شعار الموقع

التأمل الإستشراقي في التامل الفلسفي من القرآن إلى الحكمة النبوية ، هنري كوربان مثالا ً

زهير بن كتفي 2004-10-15
عدد القراءات « 1034 »

* باحث من الجزائر

* مقدمة: إطار تاريخي.

هنري كوربان (HENRY CORBIN 1903-1978) فيلسوف ومستشرق فرنسي. اشتغل اشتغالاً واسعاً بالفكر الفلسفي في الإسلام, وعمل طوال حياته منقباً‏عن مكوّناته ومظاهره, مهتماً أشد ما يكون الاهتمام بالفكر الفلسفي الشيعي الروحي في شكليه الاثني عشري الإمامي والسبعي الإسماعيلي خاصة منه, إلى جانب الفلسفة الإشراقية ورموزها.

وبدءاً يمكننا اعتبار الظروف التاريخية التي وجد فيها كوربان من العوامل الظاهرة والمضمرة التي أثّرت في توجيه رؤيته وقراءته لفلسفة «الآخر». وعلى رأس هذه الظروف النتائج التدميرية والأزمات النفسية والتعب الروحي و«الحزن الوجودي» والقلق المصيري الذي عانى منه المجتمع الأوروبي برمته من جرّاء حربين كونيتين, وظهور اتجاهات فلسفية في أعقاب هاتين الحربين مغطية ثلاثة عقود كاملة, تدعو إلى الثورة على «العقلانية الغربية» التي «تقتات» على الإنجازات العلمية والتقنية, وتحملها المسؤولية الكاملة في التمزق والتشيؤ الذي حلّ بالإنسان والمجتمع الأوروبي. إضافة إلى ما طبع عليه كوربان نفسه من حس روحي عميق.

فلو أردنا أن نبحث عن بداية محددة لعصره وتسمية «مُبجّلة» له توضح الحد الفاصل بين القرن العشرين الذي هو عصره والقرن التاسع عشر, بين ما ماقبل وما بعد, لكانت تلك البداية وهذه التسمية هي «الحرب الكونية». وذلك ليس باعتبار الحرب في ذاتها, ولكن بالنظر إلى النتائج التي خلفتها في أوروبا على صعيد منظوماتها الثقافية والفكرية والفلسفية والدينية والأخلاقية والنفسية. ويمكننا عموماً‏تلمس مظاهر هذه المخلفات في جانبين نراهما هامين على الأقل فيما يخص عرضنا هذا:

(أ) أما الجانب الأول فيتمثل في زعزعة مفهوم «الإنسان» كما شيّده الفكر الغربي منذ عصر التنوير, حيث تم فيه بناء هذا المفهوم على «ذات» الإنسان نفسه. أي تحديداً, على عقله «الأداتي» وحسه التجريبي. فلقد أتيح للإنسان ـ كما افترض الفكر الغربي التنويري ـ أن يدرك ذاته وأن يسخر كل ما في الكون لإشباع دوافعه وحاجاته ورغباته من منطلق وحيد هو استخدام «العقل» كأداة سيطرة على الطبيعة وعلى الواقع الإنساني. لكن نتيجة لويلات الحرب وآثارها المحبطة للفكر الغربي, اضمحل هذا الطرح المفهومي للإنسان, ليبدأ البحث عن مفهوم جديد يتحسس في الإنسان جوانبه الوجدانية واللاشعورية والروحية والجوانية مع فلاسفة من أمثال «فرويد» و«يونغ» و«هيدغر» و«ياسبيرس» وغيرهم.

(ب) وأما الجانب الثاني فيظهر في نقد ومناقشة مفكري وفلاسفة ما بعد الحرب لذلك «الاحترام» الذي كانوا يبدونه لكبار فلاسفتهم كـ «هيغل» و«كانط» و«فخته», والتشكيك في «مسلّمات» حضارتهم وعلى رأسها العقلانية التي ينتهجها المنهج العلمي في الكشف عن المادة كما أشرنا, والوضعانية في التعامل مع الواقع سواء منه الكوني أو الإنساني أو التاريخانية في تفسير كرونولوجيا الواقع التاريخي, وشمولية مفاهيم وأحكام الفلسفة الغربية بعيداً عن منطق الدين والغيب.

وواقع الحال أن الإنسان الغربي, في تلك الظروف التاريخية وفي وسط صراع «رهانات» الفكر الغربي, لم يكن يجد أمامه منظومة قيم ثقافية وفكرية وروحية يمكن أن تكون كافية وضرورية. وهذا بالتحديد ما أدى إلى إحداث رغبة في تجديد الذات الأوروبية ومحاولة إعادة تشكيل «العقل الأوروبي» من خلال لجوء الكثير من مفكري وفلاسفة الغرب إلى عقائد الشرق مثل «البوذية» و«الهندوكية» و«الطاوية» وغيرها يشتشرفون في إطارها «المستقر» و«المستودع» الأمثل لـ «الأنا» الغربي.

ولم يكن ذلك ممكناً بالنسبة لكوربان إلا من خلال رحلته إلى «مشرق» الفلسفة الإسلامية, نقصد إلى روحانية هذه الفلسفة. محاولاً‏إعادة إحيائها برسم منحنى بياني جديد‏وغير مسبوق لها, مستلهماً‏تجربة رفيق دربه شيخ الإشراق/ الشاب شهاب الدين السهرودي (*)  الذي عمل على إعادة إحياء الحكمة النورانية الشريفة «حكمة الإشراق» معتبراً نفسه غير مسبوق إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه في عرضنا هذا: كيف أعاد كوربان «التفكير» في الفلسفة الإسلامية وما هي «الدوافع» الغربية التي نسجت شبكة تأملاته?

أولاً: القرآن الكريم كـ «ينبوع» للفكر الفلسفي في الإسلام.

ينطلق كوربان من مسلمة أساسية يمكننا اعتبارها بمنظور ابستيمولوجي خالص «أصلاً منطقياً» لنشأة وتطور الفكر الفلسفي في الإسلام. وتتلخص هذه المسلّمة‏ـ إن جاز لنا التعبير ـ في أن الفلسفة الإسلامية هي, أولاً وقبل كل شيء, عمل مفكرين ينتمون إلى جماعة دينية خصها القرآن الكريم بعبارة «أهل الكتاب»  les gens du lire  بمعنى جماعة دينية تملك كتاباً‏مقدساً, منزلاً, موحى, تعلمته, من قبل نبي مرسل من الله تعالى. جماعة يصدر وجودها نفسه عن الكتاب. فإلى جانب المسلمين, فإن أهل الكتاب في فكر كوربان هم اليهود والنصارى بالإضافة إلى الزرادشتيين  les Zoroastriensأو (les Zarathoustriens)  الذين كما يرى استحقوا بعض الشيء هذه التسمية أو الامتياز بسبب كتابهم «الابستاق»  Avesta . أما أولئك الذين تسموا بصابئة حرّان وكانوا هرمسيين (**) , فقد كانوا أقلّ حظاً (1) . فالكتاب المقدس إذن يحتل محوراً مركزياً في صياغة الفكر الفلسفي لأهل الكتاب. ومن هذا المنطلق يفضل كوربان إطاراً واحداً لـ «تَفَهُّم»  Comprendre  أو «تَفْهِيم»  Faire Comprendre  أو «فَهم»  Comprehension  (***)  كتاب الله العزيز الحكيم فيما اصطلح على تسميته بـ «ظاهرة الكتاب المقدس»  le Phenomene du lire saint  كظاهرة قائمة بذاتها في فكر أهل الكتاب. ويوضح مفهومه من هذه الظاهرة فيقول: «يتعلق الأمر هنا (أي ظاهرة الكتاب المقدس) بمجموعة من الوقائع الروحانية التي لها ما يماثلها عند كل الجماعات الملتفة حول كتاب مقدس» (2) . لنقل بأن ما يقصده كوربان عموماً من هذه «الوقائع الروحانية» هو صور عالم الألوهية والملكوت وعالم الملائكة والأفلاك الروحانية كما صورها فلاسفة الإشراق والباطن كالسهروردي وغيره. فما هو «واقعة» روحانية لها ما يطابقها او يماثلها من «وقائع» روحانية عند كل جماعة من الجماعات الدينية التي تستند إلى كتاب مقدس, يقع بالضرورة في دائرة هذه الظاهرة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا, كيف أمكن لأهل الكتاب أن يجعلوا من «ظاهرة الكتاب المقدس» كما «يصطنعها» كوربان, وعاء للفهم والتأمل الفلسفي?

لا يدخر كوربان جهداً في الذهاب إلى أن المؤمنين بهذه الظاهرة المشتركة بين الفروع الثلاثة لـ «الملة الإبراهيمية» اليهودية والمسيحية والإسلام, أي أهل الكتاب, قد وجدوا أنفسهم أمام كتبهم في معضلة واحدة ومهمة وحيدة. أما المعضلة فهي السؤال الكبير المتمثل في ما هو المعنى «الحقيقي» لهذا الكتاب? وأما المهمّة, فهي ما يصطلح على تسميته بـ «التأويلية الإبراهيمية». أي نزعة التفسير الباطني والبحث عن المعنى الروحاني عن طريق «تأويل» المعنى الخفي على النحو الذي مارسه روحانيو الكتاب (3) . وهذه الإشكالية (المعضلة + المهمة) على ما يقدر كوربان, هي نفسها التي استحوذت على كل علوم القرآن في الإسلام. لأنها ببساطة هي من نوع المشكلات التي تنبع طبيعياً من داخل ظاهرة الكتاب المقدس (4) . إذ ما دام وجود أهل الكتاب نفسه يصدر عن الكتاب, أو بعبارة أخرى, مادام الكتاب هو الذي ينظم حياتهم ووجودهم ومعرفتهم في هذا العالم وفيما وراء هذا العالم, ومادام الكتاب ليس مكوناً من ورق وحبر فقط ولكنه يحمل «معنى» أيضاً, ولأن هذا المعنى يستعمل في أكثر من مستوى تناسباً مع مستوى صفاء النفس والتجربة الروحية لنمط الشخص الذي يقرؤه (5) ; فإن الفهم يكون مشروطاً‏بمعايشة هذا الشخص للكتاب وكل ما ينتج عن هذه المعايشة من سلوك داخلي له هو في حد ذاته موقف تأويلي للكتاب (6) . وعليه, يقول كوربان, أجاب المؤمنون بالكتاب على السؤال/ المعضلة, وقرروا بأن المعنى الحقيقي للكتاب هو المعنى الباطني, الروحاني, المحجوب والمستتر وراء الظاهر, الحرفي, الخارجي والمرئي. وأن المهمة الأولى والأخيرة هي «إنقاذ» ظاهرة الكتاب المقدس بالعمل على تَفهّم وتفهيم وفَهم المعنى «الحقيقي» الذي قرروه للكتاب. وبتواضعهم على هذه الإجابة والمهمّة صارت ظاهرة الكتاب المقدس تتضمن «نظرية معرفة» لتسلسل أنماط الفهم القائم على النزعة التأويلية «Hermeneutique» (7) . أي القائم على وجوه تحصيل الفهم للنصوص.

وهكذا فقد عمل كوربان في رأينا على التأسيس لفهم النصوص, نصوص الكتاب خاصة, دون أن يريد لهذا الفهم ـ انطلاقاً من مرجعيتي «الملة الإبراهيمية» و«التأويلية الإبراهيمية» ـ أن يتنمط في «انتربولوجية» دينية خاصة بهذه الجماعة دون تلك. بل على العكس من ذلك تماماً, لقد أراد له أن يصبح في إطار ظاهرة الكتاب المقدس النموذج الأصيل, الإجماعي والجامع الذي طبع كل التأمل الثقافي والفكري والفلسفي لأهل الكتاب. ومن هنا راح يبحث عن «المشترك» بين الطريقة التي قرأ بها الروحانيون, المتصوفة والإشراقيون, المسيحيون والمسلمون الإنجيل والقرآن (8) . وراح يبشّر بـ «تأويل روحاني مقارن» يقود من جهة, إلى فهم ما هو مشترك بين متطلبات وآفاق ظاهرة الكتاب المقدس و«الواقع النبوي» الذي يختص بها. ويؤدي من جهة أخرى إلى تشييد «قصر للروح» يجمع الباطنيات الروحانية الإنجيلية والباطنيات الورحانية القرآنية كما يفترضها (9) . ويوضح رأيه أكثر فيقول: «إننا ننطلق من الواقعة الروحانية, من ظاهرة الفهم; كيف فُهمت وقُرئت معطيات مشتركة بين الإنجيل والقرآن من طرف روحانيين يؤمنون بالكتب. وكيف يتجلى نمط معين من الفهم المشترك في طريقة إدراك ما يتطلبه المعنى المحجوب من وقائع وعوالم روحانية» (10) . وكمجال لهذا التأويل الروحاني يستعرض كوربان عيّنات متعددة للبحث. فمثلاً‏نجده يعقد مقارنة بين من يصفه بـ «نبي المعنى الباطني للإنجيل» إيمانيول سويندنبرغ «Immanuel Swednborg» (*)  وبين الفلسفة الإسماعيلية اليمنية على التأويل الباطني والموغل في الباطنية لنصوص الوحي العظيم (11) . كما نجده كذلك يدعو إلى إقامة دراسة مقارنة بين ما يسميه «الباطنية الإسلامية» والباطنية اليهودية, ممثلاً‏لها بين مفهوم «السكينة» في التصوف الإسلامي ومفهوم «la SHEKHINA» في التصوف اليهودي كما تعرضه «الكبالة» (La Kabbale) (*)  (12) .

وهنا ألا يحق لنا أن نتساءل لماذا تأويل روحاني مقارن?

ما نراه جملة هو أن هذا التأويل الروحاني المقارن, هو الذي بإمكانه أن يعطي «مصداقية» أكثر تأسيسية لمفهوم ظاهرة الكتاب المقدس. كما أن كوربان يهدف منه, من جهة أولى, إلى التأكيد على ضرورة التصوف اليهودي الكبالي بجانب «الميستكية» Mysticisme المسيحية, وإعطائه أكثر أهمية في مجال الدراسة المقارنة بين روحانيي ظاهرة الكتاب المقدس كما يصرح هو ذاته (13) . ومن جهة ثانية يكون بعمله هذا قد فتح الباب أمام الفلاسفة الغربيين للتقرب والتعرف على «روحانيي الشرق» من المسلمين خاصة الإيرانيين منهم, الذين ما فتئ يقدم منتخبات عنهم إلى الفلسفة الغربية. وبذلك يكون قد قدم روحانية النظر الفلسفي الإسلامي إلى الغرب حتى يتمكن من إكمال روحانية الفكر الفلسفي الغربي. انطلاقاً‏من أن الحضارة الغربية هي كما يصفها الغربيون أنفسهم حضارة «يهو ـ مسيحية»  judeo-chretienne . فالروحانية إذن متأصلة في الغرب ولكنها في هذه اللحظة‏ـ لحظة كوربان التاريخية كما حاولنا تأطيرها سلفاً‏ـ هي غائبة عن أفق الحضارة الغربية. «ومن أجل أن ينقذ الغرب فكره الخاص, لابد له في هذه اللحظة أن يلتقي خارجه بمن يكشفون له ما هو متأصل فيه» (14) . تلك هي مهمة التأويل الروحاني المقارن.

إذاً تأويل روحاني بوحي من الغرب ومن أجله, وعلى أساس من هذه الرؤية نظر كوربان إلى القرآن الكريم, من خلال فلاسفة الإشراق والباطن خاصة الإسماعيليين منهم, كمجال خصب للروحانية ومفاهيمها الخاصة الرمزية. وإلا فإن أية نظرة أخرى خارج هذا المنظور سوف تؤدي حتماً في رأيه «إلى وقوع الإسلام ورواياته وطرقه في التطور الذي أصاب المسيحية وجعل من نظمها اللاهوتية نظماً أيديولوجية وسياسية وعلمانية» (15) . وفي هذا السياق فإن القرآن الكريم كما أراد كوربان أن يقدمه إلى الغرب ليصحح, كما يقول, تلك الدعوى الخاطئة التي راجت عند مثقفيه بأنه لا فلسفة ولا تصوف في القرآن وأن الفلاسفة والمتصوفة لا يدينون بشيء لهذا الكتاب العزيز (16) , هو القرآن الذي يحمل معنى ظاهرياً, خارجياً, حرفياً ومعنى باطنياً, محجوباً, روحانياً. وبمقتضى مفهوم ومتطلبات ظاهرة الكتاب المقدس, كما حاولنا إيضاحها, فإن المعنى الحقيقي للقرآن يصبح في الرؤية «الكوربينية» هو المعنى الباطني, المحجوب, الروحاني الذي لا يظهر إلا بالتأويل.

وجدير بالملاحظة هنا أن الممارسة التأويلية على نصوص القرآن الكريم ـ كما تبناها كوربان صراحة أو ضمناً‏من فلاسفة الإشراق والباطن المسلمين وحاول المطابقة بينها وبين أبرز المناهج الفلسفية الغربية كالظاهريات والتأويليات ـ تحتوي على ثلاث درجات: التفسير والتأويل والتفهيم. فأما التفسير فهو التأويل الحرفي للنص. ومداره العلوم الفقهية ويرتبط ارتباطاً حصرياً بالشروحات النصيّةز ويمثل الدرجة الدنيا في المعرفة عندهم. وأما التأويل فيعني حرفياً‏ردَّ الشيء إلى أصله, أو قاده إلى أمه, أو أوصله إلى نموذجه الأصلي. وهو الاسم الذي يسمى به كل تفسير رمزي. ومداره التوجيه الروحي والحضور الإلهي. ويمثل درجة وسطى في المعرفة. وأما التفهيم فمداره فعل التفهيم بالله بواسطة الإلهام. «الله تعالى فاعله وموضوعه وغايته». ويمثل الدرجة العليا في المعرفة. ثم إنما يلفت الانتباه في هذا التصنيف هو المماثلة التي يحاول أن يقيمها أصحابه بين درجات الفهم هذه وبين المدارس الفلسفية. فعلم التفسير لا يتضمن أصلاً‏أية فلسفة. ولكن بالرغم من ذلك يتعسف كوربان في مماثلته بالفلسفة المشائية, ربما للإزدراء به. لأنه يحط من قيمة الفلسفة المشائية. وأما علم التأويل فيماثل بينه وبين الفلسفة الرواقية, لأنها حكمة من وراء حجاب أو رواق. وأما علم التفهيم, فيماثل بينه وبين الحكمة المشرقية أو حكمة الإشراق, حكمة السهروردي والملا صدرا الشيرازي (**) . وبغض النظر هنا عن مناقشة هذا التصنيف ومدى صدق هذه المماثلة, نظراً‏لأن هذا المنظار يتعلق بمنهج كوربان الذي يحتاج في الواقع إلى نقد ومناقشة مستقلين, فما يهمنا هنا بدرجة أولى هو التأكيد على أن طريقة الممارسة التي يرتكز عليها كوربان كآلية منهجية و«رؤيوية» في آن واحد لفهم القرآن الكريم, باعتباره الينبوع الذي تفجر منه الفكر الفلسفي في الإسلام, هي «التأويل» بكلمة كلية, متضمناً «علم التأويل + علم التفهيم». بعبارة أخرى, التأويل الذي يرتبط بالكشف «الحدسي» أو قل كشف «البصيرة» بالإضافة إلى ارتباطه بالإلهام الإلهي. وعليه يذهب كوربان إلى أن «تقنية» التأويل بهذا المفهوم تترجم بوضوح أن ظاهرة الكتاب المقدس هي «المموّن الأصلي» لمادة البحث الفلسفي كمنبع للحياة الروحية (17) .

ومن وجهة نظر كوربان هذه, يظهر أن المعنى الحقيقي للنصوص القرآنية الكريمة يكمن في إعادة ظاهرها إلى «أصله الأزلي»  Archetype eternel  الذي هو «أم الكتاب». لأن أم الكتاب هي «الكلمة الإلهية المستورة تحت غطاء الظاهر» (18) . وإذا كانت الكلمة الإلهية التي توحى إلى رسول الله (ص) تأخذ طريق «التنزيل» فإن قراءتها الباطنية يقول كوربان, تأخذ طريقاً‏معكوساً صاعداً, هو «التأويل»; أين يُقلب الزمن الآفاقي الأفقي, الزمن الكمي والخارجي إلى زمن أنفسي عمودي, زمن نوعي وداخلي. وحينئذٍ يتم الولوج إلى «مافوق التاريخ», إلى تاريخ الوقائع والعوالم الروحانية التي تجد مكانها في السماء «les evenements dans le ciel» (19) >

وما يترتب على هذا «بنائياً» و«نسقياً» أن ما «يقصد» (*)  إليه كوربان في مفهومه حول المعنى الباطني لنصوص الوحي الكريم, هو أن هذا المعنى لا يمكن أن يكون هو المعنى الذي يستفاد من «المجاز»  Metaphore  والذي شغل معظم المفسرين لكتاب الله تعالى. كما لا يمكن أن يؤدي إليه ما يعتبره خلطاً‏بين المجاز و«الرمز»  Symbole . لأن المعنى الحرفي عنده هو في جوهره مجاز أو «استعارة»  Allegorie . وبالتالي فإن هذا المعنى الباطني المحجوب هو المعنى الروحاني. وعليه يفترض كوربان بأن الإدراك الرمزي ـ المؤسس على التأويل لنصوص القرآن ـ هو بالضبط إدراك باطني روحاني لمعاني هذه النصوص. ذلك أن التأويل يقتضي أساساً مبدأ «رمزية النص». وضمن هذا المنظور, فإن الكتاب العزيز عندما يتحدث عن الخلق والكون والإنسان والحياة يعبر برمزية عن الخالق مثلما عن المخلوق وعن العوالم المرئية مثلما عن العوالم غير المرئية. ولا يقف الاستعمال الرمزي إلى هذا الحد, بل يطال كذلك سور القرآن وآياته وأشخاصه وتراكيب حروفه. فكل ذلك يعد رموزاً‏لحقائق وبواطن مخفية, فتتجلى من خلال ذلك, على ما يرى كوربان, عالمية القرآن  L'llniversalite du Quran  (20) .

وجملة فإن المعنى الحقيقي للقرآن, في إطار ظاهرة الكتاب المقدس, هو المعنى الباطني الروحاني. وبهذه الرؤية دون غيرها, يعدّ القرآن عند كوربان منبعاً للتأمل الفلسفي في الإسلام.

وهكذا, كما لاحظنا, أصبحت دعوى «ظاهرة الكتاب المقدس» في الرؤية الكوربينية مأخوذة مأخذ المسلّمة التي لا يتطرق إليها أبداً‏حتى فعل «الاستشكال الفلسفي». فقد أضحت محلاً «للإجماع» في التفكير الفلسفي لأهل الكتاب. إذ قرروا جميعاً بأن ظاهر الكتاب ليس له أي معنى إلا في إطار مفهوم الباطن الذي هو معناه التام والكامل. فليس للظاهر أي حقيقة. بل إن باطن الكتاب يستقل تماماً‏عن ظاهره. ومن هنا جاء التأويل ليكشف عن هذا المعنى الباطني للكتاب بوصفه معنى حقيقياً. ولكن هل حقاً حدث مثل ذلك الإجماع تاريخياً? صحيح أن علم التفسير أو قل التأويل إنما جاء أصلاً من أجل الكشف عن مراد الله عز وجل, أي عن حقيقة معنى كلام الله تعالى. ولكن لم يحدث أبداً ذلك الإجماع الذي لوّح به كوربان. بل الإجماع المحتمل هو نقيضه. فقد تقيّد جمهور المفسرين بمختلف مناهجهم بمنطوق النصوص القرآنية وبيّنوا معانيها مستفيدين من وضع العبارة والنقل والرواية, معتمدين على جملة من العلوم الشرعية والمنهجية واللغوية, معتبرين إياها من العلوم الضرورية لبيان معاني الكتاب الكريم. حتى علماء التصوف وكبار السالكين إلى الله تعالى لم يشذوا عن هذا الطريق ولم يدعوا أبداً أن المعاني «الباطنية» للنصوص القرآنية يمكن أن يستغنى بها عن المباني الظاهرة المتعارف عليها للنصوص. وان اشتهروا باستعمال لفظ «الباطن» في معنى «الحقيقة» ولفظ «الظاهر» في معنى «الشريعة», غير أنهم أقاموا أحدهما مقام الملازم للآخر حتى لا انفكاك بينهما. وعليه فإن الإجماع الذي لوّح به كوربان مردود لأنه لم يحصل قط.

أما بالنسبة إلى ما اصطلح عليه بالمهمة/ التأويل, فجدير بالملاحظة أن الممارسة التأويلية في الفكر الفلسفي في الإسلام لم تطلق على عواهنها, بل أُخضعت إلى جملة من المتطلبات والمقتضيات والشروط المنهجية والموضوعية والعلمية الصارمة كما أسس لها علم أصول الفقه (الذي اعتبره الشيخ مصطفى عبد الرازق جزءاً‏من الفلسفة الإسلامية (*) ) في النصوص التي يحمل ظاهرها أكثر من معنى. وكمثال على ذلك هنا, فإن من بين خطوات هذه الممارسة أن يُنظر أساساً إلى اللفظ الذي يراد صرفه عن ظاهره ويراعى مدى قبوله للمعنى الجديد. فإن لم يقبل هذا المعنى الجديد, فاللفظ نص لا يقبل التأويل, وإن قبله: فإما أن يجري على مقتضى العلم وإما أن لا يجري على مقتضاه; فإن جرى على مقتضى العلم, أي كان قابلاً‏بحسب اللغة للمعنى المؤول به ووافق أصول الوحي ولم يتصادم مع كليات الشريعة, فلا إشكال في «اعتباره» لأن «اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه». وإن لم يجرِ على مقتضيات العلم, فلا يصح حمل اللفظ عليه, بل حمله عليه باطل (21) .

وفي المقابل فإن التأويل الذي يدعو إلى ممارسته كوربان كمهمة لإنقاذ القرآن من «ظاهره»!, هو التأويل الذي لا يعترف بهذه الحدود, وكيف يعترف بها وقد جعل من «الرمزية» عنواناً‏على عالمية القرآن! وما الرمزية التي يؤسس عليها كوربان التأويل إلا دليلاً‏على التنصل التام من جميع القيود والشروط المنهجية والشرعية والعلمية التي تضبط الممارسة التأويلية. ولذا فإن التأويل عند كوربان, في تقديرنا, لم يكن ليخرج في الواقع عن عملية تضمين نصوص الوحي بحيث تُخضع وتُشرح وتُأوّل في إطار الرؤى «الغنوصية» والاتجاهات الفلسفية والنزعات «اللاهوتية الباطنية» المتعددة التي تطفح بها اليهودية والمسيحية. وهو ما يؤدي طبعاً‏إلى فتح الباب على مصراعيه لتحميل الكتاب العزيز مختلف المعاني في مختلف الاتجاهات. وكما هو معلوم, فليس أخطر على القرآن من هذه الممارسة التأويلية. لقد كان النبي (ص) أعلم البشر بكتاب الله تعالى وإدراك معانيه ولكنه بيّنه كما نزلت آياته الشريفة بالطريقة التي يفهمها جميع الناس على اختلاف درجات أفهامهم. ففهوم الصحابة الذين تلقوا الكتاب وقرؤوه وفهموه عن رسول الله (ص) والتابعين وكبار أئمة المسلمين لم يكن ليخرج عما تشهد به لغة القرآن وسياق معناه وأسباب نزوله.

ولا مناص من التأكيد هنا على أن القرآن الكريم اعتبر دوماً, في إطار الفكر الفلسفي في الإسلام, منبعاً لهذا الفكر: في مضمون دعوته العقل الإنساني إلى التأمل والتفكير, وفي بيان واقعية الوجود الإنساني والكوني المعلول لله تعالى, وفي شحذ روحه وقلبه ووجدانه بشتى أنواع الصور الغيبية والنفسية والكونية والتاريخية, وفي القضايا التي طرحها عليه في مجال الميتافيزيقا والتي حسمها ولم يدع مجالاً للاجتهاد في أكثر نواحيها, وفي وضع الإنسان أساساً أمام عالمي الغيب والشهادة.

يبدو واضحاً إذن أن ظاهرة الكتاب المقدس لا تأخذ معناها إلا في إطار المرجعية الروحانية لمؤولي كتب الأديان الثلاثة, اليهودية والمسيحية والإسلام, وأن النص القرآني لا يمكن فهمه إلا ضمن هذه المرجعية. وضمن هذه المرجعية ذاتها اعتبر كوربان القرآن منبعاً للتأمل الفلسفي في الإسلام.

والسؤال الذي يهمنا طرحه الآن هو: أين يستقر المقام بحياة الفلسفة في الإسلام في الرؤية الكوربينية?

ثانياً: الحكمة النبوية كـ «أصل» للفكر الفلسفي في الإسلام.

إن أول ما تؤدي إليه ظاهرة الكتاب المقدس, ضمن «أكسيومية» كوربينية, هو أن حياة الفلسفة في الإسلام لا يمكنها أن تعود إلى علماء الكلام السنة أو الشيعة على السواء ولا إلى الفلاسفة المشائين, ولا حتى إلى المتصوفة. إنما تعود مباشرة إلى ما يصطلح كوربان على تسميته بـ «الفلسفة النبوية» فماذا يقصد بهذا المفهوم, وكيف يفكّر فيه بوحي من «أناه»?

نرى أن الأهمية التي يوليها كوربان لهذه الفلسفة تجد آفاقها في محاولة تجاوز ما يعتبره «عادة قديمة» اتبعت بدون نقاش في الفكر الغربي ودأبت على اعتبار أن الفكر الفلسفي والروحي في الإسلام يعبر عن نفسه في ثلاثة أشكال هي علم الكلام والفلسفة المشائية والتصوف. إذ حاول أن يبيّن بوجه عام أن «التبيانة» العامة لهذه الأشكال بالنظر إلى علاقاتها المتبادلة تظهر تاريخياً‏في «أمشاج» لا متجانس. فالتصوف يرفض الفلسفة والفلسفة ترفض التصوف. وعلم الكلام لا يُظهر ودّاً للتصوف والفلسفة على السواء. والتصوف والفلسفة لا يتعطفان بدورهما مع علم الكلام. وفي مقابل ذلك. إذا كان التصوف قد رفض الفلسفة, فإن هناك متصوفة شيدوا «ميتافيزيقا» للتصوف على نحو غريب ومذهل. وإذا كانت الفلسفة قد رفضت التصوف, فإن هناك فلاسفة مارسوا تأملهم الفلسفي في تجربة التصوف. وإذا كان علم الكلام قد رفض الفلسفة, فإن هناك من علماء الكلام من مزج علم الكلام بالفلسفة (22) .

واضح من خلال هذا الطرح أن كوربان أراد أن يُقدم لقارئه انطباعاً‏عاماً‏يدل على مدى تأزم التبيانة العامة لهذه الأشكال, حتى كأن الفكر الذي يظهر فيها ومن خلالها يبدو وكأنه يدورفي متاهات لا مخرج منها. إنه نوع من «التأزيم» الذي أراد أن يصبغ به كوربان تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي حتى يمهّد لـ «الشيء» الذي بدونه تظهر هذه التبيانة «مأزومة» ومعقدة وناقصة. هذا الشيء هو الفلسفة النبوية ذاتها. أو لنقل بمصطلح أكثر تداولاً في المجال الفلسفي الإسلامي «الحكمة النبوية». ويكفي دلالة على مدى الاشتغال والانشغال الذي خص به كوربان هذا المفهوم في تأريخه للفلسفة أنه صدّر بها أهم كتاب يؤرخ فيه للفلسفة الإسلامية في شموليتها في جزءيه وهو «تاريخ الفلسفة الإسلامية» على نحو غير مسبوق. وجعلها مدار الكثير من أبحاثه, خاصة فيما يصطلح على تسميته بـ «الفلسفة الإيرانية الإسلامية» ورموزها.

إن الفلسفة النبوية كما يعرفها كوربان, بمقارنتها مع الأشكال الثلاثة الأخرى هي: «فلسفة تأويلية أكثر منها جدلية في بنائها البرهاني للمجردات المنطقية. أي أنها «طريقة» في التفكير تفضل تدرجاً يرتبط بالكشف وإزاحة الستار عما هو محجوب تحت الظاهر» (23) . والملاحظ هنا على هذا التعريف الأولي للفلسفة النبوية هو تأكيده على خط أن الفلسفة الإسلامية هي عمل مفكرين من أهل الكتاب; فالفلسفة النبوية التي استقر عندها التأمل الفلسفي في الإسلام, هي موضوع للفكر, لأن «الواقع النبوي» المرتبط بالوحي القرآني الذي مداره على التأويل والحضور الإلهي هو مجالها. وهي طريقة التفكير, لأن الإلهام الذي يرتبط به كشف البصيرة يشكل حجر الزاوية في هذا الواقع. وعملاً‏بهذا الاعتبار, فإن كل تفكير أو تأمل عند هؤلاء المفكرين سيتجه في رأي كوربان لا محالة إلى ناحيتين: 1) يتجه إلى الله عز وجل الذي يتكشف في كتابه من خلال الرسالة التي يمليها الملاك على النبي (ص) وهي رسالة «تعاليه» تبارك وتعالى. أي بعبارة أخرى يتجه إلى رسالة «التوحيد». 2) ويتجه إلى النبي (ص) الذي عليه أن يبلّغ هذه الرسالة التي تلقاها عن الملاك. أي بعبارة أخرى يتجه إلى الشروط التي يفترضها هذا التلقي عن الملاك (24) . وبالتالي فإن أي تأمل حول هذا الواقع بناحيتيه هاتين يؤدي كما يرى كوربان, في إطار الفكر الشيعي, إلى علم للتوحيد وللنبوة وللإمامة أو الولاية وللعرفان القدساني «Hierognose» (*)  ويضع تاريخاً آخر للإنسان هو ما وراء التاريخ «Metahistoire» أو التاريخ القدساني «Hierohistoire».

1ـ النبوة التشريعية والولاية الباطنية.

وكوربان إذ يتبنى الفلسفة النبوية كمحور رئيس, بل يمكننا القول ووحيد في إطار شامل هو الفلسفة الإسلامية, يرى أنه لا يمكن العودة بهذه الفلسفة إلى ما هو أقدم تاريخياً‏من الإسلام نفسه. حيث تجد منبعها الأصلي في سنن الأئمة الشيعة التي قامت بشرح ما «أشار» إليه القرآن الكريم (25) . ويذهب, علاوة على هذا, إلى أن الفلاسفة والمفكرين الشيعة قد وضعوا معرفة الفلاسفة (= الحكماء الإلهيون) في مقام معرفة الأنبياء انطلاقاً من علم النبوة نفسه; إذ يقسمون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى طبقات هي بالترتيب: (أ) طبقة النبي المنبأ في نفسه. (ب) طبقة النبي الذي يسمع صوت الملاك في الحلم, أي سمعاً روحياً, ولا يراه في اليقظة. (جـ) طبقة النبي الذي يسمع ويرى الملاك في الحلم واليقظة وهو مرسل إلى جماعة. (د) طبقة الأنبياء الكبار: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد إضافة إلى النبي داود, عليهم وعلى نبيّنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم, الذين أرسلوا بشريعة جديدة. فنبوّتهم هي «النبوة التشريعية»  Prophetie legilatrice  (26) >

ويسفر هذا الترتيب عند هؤلاء المفكرين الشيعة كما يرى كوربان عن نتيجتين حاسمتين بالنسبة لمفهوم الفلسفة النبوية:

ـ النتيجة الأولى: المطابقة بين الولاية عند الشيعة وبين ما يعتبره كوربان «النبوة الباطنية» أو «النبوة الصغرى» بمعنى النبوة التي لم يصحبها تشريع إلهي. وهي نبوة طبقة (أ) و(ب) من الأنبياء. فيصبح هؤلاء الأنبياء من خلال هذا المنظور هم «أولياء الله»  Amis de Dieu . لهم معارف لم يكتسبوها ولم يقفوا في الوقت نفسه على سببها المباشر. أي أنهم تلقوا العلم دون رؤية للملاك في اليقظة. وهذا الذي يبرر عند كوربان المطابقة بين حالة الأئمة الشيعة وحالة الأنبياء القدامى (أ) و(ب). فكلاهما يمتلك الإدراك السمعي للملاك في الحلم. فليس بين الولاية الشيعية و«النبوة الباطنية» أي اختلاف اللهم إلا في الكلمة. وهذا الواقع له في رأي كوربان أهمية حاسمة لأنه «يؤسس» للفكرة الشيعية الكلية وهي أن دور الولاية يتلو دور النبوة ويجعل منها ممكنة. لأن ما ختم هو النبوة التشريعية بينما الولاية مستمرة (27) .

ومن هنا فقد كانت القضية الأساس التي تستمد وجودها من ظاهرة الكتاب المقدس بالنسبة للمسلمين في مفهوم كوربان تتمثل في سؤال: من يكشف عن المعنى الحقيقي للقرآن بعد أن أقفل دور النبوة? بل وكيف يمكن لتاريخ الإنسانية الديني أن يستمر بعد وفاة خاتم النبيين محمد (ص)? الجواب يقول كوربان «كان هو النتيجة الحاسمة التي فرّقت المسلمين إلى سنة وشيعة» (28) . فإذا كان «العالم الإسلامي» ينادي بحقيقة أن الوحي النبوي قد ختم وبأن محمداً (ص) كان هو ختم النبوة, فإن «الشيعة» ينادون بهذا أيضاً. لكن ما ختم عندهم فقط هو «النبوة التشريعية». إذ باختتام هذه النبوة فتح دور جديد هو دور الولاية كـ «سرٍّ» خفي باطني للنبوة. وباستمرار دور الولاية بقي احتمال «الإلهام» مفتوحاً يتصل الله تعالى به ومن خلاله بأحبائه وأوليائه. وهنا يقوم الأئمة الشيعة بضمان هذا الاستمرار (29) .

أما تأكيد كوربان على أن الولاية عند الشيعة هي باطن النبوة. فإننا لا نجد ما هو أفضل من مناقشة الإمام موسى الصدر لهذه الفكرة وتوضيحه لموقف الشيعة الاثني عشرية. إذ يقول: «أما تفسير الولاية بأنها باطن النبوة وابتداء الولاية نهاية دور النبوة, فهذا رأي خاص لا يعترف به الشيعة كمذهب ولا الإسلام كدين وإن كان القائل به بعض كبار الصوفية أو علماء الفلاسفة» (30) . فالفكرة لا تعدو أن تكون إذن إلا موقفاً لبعض المتصوفة أو الفلاسفة الشيعة أراد أن يعممها كوربان على المذهب الشيعي ككل! وأما كون الولاية أصلاً من أصول الدين عند الشيعة. فإن الإمام موسى الصدر يفهمها على أنها «سلطة لتنفيذ الشريعة وتطبيق الإسلام على المجتمع» (31) . إضافة إلى أنها «وسيلة لإيجاد ظروف ملائمة تمكن للعبادات والاقتصاديات والسياسات الإسلامية أن تؤثر أثرها» (32) . وإجمالاً «فلا وحي للأئمة الاثني عشرية ولارؤية ملاك ولا تفسير لرمزية الآيات ولا لسلطة لإدارة باطن الشريعة» (33) .

والولاية والنبوة تكوّن عند كوربان وحدة مزدوجة تسلم بمظهرين تحدثنا عنهما في ظاهرة الكتاب المقدس هما: التنزيل/ التأويل, والظاهر/ الباطن. فإذا كان للنبي التنزيل الذي يمثله ظاهر القرآن الكريم, فإن للإمام كـ «قيِّم بالكتاب» التأويل, أي الصعود بمظاهر النص إلى أصله الأزلي. وهذا يفضي إلى بقاء «التاريخ» مفتوحاً. وفي هذه الحالة فإن الوضعية فيه تصبح مميزة بـ «الانتظار المعادي»  l'attente eschatologique  إلى حين الاكتمال «التمام» لمعنى الوحي النبوي الذي بدأ مسيرته في «ليل الباطنية» مع الإمام الأول بعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا العالم. ولن تكتمل هذه المسيرة إلا مع «رجعة»  la Parousie  الإمام الثاني عشر التي تمهد لـ «قيامة القيامة»  la grande resurrection . ومن هنا كان علم المعاد أمراً‏أساسياً, إذ ليس هناك ـ على ما يرى كوربان ـ فلسفة نبوية بدون معاد. فهي فلسفة معادية بالأساس (34) . ولكن ما الذي يمكن أن تقدمه عقيدة الانتظار المعادي للفلسفة الغربية?

يجيب كوربان: «الانتظار المعادي هو الذي بإمكانه أن لا يُسلِمَنا لأخطار التاريخ, لأنه متجذر في أعماق شعورنا ووعينا نحن أهل الكتاب» (35) . ذلك أن الإيمان بهذا الانتظار يعطي وجهة ما ورائية للتاريخ. فالغرب كان يعتقد قبل سنة 1914 أن التاريخ اكتمل في صورة جديدة هي صورة «الرجل الأخير» التي عكستها له «المرآة» عندما نظر إلى وجهه فيها. لكن بعد هذه السنة دخل تاريخ «الرجل الأخير» إلى «النهاية الأخيرة» مع الحربين العالميتين, أو هكذا على الأقل استشعر الغرب تاريخه في تلك الأيام, وأصبح ينتظر «معاداً» لا وجود له على الإطلاق أو لا يمكن وصفه إلا بمعاد «الزوال». وهنا يأتي دور عقيدة الانتظار المعادي التي يقترحها كوربان على الفلسفة الغربية في إطار الفلسفة النبوية, ليقدم الحل و«الدواء» لهذا الفكر الذي طغى عليه الإحساس بالخوف من التاريخ والشعور بنهاية العالم الغربي. فالانتظار المعادي في الرؤية الكوربينية هو الذي بإمكانه أن يُسرّح فلسفة التاريخ الغربي من أخطار التاريخ عن طريق التركيز على البعد «المعادي» أو الغيبي للتاريخ نفسه.

ـ وأما النتيجة الثانية: فهي التي تتعلق «بشكل الوعي الذي يمكن للذات أن تأخذه» بمعنى شكل وساطة الملاك. فالفيلسوف لا يرى حقيقة الملاك ولكنه يعقل بواسطته وعلى قدر طاقته. وأما الأنبياء (أ) و(ب) والأئمة الشيعة فيسمعونه سمعاً‏روحياً. وأما الأنبياء الكبار فيبصرونه. فإلهام الأنبياء والأئمة وعلم الفلاسفة (= أي الفلاسفة الذين يمتلكون رؤية «البصيرة» وانتظمت معرفتهم في «النور المحمدي» الذي هو قبس من نور الله عز وجل) لا يختلف بعضه عن بعض سواء في إطار العلم نفسه (=الحكمة الإلهية) أو في إطار محله (= القلب) أو في إطار سببه (=الملاك). ولكن يختلف فقط في إطار «زوال الحجاب», الذي ينزاح عند الأنبياء والأئمة تلقائياً «بهبوب نسيم الألطاف الإلهية» وعند الفلاسفة بالجهد والبحث (36) .

2ـ وجهة النبي ووجهة الفيلسوف.

ومن هنا ينتج موقف فلسفي خاص يصبح بمقتضاه الفصل بين التأمل الفلسفي والاختبار الروحي الشخصي مستحيلاً (37) . وهو بالضبط «المعيار» الذي حاكم به كوربان مفهوم الفلسفة الإسلامية ليجعله يستقر في الفلسفة النبوية. وآلف بواسطته بين وجهة النبي ووجهة الفيلسوف. ذلك أن أية فلسفة, يقول كوربان, لا تضع هدفها الأعلى في التجربة الروحية هي فلسفة لا تنتهي إلى مقام المعرفة النبوية. والفلسفة النبوية هي قبل كل شيء فلسفة «تَشخِصيَّة», «تَفَرَّدِيَّة» تكتمل في التقاء الفيلسوف مع الملاك «رأساً لرأس» (38) . ومن هذا المنطلق يؤكد على الأهمية التي أولاها لهذه الفلسفة فيقول: «مكانة عظيمة أعطيناها في بحوثنا لما نُعيِّنُه كفلسفة نبوية. المصطلح الذي هو الترجمة الحرفية لمفهوم «الحكمة النبوية». فالنبي شخص لا ينبؤنا بالمستقبل ولكنه ينطق بالوحي.

ويرجع الفضل في هذا المصطلح إلى مفكرينا الشيعة الذين آلفوا بن وجهة النبي ووجهة الفيلسوف في التقاء جعلت منه عقابيل الرشدية غير معقول. حتى أنه من غير المعقول أيضاً‏أن يفسر بعض الفلاسفة الغربيين المطابقة بين العقل الفعّال عند الفلاسفة والروح القدس عند الأنبياء بعقلنة للوحي!» (39) . إذن فالفلسفة النبوية تأخذ أبعادها, من خلال هذا النص, في اندماج «ملاك المعرفة» الذي هو العقل الفعّال عند الفلاسفة في «ملاك الوحي» الذي هو الروح القدس عند الأنبياء ليصبح الروح القدس أو جبريل عليه السلام, في الفلسفة النبوية, ملاكاً للوحي وللمعرفة في آن واحد. وهنا تتآلف وجهة الفيلسوف مع وجهة النبي; يتلقيان كلاهما المعارف من نبع واحد ويغرفانها من مشكاة واحدة هي «مشكاة النبوة», مشكاة الأنوار اللّدنية  la niche aux lumieres de la prophe'tie  (40) .

وفي الواقع إذا نظرنا إلى القضية هنا من جانبها العقيدي, ولم نلتفت إلى «التعميم» الذي يمارسه كوربان على المذهب الشيعي انطلاقاً من مواقف وآراء فردية داخل المذهب; فإنه لا يمكن على الإطلاق وضع الفيلسوف مع النبي في مقام واحد, مهما بلغ هذا الفيلسوف من الارتقاء الروحي. وذلك لسببين حاسمين: أما السبب الأول, فهو أن طريق المعرفة عند الفيلسوف يتأسس على التفكّر بينما طريق المعرفة عند النبي يمر بالوحي. وقد يخطئ الفيلسوف نظرياً‏أو عملياً لكن النبي معصوم عن الخطأ. وأما السبب الثاني, فهو أن وضع الفيلسوف في صف النبي هو خطر على الإسلام نفسه لأنه يقيم مصدراً لمعرفة الغيب غير النبوة وهذا يؤدي إلى التقليل من شأنها ويصرف الناس عن التأمل في الوحي كمصدر أول للعلم بالله العزيز الحكيم.

إلا أن إرادة الجمع بين وجهة النبي ووجهة الفيلسوف أو قل «الحكمة الإلهية», هي من الأهمية بمكان في الفكر الغربي. ومن هنا جاء تشديد كوربان على المآلفة بين الوجهتين. إذ أن الوظيفة التي تؤديها عملية الجمع أو المآلفة هنا, في المجال الفكري الغربي, هي بالذات وظيفة «ترياقية» شفائية. بمعنى محاولة كوربان إخراج الفكر الغربي من أزمة ما عرف بـ «الحقيقتين». حقيقة اللاهوت وحقيقة الفلسفة كحقيقتين منفصلتين. وهي الأزمة التي ورثها الفكر الغربي منذ الرشدية اللاتينية مع مدرسة «بادويه» بإيطاليا. لذلك فهو يهدف أصلاً إلى أن يعيد اللّحمة بين اللاهوت والفلسفة بين الإيمان والمعرفة وترميم الصدع الذي حدث بينهما بسبب ما خلّفه عصر التنوير.

3ـ «علم الملائكة» ورفض التجسيد.

وإذا كانت الفلسفة النبوية تبسط القول كما أسلفنا حول ديانة ذات جوهر نبوي مثلما هو الإسلام, الفكر فيه موجه, في رأي كوربان, ناحية رسالة «التعالي» الإلهي وناحية شروط تلقي النبي عن الملاك وتبليغه لرسالة التعالي; فإن هذه الفلسفة تدعو إلى ضرورة قيام «علم الملائكة»  Angelologie  (41) . فرسالة التعالي أو التوحيد التنزيهي ـ الذي يسميه كوربان «لاهوت السلب» ـ هو نفسه الذي يفرض ضرورة وجود هذا العلم الذي يعمل على توضيح وتحقيق مفهوم المظهرية الإلهية. إذ كيف يمكن التعرف على «الله عز وجل» المتعالى حق التعرف وهو «لاتدركه الأبصار ولا يمكن أن ينسب إليه اسم ولا صفة ولا نعت ولا وجود ولا عدم وجود, فهو فوق الكائنات وليس هو بكائن ولا يكون». هكذا يبرر كوربان طرحه لهذا العلم, ليأتي دور الملاك أو الإمام عند الشيعة أيضاً‏ليضطلع بهذا التعريف. أو بتعبير دقيق ليقوم بـ «وظيفة التجلي»  la Fonction Theophamique  (42) . فيترجم من خلالها «لاهوت السلب» في «لاهوت الإثبات». المظهران اللذان يكوّنان عند كوربان ما يسميه «مفارقة التوحيد»  le paradoxe du monotheisme . ويقدّر صاحبنا في هذا الاتجاه, أنه إذا كانت الفلسفة النبوية تسلّم بضرورة «علم الملائكة» في الإسلام واليهودية, فإن هذا العلم ضروري أيضاً في المسيحية ذات «النمط النبوي». لكن مشكلة المسيحية الحالية تكمن في أنها فقدت وظيلة تجلي الملاك ليحلّ «التجسيد»  Incornation  محل علم الملائكة (43) . أي محل «التجليّ» و«الظهور» و«المظهرية» الإلهية. وعليه يذهب كوربان إلى أن الفلسفة النبوية ترفض صراحة التجسيد الذي تحول بامتياز إلى مرجعية غير متنازع عليها في الفكر الغربي والمسيحية. ذلك لأن التجسيد يفضي إلى القول بدخول الله في التاريخ. وهو ما يجعل من فعل الدخول في التاريخ أو التجسيد نفسه واقعة مادية تدخل ضمن نسيج تسلسل الوقائع التاريخية المادية. ولذا كان كوربان يردد دائماً «ليس بين التجسيد والمادية التاريخية إلا مسافة قصيرة» (44) .

4ـ التاريخ القدساني ورفض «التاريخانية».

وفي إطار الفلسفة النبوية دائماً, أراد كوربان أن يخلص الفلسفة الغربية من أحد مرتكزاتها الهامة ألا وهي «التاريخانية»  Historicisme  التي لا تتأمل الأشياء والأحداث إلا حسب مكوناتها الكرونولوجية وعلاقتها بالشروط التاريخية ولا ترى إنجازها واكتمالها إلا على هذه «الأرضية الأرضية»  la terre terrestre , أرض الواقعية التجريبية و«الموضوعية» التاريخية. ويحوّل من ثمة الوعي بالتاريخ كما هو في الفلسفة الغربية إلى الوعي بما وراء التاريخ أو التاريخ القدساني. فماذا يقصد بهذا المفهوم? يبدو في نظرنا أن كوربان يستعمل هذا المفهوم بمعنيين متكاملين عموماً: 1) فمن جهة يقصد به التاريخ الذي لا نستخلصه من ملاحظة وتسجيل الأحداث التاريخية الواقعية ونقدها (45)  بمعنى تاريخ «الوقائع والعوالم الروحانية» المحور الذي تدور عليه ظاهرة الكتاب المقدس كما أشرنا سابقاً. هذه الوقائع عند كوربان لها حقيقة الأحداث التي تحدث في التاريخ بالمعنى العادي. وهي في المقابل «ليست وقائع تتمتع بعينية العالم والأشخاص الطبيعيين الذين يملأون كتب التاريخ.. لكنها وقائع روحانية بالمعنى الدقيق للكلمة تكتمل فيما وراء التاريخ» (46) . بعبارة أخرى هي وقائع لا ترى إنجازها واكتمالها إلا على «الأرض السماوية»  la terre Celeste . أرض «عالم المثال» أو قل «عالم الملكوت» العالم الحقيقي والواقعي للروح كا رسمه فلاسفة الإشراق. 2) ومن جهة أخرى يقصد بهذا المفهوم تلك «التمثلات المنظمة في فكرة دور الولاية والنبوة» كما صاغها الفكر الشيعي خاصة الإسماعيلي منه (47) .

وعلاوة على هذا, يحدد كوربان المهمة الأساسية لمفهوم التاريخ القدساني في فهم مدى استقلالية هذا التاريخ في حد ذاته عن مفهوم التاريخ بالمعنى العادي. وبالتالي إعطائه أهمية أكبر في مجال فلسفة التاريخ الغربي. بالإضافة إلى فهم مدى استقلالية الوقائع الروحانية وتميّزها داخل «الحادث الديني» عن كل ما يسجل تاريخياً في إطار هذا الحادث كالمؤسسات اللاهوتية والسلطات «الإكليركية» وغيرها. فماذا يمكن أن نستنتج? هل هذا يعني أن كوربان لا يعترف أصلاً بكل ما هو بحث تاريخي? يجيب كوربان نفسه: «الإنسانية التي تتخلى عن معرفة وتعميق تاريخها إنسانية مريضة بالنسيان» (84) . إن القضية الأساس التي تحرك المنظور الكوربيني هنا ـ‏انطلاقاً‏من حيثياته الغربية ـ هي بالتحديد «كيف الخروج من التاريخانية!» (49) . بعبارة أخرى, كيف يمكنه أن يكشف للغرب ما ينظر إليه كوجهة حقيقية للتاريخ, باعتبارها وجهة «معادية», «ماورائية», «قدسانية», حيث يهدف من وراء الكشف إلى إعادة تجديد الوعي الغربي بصور عالم التاريخ القدساني وتفعيلها من جديد في العقل الأوروبي. يوضح كوربان هدفه جملة في قوله: «كيف يمكننا أن نكتشف وجهة للتاريخ في غياب كل مَعلم لما وراء التاريخ, معلم يتقيد به التاريخ أو بالأحرى يتحدد?!» (50) .

5ـ الإحساس «العرفاني» بالحياة ورفض المادية.

ومن هنا فهو يحتضن هذا المفهوم, في إطار الفلسفة النبوية, للمعاني الروحانية التي يمكن أن يمنحها لحياة الإنسان الأوروبي. حيث تظهر وضعية هذا الإنسان ـ الحاضر في الفكر الكوربيني على طول الخط ـ في مشهد غربي يسوده انطباع عام يرى بأن كل شيء مهما كان مادياً أو روحياً يمكن تعليله بالمادة. كما تتجلى وضعية هذا الإنسان أيضاً في مشهد الفكر المسيحي في مظهر ذلك الإنسان الآثم المصاب بمرض وراثي هو مرض «الخطيئة الأصلية».

تلك هي وضعية الإنسان الغربي كما يقدمها كوربان في خط إجمالي (51) : هذه الوضعية تواجهها الفلسفة النبوية بالمعاني الروحانية التي تعطيها لهذا الإنسان. ومن أهمها الإحساس العرفاني الروحاني بالحياة بدلاً من الإحساس المادي بها على غرار النموذج الميكانيكي. ذلك أن الفلسفة النبوية عند كوربان هي فلسفة عرفانية تهدف إلى تحقيق «الخلاص». بمعنى أنها معرفة «مُخلصيّة». ولا يمكنها أن تكون مثلما هي بدون تجديد ينبثق عنه الفرد الروحاني. هذا الفرد الذي يظهر في «العرفان الإسلامي» كما يتصوره كوربان, لا في صورة الآثم المصاب بمرض الخطيئة الأصلية, بل في صورة الغريب  Exil'e . حيث تكمن المسألة كلها بالنسبة إلى مصيره في وعي أسباب غربته ووسائل عودته إلى «منزله الأسبق» (52) . يقول كوربان:‏«إن الذين لا يريدون هذه العودة, أولئك يقبعون في هاوية بلا أمل. ولكن الذين يبحثون عن الطريق سيجدونه في العرفان, في اكتشاف المعنى المستور للإيحاءات النبوية, في التأويل الذي يحكم ولادتهم الروحانية» (53) . هؤلاء الذين يقبعون في هاوية بلا أمل هم أولئك الذين يعبرون عن وضعية الإنسان الغربي. أما أولئك الذين يبحثون عن الطريق ووجدوه في العرفان. فيعبر عنهم المستشرق هنري كوربان. إن المسألة كلها هنا, بالنسبة لهذا المستشرق, هي الولادة الروحانية «الثانية» للإنسان الغربي التي تجد آفاقها في خط الفلسفة النبوية. ومشكلة الفرد الأوروبي, في رأيه, هي أن هذا الفرد نسي معنى «التأويل» الذي يحكم ولادته الروحانية. فلم يعد باستطاعته النفوذ إلى الخفايا والبواطن الروحانية للإنجيل (54) . وهكذا فالفلسفة النبوية تمنحه الفرصة لتذكر ما نسيه!

*  خاتمة.

وبالجملة يمكننا القول:

(أ) إن صب البحث الفلسفي في الإسلام على «الواقع النبوي», كما افترضه كوربان, يصدر في رأينا عن نوع المعرفة التي كان يتبناها ويؤمن بها هو نفسه. نقصد المعرفة التي تقوم عموماً‏على العرفان والعرفان القدساني خصوصاً, وما يقتضيه من إلهام وكشف وتلقٍ عن الملاك وتعميق للحياة الروحية.

(ب) إن ظاهرة الكتاب المقدس كما يؤسس لها كوربان تأخذ معناها في إطار مرجعية «الملة الإبراهيمية» بفروعها الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام. بالإضافة إلى مرجعية «التأويلية الإبراهيمية», كنزعة تعتمد على التفسير الباطني والروحاني في تأويل المعنى الظاهر على النحو الذي مارسه مؤولوا وروحانيو الملة الإبراهيمية.

(جـ) إن القضية في جوهرها عند كوربان هي أن اللسفة النبوية إنما جاءت داخل الحقل الفلسفي الإسلامي لتجيب عن متطلبات دين نبوي. وأن العرفان الشيعي هو الذي منح هذه الفلسفة وجودها ومعناها الكامل. ومادام الفكر الفلسفي الإسلامي في جملته كما يعتقد كوربان هو عمل مفكرين ينتمون قبل كل شيء إلى دين نبوي, فإن الفلسفة الإسلامية تجد رسم أصالتها الخالص في الفلسفة النبوية بالذات.

(د) إن الفلسفة الإسلامية عند كوربان, انطلاقاً‏من حيثياته الغربية, هي فلسفة لا يمكن النظر إليها بمنظار ظل سائداً في الأوساط الغربية الوارثة لأفكار ومفاهيم ونظريات عصر التنوير, «الأوفكلارونج»  Aufklarung , يفترض نوعاً‏محدداً من التفكير الفلسفي يتنمط في منظومات كالعقلانية والوضعانية والتاريخانية وغيرها. بعبارة أخرى تلك التي تحصر مصادر المعرفة في «المعقول» و«المحسوس».

(هـ) إن «خلاص» و«تحرير» الفكر والفلسفة الغربية من هذا المنظار المفروض عليهما من طرف ورثة «الأوفكلارونج» الذين يستبعدون كل ما له علاقة بالعرفان والروحانية من «برامجهم», هو الذي دفع كوربان الذي كان يبحث أصلاً‏عما يمكن أن يواجههم به, إلى أن يجعل الترسيمة الخالصة للفلسفة الإسلامية تُحقق وجودها الماهيوي في الفلسفة النبوية باعتبارها فلسفة عرفانية روحانية مخلصيّة تحريرية. ولعلّ كوربان عبر بأكثر وضوح عن هذه الدوافع/ الهواجس بنحو من الأنحاء عندما قال: «لعلّ الغرب إذا هو أفرز السمّ يكون قادراً على إفراز الترياق. ولكنه لا يشعر حتى الآن بهذه المسؤولية» (55) .

(و) ربما نكون قد أغفلنا بعض التفاصيل وأهملنا بعض الردود النقدية في هذا العرض ونحن نحاول إظهار أبعاد التأمل الاستشراقي الكوربيني في الفكر الفلسفي في الإسلام, إلا أن الذي كان يهمنا بدرجة أولى هو إبراز السياق العام والكلي لاستشراق هنري كوربان.

 

الهوامش

(*) هو أبو الفتوح يحيى بن حب بن أميرك, الملقب بشهاب الدين السهروردي المقتول (549هـ ـ 587هـ) ولد بسهرورد عند زنجان في أرض الجبال بشمالي إيران حالياً. من مؤلفاته: «حكمة الإشراق», «هياكل النور» وغيرها. وقد عمل كوربان على تحقيق الكثير من مخطوطاته وتقديم الكثير من الدراسات لها.

(**) اختلفت واضطربت آراء مؤرخي الملل والنحل والعلماء والمفسرين المسلمين في حقيقة «الصابئة». فذهب ابن النديم إلى أن هذه الطائفة, أي صابئة حران انتحلت اسم الصابئة حتى تظل متمتعة بحقوق أهل الكتاب بعدما خيّرهم المؤمون بين الدخول في الإسلام أو انتحال دين من الأديان التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم وإلا أمر بقتلهم, فاختاروا اسم الصابئة [ابن النديم, الفهرست, ط1, بيروت, دار المعرفة 1994, ص389ـ390]. ويميّز الشهرستاني بين الصابئة القدامى وأصناف أخرى من الصابئة منهم هذه الطائفة, الصابئة الحرنانية. ويرى أن أهم ما في مذهبهم, التوحيد التنزيهي لله تعالى والتقرب إليه بالمتوسطات. [الشهرستاني, الملل والنحل, تحقيق محمد سيّد كيلاني, بيروت, دار المعرفة, ج2, ص4]. ويرى أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن «أنهم فريقان: أحدهما بنواحي كسكر والبطائح, وهم صنف من النصارى وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من ديانتهم. وينتحلون كتباً يزعمون أنها كتب الله عز وجل التي أنزلها على شيث بن آدم ويحيى بن زكريا عليهم السلام. وفرقة أخرى تسمت بالصابئة وهم الحرانيون الذين بناحية حران (=على شمال شرق سوريا) ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئاً من كتب الله تعالى» [الإمام ابو زهرة, تاريخ الجدل, بيروت, دار الفكر العربي, ص26ـ27]. وكونهم هرمسيين, أي أنهم كانوا يصعدون بنسبهم الروحي إلى «هِرْمِس». يقول الشهرستاني أنه النبي إدريس عليه السلام [الشهرستاني, المصدر السابق,ج2, ص4 وما بعدها].

(***) تجدر الإشارة هنا إلى أن كوربان يطبق منهج «الظاهريات»  Phenomenologie  في قراءته لتاريخ الفلسفة الإسلامية و«فهم» مصادره النصّية سواء منها نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف وسنن الأئمة الشيعة, أو نصوص الفلاسفة والمتصوفة. ويشغل كوربان هذا المنهج عموماً,‏انطلاقاً من آلية وضع جميع الشروط المادية والتاريخية والظاهر الحرفي والسياقي والوضعي للنص بين قوسين ليسلب عن هذا «المجموع» قدرة التعريف والتحديد من أجل أن يتوجه مباشرة إلى الكشف عن «الماهيات» وتحسسها في الأنساق الباطنية الروحانية الخالصة. بعبارة أخرى, حيث الموضوع يظهر من خلال الذات. ولذلك فهو يتحدث بأكثر إرادة عن «ظاهرة الفهم» في إطار مرجعية ظاهرة الكتاب المقدس.

(*) إيمانيول سويندنبرغ (1688ـ1772) عالم طبيعة سويدي متصوف إشراقي. عمل على تفسير الأناجيل تفسيراً‏باطنياً‏رمزياً, وتأثر إلى حد بعيد بالفكر الغنوصي والتصوف اليهودي. من مؤلفاته «السماء والجحيم».

(*) تنص الكبالة عموماً على أن للتوراة ظاهراً‏وباطناً وأن لهذا الباطن أبطن وهكذا. وقد أوصل أحد الكباليين, الذي يحظى باحترام وتقدير شديدين عند كوربان, وهو إسحاق لوريا «Isaac Luria» الأوجه الباطنية للتوراة إلى 600.000 وجه‏على مقدار ما كان يوجد من الأنفس في بني إسرائيل زمن الوحي. وهذا يعني مبدئياً أن كل شخص في إسرائيل له طريقته الخاصة في تأويل التوراة حسب أنواره الخاصة. أنظر Christian Jambet, la logique des orientaus, Paris, le seuil 1983. p123.n.14.

(**) هو محمد بن إبراهيم الشيرازي الملقب بصدر الدين, المشهور بملا صدرا, أو صدر المتألهين (979هـ ـ 1050هـ) ولد في مدينة شيراز, أسس مدرسة فلسفية تقوم على المزج بين الفلسفة والتصوف والشريعة. من مؤلفاته: الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة العقلية. انظر Henry Corbin, la philosophie iranienne islamique aux xvlle et xvllle siecles Paris, Buchat/ Chastel 1981, p49. et, Histore de la philesophic islamique, le es. fasis, Gallimard, 1986, p 4675S.

(*) من «القصدية»  L'intention . لأن جوهر عملية «التفكير» أو «الإدراك» أو قل «الشعور» في منهج الظاهريات الذي يعتمده كوربان, هو هذه القصدية التي تحدد الموضوع ومواصفاته لتتجه إلى ما هو متسام عن الفعل الذي يكوّن الموضوع, ألا وهو «الماهية» أو «الحقيقة» بلغة أهل التصوف.

(*) درج مؤرخو الفلسفة الإسلامية على تقسيم مباحث هذه الفلسفة إلى ثلاثة اشكال: علم الكلام‏والفلسفة المشائية والتصوف. وقد أضاف بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية من المسلمين شكلاً‏آخر هو علم أصول الفقه. يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: «وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام والتصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملاً لهماً, فإن علم أصول الفقه المسمى أيضاً‏علم أصول الأحكام ليس ضعيف الصلة بالفلسفة» [تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية, ط3, القاهرة, لجنة التأليف والترجمة والنشر, 1966, ص27].

(*) يعود كوربان بالسابقة «Hiero» في كلمة «Gnose» أو في غيرها إلىمصدرها اللاتيني «Hieros» الذي يؤدي معنى «المقدس». و«الغنوص» «Gnose» أو العرفان هو معرفة بالأسرار الإلهية ذات طابع باطني روحاني. وعندمايضيف كوربان السابقة «Hiero» إلى كلمة «Gnose» يصبح هذا العرفان يرتبط أصلاً بأمور الدين الباطنية والروحانية المبنية في الأساس على كتاب مقدس. من حيث أن كوربان يتحدث في إطار مرجعية ظاهرة الكتاب المقدس.

المراجع

(1) Henry Corbin, En islam iranien: aspects spirituels et philosophiques, Paris, Gallimard, 1971, T1, p136.

(2) Ibid, T1, p135.

(3) Ibid, T1, pxx.

(4) Ibid, T3, p218.

(5) Ibid, T1, p136. Et, T3, p22.

(6) Ibid, T1, p136.

(7) Ibid, T1, pxx.

(8) Ibid, T3, p222.

(9) Ibid, T1, p137.

(10) Henry Corbin, Face de Dieu Face de l'Homme, Paris, Flammarion, 1983, p46-47.

(11) Ibid, p44-45.

(12) Henry Corbin, L'Homme et son Ange, Paris, fayard, 1983, p169-170. n.1.

(13) Ibid.

(14) Christian Jambet, La logique des orientau: henry Corbin et la science des formes, Paris, le seuil 1983, p22.

(15) Henry Corbin, Histoire de la philosophie islamique, 2eme' ed. Paris, Gallimare, 1986, p25.

(16) Ibid, p21.

(17) Ibid, p31-32. Et, En islam isanien.., op.cit., T3, p214-217.

(18) En islam iranien.., op.cit., T3, p222.

(19) Ibid, p221.

(20)Henry Corbin, Temple et contemplation, Paris, Flammarion, 1980, p51.

(21) ابو إسحاق الشاطبي, الموافقات في أصول الشريعة, تحقيق عبد الله دراز, ط2, بيروت, دار المعارف. 1975, ج3, ص100.

(22) En islam iranien.., op, cit., T1, p43.

(23) Ibid.

(24) Historie de la philosophie islamique, op. cit., p43.

(25) En islam iranien.., op. cit., t1, p44.

(26) Histoire de la philosophie islamique, op. cit.,p86-87.

(27) Ibid., p87-88.

(28) Ibid., p24.

(29) Henry Corbin, L'iran et la philosophie, Paris, Fayard, 1990, p224.

(30) راجع تصدير الإمام موسى الصدر لكتاب هنري كوربان, تاريخ الفلسفة الإسلامية, ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي, ط3, بيروت, منشورات عويدات 1983, ص22.

(31) المصدر نفسه, الصفحة نفسها.

(32) المصدر نفسه, ص23.

(33) المصدر نفسه, ص24.

(34) En islam iranien.., op.cit., T1, p47.

(35) Henry Corbin, Philosophie iranienne et philosophie Compare'e, Paris, Buchet/Chastel, 1985, p26.

(36) Histoire de la philosophie islamique, op. cit., p91-92.

(37) En islam iranien.., op.cit., T1, p47.

(38) Ibid., T3, p223.

(39) Philosophie iranienne et philosophie Comparee, op.cit., p15.

(40) Ibid.

(41) Henry Corbin, le paradoxe du monotheisme, Paris, L'Hern, 1981, p81-156.

(42) Ibid., p93-94.

(43) Ibid., p93.

(44) En islam iranien.., op.cit., T1, pxx1.

(45) Histoire de la philosophie islamique, op. cit., p98-99.

(46) Ibid., p99.

(47) Ibid., p98.

(48) Philosophie iranienne et philosophie Comparee, op.cit., p29.

(49) Ibid., p25.

(50) Ibid., p26.

(51) En islam iranien, op. cit., T1. p46.

(52) Ibid.

(53) Ibid.

(54) Henry Corbin: «le sens du ta'uil» in L'Herne no.39. Cahier dirige pas Cheristian Jambet, 'ed. L'Herne 1981, p84-85.

(55) En islam iranien.., op.cit., t1.p9.