شعار الموقع

الفكر الديني وتجديد النظر في قضايا المراة

زكي الميلاد 2004-10-15
عدد القراءات « 855 »

(1)تطور الوعي بقضايا المرأة

 في العقد الأخير من القرن العشرين، أخذ موضوع المرأة يتحرك بوتيرة متسارعة وملفتة للنظر في المجتمعات العربية والإسلامية. وكأن وعياً جديداً ظهر في التشكل حول موضوع المرأة، الوعي الذي كان محرضاً على دعوات إعادة النظر في إصلاح قضايا المرأة، بما يعزز حقوقها وحرياتها ومساواتها العامة. أو كأن ملفاً كان مغلقاً ومجمداً أو منسياً، واستجدت بعض المتغيرات والمعطيات التي جعلت من الضرورة تذكره وفتحه وتحريكه. أو كأن العالم يعيش صحوة نسائية، أو أن النساء أيقظت العالم بقضاياهن وبما يعيد لهن الاعتبار وضمان الحقوق.

وقد ارتبط هذا الوعي والإدراك بمجموعة عوامل مؤثرة ومتشابكة، منها ما يرتبط بالشأن الداخلي، ومنها ما يرتبط بالشأن العالمي، ومنها ما يرتبط بالشأن التقني. في الشأن الداخلي يتقدم عامل التعليم الذي كان له الأثر البارز والهام في تطور وعي المرأة بالشكل الذي ساعدها على تكوين نظرة طموحة تجاه ذاتها، تعيد من خلالها اكتشاف شخصيتها وتجديد تطلعاتها، وتزداد تمسكاً بكرامتها، وتحكماً بمستقبلها. وهو الوعي الذي جعلها تصطدم بواقع متوارث من قديم تهيمن عليه أعراف وتقاليد لا تعترف للمرأة بتطلعاتها الكبيرة، أو بمشاركاتها في المجالات العامة. لأن تلك الأعراف والتقاليد نشأت وترسخت في وضعيات كانت المرأة فيها تفتقد إلى التعليم وتسيطر عليها الأمية، فكان من الطبيعي أن تختلف كلياً نظرة المرأة إلى ذاتها بين تلك الوضعيتين. خصوصاً وأنها ـ أي المرأة ـ استطاعت أن تظهر تفوقاً وتقدماً في ميادين التعليم والتدريب، مما جعلها تمتلك أدوات النظر في تقييم الظروف والأحوال التي كانت محيطة بها، وتكتشف بالتالي مدى المسافات التي تفصلها في الانتقال من تلك الوضعيات، ومستوى الجهود المفترضة في إصلاح أوضاعها. ويضاعف من ذلك التقدم الكيفي للنساء في ميادين التعليم، التطور الكمي والعددي من النساء اللائي يندفعن باهتمام كبير نحو التعليم، وتعج بهن المدارس والمعاهد ومدرجات الجامعات، فضلاً عن الأعداد الكبيرة من المتخرجات اللاتي يقتحمن ميادين العمل والإنتاج. وبذلك استطاعت المرأة أن تصنع لنفسها واقعاً لا يمكن نكرانه، أو عدم الاكتراث به، بل فرضت الاعتراف به، والتعامل معه بطريقة تستدعي تصحيح النظرة القديمة عن المرأة، وتعيد الاعتبار لشخصيتها الحقوقية ومكانتها الاجتماعية.

وفي الشأن العالمي، مثّل مؤتمر المرأة العالمي الرابع الذي عقد في بكين سنة 1995م حدثاً عالمياً في تفاعلاته وتداعياته ومناقشاته حول قضايا المرأة، والوثيقة التي خرج بها المؤتمر تحولت إلى ما يشبه مرجعية عالمية في هيئة الأمم المتحدة التي رعت المؤتمر وحضرت له وأشرفت عليه، ومنذ ذلك الوقت دخلت قضية المرأة في الاهتمام العالمي، وأصبحت في دائرة المراقبة دولياً من خلال المعايير والتوصيات والقرارات التي صدرت عن مؤتمر بكين، وتشكلت لجان نسائية في كثير من الدول بما في ذلك العالم العربي والإسلامي لمتابعة ومعرفة مدى الإلتزام بتلك التوصيات والتقدم في تطبيقاتها، وتحكيمها كقواعد سلوكية وحقوقية في التعامل مع المرأة، وعقدت لهذا الغرض العديد من الاجتماعات والندوات والحلقات المتخصصة المحلية والإقليمية. إلى أن جاء مؤتمر نيويورك الذي عقد سنة 2000م، بدعوة من الجمعية العمومية للأمم المتحدة، تحت عنوان «المرأة عام 2000: المساواة بين الجنسين والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين». لمتابعة مقررات مؤتمر بكين، ومعرفة مستويات التقدم العالمي في تطبيقات تلك المقررات، وإلتزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بها، ومناقشة برنامج عمل يتضمن اثني عشر بنداً حول شؤون المرأة والأسرة، بالإضافة إلى بلورة صيغ عملية لأهداف مرحلية لها جداول زمنية لغرض التقدم التدريجي والمتصاعد في معالجة المشكلات التي تقف أمام تحسين حياة المرأة وتقدمها الاجتماعي.

وقد جاء هذا المؤتمر ليجدد الاهتمام العالمي بقضية المرأة، ويؤكد على وثيقة مؤتمر بكين كمرجعية عالمية، يرسخها كمعايير في مراقبة الدول والمجتمعات بحيث تقيّم الدول وتصنّف على أساس الإلتزام بحقوق المرأة ومساواتها. ولذلك تضاعف الاهتمام بقضايا المرأة في المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والصندوق الدولي وهيئات حقوق الإنسان إلى جانب اليونسكو وصندوق السكان والتنمية واليونيسيف ومختلف المنظمات والهيئات الأخرى، ويصدر حولها تقارير ودراسات دورية وسنوية، مسحية وإحصائية، إقليمية وعالمية، وتنبثق منها توصيات واقتراحات، وخطط وبرامج، وتتعلق بها مساعدات ومعونات، وتدخل فيها اعتبارات أخرى أيضاً تؤثر في العلاقات بين الدول أو مع المنظمات الدولية.

ومن خلفيات هذا الاهتمام العالمي بقضايا المرأة، أنها لا تزال تمثل الحلقة الضعيفة والأشد فقراً، والأكثر تضرراً في الحروب والنزاعات، ويتسلط عليها العنف دائماً في داخل الأسرة والمجتمع والدولة، وتنتهك حقوقها بتعسف خطير، وتفتقد إلى الأمن الاجتماعي الذي يحفظ لها عفتها وطهارتها وكرامتها، وبقاء النظرة الدونية والعنصرية في التعامل معها، واستغلالها اقتصادياً بطريقة فاحشة، وعدم مساواتها الكاملة في مجالات التعليم والتدريب، وفي التشريعات والقوانين إلى غير ذلك.

أما الشأن التقني، فإن تطور شبكات الإعلام وتكنولوجيا الاتصالات، وما عرف بثورة المعلومات، جعل من الممكن الالتفات لقضايا العالم، والتواصل الكوني بين البشر، وتكوين المعرفة بالنظم والأنماط والنماذج، وما يشهده المجتمع الإنساني من تحولات وتغيرات، وأصبح بالإمكان تعبئة العالم تجاه قضية معينة والاستنفار حولها، وفرضها على اهتمامات الرأي العام العالمي.

هذا التطور التقني المذهل ساهم بصورة كبيرة في تطوير إدراك العالم بقضايا المرأة، وتحويل معاناتها إلى مرئيات ومشاهدات وصور، والإطلاع على ما يجري حولها، والاستماع إلى أفكارها ومعارفها، وصرخاتها ونداءاتها، وطموحاتها وتطلعاتها.

وسوف يكون لهذه العناصر المحلية والعالمية والتقنية ديناميات مؤثرة على حاضر المرأة ومستقبلياتها.

 

(2) قضايا المرأة.. إصلاحات وتغيرات

 تلك الوضعيات كانت بمثابة مناخات ضاغطة على الحكومات والدول، ومنها الحكومات العربية والإسلامية، التي وجدت حالها بأنها معنية بإظهار الاهتمام بقضايا المرأة بصور مختلفة، كمراجعة أنظمة الأحوال الشخصية، وإدخال إصلاحات على التشريعات القانونية المتعلقة بالمرأة، وفتح مجالات التعليم والتدريب والتعليم العالي لها، وتسهيل فرص التوظيف والمشاركة لها في المؤسسات والهيئات الحكومية وغير الحكومية، وتقديمها في التعبير عن حالها وعن الأنشطة التي تنهض بها، والمكتسبات التي حصلت عليها، والانجازات التي حققتها. لأجل أن لا تصنف هذه الدول في نظر العالم وبعد دخوله القرن الحادي والعشرين بأنها لا تحترم حقوق المرأة أو تنتقص من كرامتها. كما أن هذه الدول تحاول تقديم صورة عن نفسها بأنها وراء تقدم المرأة ونهضتها لكي يحسب لها هذا الإنجاز، وغرض آخر هو كسب ميول المرأة بما تمثل من تعداد بشري كبير لصالح الدولة خصوصاً بعد تقدمها في مجال التعليم، خوفاً من تعرضها لاحتواءات من جهات أخرى داخلية أو خارجية، أو التأثير عليها فكرياً أو سياسياً بالشكل الذي يتعارض مع مصالح الدولة.

هذا فيما يرتبط بالحكومات، أما ما يتعلق بالمرأة فإنها وجدت حالها أمام مناخات وأرضيات مشجعة على أن ترفع صوتها وتجاهر بمطالبها، وتدافع عن حقوقها، وتبرهن على جدارتها وكفاءتها، وقدرتها على انتقاد الأفكار والتقاليد والسياسات التي تنتقص من مكانة المرأة، أو من حقوقها وحرياتها، أو تضيق عليها مساحات المشاركة العامة. الأمر الذي حرضها على إظهار المزيد من النشاطات التي عرفت بها في السنوات الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، سواء في الندوات والمؤتمرات التي عقدتها، أو الكتابات والدراسات التي نشرتها، أو النشاطات والمشاركات العملية والميدانية، أو في تأسيسها للهيئات والجمعيات النسائية ذات الاهتمامات الحقوقية والثقافية والاجتماعية والإنسانية.

وقد تعددت واختلفت المداخل التي طرحت فيها قضايا المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، وفجرت حولها نقاشات ساخنة، وانقسمت حولها الآراء بطريقة سجالية واحتجاجية، بالرغم من كل تلك المعطيات والمناخات والمتغيرات، ما يؤكد على حساسية تلك القضايا، وصعوبة الاقتراب منها، وشدّة الممانعة الاجتماعية. نتيجة الانتظام عليها لزمن طويل، وامتزاجها بالتقاليد والأعراف والموروثات الاجتماعية والثقافية والتاريخية، والتخوف من أن تكون هناك تأثيرات وضغوطات أجنبية وغربية، أو مساس بالقيم أو التشريعات الإسلامية.

ومن الأقطار العربية التي أثيرت فيها قضايا المرأة، وتجددت حولها النقاشات التي عبرت عن وجهات نظر متعارضة أو متصادمة، أو شهدت متغيرات في هذا الشأن. مصر. وكان المدخل لتلك القضايا، هو مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية الذي عرض على البرلمان المصري في كانون الأول/ ديسمبر 1999م، وثارت حوله نقاشات سجالية وساخنة في البرلمان والصحافة والأوساط الدينية والاجتماعية والحقوقية والقضائية. وتركزت هذه النقاشات في ثلاثة قضايا حرجة هي: قضية الخُلع الذي يبيح للزوجة طلب الطلاق إذا أقرت أمام المحكمة باستحالة الحياة مع زوجها، مقابل تنازلها عن حقوقها المالية الشرعية إلى زوجها مع ما حصلت عليه من صداق، ويكون القاضي في هذه الحالة ملزماً بالاستجابة لطلب الزوجة بالتطليق. القضية الثانية: السماح للزوجة بالسفر من دون الحصول على إذن الزوج، وذلك في حالة حصولها على ترخيص بذلك من المحكمة. وثالثاً: الاعتراف بالطلاق رسمياً في حالات الزواج العرفي. المعارضون لهذا التشريع في البرلمان يرون أن هذا القانون يخرج عن مبادئ الشريعة الإسلامية ويلتف عليها، ويمنح للزوجات حقوقاً غير شرعية. أما الموافقون فيرون أنه يعيد الحقوق لأصحابها، ويزيل سوء الفهم والإلتباس التي سادت لزمن طويل. وقد انقسمت حوله الأوساط الدينية هناك، بين مدافع عنه كموقف شيخ الأزهر الدكتور «سيد طنطاوي» الذي شرح رؤيته أمام مجلس الشعب في كانون الثاني/ يناير 2000م، واعتبر أن المشروع قد تمت مراجعته بدقة وبمناقشة مستفيضة، وليس فيه ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، كما أنه لا يلغي قوامة الرجل على المرأة، وإنما يتحدث عن حالات التعسف التي يمارسها الزوج. وبين معارض له كما جاء في البيان الذي أصدره مجموعة من علماء الأزهر عددهم اثنان وعشرون عالماً، طالبوا فيه إعادة مراجعته وضبطه بموازين الشريعة الإسلامية، وحذروا من التسرع في اقراره مما قد يهدد استقرار المجتمع. وبعد مناقشات طويلة أقر القانون وتأجل البت في قضية حق الزوجة في السفر، إلى أن قضت المحكمة الدستورية العليا في كانون الأول/ ديسمبر 2000 بإلغاء شرط موافقة الزوج على سفر زوجته إلى الخارج.

وفي شباط/ فبراير 2000م، أصدر الرئيس المصري حسني مبارك قراراً جمهورياً بتشكيل مجلس قومي للمرأة مؤلف من 30 عضواً بينهم 24 امرأة من تخصصات متعددة، يركز على قضايا محو أمية المرأة ومساعدة المرأة الضعيفة اقتصادياً ومساندة المرأة الريفية وتوعية هذه الفئات بحقوقها وواجباتها، كما يعنى بالمرأة ككائن اجتماعي مشارك في الحياة العامة وشتى أمور المجتمع ومستقل بذاته.

وفي المغرب، طرحت قضية المرأة من مدخل مختلف، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة المغربية في آذار/ مارس 1999م برنامجاً أطلقت عليه «إدماج المرأة في التنمية» وضعته الوزارة المكلفة بالرعاية الاجتماعية وشؤون الأسرة، بمشاركة خبراء وباحثين ومندوبين عن الأمم المتحدة والبنك الدولي، وجاء استجابة مغربية كما قال «محمد سعيد السعدي» الوزير المكلف بالرعاية الاجتماعية آنذاك، لمعاهدة بكين سنة 1995م، التي تدعو إلى منح مزيد من الحقوق للمرأة، وعن الأسباب والخلفيات التي دعت إلى وضع تلك الخطة، أضاف «السعدي» تعود إلى واقع الأمية التي تشمل ثلثي النساء في المغرب، وهي نسبة تصل إلى 87 بالمئة من مناطق الريف، ولتزايد حالات العنف المرتكبة بحق النساء حيث بلغت 28 ألف حالة بين 1994 و1998م، وضعف التمثيل السياسي للنساء إذ أن 83 فقط انتخبن في 1997م من أصل 24 ألف منتخب في الانتخابات البلدية والإقليمية. فالمغرب بهذه الأرقام، كما يقول «السعدي» لن يستطيع الاندماج في المجتمع الدولي الذي تحكمه نظم المعرفة والمعلوماتية.

وأثارت هذه الخطة احتجاجات الإسلاميين بشأن القوانين المتعلقة بأحكام الشريعة الإسلامية، كإلغاء تعدد الزوجات، وزيادة السن القانونية لزواج المرأة من 14 إلى 18 عاماً، وحصول المرأة على نصف ثروة الزوج عند الطلاق أو الوفاة، ووضع حق الطلاق بيد القاضي بدلاً من الزوج. واعتبرت رابطة علماء المغرب في بيان أصدرته حول تلك الخطة، أنها جعلت تسيير الأسرة والتدخل في تنظيمها بيد جهات غير مختصة، الأمر الذي يعتبر منافياً لشرع الله. كما أن التشدّد في إجراءات الطلاق، واقتسام ثروة الزوج مع الزوجة في حالة الفراق، يعد خروجاً على الشريعة، ومن شأنه أن يؤدي إلى عزوف الشباب عن الزواج، ويفسح المجال أما الانحلال الخلقي والتفسخ العائلي وإشاعة الفساد. كما حذر البيان من التساهل في تغيير أحكام الشريعة. ورأى بعض الإسلاميين أن القضية لا تتعلق بحقوق المرأة، وإنما بكيفية طرح هذه القضية، حيث جرى الاستخفاف في التعامل مع المرجعية الإسلامية، ومن دون أن تكون هناك استشارات أو تمهيدات، أو الإعلان عن المصدر الرئيسي لتمويل الخطة وهو البنك الدولي.

تلك المواقف جعلت الحكومة المغربية تلتفت إلى ضرورة إشراك علماء الدين في صياغة مشروع الخطة للحد من التوترات الاجتماعية وتصادم وجهات النظر، ودعت إلى اجتماعات مشتركة ضمت عشرين شخصاً من علماء الدين إلى جانب أعضاء في الحكومة وممثلين لمنظمات نسائية غير حكومية. ووصلت حدة التباينات والانقسامات إلى الشارع حين قررت التيارات العلمانية واليسارية تسيير تظاهرة شعبية في الرباط للدفاع عن خطة إدماج المرأة في التنمية، دعت إليها مئة منظمة نسائية تدعم مشروع الحكومة. وفي المقابل سيرت التيارات الإسلامية تظاهرة أخرى في الدار البيضاء للاعتراض على خطة الحكومة، فاقت بكثير حشود التظاهرة الأولى، حيث قدرت الجموع المشاركة في التظاهرة بنصف مليون شخص حسب رواية منظميها، و60 ألف حسب رواية الشرطة، و200 الف حسب مراسلي الصحافة. وقد اضطرت الحكومة في وقت لاحق، ومع أول تعديل وزاري في حكومة عبد الرحمن اليوسفي إلى إقالة الوزير المكلف بوضع تلك الخطة، على خلفية إزالة التوترات التي أحدثتها تلك الخطة في الشارع المغربي.

وفي لبنان إشتدت النقاشات السجالية حول قضايا المرأة، وكان المدخل لها مشروع القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية، الذي قدمه في آخر عهده رئيس الجمهورية آنذاك «إلياس الهراوي» إلى مجلس الوزراء في شباط/ فبراير 1998م، الذي وافق عليه في آذار/ مارس، لكن دون أن يحال إلى مجلس النواب لإقراره والعمل به. بسبب التجاذبات السياسية الحادة، والمواقف الدينية الرافضة بشدّة من المرجعيات المسيحية والإسلامية. وقد حفز إقرار مجلس الوزراء للمشروع تأسيس اللقاء من أجل قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، الذي أطلق حملة إعلامية داعمة للمشروع في نيسان/ إبريل 1998م. وحدد هذا اللقاء منطلقاته الأساسية، منها: الحق في حرية الرأي والمعتقد المكرسة في مقدمة الدستور، إشكالية آلاف الزيجات المدنية المعقودة في الخارج والمعترف بها رسمياً في لبنان لجهة تحديد الوضع القانوني السليم لهؤلاء، وتأمين فسحة لقاء غير طائفي يكون انتماء الفرد فيها للوطن، تحقيق المساواة بين المرأة والرجل، احترام حق الدولة في التشريع وتكريس سيادة القانون الوطني على القوانين المذهبية، وتأمين حل ملائم للذين يريدون الزواج من طوائف مختلف كي لا تحول التشريعات الدينية أمام ارتباطهم إلا إذا غير أحدهما دينه. في المقابل أعلن مفتي الجمهورية الشيخ «محمد رشيد قباني» رفضه للمشروع حتى لو كان اختيارياً، واعتبر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ «محمد مهدي شمس الدين» أن إقرار مثل هذا القانون ليس من الأمور التي تقع تحت سلطة الحكومة ومجلس النواب. أما مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك فقد اعتبر الزواج المدني مسموح ولكن لغير المؤمنين. كما عقدت الجهات والجمعيات الإسلامية والشرعية، المؤتمر الإسلامي للشريعة والقانون، الذي حدد موقفاً تشريعياً وقانونياً مفصلاً حول ذلك المشروع لاحتوائه على مخالفات صارخة وتحد سافر، كما جاء في البيان الختامي، للميثاق الوطني لكون الدولة أنشئت بعقد توافقي بين المسلمين والمسيحيين، ولأحكام الدستور اللبناني ومقدمته التي تنص على أن لبنان عربي الهوية والانتماء، وللمواد رقم 9 و19 و53، وللمنطق القانوني والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ومقاصد الشريعة الإسلامية والكيان الإسلامي في لبنان، ولمفهوم الطائفة والأسرة، ولكونه مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية في مسائل منها تعدد الزوجات والنفقة والطلاق والتبني والإرث (1) .

والحساسية التي أحاطت بهذا القانون بسبب كون المجتمع اللبناني حسب تقدير الكثيرين لا يحتمل انقساماً في تركيبته المعقدة، أو شرخاً يؤثر على ترابط الأسرة.

وفي الكويت تجدد الحديث حول قضايا المرأة في النطاق الاجتماعي الواسع، بعد صدور القرار الأميري بإعطاء المرأة حقها السياسي في الانتخاب والترشيح، في أيار/ مايو 1999م اعتباراً من سنة 2003م. وأقر مجلس الوزراء الكويتي المرسوم الأميري، وذلك للدور الحيوي الذي تضطلع به المرأة الكويتية في بناء المجتمع الكويتي وتنميته والإرتقاء به، كما جاء في ديباجة المرسوم، ولما قدمته المرأة الكويتية من تضحيات جسيمة ودور مسؤول إزاء مختلف التحديات التي تعرضت لها البلاد. وقد أحدث هذا القرار انقسامات شديدة الانفعالية في الأوساط الاجتماعية والدينية والسياسية، ومن الشارع الكويتي إلى مجلس الأمّة، إلى مناطق الخليج التي تباينت مواقفها من القرار، بين التحفظ والصمت والتشجيع. وكان ملفتاً لجميع المراقبين موقف أكثرية الإسلاميين الرافض بشدّة إعطاء المرأة حقوقها السياسية، فقد أعلن السيد «عبد الله المطوع» رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي، في وقت مبكر على صدور القرار، رفضه القاطع، واعتبر هذا القانون مخالفة شرعية ومعصية، ووصف النساء اللواتي أيدن القرار بحفنة من السافرات المتبرجات.

أما بيانات الحركة الدستورية فقد شككت في توقيت القرار ووجدت فيه بأنه يثير قضية خلافية، هدفها تقسيم الشارع وتفريق موقف المعارضة بين دينيين وعلمانيين. ورأت مجلة «المجتمع» لسان حال الحركة الدستورية في إحدى  افتتاحياتها، بأن ما يحدث هو محاولة لإقصاء الشريعة عن مجالات الحياة وصولاً إلى تغيير قوانين الأحوال الشخصية. أما النائب الإسلامي في مجلس الأمة «مبارك الدويلة» فقد فسر الموقف المتصلب والعنيف للإسلاميين من قضية المشاركة السياسية للمرأة، بقوله: إن الوضع الاجتماعي في الكويت غير مهيء لمشاركة المرأة في العملية الانتخابية.. ولم يحن الوقت لمثل هذه المشاركة.

وقد أثار هذا الموقف الدهشة والاستغراب في عنفه وتصلبه، ووصفه الكاتب الفلسطيني «خالد الحروب» بالفضيحة، في مقال نشره بصحيفة الحياة اللندنية حيث اعتبر أن بكل المعايير وفي مقدمتها معيار فقه المصلحة، يعتبر موقف بعض إسلاميي الكويت المعارض لترشيح وانتخاب المرأة فضيحة، والفضيحة كما يضيف تبرز بجلاء أكبر في حق تيار الاخوان المسلمين الذي من المفترض فيه أن يكون الأكثر استنارة والأغنى تجربة بحسبانه يستفيد أيضاً من تجارب الاخوان في البلدان المختلفة. أما الكاتب الكويتي «خليل حيدر» فقد رأى في هذا الموقف بأنه سيكون موقفاً تاريخياً يسجل ضد الحركة الإسلامية العربية، والخليجية منها بالذات. وكانت النتيجة أن أسقط الإسلاميون مشروع القرار في مجلس الأمة بتصويت الأغلبية ضده في تشرين الثاني/ نوفمبر 1999م.

وفي الأردن، أخذت القضية منحى آخر تحددت فيما يعرف هناك بقانون الشرف، حيث تنص المادة 340 من القانون الجزائي الأردني على حق أي رجل في الاقتصاص من زوجته أو أخته أو أي امرأة من أصوله أو فروعه، ويعترف له بالعذر المخفف والمحل، أي بالعقوبات المخففة. وقد تسلط الاهتمام على هذه القضية في وسائل الإعلام الغربية والمنظمات النسائية وهيئات حقوق الإنسان سنة 1999م بالذات، حيث أظهرت القضية بأنها من صور الظلم الواقع على المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، لتكرار حدوثها في باكستان أيضاً.

وتتجاذب الأوساط الأردنية المواقف المتعارضة من تلك القضية، بين الإصرار على التمسك بتلك المادة القانونية، وبين المطالب بإلغائها أو تعديلها إلى درجة دعت إلى تحريك الشارع الأردني عن طريق حشد الناس في تظاهرات ومسيرات، شارك في بعضها أمراء من الأسرة الملكية تأييداً للموقف المطالب بإعادة النظر في تلك القضية، ورفض مجلس النواب الأردني إلغاء تلك المادة أو تعديلها.

وقد أقدمت سلطنة عمان كأول دولة خليجية على منح المرأة حقاً في المشاركة السياسية العامة، وذلك منذ إعلان السلطان قابوس في كانون الأول/ ديسمبر 1994م عن حق المرأة في الترشيح والاختيار لعضوية مجلس الشورى الذي تأسس سنة 1991م.

وفي قطر ناقشت المحاكم الشرعية في أيار/ مايو 2000م، مشروع قانون الأحوال الشخصية هو الأول من نوعه في قطر، على أن يتم العمل به لفترة تجريبية لمدة سنة، لتقويمه وسدّ النواقص والثغرات فيه، التي تظهر في حالات التطبيق وقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات، واعتمد على المذهب الحنبلي كقاعدة مرجعية، باعتباره المذهب السائد هناك وجاء هذا المشروع بعد تشكيل «المجلس الأعلى لشؤون الأسرة» سنة 1998م. كما أقدمت قطر في آذار/ مارس 1999م على إشراك المرأة في الانتخابات البلدية، بعد صدور قانون المجلس البلدي سنة 1998م.

وفي السعودية أطلق الأمير عبد الله بن عبد العزيز في أيار/ مايو 1999م، دعوة هي الأولى من نوعها في الخطاب السياسي الرسمي، أكد فيها على أهمية دور المرأة وتطويره، حيث قال في خطاب ألقاه بالمنطقة الشرقية «لن نسمح لكائن من كان أن يقلل من شأنها ـ أي المرأة ـ، أو يهمش دورها الفاعل في خدمة دينها وبلادها» وقد استقبلت الأوساط السعودية هذه الدعوة بتفسيرات وتأويلات شديدة التباين، بين المؤيد لها والمتحفظ منها، وصلت إلى حد استدعت أن يصدر تصحيح حكومي، اعتبر فيه أن خطاب الأمير عبد الله «ارتكز على ضوابط شرعية لا تحتمل التأويل فهي تفسر نفسها. أما جنوح البعض ولجوؤهم إلى تفسيرات لا تمت للخطاب بصلة، سواء الدعوة إلى تحرير المرأة أو غيرها، فهذه ينظر إليها على أنها تجاوزات واجتهادات فردية». وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1999م أعلن رئيس مجلس الشورى السعودي الشيخ «عبد الله بن جبير» السماح للنساء بحضور جلسات المجلس والاستماع إلى مناقشاته، وفق ضوابط شرعية. وفي أواخر سنة 2000م عينت السعودية الدكتورة «ثريا عبيد» مديرة تنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، خلفاً للباكستانية الدكتورة «نفيسة صادق»، وهو أعلى منصب تصل إليه امرأة سعودية.

وفي النطاق العربي العام، صدرت توصية مهمة حول المرأة في البيان الختامي لمؤتمر البرلمانيين العرب الذي عقد ببيروت في كانون الأول/ ديسمبر 1999م، جاء فيها: وفي ما يخص مشاركة المرأة في الحياة السياسية في الوطن العربي، توصي الهيئة بما يأتي:

أـ اعتبار العام 2000 عاماً للمرأة العربية، تقدم خلاله كل المبادرات الممكنة للنهوض بالمرأة العربية وتمكينها من التمتع بكامل حقوقها وفقاً للدساتير والمواثيق والمعاهدات الدولية، واعتبار الأول من شباط/ فبراير من كل عام يوماً للمرأة العربية.

ب ـ العمل على تسهيل مشاركة المرأة في الحياة العامة للدول العربية بما يضمن منحها حقوق المواطنة الكاملة.

جـ ـ حث المجالس العربية التي تساهم فيها المرأة على إشراك النساء في أنشطتها الخارجية، والعمل على إنشاء لجنة خاصة في الاتحاد البرلماني العربي تعنى بشؤون المرأة والقضايا المتعلقة بتحسين أوضاعها.

وفي كانون الأول/ ديسمبر 1999م أيضاً عقد اجتماع «المحكمة العربية الدائمة لمناهضة العنف ضد النساء» في بيروت ناقشت فيه قوانين الأحوال الشخصية المطبقة في البلدان العربية، وانتقدتها بشدة لعدم ضمانها على حد زعمها بالحد الأدنى من حقوق المرأة الإنسانية. واعتبرت بعض النساء تلك القوانين على أنها تؤسس لعلاقات غير متكافئة داخل الأسرة، وتشرعن أشكال العنف والقمع الممارس ضد النساء في علاقاتهن العائلية، وأن هناك فجوة عميقة بين معظم القوانين الأسرية المعمول بها والواقع الاقتصادي والسياسي، حيث باتت تشكل عقبة أساسية أمام مساهمة المرأة في التنمية الاجتماعية.

وفي خطوة جديدة وغير معهودة، عقد بالقاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2000م، مؤتمر القمة الأول للمرأة العربية، نظمته الجامعة العربية والمجلس القومي للمرأة المصرية تحت شعار «تحديات الحاضر وآفاق المستقبل».

أما في النطاق الإسلامي غير العربي، فهناك ثلاثة اتجاهات في تطور منظورات الرؤية للمرأة وأنماط التعامل معها، في ثلاث دول تستوقف اهتمام المراقبين لطبيعة أوضاع المرأة فيها، وهي تركيا وأفغانستان وإيران.

فتركيا التي توصف في الدراسات الغربية على أنها أول بلد إسلامي يسعى إلى تحرير المرأة منذ صدور القانون المدني سنة 1926م في عهد الجمهورية الكمالية وفق النموذج المطابق تماماً للنموذج الغربي، بقصد القطيعة مع المجتمعات والأفكار الإسلامية، والتماهي والاندماج مع المجتمعات والأفكار الأوروبية. وحسب هذا التصور تحددت السياسات والبرامج والتشريعات التي تكيف أوضاع المرأة على أساسها، والذي جعلها تصطدم بواقع يتشبث بهويته الإسلامية ويظهر ممانعة ودينامية، وهي الأزمة التي لم تتغلب عليها تركيا العلمانية منذ ذلك التاريخ إلى هذا الوقت، فهناك صراع يمكن وصفه بتفجر ديناميات الهويات. ويكمن العيب الأساسي في الإصلاحات التركية لأوضاع المرأة هناك، حسب بعض التقييمات الغربية في «طابعها الإرادوي والفوقي، أو اليعقوبي كما يقول الفرنسيون، فقد كانت سابقة بالإجمال لمستوى تطور المجتمع، وبدت بالتالي وكأنها مسقطة من الخارج عن طريق محاكاة النموذج الغربي. وفضلاً عن ذلك فقد كانت إصلاحات مدنية أكثر منها ريفية. وإلى اليوم لا تزال غير مطبقة عملياً في الأرياف الأناضولية، حيث لم يسجل تطور المرأة تقدماً مرموقاً» (2) .

وأكثر صورة عبرت عن اصطدام الهويتين الغربية والإسلامية بشكل دائم ومستمر في المجتمع التركي، هي صورة الحجاب، الذي حاول تمزيقه أتاتورك، ووقف مرة خطيباً بين الناس وقال: «لقد أحرزت نصراً مبيناً على التقليد والأعداء، يرجع نصف الفضل فيه للجند، والنصف الآخر لتمزيق الحجاب» (3) . وإلى اليوم والاصطدام يتجدد بتراكمات أشد من السابق.

والقضية التي أظهرت إلى العالم حجم تلك المشكلة، والحساسية المفرطة من ظاهرة الحجاب، والتعامل الاستبدادي والقهري للمؤسسات الحكومية، ما حصل مع السيدة «مروة قاوقجي» التي شاركت في الانتخابات النيابية مرشحة عن حزب الفضيلة بالدائرة الأولى لمدينة اسطنبول في نيسان/ أبريل 1999م، وحصلت على أعلى نسبة اصوات بدائرتها الانتخابية. وتفجرت القضية التي تحولت إلى أزمة سياسية هناك، حين حضرت السيدة «قاوقجي» محجبة إلى مقر البرلمان في أنقرة، وأخذت مقعدها ووقعت الأوراق القانونية الخاصة بعضويتها كنائبة عن دائرتها في اسطنبول، مما أثار اعتراض نواب اليسار والعلمانيين المتشددين، على أول امرأة ملتزمة بالحجاب تدخل البرلمان التركي، الموقف الذي دفع رئيس الوزراء التركي آنذاك «بولند أجاويد» إلى المنصة قائلاً بأن البرلمان ليس هو المكان الذي يجرؤ فيه أحد على تحدي النظام والدولة. وتواصلت الاحتجاجات والانقسامات في الصحافة والشارع العام إلى يوم افتتاح الدورة الحادية والعشرين للبرلمان في أيار/ مايو 1999م بحضور الرئيس التركي في ذلك الوقت «سليمان ديميريل»، فقد اصطفت أمام البرلمان مجموعة من النساء الغاضبات وهن يرددن شعارات تنتقد الحجاب.

ثم قام وزراء حكومة «أجاويد» بتوقيع عريضة رفعوها إلى «ديميريل» طالبوا فيها حرمان النائبة «قاوقجي» من جنسيتها التركية، باعتبارها لم تعترف بحمل الجنسية الأمريكية حين تقدمت باستمارة الترشيح، واعتبروا ذلك تضليلاً يستوجب حرمانها من جنسيتها الأولى وتهجيرها من وطنها. وتصاعدت حدة القضية وكأن خطراً عظيماً يهدد الأمن القومي ومستقبل البلاد. إلى أن انتهت القضية بشكل بائس وظالم بسحب جنسيتها التركية، وحجبها بالتالي عن موقعها في البرلمان.

مع ذلك فإن الأزمة لم تنته، فقد عمقت التوترات وكرست الانقسامات الحادة في بنية المجتمع التركي التائه في البحث عن هويته.

أما أفغانستان، فقدمت صورة مغايرة تماماً في شكل تطور أوضاع المرأة، بعد وصول حركة طالبان إلى العاصمة كابول سنة 1996م، وصفت بأنها أسوء صورة مشوهة عن المرأة في العالم الإسلامي، فقد اعتبرت حولية «أمتي في العالم» لسنة 1999م، في القسم الخاص حول «حالة المرأة في العالم الإسلامي» بأن من «بين كل النظم السياسية والاجتماعية المعاصرة في العالم الإسلامي خاصة، والعالم بصفة عامة، تقف الحالة الأفغانية عند مشارف القرن الحادي والعشرين فريدة بلا منافس في موقفها من المرأة. وتكمن خطورة هذه الحالة في أمرين أولهما تبني موقف عزل وتهميش النساء كسياسة رسمية معلنة. ثانياً ارتكاز تلك السياسة على قراءة متشدّدة للدين الإسلامي بدءاً من التفسيرات والتخريجات الفقهية، إلى عدم اعتبار المقاصد وشروط تطبيق الأحكام وفقه الواقع» (4) . والرؤية التي عبرت فيها حركة طالبان عن المرأة تنتمي لعصور التخلف والتراجع، حيث حجبت عنها حقوقها الأساسية في التعليم والعمل، وفرضت عليها نظاماً صارماً يعكر حياتها ويعرضها للعسر والحرج والضرر، فقد أجبرتها بالتقيد بزي خاص وألوان خاصة، وعدم السماح لها بمغادرة المنزل إلا برفقة أحد محارمها، ومنعها من الصلاة في المساجد، أو تلقي العلاج على أيدي أطباء ذكور، فضلاً عن فصلها عن وظائف في العمل وحجبها عن التعليم بإغلاق المدارس الخاصة بالنساء، إلى غير ذلك. وقد تعرضت هذه الحالة لنقد شديد من جهات عديدة ومختلفة عربية وإسلامية، ومن هيئات ومنظمات دولية مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية وهيئات حقوق الإنسان. مع ذلك لم تتغير الحالة إلا بقدر طفيف.

والنموذج الثالث المختلف هو الذي قدمته إيران بعد التحول الإسلامي سنة 1979م، فقد ارتبط هذا التحول من جهة مكوناته بدور رئيس للمرأة التي استطاعت أن تسجل حضوراً بارزاً ومشاركة فعالة استوقف اهتمام الباحثين والمراقبين، الذين اعتبروا هذا الحضور الفاعل والواسع من الملامح الأساسية البارزة للتجربة الإسلامية في إيران، ومن مميزات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية هناك. وحسب تقييم حولية «أمتي في العالم» فإن هذه التجربة قدمت «نموذجاً فذاً وغير مسبوق لفاعلية ودينامية النساء ومشاركتهن في كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مجتمع إسلامي. ويرجع وجه الفرادة في هذا النموذج لعاملين: أولهما انتماء إيران إلى مجتمعات الشرق الأوسط التي تعاني فيها المرأة من ميراث ثقيل من الأعراف والتقاليد والأوضاع القائمة على استضعاف النساء وتهميشهن. والثاني يرجع لكونها تنبع من مرجعية إسلامية واضحة وتلتزم بقوة بالمعايير الإسلامية مما يطيح بالإدعاءات التي طالما ربطت بين الإسلام واستضعاف النساء وتهميشهن من خلال تقديم بديل حي معاش لتلك الصورة» (5) .

لذلك يمكن اعتبار هذه التجربة الأهم من بين التجارب الأخرى في النموذج الذي قدمته عن المرأة ومستوى إشراكها في الحياة، ومن جهة إمكانية اختباره وتوصيفه وتحليله والقياس عليه بطرائق ومنهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية. كما أنها أعطت تقييماً مغايراً عن تكوينات الفهم المتشكلة حول التصور الإسلامي للمرأة، حيث برهنت بأن الحجاب ليس معوقاً أو مانعاً أو معطلاً لتقدم المرأة في ميادين العلم والعمل والمشاركات في الحياة العامة، وكشفت عن إمكانيات المرجعية الإسلامية والاجتهاد التشريعي والفقهي في انطلاقة المرأة وتقدمها وتأمين الحياة الكريمة لها، وإشراكها في تركيبة النظام السياسي فهي تحتل ما لا يقل عن عشرة مقاعد في مجلس الشورى، وفي دورة انتخابات سنة 2000م، وصلت إلى هيئته الرئاسية وتبوأت منصب نائب الرئيس في عدد من اللجان البرلمانية، كاللجنة الثقافية ولجنة الصحة والعلاج الطبي، وتشغل منصب مساعد رئيس الجمهورية لشؤون المرأة، وتوجد لجنة للنساء في مؤسسة تشخيص مصلحة النظام التي تنظر في السياسات العامة، كما توجد في كل الوزارات مستشارة خاصة لشؤون المرأة، وهناك يوم للمرأة يقام سنوياً في ذكرى مولد السيدة «فاطمة الزهراء» عليها السلام، الذي يصادف العشرين من جمادى الثانية.

 

(3) التفكير الديني.. أنماط الاستجابة ودعوات التجديد

 تلك الحقائق والوضعيات كشفت عن أن قضايا المرأة مقبلة على مزيد من التحولات والتغيرات في النطاقات المرتبطة بالواقع الخارجي، وعلى اتجاهات ومسارات في النطاقات المرتبطة بالواقع الذهني. الأمر الذي يتطلب تفهم تلك الحالات، وتكوين المعرفة بها، وبأرضياتها وهواجسها، والعناصر المؤثرة فيها، والإحاطة بجوانبها وأبعادها وخلفياتها. خصوصاً على مستوى الفكر الديني الذي هو بحاجة إلى تجديد رؤيته للمرأة حتى لا يفقد قدرته في التأثير عليها، وبالتالي في الارتباط المرجعي بالقاعدة الفكرية الدينية.

وبصورة أكثر وضوحاً، إن المرأة أصبحت أكثر وعياً بذاتها، وبنظرتها لمستقبلها، وبدأت تبحث لنفسها عن فرص التقدم في المجالات العامة، ولم تعد تقنع بالأدوار التقليدية والضيقة والمحدودة، أو بتلك الوصاية الشديدة والشاملة عليها من الرجل، فهي اليوم أكثر تعليماً وتدريباً وخبرة وثقافة، وقد تقلصت تلك المسافات المتباعدة التي كانت تفصل تقدم الرجل وتميزه عن المرأة، أو حين كان يحتكر لنفسه فرص التقدم ويحجبها عن المرأة، كما أنها باتت أكثر وعياً وإدراكاً لمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي المفاهيم التي تجعلها تصطدم بتقاليد اجتماعية، وتدفعها لنقد موروثات قديمة، وصعوبة الانسجام مع بيئات لا تقدر لها طموحاتها، أو تعترف لها بكفاءاتها.

ومنذ ظهور الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأوضاع المرأة تتطور وتتحرك بعيداً عن القاعدة المرجعية الإسلامية، نتيجة الانقلاب عليها والتخلي عنها كقاعدة مرجعية ودستورية وقانونية شاملة للمجتمع والسلطة والدولة. لذلك كانت الأرضيات والمناخات التي فرضتها الدولة العربية تقطع العلاقة المرجعية بين المرأة والدين، وتجعلها في حالة اغتراب عن الفكر الديني، وأكثر قرباً وانسجاماً مع القاعدة الفكرية الغربية التي تباهت بشعار تحرير المرأة، والدفاع عن حقوقها وحرياتها وتقدمها.

أما الفكر الديني فقد وجد حاله في موقف الدفاع عن الذات والحفاظ على الهوية، ولا يستطيع مقاومة الواقع المتغرب المفروض من الدولة، ولا يمتلك مكونات القدرة في التأثير أو إظهار الفعل المؤثر على نطاق واسع أو كبير. لذلك فإن الرؤية التي تشكلت في الفكر الديني حول المرأة كانت متأثرة بتلك الوضعيات والمناخات، المحرضة على الانكماش والإنغلاق، والباعثة على الممانعة والمقاومة، بحيث جعلت من تلك الرؤية شديدة الحساسية في التمسك بالتقاليد والموروثات والدفاع عنها، وإظهار المخاوف والهواجس القلقة تجاه المحاولات التي تقترب من تجديد الرؤية والدعوة لإصلاح أوضاع المرأة حتى لو جاءت من داخل الفكر الديني، والتشدد في تحكيم قاعدة سد الذرائع وقاعدة الاحتياط، واعتبار ما يجب على الفقيه بيانه، كما يقول الشيخ «محمد مهدي شمس الدين» بمقتضى أدلة حجية الفتوى، هو الأحكام والإلزام فقط دون الأحكام الترخيصية. الرأي الذي ناقشه الشيخ «شمس الدين» معترضاً عليه بقوله: «لا نعرف له وجهاً بعد ملاحظة ما دل على وجوب بيان أحكام الله تعالى، والأحكام الترخيصية كالإلزامية مما يتوقف عليه انتظام حياة الناس، واستقامتها على جادة الشرع» (6) .

إلا أن تلك السياقات التي تأثر بها الفكر الديني، قد تغيرت واختلفت مساراتها واتجاهاتها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بعد ظهور صحوة فكرية، وانبعاث نموذج للمرأة الدينية وفي مقدمتها المرأة الإيرانية، ونهوض الحالة الإسلامية وتصاعدها، بالشكل الذي ساهم في تحريك التصورات الذهنية عن المرأة في التفكير الديني، وبعثت على تجددات فكرية، واندفاعات باستنهاض دور المرأة في التصدي لمسؤولياتها الاجتماعية والدعوية والحركية. وهيأت الأرضيات لإمكانية تجديد التفكير الديني حول المرأة، وتكوين رؤية نقدية وإصلاحية للذهنيات السائدة، والتقليدية والمتحجرة منها بالذات، والعمل على إصلاح أوضاع المرأة بما يستجيب لآمالها وكرامتها. لذلك أصبح من الممكن تناول قضايا المرأة بنوع من الجرأة والوضوح، وبحرية في التعبير، واختراق حواجز الصمت، والخروج على المناخات الضاغطة، ومواجهة الذات بعقل نقدي، وتفكيك النظام السلوكي القديم المقيد لطموحات المرأة والمعوق لتقدمها والمعطل لطاقاتها وذلك بالانسجام والتكيف مع القاعدة الفكرية الإسلامية، التي بإمكان المرأة أن تستند عليها وتحاجج بها، وتنطلق منها في الدفاع عن حقوقها وكرامتها، وفي بناء تقدمها وارتقائها.

وفي هذا السياق تزايدت وتصاعدت الدعوات من داخل منظومات التفكير الديني، المطالبة بإعادة الاعتبار للمرأة، وتجديد النظر في قضاياها من خلال اجتهادات تحكم معايير العدالة والحرية والكرامة.

ولعل الشيخ «محمد الغزالي» ]1341ـ1416هـ/1917ـ1996م[ من أكثر المصلحين المعاصرين تعبيراً عن رؤيته النقدية التي اتصفت بالجرأة والتنوير والوضوح، بالشكل الذي ألبت عليه بعض الأوساط الدينية المتعارضة لنهجه الإصلاحي ورؤيته التنويرية، كما أوضح ذلك بنفسه في كلام له يقول فيه: «لقد أدهشني أن نفراً من المتدينين يتناولونني بأقسى مما يتناولني به الصهاينة والصليبيون» (7) . وعن رؤيته لهذا الموقف يقول: «هناك حراس للخطأ يرتفع عويلهم إلى عنان السماء، عندما ينتقد هذا الخطأ، وقد كنت أول أمري قليل الاكتراث بهذا العويل، بيد أني وجدته يتحول على مرّ الأيام إلى ضغينة على المصلحين واستباحة لأعراضهم لا يمكن السكوت عليها، لأن الدين نفسه سوف يضار من هذا السكوت، وسوف تتحول حقائقه إلى أباطيل» (8) .

ومن الممكن اعتبار كتابه «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة» أحد أهم المؤلفات النقدية في التفكير الديني، وأكثر جرأة وشجاعة من كتاب «قاسم أمين» «تحرير المرأة» الذي اكتسب شهرة واسعة في عصره، فكتاب الشيخ «الغزالي» يحتوي على ثورة إصلاحية تستنهض الفكر الديني، وتنفض عنه الرواسب الجامدة، والموروثات الجاهلة، والتقاليد الراكدة، والمذاهب الوافدة.

ومع أن «قاسم أمين» قد تعرض لنقد شديد من أوساط إسلامية واسعة، إلا أن الشيخ «الغزالي» يأتي على ذكره في سياق المنافحة عنه، للدور الذي قام به كما يصفه «الغزالي» في الدفاع عن الإسلام ضد الغزو الثقافي الفرنسي، الذي اشتد في عصره.. وكان محوره الأساسي هو المرأة في الشريعة الإسلامية، التي خاض مبارزة الدفاع عنها مع الخصم الفرنسي «دوق داركور» بعد صدور كتابه سنة 1893م بعنوان «مصر والمصريون» تناول فيه حياة المجتمع المصري أيام الحكم المملوكي والتركي.. ويتساءل الشيخ «الغزالي» ماذا فعل «قاسم أمين» ليدافع عن دينه وأمته؟ ويجيب: لقد سارع إلى تأليف كتاب بالفرنسية فند فيه أقوال خصمه، وشرح حقوق المرأة في الإسلام، وما كفله الدين لها من كرامة مادية وأدبية، ووازن بين حجاب السترة والاحتشام عندنا، وبين تهتك المدنية الحديثة ودعوات الانحلال فيها. إن ما فعله «قاسم أمين»، كما يضيف «الغزالي» كان محكوماً بأمرين، أولهما الدفاع عن الإسلام المفهوم من مصدريه الرئيسيين، والآخر الاعتذار عن تخلف المرأة بسبب التقاليد الغريبة عن التوجيه الإلهي. هذا الكلام جاء في سياق حادثة تعرض إليها الشيخ «الغزالي» وهو يتحدث في أحد الأندية عن حقوق المرأة المسلمة، فاعتبر لها حق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدريس هدايات الإسلام ومجادلة الملحدين.. فإذا بشخص يقول لصاحبه، والكلام للشيخ الغزالي، كنا نظن هذا المحاضر رجلاً صالحاً فتبين أنه ألعن من قاسم أمين (9) .

ولم يتعرض الشيخ «الغزالي» لمؤلفات وكتابات «قاسم أمين» الأخرى، وبالذات كتابي «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» اللذين تركز حولهما الجدل والاحتجاج.

أما عن نقده لواقع حال المرأة في مجتمعاتنا، يقول «الغزالي» «مع اضمحلال الفكر الديني في الأعصار المتأخرة هبط المستوى الإنساني للمرأة هبوطاً مخجلاً في ميدان العلم والأدب، وعادت الجاهلية الأولى تنشر مآثرها ونزعاتها» (10)  ويضيف في مكان آخر «المرأة عندنا ليس لها دور ثقافي ولا سياسي، لا دخل لها في برامج التربية، ولا نظم المجتمع، لا مكان لها في صحون المساجد، ولا ميادين الجهاد. ذكر اسمها عيب، ورؤية وجهها حرام، وصوتها عورة، وظيفتها الأولى والأخيرة إعداد الطعام والفراش.. والحق أن قضايا المرأة تكتنفها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية واقتصادية، والأمر يحتاج إلى مراجعة ذكية لنصوص وردت، وفتاوى تورثت، وعادات سيئة تترك طابعها على أعمال الناس. لابد من دراسة متأنية لما نشكو منه، ودراسة تفرق بين الوحي وما اندس فيه، وبين ما يجب محوه أو إثباته من أحوال الأمّة..» (11)  وعن نقده للذهنيات الدينية، وهو أكثر من يفهمها ويقدم المعرفة عنها، باعتبار انتمائه للمؤسسة الدينية، واحتكاكه بالبيئات الدينية في عدد من الأقطار العربية ابتداء من مصر إلى الجزائر ومنطقة الخليج وغيرها.

ومن جملة نقده يقول: «في هذا العصر يوجد فتيان وشيوخ لهم أدمغة مظلمة متحجرة، يقولون رأينا وحده! ولا حياة لرأي آخر ولا مكان له، إنهم طراز جديد من الخوارج القدماء» (12) . ويعتبر بأن «الثغرة التي ينفذ منها أعداء الإسلام إلى بيضتنا ونحن نقاوم الغزو الثقافي، هي موقف بعض الشيوخ من قضايا المرأة فهم يقفون أحجاراً صلبة أمام كل الحقوق التي قررها لها الإسلام يريدون تعطيلها أو تشويهها. وقد عاصرت أياماً أنكر فيها الأزهر تعليم المرأة في الجامعة، كما علمت على وجه اليقين أن أفواجاً من الأعراب ذهبت إلى الرياض تستنكر فتح مدارس لتعليم البنات» (13) . ويرى «في تراثنا الفقهي على نفاسته أحكام استقاها الفقهاء من أفواه الناس، لا تستند إلى أصل من كتاب أو سنة، ولا إلى دليل ثانوي يعتمد على الكتاب والسنة» (14) . وختم كلاماً له في مكان آخر قال فيه «إن هؤلاء المتفيهقين تعرفهم عصور الاضمحلال العقلي، ولا يمكن أن يظهروا في مجتمع ناضج أو سلف صالح» (15) . وفي كتاب آخر يقول: «إن البيئات المتدينة في أرجاء شتى من العالم الإسلامي تتسم بالقصور والجمود، وتشدها إلى التراب طبائع معتلة، والجو الذي تحيا فيه يخالف مخالفة تامة جو القرآن الكريم المليء بالصحو والضوء والتألق والانطلاق» (16) . ودعا الشيخ «الغزالي» إلى نهضة نسائية رشيدة لتجاوز تلك الذهنيات المتحجرة، بقوله «أمتنا بحاجة إلى نهضة نسائية رشيدة، لم؟ لأن هناك بعض المتدينين لا يعقلون قضايا المرأة، أو ينظرون فيها بحماقة وقلة فقه، ولو وكل الأمر إليهم لحبسوا النساء في البيوت فلا عبادة لهم ولا علم ولا عقل ولا فكر ولا نشاط ولا شيء. هذا النوع من المتدينين الجهلة ينبغي أن يحرم من الكلام باسم الله» (17) .

لا شك أن هذه جرأة نادرة وغير معهودة في هذا العصر بالذات، حيث يصعب على الكثيرين ومن الوسط الديني بوجه خاص الإشهار بمثل هذا الكلام، وهذا الوضوح في النقد. وقيمته أنه جاء من الشيخ «الغزالي» الذي لا أحد يشك في غيرته على دينه وأمته.

وكانت للشيخ «محمد مهدي شمس الدين» نظرات مهمة وجديرة بالنظر والتأمل، شرحها بشكل استدلالي في كتابه «مسائل حرجة في فقه المرأة» حيث دعا إلى تأسيسات فقهية جديدة لقضايا المرأة تعيد لشخصيتها الاعتبار، وتفتح أمامها إمكانات المشاركة العامة، وتوازن بين دورها ودور الرجل.

أما الشيخ «يوسف القرضاوي» فقد دعا إلى عصر جديد للمرأة المسلمة في كتاب له عالج هذا الموضوع، بعنوان «مسلمة الغد» إذ يقول: «نحن نريد هذا العصر أن ينتهي، نريد أن نبدأ عصراً جديداً، ونفتح صفحة جديدة للمرأة المسلمة، نريد أن تعود نهضة إسلامية حقيقية تقف على أرض صلبة من تعاليم الإسلام، التعاليم الحقيقية كما جاء بها كتاب الله وسنة رسوله «ص».. هذا ما أريده من مسلمة الغد، أريدها مسلمة، عارفة بدينها وبحياتها، مؤدية لواجبها نحو ربها، ولواجبها نحو زوجها وأولادها، ولواجبها نحو مجتمعها ودينها وأمتها الإسلامية، نريدها أن تقود نهضة إسلامية حقيقية» (18) .

ويرى الدكتور «حسن الترابي» «إننا بحاجة لثورة إصلاحية لواقع المرأة في مجتمع المسلمين، وإن هذه.. الثورة على الأوضاع النسوية التقليدية آتية لا محالة،.. والتعجل في الإصلاح الإسلامي قبل أن ينفلت الأمر وتتفاقم الاتجاهات الجاهلية الحديثة. وليحذر الإسلاميون من أن يوقعهم الفزع من الغزو الحضاري الغربي والتفسخ الجنسي المقتحم في خطا المحاولة لحفظ القديم وترميمه بحسبانه أخف شراً وضرراً، لأن المحافظة جهد يائس لا يجدي. والأوفق بالإسلاميين أن يقودوا هم النهضة بالمرأة من وحل الأوضاع التقليدية، لئلا يتركوا المجتمع نهباً لكل داعية غربي يضل به عن سواء السبيل مستظهراً بتبرم الناس من جنوح أوضاع المرأة وباتجاهات الحياة الحديثة» (19) .

كما إن النساء كانت لهن دعوات في هذا الاتجاه. فقد أكدت الدكتورة «منى يكن» رئيسة جامعة الجنان في لبنان، خلال مشاركتها بمؤتمر «المساهمة الحضارية للمرأة» عقد بالكويت في نيسان/ ابريل 1998م، على ضرورة قيام حركة فقهية تجديدية فيما يتصل بالرؤية للمرأة، وخاصة في دورها السياسي. ودعت السيدة «هبة رؤوف عزت» من مصر إلى خطاب إسلامي جديد حول المرأة، في ورقة قدمتها لندوة «حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام» عقدت في تشرين الأول/ أكتوبر 1998م بالرباط. ومن الكويت دعت الكاتبة «كواكب عبد الرحمن الملحم» إلى تأصيل رؤية إسلامية واضحة لقضايا المرأة المعاصرة، وترشيد الخطاب الإسلامي المعاصر وأدبياته الموجهة للمرأة، وصياغة وتقديم النموذج الحضاري للمرأة المسلمة، في كتاب لها بعنوان «مسلمة على أعتاب القرن القادم».

ومن إيران دعت السيدة «فائزة رفسنجاني» إلى أن تحتل المرأة الإيرانية كل المناصب الممكنة وبما لا يتعارض مع الشريعة في الدولة ومنها رئاسة الجمهورية، وإلى زيادة عدد النواب من النساء حتى يستطعن التعرف بعمق على مشاكل المرأة في المجتمع والمساهمة في وضع برامج وخطط لها. ومن قبلها طالبت شقيقتها الكبرى السيدة «فاطمة رفسنجاني» بأن يصبح نصف عدد نواب البرلمان الإيراني من النساء، وإجراء إصلاح إداري لتنفيذ القوانين المتعلقة بالمرأة في إيران بشكل عادل.

وفي انتخابات سنة 1997م تقدمت السيدة «أعظم طالقاني» بطلب الترشيح وجادلت في الرأي الذي يمنع ارتقاء المرأة لهذا المنصب، الذي يوصف في الأدبيات الفقهية بالإمامة العظمى، وفي الأدبيات السياسية بالرئاسة العامة. وترى السيدة «فاطمة طالقاني» بأن الوقت قد حان لإلغاء بند يثير الجدل على حد وصفها في الدستور الإيراني يفهم منه من دون تحديد قاطع أن منصب رئيس الدولة منصب للرجال فقط. وإن الواجب الديني والزمني يلزمنا بإيضاح المادة 115 من الدستور. وإنه لم يعد يراودني كما تضيف «طالقاني» أدنى شك بعد قيامي بأبحاث أكدت أن الإسلام لم يمنع المرأة أبداً من الاضطلاع بأعلى المستويات. وفي أيلول/ سبتمبر 1998م حرضت السيدة «فاطمة رمضان زاده» نائبة في مجلس الشورى على ضرورة العمل لإعادة النظر في بعض القوانين التي تتعلق بشؤون المرأة بالاستناد إلى قدرة الفقه الإسلامي على تطوير القوانين الإسلامية، وإن هناك العديد من المواد القانونية المتعلقة بالزواج والطلاق ينبغي مراجعتها بجدية، واقترحت في هذا الشأن تشكيل فريق عمل من الحقوقيين وأصحاب الرأي في المجال القانوني والفقهي لمناقشة قوانين الإرث والدية والطلاق والزواج والحضانة لتفادي التصورات الخاطئة حول تعارض القيم الإسلامية مع مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية.

وفي أيلول/ سبتمبر 2000م، طالبت النائبة السيدة «فاطمة حقيقت جو» الفقهاء المتنورين أن يحددوا الأحاديث الضعيفة ليبعدوها عن الواقع المعاش، ويثبتوا ماهية النظرة الإلهية للرجل والمرأة، ومن هذه الزاوية يمكننا إصلاح باقي القوانين العليا.

وفي البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول «المرأة المسلمة في العلوم» الذي عقد بمدينة فاس المغربية في آذار/ مارس 2000م، جاءت فيه توصيات مهمة، منها: تشجيع المرأة لولوج المجالات العلمية وتطوير المؤسسات العلمية المتخصصة وتمكينها من القيام برسالتها في تنمية المجتمع، وممارستها لدورها في المشاركة لصنع القرار، والعمل على تغيير النظم التربوية في التعليم الأساسي والثانوي من أجل تسهيل توجه المرأة للتخصصات العلمية في مرحلة التعليم العالي، وضرورة تشجيع مشاريع البحث الخاصة بالمرأة وتوفير المنح الدراسية لها، وإنشاء مجلس دولي للمسلمات العالمات، وتخصيص جائزة دولية سنوية تحمل اسم جائزة «فاطمة الفهرية» بانية جامعة القرويين بفاس في منتصف القرن الثالث الهجري، تقدمها الأكاديمية الملكية للجمعيات الدولية للعلوم «رايست»، التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، تعطى لأحسن بحث في العلوم، وقد منحت هذه الجائزة لسنة 2000م ولأول مرة، للطبيبة المغربية الدكتورة «أمينة براحو حماني» رئيسة قسم العيون بمستشفى ابن سينا في الرباط.

هذه الدعوات وإن كشفت عن تطورات مهمة في الذهنيات الإسلامية المعاصرة، وارتبطت في أحد اتجاهاتها بتحولات سياسية وثقافية واجتماعية كما حدث في إيران، إلا أنها أقرب ما تكون إلى رغبات وطموحات وآمال، وما زالت بحاجة إلى زمن غير قصير، حتى تتوفر لها الشروط التاريخية الفاعلة. الأمر الذي يتطلب أن تواصل المرأة في إعلاء صوتها، وتثبت جدارتها في المواقع التي وصلت إليها، وتبرز تميزها في الحقول والمجالات كافة، وتساهم في بلورة خطاب إسلامي متنور حول قضاياها، وتقدم صورة عن نفسها مغايرة للانطباعات النمطية المتشكلة حولها في الذهنيات العامة، والحرص على التمسك بالمرجعية الإسلامية كمصدر وضمان لشرعية حقوقها وحرياتها وكرامتها، وكقاعدة فكرية للمحاججة بالأدلة والقواعد والأصول. مع شرط معاضدة الرجال المتنورين من مفكرين وعلماء وفقهاء ونشطاء في ميادين السياسة والحقوق والتربية والتعليم والإعلام..

وقد تعددت وتباينت أنماط الاستجابة عند الإسلاميين تجاه تلك الدعوات والمواقف، بحسب الفهم والتقدير الفكري والأخلاقي لها، وطبيعة تركيبة المجتمعات التي ينتسبون إليها، ومستوى الخبرات الفكرية، ودرجات الانفتاح والتواصل. فهناك مثلاً موقف الشيخ «عبد المجيد الزنداني» في اليمن، الذي اعترض بشدّة على قرار تعيين امرأة في منصب وكيلة لوزارة الإعلام هناك، واعتبره مخالفاً للدستور. ففي مقابلة معه نشرتها صحيفة «صوت الإيمان» في نيسان/ ابريل 1997م، قال فيها «واضح إننا بدأنا نمارس عكس الدستور، وبدأنا نخرقه، فكيف يتم تعيين امرأة في هذا المنصب؟.. ولو أن زوجها موظف عندها فمن هو القائم على الثاني؟ ستكون قائمة عليه في العمل، وهو قائم عليها في المنزل، وهذا لا يجوز، فالقوامة تحتاج إلى قوة وتفرغ وعلم وخبرة، والله جعل المرأة عاطفية لم يعطها قوة الشخصية، والعاطفة لا تصلح للقيادة.. وان الحمل والولادة والرضاعة أمور كلها لا تجعل المرأة في وضع يؤهلها لتحمل المسؤوليات القيادية.. والولاية العامة ليست للمرأة لا في البيت ولا في الدولة، فهذه الولاية فيها صراع ومعارك سياسية» كما أكد رفضه دخول المرأة اليمنية مجلس النواب إلى جانب الرجال، واقترح بدلاً عن ذلك تشكيل مجلس شورى خاص بالمرأة لممارسة حقوقها من خلاله (20)   وتغيرت صورة هذا الموقف في النطاق الحركي وليس بالضرورة في قناعات الشيخ «الزنداني» حينما أقدم حزب «التجمع اليمني للاصلاح» في مؤتمره الثاني، المنعقد في تشرين الأول/ أكتوبر 1998م، على فتح المجال أمام المرأة لتتبوأ مواقع قيادية لأول مرة في تاريخ الحزب، حيث فازت سبع نساء بعضوية مجلس الشورى، الذي يرأسه الشيخ «الزنداني» نفسه. وجاء هذا التطور نتيجة تزايد حضور جيل الشباب المتعلم المتنور داخل صفوف الحزب. واستوقفت هذه الخطوة اهتمام المراقبين، وهناك من وصفها بأنها بداية مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي والاجتماعي، وهناك من اعتبر ان تجمع الاصلاح لهذه الخطوة أحدث تحولاً سياسياً مهماً في موقف الإسلاميين من مشاركة المرأة في الحياة السياسية باليمن.

وقد تعزز هذا الاتجاه مع ما أقدمت عليه جماعات إسلامية في الأردن ومصر من فتح المجال أمام بروز المرأة في الحياة السياسية، وتقديمها كنموذج إسلامي للمرأة في التصدي للشأن العام. ففي خطوة عدت غير مسبوقة ارتقت السيدة «نوال الفاعوري» سنة 1997م إلى عضوية مجلس الشورى في حزب جبهة العمل الإسلامي بالأردن، كمقدمة للترشيح في مجلس النواب الأردني، مع ذلك فقد كشفت عن مضايقات تعرضت إليها، وحسب قولها «ليس سراً أنني أعاني من مضايقات قيادة الحزب منذ نجاحي في مجلس الشورى، ويخشى البعض من منافستي لهم إن حالفني الحظ وتمكنت من الوصول إلى موقع اتخاذ القرار في مجلس النواب الأردني» (21) .

وفي مصر رشحت جماعة الاخوان المسلمين لأول مرة في تاريخها امرأة للانتخابات النيابية التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2000م، هي السيدة «جيهان الحلفاوي» واستند هذا القرار كما صرح بذلك أحد القيادين في جماعة الاخوان هو السيد «علي عبد الفتاح» إلى أبحاث ودراسات قامت بها الجماعة انتهت إلى أن التيار الإسلامي لابد أن يكون له دور في أن تلعب المرأة دوراً في الحياة السياسية لمصلحة الوطن.. وأن تصبح مرشحة الاخوان نموذجاً للمرأة المتدينة التي تسعى إلى خدمة وطنها داخل البرلمان (22) . ومن جهتها اعتبرت السيدة «الحلفاوي» ان موقف الاخوان المسلمين يتسق مع الشريعة الإسلامية التي لم يرد فيها نص يمنع مشاركة المرأة في انتخابات أعضاء المجالس النيابية أو تولي عضويتها.. وانتقدت في هذا السياق موقف الإسلاميين الكويتين الذين اعترضوا على منح المرأة الحق في الانتخاب والترشيح للبرلمان. وعزت التناقض بين موقف إخوان مصر وإخوان الكويت إلى اختلاف الظروف الاجتماعية في البلدين (23) .

ووصف المراقبون هذه الخطوة بأنها غير معهودة في تاريخ التيار الإسلامي بمصر، مع العلم أن جماعة الإخوان مهدت لهذه الخطوة بوثيقة فكرية شرحت فيها رؤيتها لدور المرأة في المجتمع الإسلامي، ومنزلتها في الشريعة الإسلامية، ومساواتها مع الرجل في الواجبات، واعتبار المساواة هي الأصل، وعدم انتقاص حقوق المرأة، ومفهوم قوامة الرجل. وبعد هذه المقدمات الشرعية تحدثت الوثيقة عن حق المرأة في الانتخاب وفي عضوية المجالس النيابية وتولي الوظائف العامة. واعتبرت أن ليس هناك نص في الشريعة الإسلامية يمنع مشاركة المرأة في انتخاب المجالس النيابية وما ماثلها، وفي بعض الظروف كما تضيف الوثيقة، قد تكون هذه المشاركة واجبة وضرورية. وكذا تولي المرأة مهام عضوية المجالس النيابية فليس في النصوص الشرعية ما يمنع من ذلك. وناقشت في هذا الصدد بطريقة احتجاجية واعتراضية الآراء المخالفة التي ترى في المرأة بأنها جاهلة وغير متمرسة بالشؤون العامة، وما يعتريها من حالات الحيض والنفاس والحمل الذي قد يعوقها عن أداء العمل، وإشكالية التبرج والاختلاط وسفر المرأة العضو بغير محرم. وحول تولي المرأة الوظائف العامة فصلت الوثيقة بين الإمامة الكبرى التي تعني اليوم رئاسة الدولة، حيث رأت أن المتفق عليه عدم جواز تولي المرأة لها، وبين القضاء الذي اختلف الفقهاء بشأن تولي النساء له (24) . وسبق وأن تحدثنا عن نمط استجابة الأكثرية الإسلامية في الكويت التي عبرت عن ذهنية مختلفة في التفكير وتقدير الشأن السياسي والاجتماعي هناك.

أما في إيران فقد اكتسب وضع المرأة زخماً كبيراً ودينامية عالية بعد وصول السيد «محمد خاتمي» لرئاسة الجمهورية سنة 1997م، حيث شاركت المرأة بدور أساسي في الفوز الساحق الذي حصل عليه. وهو بدوره التفت إلى هذه الشريحة الواسعة والحيوية في المجتمع الإيراني وركز عليها في خطاباته الفكرية والسياسية. وفي عهده جرت لأول مرة بعد عشرين عاماً على قيام الثورة، انتخابات المجالس البلدية التي فازت فيها أعداد كبيرة من النساء، وتمكنت من اكتساح بعض الدوائر، ووصلت إلى جميع المقاعد في بعض البلديات، منها ثلاث بلديات تابعة لمحافظة همدان غربي إيران، مع ذلك يمكن القول بأن الإسلاميين والحركيين منهم بوجه خاص قد تأخروا في تقديم نماذج نسائية تجسد رؤية هذه النخب والجماعات لدور المرأة في المجتمع والدولة، وقدرتها في بناء الكفاءات النسائية، والفرص المفتوحة أمام تقدمها، وإمكانية تواصل النساء معها لاكتشاف معارفها واختبار قدراتها واستشراف تصوراتها.

والخطوات التي أقدم عليها الإسلاميون أو بعضهم، كانوا مضطرين للمبادرة إليها، نتيجة إحراجات تعرضوا لها، وتزايد الانتقادات التي تستنقص من رؤيتهم للمرأة، وارتفاع صوت النساء واقتحامهن للمجالات العامة، ومساندة قضاياهن عالمياً، والإحساس بغياب المرأة المتدينة عن تلك المجالات وباقي النشاطات الأخرى، والالتفات لأهمية النساء كعنصر عددي وكمي يتزايد باضطراد إلى جانب عوامل أخرى ترتبط بالجانب الذاتي، كرؤية الأجيال النسائية الجديدة لذاتها وطموحاتها وأدوارها ومستقبلها، بعد ان اكتسبت تعليماً عصرياً متقدماً. وضرورات تحريك النشاط النسائي وإعطائه الفاعلية والدينامية، والخوف عليه من أن يصاب بالجمود والتوقف، واستجابة لضغوطات مارستها المرأة في كسب الاعتراف بدورها وإمكاناتها ورغبتها بالاشتراك في الوظائف العامة، ولأجل أن يكون من المقنع الانتساب والإلتحاق لهذه الجماعات.

هذه افتراضات محتملة، تتفاوت نسب تأثيراتها، وتراتب عناصرها، ومكونات دينامياتها، وقد تجتمع في تركيب كلي، أو تتفرق كعناصر منفصلة. لكن المؤكد أن قناعات الإسلاميين، أو تيار عريض منهم قد تغيرت أو تجددت حول قضايا المرأة، وازدادت هذه القناعات بضرورة أن ينهض الفكر الإسلامي بحركة إصلاحية تنويرية ورشيدة تعيد الاعتبار لشخصية المرأة، وتنفض الغبار عن رؤية الدين الحقيقية للمرأة.

 خاتمة:

أمام الفكر الديني خياران في منهجيات النظر وقواعد السلوك مع قضايا المرأة، إما أن يستمر على منهجه القديم، وخطابه الدفاعي والاحتجاجي، والإكتفاء بالحديث عن النظرة الدينية للمرأة، وحماية كيان الأسرة، وربط كرامة المرأة بالعفة دون الحقوق الناجزة، وتركيز النقد على النموذج الغربي للمرأة من خلال الاهتمام بمسائل السفور والتبرج والاختلاط. وهو المنهج الذي كان عليه منذ مطلع القرن العشرين، حين كانت السياقات التاريخية، والأرضيات الاجتماعية، والتكوينات الثقافية، والمؤسسات السياسية تتحرك في اتجاه الارتباط والاندماج بالأنساق الثقافية والأطر المرجعية للغرب، ابتداء من مرحلة سيطرة الاستعمار الأوروبي على المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين إلى ظهور الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني، واعتماد النظم الدستورية والتشريعات القانونية والمناهج التربوية من المصادر والمراجع الغربية، إلى تكوين النخب والجماعات الفكرية والسياسية التي تصدت لإدارة المؤسسات والهيئات والمعاهد والجامعات الحكومية.

لذلك كان المبرر تفهم ذلك الموقف الدفاعي للفكر الديني. لكن هذا الموقف لم يعد كافياً أو محمياً ومحصناً في القرن الحادي والعشرين مع التطورات المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات وشبكات الإعلام والبث الرقمي عبر الأقمار الصناعية، إلى جانب ثورة المعلومات وانفجار المعرفة، وبروز تيار العولمة الكاسح والمخيف. الأمر الذي يتطلب وهذا هو الخيار الثاني أن يتحول الفكر الديني من موقف الدفاع السلبي الذي لم يعد فعالاً حتى في الحماية والتحصن والصمود، إلى موقف الدفاع الإيجابي من خلال تجديد مناهج النظر وقواعد السلوك وتنوير الخطاب، والتركيز على قضية تعليم المرأة بأعلى مستوياته، وتدريبها لاكتساب الخبرات العالية. فحماية المرأة ليس بالجهل أو المعرفة المحدودة، وليس بالتضييق عليها وتحجيم طموحها، واغلاق فرص التقدم أمامها، وإنما الحماية بالعلم فهو طريق إلى الرشد، ومعرفة العواقب، والتبصر في الأمور، والتفكر في الشؤون.. والتأكيد على ربط كرامة المرأة بالعفة إلى جانب الحقوق الشرعية والمدنية والدستورية.

ولكي يكون الخطاب الديني مقنعاً للمرأة عليه أن يتفهم طموحاتها ونظرتها إلى ذاتها ومستقبلها، ويكون ضامناً لهذا المستقبل، ومستجيباً لتطلعاتها، وكافلاً لحقوقها، وباعثاً على تقدمها في ميادين العلم والعمل.

 

الهوامش:

1) انظر مجلة: حريات. بيروت، عدد 19، كانون الثاني/ يناير 2000م، ص30ـ31.

2) الحياة. بيروت، العدد 13724، الأحد 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2000م، جورج طرابيشي، مراجعة لكتاب النساء والإسلام، جان بيير دومينيك، باريس: مركز الدراسات العليا حول أفريقيا وآسيا الحديثتين، 2000م.

3) قضية المرأة. تحرير وتقديم: محمد كامل الخطيب، دمشق: مطبوعات وزارة الثقافة، ج1، 1999م، ص407.

4) أمتي في العالم: حولية قضايا العالم الإسلامي. 1419ـ1420هـ/ 1999م. القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، ص222.

5) المصدر نفسه. ص251.

6) مسائل حرجة في فقه المرأة. كتاب الستر والنظر، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ج1، ط2، 1994م، ص220.

7) قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة. الشيخ محمد الغزالي، القاهرة: دار الشروق، ط6، 1996م، ص19.

8) المصدر نفسه، ص18.

9) المصدر نفسه، ص17.

10) المصدر نفسه، ص93.

11) المصدر نفسه، ص33ـ176.

12) المصدر نفسه، ص8.

13) المصدر نفسه، ص36.

14) المصدر نفسه، ص70.

15) المصدر نفسه، ص96.

16) تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل. الشيخ محمد الغزالي، القاهرة: دار الشروق، ط4، 1996م، ص46.

17) خطب الشيخ الغزالي في شؤون الدين والحياة. قطب عبد الحميد، القاهرة: دار الاعتصام، 1988م، ج4، ص159.

18) مسلمة الغد. الشيخ يوسف القرضاوي، القاهرة: دار الوفاء، ط1، 1992م، ص29ـ32.

19) المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع. د. حسن الترابي، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، إيران، العدد الخامس 1419هـ/1999م، ص298.

20) الحياة. بيروت، العدد 12470، الاثنين 21 نيسان/ ابريل 1997م.

21) المستقلة. لندن، السنة الخامسة، العدد 163، 23 حزيران/ يونيو 1997م.

22) الحياة. بيروت، العدد 13675، الأحد 20 آب/ أغسطس 2000م.

23) الحياة. العدد 13691، الثلاثاء 5 أيلول/ سبتمبر 2000م.

24) انظر مجلة: قراءات سياسية، فلوريدا، التي نشرت نص الوثيقة، السنة الرابعة، العدد الثالث، صيف 1415هـ/1994م، ص199.