تعتبر مدينة النجف الأشرف في العراق من أهم المراكز العلمية الإسلامية في العالم، فمنذ أن أرسى قواعد الدرس الديني فيها شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ، لا تزال ـ حتى الآن ـ مركزاً مهماً من مركز الإشعاع الفكري الديني في العالم.
وقد تخصصت الدراسة العلمية في هذا المركز الديني بفكر أهل البيت (ع) في العقيدة والفقه وسائر العلوم الإسلامية الأخرى كالتفسير والحديث وعلم الكلام، والمعارف التي تلتقي معها كالفلسفة وعلم المنطق. وساهمت متعاضدة مع لداتها الأخرى من المراكز الإسلامية المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي في الإضافات الفكرية الجيدة، والتطوير لما هو أفضل وأنفع. وفي أحضان هذه الأم العلمية ولد الأدب النجفي العربي وترعرع ونما شعراًونثراً.
وإذا عدنا نلتمس الأسلوب لهذا الأدب، والمنهج لذلك العلم، فلا نعدو أن نرى ـوبوضوح ـ الأسلوب والمنهج التاليين:
1ـ الأسلوب: وأريد به أسلوب التعبير في الكتابات الأدبية والأخرى العلمية.
أـ ففي الكتابات العلمية: لأنها لم تخرج كثيراًعن الدوران حول المقررت الدراسية موادَ وكتباً: تعريفاًوتعليقاً وتحشية وشرحاً، جاء أسلوبها في التعبير متأثراً بمنهجها في الفكر حيث ضغطُ العبارة بما قد يؤدي ـ في الأحيان الأكثر ـ إلى الغموض في أداء المعنى المقصود منها، وربما إلى التعقيد الذي يحتاج إلى تفكيك العبارة وتحليل معانيها. ويعود هذا ـ كما سنتبينه ـ إلى اعتماد المناهج العقلية في التعليم والكتابة (المنهج الفلسفي والمنهج الكلامي والمنهج المنطقي).
ب ـ أما النتاج الأدبي فقد كان الأدباء النجفيون يعنون كثيراً بتقديس اللفظة تقديساً يدعو كثيراً إلى الاهتمام الكبير بالمحسنات البديعية التي تدعو هي الأخرى بدورها إلى توليد العبارة من العبارة لا للتأكيد وإنما للتحسين والتجميل. وفي هذه الأجواء وبين موسيقى الألفاظ المتأتية من السجع والتوليد تضيع الفكرة، وقد تستعصي عن أن يصطادها القارئ. ولا أراني بحاجة إلى سَوق الأمثلة لذلك، لأن هذا النمط من الأسلوب ظاهرة أدبية بيّنة.
2ـ المنهج: وأعني به الطريقة في البحث العلمي التي كانت تنتهج في التدريس والتأليف. ولأن الإمامية من فرق المسلمين العقائدية التي عرفت باتباع العقل في مجال العقيدة في مقابلة الفرق الإسلامية السلفية التي عرفت باتباع النقل. ولأن علم الكلام أقدم العلوم الإسلامية وجوداً في عالم الفكر الإسلامي فلم يسبقه إلا الفقه والرواية والتفسير في بداياتها. ومن المعلوم المفروغ منه أن علم الكلام عقلاني المنهج، أي أنه يعتمد المبادئ العقلية، أو قل: الكليات العقلية في مجال البحث، ومن أقدم من بحث في الفكر الكلامي هم الإمامية والمعتزلة، إن هذا العلم كان قد أثّر على الجو العلمي آنذاك، وأثرى بمعطياته الساحة الفكرية، وتمثل هذا وبوضوح في علم أصول الفقه الذي اعتمد المنطلقات العقلية في طرح أفكاره وتأسيس قواعده. لهذا وأمثاله كان المنهج المتبع في الدراسات الدينية في النجف الأشرف هو المنهج الكلامي.
ومن المعلوم أيضاً أن المنهج الكلامي بعد شيوع الفلسفة وانتشار علم المنطق في الأوساط العلمية الإسلامية في العصر العباسي تأثر بهما، وبعلم المنطق بشكل خاص، حيث اتخذ العلماء المسلمون من علم المنطق المنهج العام في البحوث العلمية الدينية.
وللتفاعل بين علم الكلام وعلم المنطق والفلسفة الإلهية في الفكر الإسلامي في مراكز الدراسات الدينية كان المنهج الذي استقر واعتمد في الدرس الديني هو المنهج العقلي، والذي يطلق عليه عنوان المنهج الفلسفي أحياناً، وأحياناً المنهج المنطقي، وثالثة المنهج الكلامي، وهو في واقعه منهج تكاملي تولد من هذه المعارف الثلاث.
وقد بقي الحال على هذا حتى منتصف القرن الهجري الماضي حيث انتشرت الجامعات في البلدان العربية والإسلامية وكانت تتبع في البحث المناهج العلمية الحديثة وفي التعبير الأسلوب العلمي، وحيث انبثقت النهضة الأدبية العربية الحديثة التي تخلت عن الإلتزام باستعمال المحسنات البديعة في الأسلوب الأدبي.
ولعوامل أخرى رأى غير واحد من أبناء الحوزة العلمية في النجف الأشرف أن يكون للحوزة العلمية نصيب من هذا الجديد في الأسلوب أدبياً وعلمياً، وفي المنهج علمياً، فكان لشعراء جمعية الرابطة الأدبية في النجف دور رائد في تجديد أسلوب الشعر النجفي وكذلك كان لعلماء وشعراء جمعية منتدى النشر في النجف دور رائد آخر في إدخال الأسلوب العلمي في الكتابات العلمية، والأسلوب الأدبي الحديث في الكتابات النثرية والأخرى الشعرية.
وكان المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين واحداً من أولئكم الرواد من دعاة التجديد، فقد كانت له إسهامات فاعلة في الدعوة لتجديد الأسلوب الأدبي، منها مشاركته في الموسم الأدبي الذي أقامته جمعية منتدى النشر حول الأدب النجفي المعاصر آنذاك، وكان باشرف ورعاية الأستاذ السيد محمد تقي الحكيم السكرتير العام للمنتدى في حينه، فقد نعى الشيخ شمس الدين على أدباء النجف تقديسهم اللفظة إلى الحدود التي تصل ـ غالباً ـ إلى مستوى الإفراط المؤثر تأثيراً سلبياً، ودعا إلى إدخال الأسلوب الأدبي الحديث في الكتابات النجفية في الشعر والنثر.
وقد نُشرت المواد التي ألقيت في هذا الموسم على صفحات مجلة (النجف) لصاحبها السيد هادي فياض مدير إدارة المنتدى. وقد لاقت كلمة الشيخ شمس الدين ـ المشار إليها ـ صدى استحسان وتقدير أكثر من سواها، لأنها كانت تنطلق من نظرة نقدية لواقع الأدب النجفي. وسار الشيخ ـ رحمه الله ـ في مجال التطبيق يلتزم الأسلوب الأدبي الحديث.
1ـ قراءاته المكثفة للنتاج الأدبي الحديث لأدباء مصر ولبنان وسورية والعراق، مبدعين وناقدين.
2ـ توجيهات الأستاذ السيد محمد تقي الحكيم، فقد كانت علاقته به وثيقة، وملازمته له مستمرة، إلى ما قبيل مغادرته النجف عائداًإلى لبنان.
والسيد الحكيم من أبرز رواد التجديد في الوسط الثقافي النجفي في المنهج والأسلوب.
3ـ الجو الأدبي الحديث الذي كونته مساهمات أدباء الرابطة الأدبية ومشاركات أدباء منتدى النشر.
وكما كان للشيخ شمس الدين مساهمة فاعلة في تجديد الأسلوب الأدبي النجفي كانت له أيضاً مساهمة فاعلة في تجديد الأسلوب والمنهج في الكتابات العلمية الحديثة، وتمثل هذا بوضوح في مؤلفاته أمثال: نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ودراسات في نهج البلاغة، وثورة الحسين، وأخيراً في عطائه الفقهي من خلال تدريسه على مستوى (البحث الخارج) وتأليفاته في هذا المجال.
وقد كان للجو الثقافي الذي أحدثته كلية منتدى الشر ثم كلية الفقه، والجو الفكري الإسلامي الذي أوجده أستاذنا الشهيد السيد محمد باقر الصدر أثر بيّن في الرواد الأوائل الذين عملوا على التحول من المنهج الكلامي في البحث الحوزي إلى المنهج العلمي الحديث، ومن الأسلوب القديم في التعبير إلى الأسلوب الحديث. وكما أشرت كان لتوجيهات السيد التقي الحكيم أثر في منهج وأسلوب ـ الشيخ شمس الدين.
وأخيراً: إن هذه الريادة من المغفور له الشيخ شمس الدين معلم تاريخي مهم في سيرته الثقافية المعطاء، وانطلاقة حية تشكل حلقة يعتز بها في تاريخ تطوير الدراسة الدينية في النجف الأشرف.