فجأة وبلا سابق إنذار، أو مقدمات منطقية، وجد العالم العربي بمنظوماته الفكرية والسياسية والإقتصادية، مدفوعاً باهتمام كبير نحو الإرتباط والإشتغال بظاهرة شديدة التعقيد والتشابك، هي ظاهرة العولمة. الظاهرة التي إستحوذت علىýأوسع اهتمام في أدبيات العالم العربي الإقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والإعلامية والتكنولوجية والمعلوماتية، ولن يتوقف هذا الإهتمام على ما يبدو خلال السنوات القادمة التي سوف ينتقل فيها العالم إلىالقرن الحادي والعشرين، حيث تصبح العولمة من أبرز مظاهره، والأكثر تأثيراً على بلورة ملامحه وقسماته وتضاريسه. ومن المحتمل بل من المؤكد أن صورة القرن القادم سوف تكون شديدة التغير، وهو القرن الذي اختلف عن كل القرون السابقة من جهة التخطيط والإستعداد والتحضير له، والتفكير والإستشراف والتنبؤ لمساراته واتجاهاته وخياراته.
هذا بالتأكيد في المجتمعات المتقدمة، أما في المجتمعات العربية والإسلامية فإنها لاتمتلك السيطرة على أوضاعها فكيف بها والتفكير أو التحضير للمستقبل ومرةýأخرى يتأكد الإختلال البنيوي العميق في التفكير العربي والإسلامي مع هذا الإنجراف تجاه الظواهر والقضايا التي تتولد من عالم مختلف بصورة لاقياس ولا تطابق عليها مع عالمنا، وبطريقة إستهلاكية مأزومة، فما إن نفرغ من ظاهرة حتى نجد أنفسنا منغرقين في ظاهرة أخرى، قبل أن نستكمل شروط الظاهرة السابقة وننجز عناصرها ومكوناتها، وهكذا الحال بالنسبة للظاهرة التي تليها.. وهي ظواهر لم ننتجها نحن بأنفسنا ولا من داخل مرجعيتنا وهويتنا وثقافتنا، بل هي فوق مستوى ما نحن عليه من أوضاع وأحوال، ولا تطابق بين زمنها وزمننا، ولا توافق بين لحظتها التاريخية ولحظتنا نحن التاريخية، ولا تقارب بين الرؤية التي تنطلق وتعبر عنها تلك الظاهرة وبين رؤيتنا، فهناك فاصل تاريخي وزمني وحضاري شديدة العمق بين عالمنا وعالم المجتمعات المتقدمة.
مع ذلك ترانا ننشغل بالظواهر التي تصلنا من هناك مع أنها لاواقع حقيقي لها في عالمنا. وهناك سلسلة لاتنقطع من هذه الظواهر في مختلف الحقول والميادين ومن أبرز هذه الظواهر من حيث الإشتغال والإتساع ومن حيث الإختلال أيضاً، هو ظاهرة الحداثة التي استغرقنا الحديث عنها لزمن طويل وقلّبنا أشكالها وأزمنتها ومكوناتها وإتجاهاتها وعلائقها، وأصبح ما يمكن الجزم به أن العالم العربي لم ينجز حداثته، ولم يبلور بشكل متوافق فهمه ورؤيته للحداثة، وقبل إستكمال الحديث عن هذه القضية، طالعنا الفكر الأوروبي بمفهوم آخر هو مفهوم ما بعد الحداثة، وهكذا كان من المتوقع أن ينتقل الفكر العربي بنخبه وتياراته نحو الإشتغال بهذه المفهوم، وإلى هذا الوقت لانعرف ولاندرك ماذا نريد من ما بعد الحداثة، المفهوم الذي بقي غامضاً ومبهماً حتماً بين المثقفين أنفسهم.. وفي دوامة هذا الحديث، فجأة إنتقلنا إلى قضية أخرى، هي قضية العولمة بحيث أن من الصعوبة معرفة كيف ومتى بدأ هذا الإشتغال بهذا الإتساع المتعاظم في الفكر العربي، والطريقة التي تعامل بها العالم العربي مع العولمة وكأنه هو الذي ابتكر هذا المفهوم وأنجز شروطه وعناصره ومكوناته بعد هذا الإشتغال الواسع والملفت للنظر لهذه القضية.
ومرة أخرى أتوقع أن يتكرر الإختلال المنهجي والبنيوي الذي حصل مع المفاهيم والظواهر السابقة، فقبل أن ننجز رؤيتنا حول العولمة وندرك أبعادها الموضوعية في واقعنا، ونعرف ماذا نريد منها وكيف نستجيب لها، ستداهمنا رؤية نقدية مختلفة من الغرب، من قبيل ما بعد العولمة أو نهاية العولمة، على غرار المقولات السابقة، وسوف ننجرف في الحديث عن ما بعد العولمة أو نهاية العولمة إلى أن تصلنا مقولة أخرى من الغرب نفسه وهكذا هو الحال..
الغرب ينشغل بالعولمة وهو الذي أنجزها والطرف الفاعل والمؤثر في حركتها، ويعيشها ويمارسها كواقع نظم على أساسه إمكاناته وقدراته وآلياته ونظمه، وبالتالي فهو يدرك ماهيّة العولمة وفلسفتها ومضامينها ومفاعيلها وعلائقها، وتأثيرها على مصالحه وارتباطاته وتوجهاته العالمية.
أما نحن في العالم العربي والإسلامي فننشغل بالعولمة ولسنا طرفاً فاعلاً أو مؤثراً في حركتها واتجاهاتها وخياراتها، ولازلنا لم نحسم بعد قراءتنا لماهية العولمة وفلسفتها، فنحن منفعلين بها ولسنا فاعلين، متأثرين بها ولسنا مؤثرين، محكومين بالخوف والحذر منها لأننا لانعرف موقعنا فيها ولا مستقبلنا منها.
وأحسب أن الفكر العربي والإسلامي في هذا الوقت إنما يقدم قراءته الأولى للعولمة، القراءة التي تفتقد إكتمال النضج حول هذه القضية، وهي القراءة التي سوف يعيد النظر فيها لاحقاً، والإنقلاب وممارسة النقد عليها، فقد اعتاد الفكر العربي والإسلامي خلال القرن الأخير في إحتكاكه بالمفاهيم والقضايا التي وفدت عليه من خارج منظومته ومرجعيته الفلسفية والفكرية أن يبدأ قراءته بالتوجس والتشكيك والهجوم والرفض إلى زمن وتنتهي في زمن آخر إلى صورة أخرى ورؤية مختلفة على قدر من التوازن..
لقد قوبلت العولمة في الفكر العربي والإسلامي بهجوم شديد بوصفها إرادة للهيمنة وإقصاء وتدمير وإحكام السيطرة وامتصاص الثروات وغيرها من الأوصاف. وهذا بالتاكيد لايقدم فهماً ومعرفة ووعياً بالعولمة، ولا يشكل قدرة على المواجهة والتحدي أو التحصن والممانعة. هذه الطريقة في التعامل مع الأفكار والظواهر والقضايا، لاتقدم حلاً ولا تعالج مشكلة، ولاتنتج بديلاً. المشكلة ليست في العولمة، وإنما المشكلة في أننا لم ننجز مشروعنا الحضاري، ولم نحقق قدراً من التقدم الذي نحتاج إليه لكي نستعيد ثقتنا بأنفسنا وبقدرتنا على إكتشاف مستقبلنا.
هل سوف تصبح العولمة صحوة ويقظة للعودة إلى الذات وإكتشاف هويتنا وطريقنا إلى المستقبل!!