شعار الموقع

الغرب والاسلام... رؤية في الاستشراق الالماني المعاصر

رسول محمد رسول 2004-10-15
عدد القراءات « 619 »

(1)

لا تكاد الاهتمامات الألمانية بالوجود الإسلامي تختلف عن الاهتمامات الأوروبية من حيث النشأة والتطوّر إلا في خصوصيات معينة،‏ولكن نلاحظ أن تاريخ الاستشراق الألماني حافل بمؤشرات عديدة تجعل منه حقلاً متميزاً في منظومة الاستشراق الأوروبية رغم وجود اهتمامات مشتركة داخل هذه المنظومة، إذ عكف علماء المشرقيات الألمان على تحقيق عدد هائل من عيون التراث العربي الإسلامي، ولما كان للألمان باعهم الطويل في التحليل الفيللوجي فإن عيون تراثنا حازت اهتماماً راقياً في إخراجها من كونها (مخطوطات) إلى كونها نصوص محققة ومنشورة، على أن هذه العملية.. لم تكن الوحيدة لاهتمامهم بالاسلام إذ وضعوا تواريخ عدة للأدب والعلم والفلسفة والفقه الموسومة بالعربية أو الإسلامية، وقد ارتقى هذا الاهتمام إلى البنية الدلالية للنصوص الإسلامية واستقرائها على ضوء سياقها التاريخي الذي ولدت فيه وعلى ضوء أصولها المرجعيّة سواء في النص القرآني الكريم أو في منظومة التراث اليوناني أو الفارسي أو الهندي.
إن ركون الاستشراق الألماني إلى إرث مناهج التحليل اللغوي وعقلانية التفسير والتأويل المؤسسة على نظريات الفهم الفلسفية منذ (كانط) كبادئة أولى في مُساءلة الفهم عن إمكاناته و(شلايرماخر 1768ـ1834) و(دلتاي 1833ـ1911) و(هيدجر 1889ـ1976) و(غادامير 1900ـ‏...) (1) ، جعل من هذا الخطاب أقل تطرفاً ‏مقارنة بخطابات استشراقية أوروبية أُخرى فيما يتعلق بقضايا التُراث والفكر العربي الإسلامي. وتجنّب التطرّف النسبي هنا،‏في الاستشراق الألماني،‏ينعكس اليوم،‏وهو الذي أخذ يتطور، على ما يتعلق بقضايا الوجود الإسلامي والعربي مثل: التحديث، الحداثة، النهضة، التقدّم، الاستقلال،‏المستقبل، المصير وعلاقة العرب والمسلمين بقضايا النظام الدولي الجديد وطروحات الإندماج والعولمة والشرق أوسطية والسلام والمشاركة الحضارية والتعايش السلمي والتواصل الثقافي، بل وما يرتبط بالعلاقة في ظهورها الكلي..، علاقة الغرب بالإسلام عامة وبالمزاحمة الإسلامية الجديدة خاصة والتي يطرحها ويتداول شأنها بعض علماء المشرقيات الألمان والمتخصصين بقضايا العرب والإسلام طرحاً ‏مختلفاً متجاوزين نسبياً ‏الرؤيا المركزية في الاستشراق المتطرف (المُسيَّس)، أي المفاضلة العرقية أو الدونية البشرية والاستعلاء الثقافي المستند إلى غرور التقدم التقاني عند الغرب دون غيرهم.
ولما كان الاستشراق الألماني أكثر استجابة لمفاهيم فلسفية من قبيل «الحس التاريخي» و«الوعي التاريخي» (2) ، فإن سياقات الرؤى الألمانية إلى الإسلام المعاصر والوجود الإسلامي لا تفترق عن هذه المحفزات، فثمة أساس منطقي تبتني عليه الرؤية المزدوجة إلى الوجود الإسلامي، والرؤية إلى الإسلام كدين وعقيدة،‏والرؤية إليه كثقافة وحضارة وفاعل مشارك في التاريخ، وهذا ما يقود إلى استقرائية ما لمعطيات الإسلام في ظهوره وحركيته ومزاحمته على ضوء إرادة المشاركة والتموضع التاريخي، وهو إمكان معرفي يؤشر شيئاً من التحوّل في الموقف المنهجي داخل المنظومة الاستشراقية الألمانية من الإسلام تحولاً ‏يتقدّم بالاستشراق إلى (ما بعده).
إن الحافز المعرفي (الحس التاريخي والوعي..) الذي يرجع إليه الاستشراق الألماني في تحوله إلى ما بعده.. ليس هو الحافز الوحيد في تحول الرؤية،‏أية رؤية،‏فقد برز الإسلام في مزاحمة جديدة منذ مطلع السبعينات من القرن العشرين،‏وصعدت هذه المزاحمة إلى حيزات جديدة إثر متغيرات جذرية في أوضاع البشرية السياسية والعلمية والاقتصادية يقف في مقدمتها التحول السياسي داخل إيران عام 1979، وانهيار الاتحاد السوفيتي، والمتغير العسكري بين العراق والكويت،‏وتدمير العراق عسكرياً ‏واجتماعياً ‏وصحياً ‏وثقافياً ‏منذ عام 1990، وهجرة المسلمين إلى الدول الأوروبية وتوطينهم،‏وهو المتغير الفاعل في التحول إلى (ما بعد) ضمن رؤية الغرب الجديدة إلى الإسلام (3) ، إن هذه العوامل وغيرها أحدثت قطيعة في موجّهات الرؤية الغربية إلى الوجود الإسلامي، وهذه القطيعة لا تشترط، وهي مازالت فتيّة، التحوّل الكلي عن مبادئ الرؤية الاستشراقية المعروفة على مدى نحو قرن ونصف من الزمان لكنها وجدت مآلها سيذهب إلى نهاية مقفلة فيما لو ارتدّت إلى ذاتها دون الاقتراب من متغيرات الواقع العربي الإسلامي في ظهوره اليومي وهذا هو رهان التجاوز ومفاعيله فيها.


(2)

ضمن رؤية التحول داخل المنظومة الإستشراقية الألمانية المعاصرة يبحث عالم المشرقيات الألماني المعاصر (جيرنوت روتر) العلاقة بين الغرب والإسلام، ويفترض من عنوان دراسته (4) جواراً مفقوداً بين الجانبين، وهو افتراض يشي بما هو سلبي في العلاقة هذه مستقبلاً ، وينطلق (روتر) من نظرية (العدو الوهمي Das Feindbild)، التي افترضها الغرب في مرحلة القطبية الثنائية (الرأسمالية والاشتراكية)، وهي النظرية التي بددها إنهيار القطبية الاشتراكية،‏لكن هذه النظرية عادت إلى واجهة الصراع من جديد في العام 1990 حين كان المتغير العسكري بين العراق والكويت، يقول روتر: عندما انقض صدام حسين على الكويت مهدداً إمدادات الغرب بالطاقة جاء هذا الاعتداء في الوقت المناسب تماماً إلى درجة أن البعض لم يشأ أن يصدّق ـ في الواقع ـ أن هذا قد حدث من قبيل الصدفة ليقدم عدواً وهمياً ‏جديد هو: الإسلام.. (5) .
مما لا ريب فيه أن جزءاً ‏من المؤامرة على العراق هو مؤامرة على الكيان الإسلامي المعاصر، فالشعب العراقي شعب مسلم، والتجربة الدينية في المجتمع العراقي هي الأنضج مقارنة بتجارب أخرى في الوطن العربي رغم التنوع الطائفي والاثني في العراق وحتى اللحظة ورغم قساوة الحيف الذي أُبتلي به المجتمع العراقي لا يكاد البعد الطائفي يصل إلى حد التنازع المسلح أو ما أشبه من صيغ التناحر الديني المعروفة أشكال وجوده في الوطن العربي،‏والذي عمدت الدوائر الاستعمارية داخل الوطن العربي وخارجه وأمريكا خاصة إلى تعميق مفاعيله قصد تهشيم الوطنية العراقية وإنزالها إلى مستوى الانهيار الذي من شأنه إحالة العراق إلى حلبة تناحر طائفي..، رغم ذلك لا يُمثل هذا المتغير العسكري حافزاً ‏مهما كانت دلالته لأن يكون الإسلام العدو الوهمي الجديد،‏فالخطاب السياسي لصدام حسين هو خطاب علماني لا يتقاطع مع الدين لأن فاعلية الدين في المجتمع العراقي هي الغالبة في سلوكه الكلي، كما أن الغاية من المُتغير العسكري لم تكن تهدف إلى غايات إسلامية سواء في خطابها الكلي أو في تفصيلاتها، وإن كانت الإعلاميات العراقية الرسمية تستخدم يافطات إسلامية ودينية لكنها واضحة في تداولها التعبوي قبل وخلال وبعد الحرب الكونية ضد العراق.
ومن الملاحظ أن الغرب حين افترض الإسلام عدوه الوهمي الجديد فإنه يقصد تلك الخطابات الإسلامية الحركية (السياسية والأصولية) من جهة،‏والممارسات الإسلامية الجديدة الضاربة في آفاق الكون،‏مؤسسات دينية،‏معاهد،‏جوامع، حلقات نقاشية،‏ممارسات الدين وشعائره من قبل المهاجرين المسلمين إلى أوروبا ودول الغرب الأخرى. فضلاً ‏عن امتلاك الدول الإسلامية لوسائل إعلامية متطورة وتموضعها وسط الإعلاميات الغربية في إطار من المنافسة وتأكيد الهوية والذات. وكل هذا يسوّغ فاعلية دينية وثقافية وحضارية جديدة قوامها الإسلام، أو الوجود الإسلامي الجديد، وبهذه الاعتبارات ليس الوجود الإسلامي وهماً إنما هو حقيقة موضوعية قائمة على أرض الواقع المُعاش، لكن الغرب لا ينِّد عن افتراض آخرية ضدّية يرى فيها مفاعيل خطابه، يرى فيها نفسه وذاته وكيانه وممارساته، فهو يستبطن رغبته بالآخر، رغبة أبدية بأن لا يستطيع أن يتواصل مع الوجود دون نقيض ودون ما هو مُختلف عنه،‏ومردّ ذلك أزمة الثقة التي يعاني منها الغرب،‏ثقته بذاته رغم تبجحاته التقنية وقوة معطياته العلمية،‏ويتبجح أكثر حين يفترض أضداده أوهاماً ‏أو ترائيات وهذا عُطل في المتخيل الغربي لا غبار عليه.
وفي الوقت الذي يسعى (روتر) خائباً لتأصيل نظرية العدو الوهمي الجديد (الإسلام) نراه ينفي استمرار المخاوف الغربية الناتجة عن نظرية «صدام الحضارات» التي دشن مفاصلها صاموئيل هنتنغتون عام 1993، ويعتقد بأن هذه النظرية ليست جديدة،‏فالصدام بين الغرب والإسلام حقيقة تاريخية قائمة منذ تاريخ سابق على حاضرتنا، لكنه يؤكد أن عقول الغربيين هي البؤرة التي احتضنت هذه النظرية وليس عقول الإسلاميين، يقول في هذا الصدد: إن حرب الحضارات المتنبأ بها قد بدأت بالفعل في عقول الغربيين قبل ذلك بوقت طويل (6) ، أي قبل عام 1993، تاريخ ظهور نظرية هنتنجتون (7) في الصدام المفترض.
إن الجهل من منظور (روتر) هو المولِّد لـ‏(التصورات العدائية المتبادلة) (8) بين الغرب والإسلام، فالأمر‏(لايتعلق بمسائل الخلاف العقائدية على الإطلاق، والتناقض لا يُبنى عند كلا الطرفين بين الإسلام والمسيحية، إنما بين الإسلام والغرب، وهذا يعني أن نقطة الإنطلاق تتمثل في كتلتين ثقافيتين متجانستين، تُسمى الأولى باسم دينها والثانية باسم موقعها الجغرافي، وهكذا يتم النقاش على مستويين مختلفين،‏وطبقاً لذلك كثيراً ما لا يتفاهم الطرفان) (9) ، إلا أن (روتر) يكشف عن جهل الغرب (وقصوره عن الفهم ذلك الناتج عن مساواة وخيمة العواقب للإسلام بحركات التطرّف التي اتخذت من العُنف أسلوباً لها،‏ان تنوّع التيارات المختلفة داخل الإسلام لا يلاقي لدى الغرب أي اهتمام يذكر حيث أن هناك الإسلام الشيعي والتصوف، وكذلك التيار التقليدي والاصلاحي، ناهيك بالطبع عن طبقات المثقفين الذين يؤمنون بالإسلام كديانه ولكنهم في الواقع مسلمو الثقافة فحسب..، بل أن الغربيين يركزون أبصارهم على من يطلق عليهم المتطرفون Fundamentalistem الذين يُسمّون أنفسهم بالمناسبة «إسلاميين» ويتجاهلون في ذلك حقيقة أن التنوّع الإسلامي نفسه يُظهر تشكيلة واسعة من التيارات تَمتدُّ من الحركات المُسالمة حتى جماعات الإرهاب المسلحة..) (10) .

ومن هذه النظرة السلبية الشاملة عند الغرب إلى الإسلام يذهب (روتر) إلى نظرة جزئية في بلاده، إلى كتب ومناهج التعليم التاريخي في المدارس الألمانية المعاصرة حيث (تمثّل أسطورة النار والحديد أحد أوجه أهم فكرة نمطية ثابتة في إطار المشاعر العدائية تجاه الإسلام Feindbidtopos، أي: الإسلام والمسلمون جميعاً ‏يتسمون أصلاً ‏بالعنف والعدوانية،‏وبذلك فهم يمثلون تهديداً للحضارة الغربية ولم يتغير شيء من هذه الصورة منذ القرون الوسطى برغم كافة الخبرات التاريخية) (11) .
ولعلَّ هذا الإصرار على العداء له ما يبرّره عند الغرب،‏فهو من ناحية مقود إلى جهله بالإسلام وبجملة من مفاهيمه، ومن ذلك مثلاً ‏مفهوم «الجهاد»، (فالغرب لا يفهم معنى الجهاد) (12) ، وقصور الفهم هذا ينشأ عنه خوف يتبلور داخل المتخيل الغربي فيقوم بإسقاط أوهامه على علاقته بالإسلام، وعلى أساس هذه الأوهام يبني الغرب سلوكه السياسي والاقتصادي والعسكري في علاقاته الإيجابية والسلبية مع المسلمين،‏لكنه وبسبب شكوك الغرب المثير للقلق والاشمئزاز والمهاترة الاستعمارية الجديدة، مثل الدعم المطلق لإسرائيل وتهديد لبنان الدائم وضرب العراق عسكرياً ‏وتجويع شعبه وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على دول إسلامية عدة واستنزاف دول عربية أخرى اقتصادياً ، لهذا السبب يولد خوف إسلامي من الغرب، الذي يتجلى في سقوطه المادي والأخلاقي وهما تعبير عن أزمة الغرب الروحية، وكما كان يعتقد‏(إنجمار كارلسون)، السويدي بوجود (خوف متبادل) بين الغرب والإسلام كذلك يعتقد‏(روتر) بهذا الخوف المركب الذي تشي به تعاملات الغرب السلبية تجاه المسلمين في أوطانهم وردات هذه الأفعال عند المسلمين،‏ولكن يبقى السؤال قائماً : ما هي أسباب هذا الخوف؟
بالطبع لا يجيب (روتر) عن الخوف المتبادل، إنما يضع أربعة أسباب لخوف الغرب من الإسلام،‏ثلاثة منها يتداولها أغلب علماء المشرقيات الجدد، أو أصحاب روى ما بعد الاستشراق (13) ، يقول (روتر): كان من الطبيعي أن يختفي عنصر التهديد من التصورات العدائية تجاه الإسلام في عصري الاسلام والانتداب، بسبب تفوق الغرب تكنولوجياً وعسكرياً ، وبالرغم من استمرار هذا التفوق حتى يومنا..

إلا أنه قد تم إعادة إحياء عنصر التهديد هذا في العقود الأخيرة من جديد، ويعود ذلك في المقام الأول إلى أربعة أسباب هي:


1ـ القنبلة الذرية الإسلامية:
لقد زوّد الغرب والكتلة الشرقية سابقاً ‏دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي نالت استقلالها بكميات هائلة من أنظمة التسليح الحديثة ومستلزماتها من التكنولوجيات المتقدمة..، التي يمكن استخدامها الآن أيضاً ضد أوروبا، أو على الأقل ضد المصالح الأوروبية والأمريكية في الشرق.
2ـ مسألة الحجاب:
إن هجرة أعداد كبيرة من المسلمين،‏والتي شجعها الغرب في البداية،‏حيث يمثل الأتراك في ألمانيا ومواطنوا شمال أفريقيا في فرنسا غالبية العمال المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي، أدت إلى تصاعد موجة العداء تجاه الأجانب وهو عداء موجّه في المقام الأول ضد المسلمين ويركز على رموزهم الإسلامية.
3ـ التطرف الإسلامي:
لقد أدّت التوترات الاجتماعية والاقتصادية،‏وكذلك أزمة الهوية الحضارية،‏وفشل الأيديولوجيات المستوردة من الغرب مثل القومية والاشتراكية ـ عند طبقات اجتماعية معيّنة في الشرق الأوسط إلى إحياء رموز ومعايير إسلامية، بيد أن الخصم في هذه الحالة كان الأوساط الحاكمة في تلك الدول ذاتهان وفي مقابل ذلك يشعر الغرب بأنه هو المُستهدف الحقيقي.
4ـ صورة العدو الوهمي:
إن زوال صورة العدو من الصراع القديم بين الشرق والغرب قد أيقظ الرغبة لدى أوساط معينة في الغرب لايجاد عدو جديد، ولما كانت صورة الإسلام كعدو مستترة أو كامنة في الغرب منذ ألف سنة، على الأقل، فقد كان من السهل إحياؤها مرة أخرى (14) .
(3)
لقد جعل (روتر) من (مسألة الحجاب) أحد الأسباب الأربعة لمخاوف الغرب من الإسلام المعاصر،‏وتحيل هذه المسألة إلى قضية المرأة، أو (المسألة النسوية)، التي غالباً ما يغفل علماء المشرقيات الكتابة فيها، ودون غيرهم يتناول هذا الألماني الصورة المتبادلة للمرأة عند الطرفين، ومن المعروف في تاريخ الاستشراق الغربي التقليدي أن هناك (ثلاث صور نمطية كبرى صاغها الوعي والمخيلة المسيحية الغربية في الزمن الوسيط عن الإسلام، هي: الوثنية والعنف والشبقية بكل ما يفترض ذلك من كفر وتوحش وانحلال) (15) .
إن هذه الصورة النمطية الموروثة من العصور الوسطى تعود اليوم عند الغربيين كموضوعة فاعلة في خلق نظرية العدو الوهمي الجديد،يقول (روتر): ان القرون الوسطى المسيحية صورت الإسلام على أنه الوليد الشهواني للشيطان..‏ويقدم لنا نصاً سافراً في وقاحته وجنايته على حقيقة الإسلام، هذا النص كتب في نهاية القرن الحادي عشر من قبل (رئيس كاتدرائية مدينة Mainz في ألمانيا) القس إيمبريخو Embricho الذي قال: ان المسلمين يحتفلون بجميع أشكال الزواج التي تحرمها الشريعة الإلهية،‏ولأنهم جردوكِ أيتها الطبيعة من حقوقك غصباً تسعى المرأة إلى ممارسة السحاق من نظيرتها، ويمارس الرجل اللواط مع مثيله، بل وخلافاً للتقاليد يجامع الشقيق شقيقهُ، ولا تمانع الأخت المتزوجة أن يباضعها أخوها الشيطان،‏الأبناء يهتكون عرض أُمهاتهم، والبنت تغتصب أباها وكل ما هو محبب على هذا المنوال كانت الشريعة الجديدة [الإسلام] تحللهُ (16) .
إن (روتر) ينفي معطيات هذا النص جملة وتفصيلاً ، ويعتقد أن (الإسلام لم يعد يتصدر تصوراتنا العدائية كمركز للدعارة الجنسية والفجور في المقام الأول، ويعتقد إزاء هذه الكتابات السطحية الوضيعة لا يستطيع المرء أن يتخلص من الإحساس بأن هؤلاء الكتّاب قد أرادوا إشباع تخيلاتهم الجنسية الشاذة من ناحية،‏وسعوا من ناحية أخرى إلى صرف الأنظار عن أوضاع معينة موجودة في الغرب المسيحي بما في ذلك الأديرة المسيحية،‏أو أنهم أرادوا توجيه الموعظة إلى الآثمين في المجتمعات الغربية..) (17) ، وفي الوقت الذي ينفي فيه هذا المستشرق الصورة البشعة التي ينضدّها آباء الكنيسة عن الإسلام، وهي صورة نمطية قديمة ولدت تحت ضغط تاريخي معين قد يكون تعبوياً يذهب إلى استقراء الصورة المعاكسة،‏صورة المرأة الغربية عند المسلمين، يقول في هذا الصدد (18) : ان الوهم الغربي الخاص باضطهاد المرأة في الإسلام،‏أو التعصب المفرط للرجال ضد النساء المبني على تفوق الرجل على المرأة sexismus، والذي يظهر بوضوح في أنظمة الحريم له ما يقابله بصورة معاكسة في تصورات المتطرفين الإسلاميين للغرب كعدو، حيث تصور المرأة في الغرب على أنها مستغلة أو مسخّرة جنسياً ، وحق المرأة أن تسير في الشوارع شبه عارية،‏لا يقيم من وجهة النظر هذه على أنه حرية شخصية ولكن ينظر إليه باعتباره إذلالاً وتحقيراً للمرأة،‏ويوسم البغاء والمجلات الخلاعية والأفلام الجنسية على أنها سمات إنحطاط أخلاقي.. وكما أن الحجاب قد أصبح بالنسبة للغرب رمزاً لاضطهاد المرأة في العالم الإسلامي، فكذلك صار المتشددون المسلمون ينظرون إلى الملابس المُثيرة للشهوة الجنسية على أنها رمز لإهانة المرأة،‏وجعلها أداة للمتعة في الغرب..
إن الركون إلى خلق واستشكاف صورة متعاكسة للعلاقة بين الغرب والإسلام هو معطى من معطيات رؤى ما بعد الاستشراق، وهي نظرة شمولية وليست أُحادية الأفق، ومع ذلك يميل (روتر) بالنصح إلى الغرب ويدعوه إلى تصحيح مساراته إزاء الإسلام ويختم دراسته بالقول (19) : (إن الغرب سيكون قد حقق الكثير في علاقته بالحضارة الأكثر قرباً له إذا توصّل إلى حوار معها يخلو من الكراهية والعنف). وموقف (روتر) هنا هو جزء من المواقف الأوروبية الجديدة التي أدركت أخطاء الماضي وعيوب الرؤى المندلقة عن تأزمات تاريخية لم يعد لها مكان في عصرنا،‏عصر الحوار والتعايش والتواصل الحضاري والإنساني والذي هو من صميم رؤية الإسلام إلى الوجود البشري والكوني،‏ومن صميم ما يدعو له وهو ما يجب على البشرية أنْ تسعى له لأن هذه المعاني هي طريق خلاص البشرية من الحروب العسكرية والارتدادات الأخلاقية السافرة التي تنخر بالقيم والأخلاق، هذه المداخل التي تنقل الإنسان من حيوانية عمياء إلى أنوار الإنسانية.

* باحث من العراق.

إحالات
1) حول هؤلاء أنظر: نبيهة قارة،‏الفلسفة والتأويل،‏ص43 وما بعدها، دار الطليعة،‏بيروت، ط1، 1998.
2) عن علاقة هذين المفهومين بالعلوم الانسانية أو التاريخية أنظر: هانز غادمير: المشكلات الابستمولوجية للعلوم الإنسانية، ترجمة: محمد شوقي الزين، مجلة (مدارات)، تونس، عدد 9/10، 1998.
3) د.‏رسول محمد رسول: الغرب والإسلام/ استدراج التعالي الغربي (أنظر المدخل)، دار أسامة للنشر، عمان،‏ط1، 2000.
4) جيرنوت روتر: الإسلام والغرب/ الجوار المفقود (مقال)، ترجمة: ثابت عيد، مجلة (فكر ونقد)، العدد (5)، المغرب/ الرباط، 1998، ص20ـ30.
5) المصدر نفسه، ص20.
6) المصدر نفسه، ص21.
7) حول هذه النظرية أنظر دراستنا النقدية (من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات/ رؤية نقدية)، مجلة (الكلمة)، العدد (24) بيروت، 1999.
8) روتر: المصدر نفسه،‏ص21.
9) المصدر نفسه، ص21.
10) المصدر نفسه، ص22.
11) المصدر نفسه، ص23.
12) المصدر نفسه، ص24.
13) أنظر كتابنا: الغرب والإسلام/ استدراج التعالي الغربي،‏حيث استقرأنا رؤى عدد من الأوروبيين والبريطانيين والأمريكان الجديدة حول الإسلام المعاصر، كذلك كتابنا: أمريكا والمزاحمة الإسلامية المعاصرة/ رؤى ما بعد الاستشراق (مخطوط).
14) روتر: المصدر السابق نفسه، ص29.
15) د. محمد نور الدين أفاية: الإسلام في متخيل الغرب، بحث منشور في مجلة (فكر ونقد)، عدد (5) سنة 1998، ص63.
16) روتر: المصدر نفسه، ص26.
17) المصدر نفسه، ص26.
18) المصدر نفسه، ص27.
19) المصدر نفسه، ص29.