسرة وغيرها من مميزات وممارسات الإنسان لتستقل عن القيم الأخلاقية وعن أي إحساس بالذنب أو الخطيئة، لكي لا تخضع في النهاية إلا لمقاييس اللذة والمنفعة، ويتحول كل شيء في النهاية إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها تجارياً.
ومن خلال هذا التشكيل الثقافي للإنسان الغربي تتحدد علاقته مع غيره، فرداً كان أم جماعة.
وبدافع من هذه العقلية النفعية الفجة يستبيح الغرب كل وسيلة لتحقيق أطماعه،بما في ذلك الإبادات الجماعية كما مارسها في السابق في الأمريكيتين والمستعمرات، وكما مورست في البوسنة وتمارس في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها. فما لم تتغير هذه العقلية فلن يتردد الغرب في ضرب أية محاولة فعلية للنهوض في بلاد المسلمين. ومما لا شك فيه أن حل هذه الأزمة الحضارية الشاملة لا يمكن أن يكون عبر المدخل السياسي القطري، بل عبر مدخل الأمة المؤهلة وحدها لانجاز الواجبات التي تتطلبها النهضة الحضارية بأبعادها القطرية والعالمية. فلابد إذن من العمل على إعادة بناء الأمة ببعديها الجغرافي والعقيدي والرفع من كفاءتهاوذلك عبر ثلاثة محاور:
معلوم أن للثقافة أهمية كبرى بالنسبة للشعوب، ولا يمكن لأية نهضة أن تتم على أسس ثقافية ستوردة. يقول «هوك جوفونيل» Hugues Jovenel مدير مجلة Futuribles : إن للنمو والنهضة الاقتصادية صلة كبيرة بالعوامل الثقافية والاجتماعية التي تختلف من جهة لأخرى. لذا ينصح «إنياسي ساش» Ignacy Sachs مدير الدراسات بمعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس دول الجنوب قائلاً: «لقد صار بديهياًأن دول الجنوب لن تستطيع النهوض بنقل نماذج الشمال (..) وعوض أن تنخدع بوجود حداثة عالمية، يجب عليها أن تقيم مشاريعها بشكل يتناسب مع محيطها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي». أما سيرج لاتوش فيبرز الطبيعة العدوانية لهذا الغرب، في كتابه «تغريب العالم» حيث يصفه بـ «الآلة الجهنمية التي تطحن الإنسان والثقافات من أجل أهداف مبهمة ولا معقولة، مما لا يمكن أن ينتهي إلا بالموت». وأضاف: «إن همجية الحرب العالمية الأولى لتقلص من طموح الغرب في أن يعتبر نفسه النموذج الوحيد للحضارة» و«نظرة خاطفة لحالة الجنوب تبرز بشكل مثير، استمرارية لا مراء فيها، منذ عهد الاستعمار إلى يومنا هذا: فلا توجد أية مراجعة للحدود من طرف الدول التي استقلت مؤخراً، ولا أية محاولة لإعادة النماذج الثقافية التي كانت قبل الاستعمار، ولا يوجد أي تعديل للممارسات الاستعمارية بخصوص استغلال الأراضي».
لذا، ورغم بشاعة الإخضاع العسكري، يبقى السلاح الثقافي أخطر ما استعمل ويستعمل ضد الشعوب، لأنه يؤدي إلى الخضوع الطوعي الذي لا يمكن أن يرتجى بعده نهوض، كما يتجلى ذلك بوضوح بالنسبة للقارة الإفريقية. يقول فيليب أنجلار بهذا الخصوص: «للثقافة بصفتها عامل تماسك وانسجام دور أساسي في التنمية (..) وليست الصعوبات التنموية التي تجدها بعض الدول، بغريبة عن الصدمة الثقافية التي تلقتها.. وتعتبر القارة الإفريقية الأكثر من تعرض لتدمير ثقافي، مما يفسر أن إنتاجها لا يساوي إلا 1.2% من الإنتاج العالمي، وأن إنتاج إفريقيا ما وراء الصحراء لا يتجاوز إنتاج بلجيكا أو هولندا». فلابد إذن من الدفع في اتجاه يعيد بناء الأسس الحضارية للأمة، تلك الأسس التي لولا تحطيمها واستبدالها بأشكال ممسوخة لما تمكن الاستعمار من تحويل الأمة إلى كيانات ضعيفة ملحقة وخاضعة إلى الآن. وهذا ما يتطلب مقاومة التغريب، الذي لم يترك مجالاًمن مجالات الفعل والمعاني والرموزفي البلاد الإسلامية إلا واخترقها وأفسدها، بهدف إعادة بناء مفاهيم الأمة ومؤسساتها على أسس إسلامية أصيلة.
نقصد به الإنجاز الميداني ـ التدريجي طبعاًـ لكل ما يعبر عن الرؤية الحضارية الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالفن المعماري، أو بفلسفة وأساليب التطبيب، أو بالمعاملات الاقتصادية، أو بالمحافظة على البيئة،وما إلى ذلك من القضايا التي يمكن انجازها على ارض الواقع، لنتحرر من التبعية من جهة، ونعتمد أساليب أكثر انسجاماً مع هويتنا وأكثر استجابة لحاجاتنا، كما نضع بين أيدي البشرية بدائل أخرى قد يكون فيها الكثير من الخير.
وابتكار هذا البديل الإسلامي المنشود في ظروف دولية معقدة، ومع الهوة السحيقة بين التطور الهائل الذي عرفته مختلف مجالات الفعل الإنساني والمحطة التي وقف عندها الاجتهاد بسبب غياب المسلمين ردحاً طويلاًمن الزمن عن صناعة التاريخ، يتطلب طفرة فكرية واضحة. وهذا ما يطرح بقوة وإلحاح قضية التجديد، التي تحتاج اليوم إلى جهود كثيرة وجرأة مخلصة من خلال عمل فريق يضم تخصصات متنوعة، من علوم شرعية وإنسانية خاصة، إضافة إلى مختلف العلوم الأخرى. كما تجدر الإشارة إلى ضرورة مراعاة التنوع الثقافي داخل الأمة الإسلامية حتى يكون الاجتهاد المعاصر عامل جمع وإثراء وليس عامل تفرقة وإقصاء.
ويقتضي واجب التجديد مراجعة المناهج التي ابتكرها واعتمدها الأسبقون في اجتهاداتهم بغية الاهتداء بها لابتكار المنهج المناسب لظروفنا وواقعنا واحتياجاتنا، ثم استيعاب الواقع في شموليته وجزئياته وديناميكيته وتعقيداته ومآلاته بغية التعامل معه من منظور علمي، بعيداًعن الخيال والانفعال والأماني.
ويجب أن يفضي هذا إلى صياغة واقتراح الحلول الإسلامية للأزمات التي تعاني منها بلاد المسلمين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولو لم تجد طريقها للتنفيذ، فلهذا العمل فوائد وأهداف متعددة، تتمثل في:
أـ ردم هوة الفراغ التي أحدثها وقف الاجتهاد أو تقلصه في المجال العام باستئناف عملية الاجتهاد من منطلقات ميدانية واقعية، حتى يحدث بذلك التراكم الفكري الذي سيشكل الذخيرة التي سينطلق منها في المستقبل من سيجتهد للتنفيذ العملي، مع الإشارة إلى إمكانية تبني بعض الإجتهادات الإسلامية ولو بشكل جزئي داخل البلاد الإسلامية وحتى خارجها.
ب ـ تعويد الناس عامة على التجديد حتى يتعاملوا معه بشكل إيجابي.
ج ـ تشجيع المجتهدين على الإبداع والنبوغ دون خشية ردود أفعال مناهضة.
وبهذا سيتشكل البديل الإسلامي تدريجياً وعلمياً في هذه المجالات ويصير المشروع الإسلامي قادراً على الانخراط في المجال العام عملياًبمجرد ما يفسح له المجال للفعل.
فعلى المستوى الداخلي يجب تقوية جانب الأمة على المستوى التربوي والمؤسسي،لتستعيد دورها الإيجابي في الحياة العامة، من خلال المهام التي كان يتولاها الوقف الإسلامي وغيره من المؤسسات الأهلية، ثم تطوير أساليب التأطير والتعبئة التي تمكن من إرساء «دولة القانون» بشكل يحد من تغول جهاز الدولة، وسيكون ذلك من خلال إيجاد وتفعيل المؤسسات الأهلية، أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني، ومن خلال تطوير أساليب المقاومة السلمية من مقاطعة واضراب واحتجاج، مع تجنب كل ما يمكن أن يؤدي إلى اقتتال داخلي أو أن يدفع بالحاكم إلى الاحتماء بالأجنبي، فكلما كانت الجبهة الداخلية للأمة بحكامها ومحكوميها متماسكة، كلما كانت الأمة أقدر على مواجهة ما هو أخطر من التحديات الخارجية.
أما على مستوى الأمة بمجموع أقطارها فيجب العمل على دعم كل مبادرات النهوض وتوحيد الصف وبناء التكامل والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغيره، وقد يكون بمبادرة شعبية عندما يتعذر ذلك على مستوى الدولة. وعندما يرتقي وعي الشعوب لدرجة تجعلها تفضل منتجات البلاد الإسلامية عن مثيلاتها الغربية، ولو كانت الأولى أقل جودة، إيثاراًمنهم للمصلحةالعليا للأمة، فيمكن الحديث عن بداية التحول الاستراتيجي المنشود. وتجدر الإشارة إلى أن الخيار الحضاري لا ينفي العمل السياسي، إنما يعيده إلى حجمه الطبيعي باعتباره مكوناً من مكونات البناء الحضاري وليس المحدد الأساس لعملية التغيير.
والفارق بين عمل مسكون بهاجس التغيير السياسي وعمل يهدف إلى بناء البديل الحضاري الإسلامي، أنه في الحالة الأولى تكون الحسابات والاعتبارات السياسية هي التي تحكم سائر أوجه النشاط الأخرى، تربوية كانت أم خيرية أم فكرية أم غيرها، أما في الحالة الثانية، فتكون الاعتبارات الثقافية والأهداف الحضارية الشاملة هي التي تحكم سائر أوجه العمل، بما فيها السياسي الذي توجهه وتحدد شعاراته وحجمه وأهدافه حسب المصالح العليا والاستراتيجية للأمة. لهذا يجب أن توجد الصيغة المناسبة للعمل السياسي ليظل محكوماً بالبعد الحضاري ولا ينزلق إلى الممارسات التي يجر إليها المنطق السياسي الضيق، من استعجال ومواجهة وتحزب وعدم تقدير لموازين القوى ولمختلف المعوقات والإكراهات الداخلية والخارجية. هذا مع التذكير بأن العمل السياسي لا ينحصر في النشاط المتجه نحو الوصول إلى السلطة، بل هناك ألوانمن النشاط السياسي من خلال العمل في مجال حقوق الإنسان وفي الإعلام الهادف، وفي ميدان البحث العلمي السياسي، وفي تطوير مختلف المؤسسات التي ترفع من كفاءة الأمة.
ومما لا شك فيه أن مشروع الرفع من كفاءة الأمة عملية تربوية وتعبوية واسعة النطاق، تستهدف كل فئات المجتمع وتحتاج إلى تفعيل طاقاته ومؤسساته من علماء ومفكرين ومدرسين، ومن مدارس ومعاهد وجامعات وغيرها، في مراهنة على إحداث التغيير الشامل المنشود من الأسفل.
غير أن قصر الجهد على المستوى الداخلي لا يكفي وحده لتحقيق التحول المنشود في الأمة، ما دامت مطامع الغرب في بلادنا وإمكانية التدخل والضغط والتحكم الخارجي لتحصيلها قائمة. وأي مسعى يطمح إلى نهضة تحرر الأمة الإسلامية وتعيد لها السيادة الفعلية على قرارها السياسي وثرواتها المختلفة وثقافتها الأصيلة، دون الانخراط في مشروع نضالي شامل يهدف بالتعاون مع كل شرفاء العالم إلى تحرير الشعوب المستضعفة قاطبة من قبضة مراكز الهيمنة العالمية بكل ألوانها، لن يفضي في أحسن الأحوال إلا إلى حالة شبيهة بالاستقلال الصوري الذي أحرزته البلاد المستعمرة عندما انخرطت منفردة،بعد الكفاح المسلح، في مفاوضات غير متكافئة مع المستعمر الذي ما لبث أن يخرج من الباب حتى عاد من النافذة.