الفكر الإسلامي كمنظومة ثقافية حضارية، يمثل مادة حيوية في الإشتغال الفكري على النطاق العالمي اليوم، حيث يفوق من هذه الناحية، ويتقدم على أهم المنظومات الثقافية والدينية والسياسية في العالم. وفي هذا الوقت بالذات من تاريخ العالم المعاصر، الذي نشهد فيه التحولات الكبرى، والإنهيارات الكبرى. وما يهمنا من تلك التحولات، تلك التي تتصف بالأبعاد الثقافية والحضارية، وإن كان من الصعب عند النظر الدقيق تفكيك الإرتباط ما بين التحولات الأخرى، السياسية والإقتصادية والتقنية، عن جوانبها الثقافية والحضارية.
وفي مقدمة هذه التحولات الثقافية، إنهيار المنظومة الشيوعية في العالم، التي خرجت من دائرة الحداثة إلى دائرة التراث. المنظومة التي قدمت نفسها إلى العالم وبالذات في أوروبا كبديل حضاري عن الليبرالية الرأسمالية، ودخلت معها في حرب باردة، وظفت لها العديد من مصادر القدرة ووسائل الصراع، من بعد الحرب العالمية الثانية. وشكلت لنفسها مذاهب في مختلف إتجاهات المعرفة الإنسانية والإجتماعية كالأدب والفن والإجتماع والنفس والإقتصاد والسياسة والتاريخ عرفت بالمذهب الماركسي في هذه العلوم.
وبعد سبعة عقود من الزمان، وفي فترة قياسية سريعة غير متوقعة عند الأوساط العالمية كافة، يحصل الإنهيار الذي أذهل العالم في حجمه وسرعته وتداعياته على باقي المعسكر الشرقي في أوروبا. الإنهيار الذي أدخل العالم الشيوعي في حالة من الإضطراب الفكري الحاد والقلق النفسي وجعله على مفترق طرق، الوضع الذي يكون في العادة من أصعب اللحظات، فكرياً ونفسياً، بين التمسك بالشيوعية وعلى مرمى أنظاره تنهار أمجادها، وبين اللحاق بالغرب الرأسمالي الذي يعتد بأمجاده ويبالغ بها، وبين التوقف والإنتظار حتى تهدأ العاصفة وتنقشع.
إلى جانب هذه المفترقات كان هناك اختيار حضاري آخر هو إكتشاف الإسلام. فهذا الإختيار كان حاضراً، وإن كانت حصته هي الأقل في العالم الشيوعي بالذات. مع ذلك لايمكن التقليل من شأنه أو إلغائه. فمع هذه الإختيار كان «روجيه غارودي» من فرنسا و «إحسان طبري» من إيران. وهما من كبار مفكري الشيوعية في العالم. كما كان إختيار نخبة من مثقفي العالم العربي والإسلامي الذين وجدوا في الإسلام ما يعوضهم عن الشيوعية وبالذات في جوانب العدالة الإجتماعية والنهوض الجماهيري.
وبالتأكيد فإن هذا السقوط للشيوعية ترك أثره الواضح على المعالم الحضارية في هذا العالم المعاصر. وهذا ما يهتم بدراسته بعض النخب من الباحثين والأكاديميين لمعرفة مستقبليات العالم الحضارية.
إلى جانب هذا التحول وقبله بنصف عقد من الزمن، وفي إطار التحولات الثقافية التي شهدها العالم. كان هناك الإنبعاث الإسلامي الآخذ في النمو والإتساع على إمتداد رقعة العالم الإسلامي من طنجة في الغرب إلى جاكرتا في الشرق. الإنبعاث الذي كشف للعالم قدرة الإسلام على الإحياء والنهوض في عصر يعيش أرفع مستويات الحداثة، وهو على أعتاب قرن جديد، وآفاق حضارية جديدة.
الإنبعاث الذي أراد «فوكوياما» أن يقلل من أهميته في مقولته الشهيرة «نهاية التاريخ» ويعتبره بأن لاجاذبية له خارج محيطه الإسلامي، ولا تأثير له على المستوى العالمي. بعكس ما ذهب إليه «هانتيغتون» في مقولته «صدام الحضارات» الذي ذهب إلى أن الدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم. وأراد أن يلفت الغرب إلى صعود الإسلام الذي قد يكون كما يحلل الأكثر خطورة في صدام الحضارات مع الغرب مستقبلاً (1) . الرأي الذي يعتبره «إدوارد سعيد» بأن هذه الأفكار تحيي معها روح الحرب الباردة، إلا أن العدو بات الإسلام والعالم الثالث بدل الشيوعية والإتحاد السوفيتي (2) .
فبعد زمن طويل من الإنحسار والتراجع الحضاري، حتى بات الإعتقاد عند أوساط عالمية كثيرة في الغرب والشرق بأن الإسلام لاعودة له، بعد أن اكتسحت الحداثة والعلمانية العالم برمته، وبعد كل هذا التقدم والتطور الشامل الذي جعل من هذا القرن الأخير فاصلاً حضارياً عن القرون السابقة عليه، وإن ما بقي من الإسلام ما هو إلا تراث وذاكرة تاريخية وعاطفة عند الناس. في ظل هذه الإعتقادات وغيرها التي ما كانت تقبل الشك في نظر أصحابها، يأتي الإنبعاث الإسلامي وبزخم كبير يفاجئ به العالم، وهو في أشدّ مراحله التاريخية حساسية حيث الهزات العنيفة في كل جهات العالم والمخاضات الخطيرة في كل جانب منه، في السياسة والفكر والإجتماع والإقتصاد والإعلام والجغرافية والتكنولوجية وحتى الطب إلى غير ذلك، وهي المخاضات التي تسبق التحولات الحضارية المهمة.
والإنبعاث الإسلامي الذي جاء مع هذه الأوضاع إنما ليؤكد حضور الإسلام في هذا العالم مهما كانت مستويات التقدم التي وصل إليها. وإن ليس في قدرة قادر مهما إجتمعت عنده من مصادر القدرة أن يعزل الإسلام أو يغيبه عن حركة التاريخ.
والقناعة تتأكد من وقت لآخر في هذا العالم على أن الإسلام من الممكن أن يكون أحد الخيارات الحضارية العالمية البديلة. أو كما عبر عنه «مراد هوفمان» في عنوان كتابه «الإسلام كبديل» (3) . أو «روجيه غارودي» في كتابه «الإسلام دين المستقبل» (4) . أو «عزت بيكوفيتش» في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» (5) . والمهم في هذه الكتابات أنها تكشف عن ظاهرة آخذة في النمو والإتساع داخل المجتمعات الغربية. الظاهرة التي تستوقف إهتمام الغرب وتثير فيه حالة من الحذر في طريقة التعاطي معها.
إذن فبين منظومة تنهار هي الشيوعية، ومنظومة تتصاعد هي الإسلام، فماذا عن الغرب ومنظومته الليبرالية!
إذا أخذنا هذه المنظومة من خلال مقولة «نهاية التاريخ» فهذا يعني أن الغرب في حالة من التفاؤل إلى درجة المبالغة. وإذا أخذنا هذه المنظومة من خلال مقولة «صدام الحضارات» فهذا يعني أن الغرب في حالة من الحذر والقلق من المستقبل.
وهاتان المقولتان من أهم وأبرز المقولات والأفكار التي جاءت من الغرب في تفسير مستقبليات التحولات العالمية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، واستقطبت إهتماماً عالمياً، وفتحت حوارات جادة في مختلف قارات العالم.
وقد كشف عن هاتين الحالتين «زبيغنيو برجنسكي» في كتابين من تأليفه، كان في الأول متفائلاً وهو كتاب «الفشل الكبير: ميلاد وموت الشيوعية» الذي صدر في عام 1989م، وفي الثاني حذراً وقلقاً وهو كتاب «الإنفلات: الإضطراب عشية القرن الواحد والعشرين» الذي صدر في عام 1993م. ويعبر عن هذا القلق «كيشوري محبوباني» من سنغافورة حيث يقول: في العواصم الغربية الأساسية إحساس عميق بالقلق تجاه المستقبل، فالثقة بأن الغرب سيظل قوة مسيطرة في القرن الحادي والعشرين مثلما حدث في القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، تخلي مكانها لإحساس بنُذُر الشر من أن قوى مثل الإسلام الأصولي المنبعث، ونهوض شرق آسيا، وإنهيار روسيا وأوروبا الشرقية، قد تشكل تهديداً حقيقياً للغرب. ويختم مقالته التي جاءت في معرض نقد «صدام الحضارات» وفي آخر سطر منها: على المرء أن يقف خارج الغرب ليرى كيف أن الغرب يتسبب في إنهياره النسبي بيديه (6) .
وبوضوح أكثر نلمس هذا القلق في التقرير الإستراتيجي السنوي للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية وهو تقرير «رمسيس 1995م» (7) .
ولايسعنا المجال أن نرصد كل الأفكار والآراء التي تكشف عن حالة القلق التي يعيشها الغرب حول مستقبلياته في العالم، الآراء التي تتكاثر في هذه السنوات الأخيرة.
وما نخلص إليه أن أبرز المنظومات العالمية الكبرى تمر بتحولات ومراجعات، فبين منظومة تنهار هي الشيوعية، وبين منظومة في حالة قلق هي الليبرالية، وبين منظومة تعيش الإنبعاث وهي الإسلام.
هذا على مستوى الإيديولوجيات أما على مستوى الديانات. فالحقائق تشير إلى أن الإسلام من بين الديانات الأخرى (المسيحية واليهودية والديانات الشرقية) هو الأكثر إنتشاراً بين الأمم والشعوب في قارات العالم. وهذا ما يتوجس منه الغرب، وأصحاب الديانات. ومن أبلغ هذا التوجس ما ورد في منشور البابا يوحنا بولس الثاني، الصادر في أواخر 1990 والذي يحذر فيه الغرب من أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتحدى انتشار المسيحية، وهناك تزايد في الإقبال على الإسلام وإنحسار في المناطق المسيحية في الشرق الأدنى وإفريقيا، وهناك جسور للإسلام تتزايد في جنوب أوروبا (8) .
والظاهرة التي تلفت أنظار الغرب وتُحيّره، هو النمو المتزايد للإسلام في داخل المجتمعات الغربية. الظاهرة التي تخضع لدراسات مكثفة وموسعة لمعرفةýاسبابها وجذورها ومكوناتها وتداعياتها. ومصدر الحيرة عند الغرب هو كيف لهؤلاء أن يتخلون عن الحداثة بعد كل هذه المنجزات الحضارية الهائلة في الحضارة الغربية، ويذهبون إلى الإسلام الذي يفتقد لهذه الحداثة، وليست له من المنجزات الحضارية التي تقارن بما عند الغرب اليوم.
من جهة أخرى فالغرب الذي عمل ولعدة قرون ليحاصر الإسلام في عقر داره، ويكبح جماح انتشاره وامتداده خارج محيطه، وإذا به ينتبه، والإسلام على أبوابه، ويخترق حصونه المنيعة، حصون الحداثة والتقنية والتقدم.
والذي يشهد على هذه الظاهرة الكتاب الذي صدر في النصف الثاني من عقد الثمانينات من هذا القرن في فرنسا واثار ضجة في وقته داخل المجتمعات الغربية، وهو كتاب «من إيمان إلى آخر» وهو من تأليف الفرنسية «ليزبث روشيه» والمغربية «فاطمة الشرقاوي» حيث أمضيتا ثلاث سنوات ـ كما تقولانـ من البحث في أوروبا وأمريكا لمعرفة الأسباب التي تدفع الغربيين إلى الإقبال على إعتناق الإسلام. وفي نظرهما أن: الجميع يعتقد بأن الإسلام يقدم الخلاص بعدما أصيبت الحضارة الغربية بتصدعات خطيرة حولت الإنسان إلى مجرد تمثال من الغار. وذكر الكتاب أن [20.000] شخص دخلوا الإسلام في فرنسا، وثلاثة ملايين في أمريكا. وتضيفان: أن ما يلفت نظر الباحثين هو أن الإسلام الديانة الوحيدة الأكثر توسعاً في هذا العصر، فيما تتقلص الأديان الأخرى. وإن الأكثرية الساحقة من أولئك الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام إنما فعلوا ذاك لقناعات عقائدية، وليس بدافع أي عامل سياسي، فمنهم الفيلسوف والموظف في المصرف ومن ينتمي إلى عائلات متدينة وعريقة إلى غير ذلك. وحول نشأة فكرة هذا الكتاب تقول الكاتبتان: إن الفكرة برزت خلال لقاء مع موظف في الخطوط الفرنسية الذي قال لهما أن بين يديه الآن اربعين جواز سفر تعود لمواطنين فرنسيين اعتنقوا الإسلام أخيراً، وإن هؤلاء حجزوا أماكن لأداء فريضة الحج. ومنذ تلك اللحظة كما تقول الكاتبتان قررنا أن نقوم ببحثنا هذا فيýأوروبا وأمريكا. وإن أهم ما توصلنا إليه ـ والكلام لهما ـ أن الدوافع العقائدية لدى كل شخص أو لدى كل فئة كانت مختلفة من شخص لآخر، ومن فئة لآخرى. وهذا يعكس الثراء العقائدي الذي في الإسلام (9) .
نكتفي بهذه الحقائق ونغض النظر عن المتغيرات السياسية لإتساعها ووضوحها وإنشغال العالم بها. وهذه الحقائق هي من أهم البواعث في الإنشغال العلمي الواسع بقضايا الإسلام والفكر الإسلامي والعالم الإسلامي. وأما في العالم العربي والإسلامي فكما هو واضح، فقد استحوذ الفكر الإسلامي على إهتمام وإشتغال كل التيارات والإتجاهات الفكرية والسياسية. وهذا ما يكتشفه الراصد للإشتغالات الثقافية بسهولة. ولانريد أن نتوسع في بواعث هذا الإشتغال وصوره واتجاهاته، بعد أن أسهبنا في هذا التمهيد.
إن ما نريد دراسته هو تطورات الفكر الإسلامي المعاصر ومساراته الجديدة والمعاصرة.
وما نخلص إليه من هذا التمهيد إننا نرصد إشتغالاً عالمياً واسع النطاق حول الفكر الإسلامي، الذي يفوق من هذه الناحية، كما أوضحنا، المنظومات الثقافية العالمية الأخرى.
ما هي اشتغالات الفكر الإسلامي المعاصر في هذه المرحلة بخصوصياتها ومكوناتها، الذاتية والموضوعية الإسلامية والعالمية الراهنة والمستقبلية!
خلال العقد الماضي (الثمانينات) وهذا العقد (التسعينات) وجد الفكر الإسلامي نفسه مدفوعاً بطاقة قوية لإشتغالات فكرية جديدة، فرضتها عليه متغيرات المرحلة التي إتصفت بكثافة حجمها وسرعة حركتها وخطورة نوعيتها، فما كان على الفكر الإسلامي إلا أن يتوجه بأنظاره إلى هذه المرحلة، ويتأمل في تحدياتها وإشكالياتها ومتطلباتها وتساؤلاتها، الإستجابات التي من غيرها لاتضمن لهذا الفكر حضوره ومعاصرته ومواكبته. خصوصاً وأن الأنظار كانت متوجهة إليه من كل الجهات، بعد أن سجل حضوراً واسعاً على مستوى المشروع الإسلامي الذي انتقل إلى إدارة الحكم والمجتمع والدولة لأول مرة في التاريخ الإسلامي الحديث منذ إنطلاقة السيد «جمال الدين الأفغاني» [1254-1315هـ/ 1838-1897م] في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إلى النصف الثاني من هذا القرن. فكان موضع تساؤلات ومناظرات ومطارحات من كل الإتجاهات والتيارات من داخل العالم العربي والإسلامي، ومن الغرب، ومن داخل الفكر الإسلامي نفسه، الذي أخذ ينظر إلى ذاته، ويراجع ما عنده من إجابات وتصورات وبدائل وبرامج، فاكتشف أنه أمام مرحلة دقيقة وحساسة لم يعد نفسه لها فكرياً ومعرفياً، وإنه بحاجة إلى أن يحرك طاقته الإجتهادية والتجديدية ليكون في مستوى المرحلة وتحدياتها وإحتياجاتها الفكرية، ويستجيب لمنطقة الفراغ التي كشفت عنها المستجدات المعاصرة. فكانت محاولات الإجتهاد والتجديد والنقد والمراجعة والتأصيل، بحثاً عن البدائل والتصورات الإسلامية في مختلف المجالات والميادين السياسية والإقتصادية والإجتماعية والقانونية والتربوية. فالإسلاميون وصلوا إلى إدارة المجتمع والدولة في إيران من غير إعداد مسبق لتصور أولي لدستور إسلامي للبلاد. ووجدوا أنهم أمام مهام فكرية صخمة جداً بحاجة إلى وقت غير قليل لملاحقتها، فأوضاع البلاد كانت تتطلب إصلاحات جذرية وشاملة، وإن ما كان يحملونه معهم من أفكار ومفاهيم ليس فقط لم تكن كافية بل إن مشكلات الواقع كانت أكبر بكثير من تلك المفاهيم والأفكار التي كانت على مستوى العالم الإسلامي تميل إلى التجريد النظري أكثر من التطبيق العلمي، ومن المثالية إلى الواقعية، ومن العمومية إلى الخصوصية، ومن الإجمال إلى التفصيل، ومن الثوابت إلى المتغيرات، ومن الكليات إلى الجزئيات، ومن الإطلاقات إلى النسبيات.
وهذه طبائع كل فكر ينصرف في اشتغالاته بعيداً عن ملاحقة الواقع في مقام التطبيق. وهكذا هو الحال مع التجارب الإسلامية الأخرى التي وإن لم تصل إلى مرحلة إدارة المجتمع والدولة إلا أنها انتقلت من طور السرية إلى طور العلنية، ومن حاجات الفئة الخاصة إلى حاجات الأمّة العامة، ومن الكسب الذاتي المحدود إلى الكسب الإجتماعي الواسع، ومن التعاطي مع الواقع من وراء الحجاب إلى التعاطي معه فوق ما يحتمل، ومن حركة الذات إلى وجود الآخر المتعدد والمختلف، بين أن يكون هذا الإختلاف سياسياً أو منهجياً في إطار المرجعية الفكرية الواحدة، وبين أن يكون المختلف إيديولوجياً وفكرياً، وبالتالي عن نوعية هذه العلاقة وتعددها، بين خيار الإنغلاق أو خيار الصدام، أو خيار التعايش، أو خيار التلاقي، على التفصيل. فكانت التقديرات أن هذه الحالات الإسلامية سوف تصطدم بالواقع في أول الأمر، نتيجة ما كان يمر به الواقع من متغيرات، لم توازيها تجديدات في منظومة الأفكار عن الجماعات الإسلامية.
ومن واقع هذه الجماعات تطرق لهذه القضية الأستاذ «راشد الغنوشي» في عام 1982م في مقالة نشرها تحت عنوان «الفكر الإسلامي بين المثالية والواقعية» حيث يعتقد أن العقلية المثالية التي ينظر الإسلاميون من خلالها إلى واقعهم وهي أحد الأسباب الرئيسية المسؤولة عن عجزهم في استيعاب ذلك الواقع وطاقاته المتحركة وتوليد فكر إسلامي يقدم للمسلم وعياً صحيحاً بذلك الواقع، وقدرة على تسخير طاقاته لصالح مشروعه الإسلامي الحضاري (10) .
هذا عن المتغيرات الذاتية في المشروع الإسلامي المعاصر التي انعكست على حركية الفكر الإسلامي، أما عن المتغيرات الموضوعية فأبرزها أن العالم الإسلامي الذي كان يلفه النسيان والغائب والمغيب عن الساحة العالمية، ويعيش في داخله حالات من الركود والجمود طوال عقود من الزمن تعود لمرحلة ما بعد الإستقلال. والسيادة الوطنية، إذا به مع أواخر عقد السبعينات ينتقل إلى وضع آخر مختلف حيث الإنبعاث والنهوض حتى بات يتصدر واجهة الإهتمامات العالمية، ويستقطب الإهتمام بصورة غير مسبوقة. فالأوضاع انتقلت من الركود إلى حركة لاتهدأ، والأحداث تلاحقت بسرعة، والجميع كان يتابع بحذر شديد.
هذه الأوضاع التي لانريد أن نفصل الحديث حولها، بعثت على تأملات وقراءات جديدة للواقع الإسلامي، لتشخيصه وتقويمه، وتحديد أولوياته واحتياجاته، التي أكدت على ضرورة تحريك الفكر الإسلامي نحو الإشتغال بالمتطلبات والحاجات الجديدة، فكانت تدفع نحو مسارات جديدة في حركية الفكر الإسلامي المعاصر.
من خارج العالم الإسلامي، كان الغرب دوماً يثير الإشكاليات والمشكلات أمام الفكر الإسلامي. وفي هذه المرة، وجدنا أن القضية أكبر من ذلك. فالغرب أخذ يستعيد نشاطه الفكري والبحثي من جديد حول العالم الإسلامي والفكر الإسلامي بصورة تلفت النظر وتثير الإنتباه، تبعث على البحث في دوافع وخلفيات هذه الظاهرة، التي لانبالغ إذا وصفناها بأنها تدل على إحياء جديد للإستشراق الذي أعلن عن موته المستشرق الفرنسي «جاك بيرك» في عام 1975م حين أعلن أن زمن الإستشراق قد انتهى، وإن ما يعقده المستشرقون من مؤتمرات إنما هي مؤتمرات للعلوم الإنسانية.
ومن المعروف أن الإستشراق قد أنجز أضخم واوسع الدراسات التفصيلية والشاملة حول العالم الإسلامي والفكر الإسلامي في جوانب اللغات والفنون والتراث والتاريخ والدين والمجتمع والدولة والعلوم والتيارات والمذاهب... الخ خلال عدة قرون من السنين. فالكراسي الأولى لتدريس اللغات الشرقية في الجامعة الفرنسية ترجع إلى عام 1245م، لكن هذا التوسع الكبير قد بدأ منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فكلمة مستشرق ظهرت لأول مرة بالإنجليزية في 1779م، ثم بالفرنسية في 1799م، واعتمدتها الأكاديمية الفرنسية في 1838م (11) .
كان من المفترض أن يكون الإستشراق قد أوصل الغرب إلى ما يشبه الإكتفاء، إذا لم يكن أكثر من ذلك، بحاجاته الفكرية والمعرفية عما يريد أن يعرفه عن العالم الإسلامي والفكر الإسلامي. وقد حصل تنافس بين المستشرقين، ومؤسسات وحركات الإستشراق في الدول الأوروبية على اكتشاف المعارف والتنقيب عنها في بلاد الشرق.
وما نراه من الغرب اليوم في إهتمامه بالظاهرة الإسلامية مع لحاظ حجم ومساحة ونوعية هذا الإهتمام، فإنه يذكرنا بحركة الإستشراق، بل هو إحياء جديد للإستشراق بدوافع ومنطلقات جديدة.
من جهة أخرى أن المشتغلين بعلوم الإستشراق وجدوا فرصتهم في إقناع الآخرين في الغرب بما يمكن أن يقدموه من أبحاث وتحاليل وقراءات حول قضايا العالم الإسلامي والفكر الإسلامي. بعد أن فقد هذا الحقل أهميته بمرور الوقت حتى كاد يصل إلى درجة الإعلان عن نهايته. فجاءت هذه الأوضاع لتعيد له الإعتبار وتبعث له الحياة من جديد.
وما نسميه أو نشبهه بالإستشراق هو هذه المرة أكثر تركيزاً وتخصصاً من الإستشراق القديم، حيث يعطي أولويته لدراسة مكونات قدرة الإنبعاث والنهوض في الإسلام، ومستقبلياته في العالم المعاصر، وظاهرة الحركات الإسلامية وتناميها واتساعها وديناميتها، ونظرة الإسلام إلى المرأة والغرب والدولة والإقتصاد... الخ
الحقائق كثيرة التي تكشف لنا عن إشتغالات الغرب الواسعة بالظاهرة الإسلامية بحيث لانستطيع أن نستوعب مساحتها. ونكتفي ببعض منها بما يؤكد صحة ما نقوله.
ومن هذه الحقائق ما كشف عنها الكاتب الصحفي «محمد حسنين هيكل» في محاضرة القاها في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، يوم 9 ديسمبر 1987م حيث قال: في وثيقة من وثائق لجنة الكونغرس المكلفة بتحقيق وقائع فضيحة إيران/ كونترا، أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قامت سنة 1983م بالتمويل الكامل أو الجزئي، الظاهر أو الخفي، لأكثر من مائة وعشرين مؤتمراً وندوة في موضوع واحد هو الصحوة الإسلامية (12) .
وأصبح من المعروف أن أكثر المواضيع تطرقاً ودراسة في الندوات والمؤتمرات التي تنظمها معاهد ومراكز دراسات الشرق الأوسط في أمريكا هو موضوع الإسلام والظاهرة الإسلامية. وإذا أخذنا نموذجاً على ذلك المؤتمر المعروف باسم «ميسا» وهو أحد أهم وأبرز المؤتمرات السنوية في أمريكا حول الشرق الأوسط. فمؤتمر 1992م الذي عقد في مدينة «بورتلاند» بولاية «أورجن» وهو المؤتمر الذي يحمل رقم 26، بلغت عدد المحاضرات والندوات التي ألقيت حوالي 90 محاضرة وندوة، خلال أربعة أيام كان معظمها يدور حول الإسلام ونموه في الشرق الأوسط وعلاقته بالغرب (13) .
هذا ناهيك عن الدوريات والإصدارات التي تزايدت بمعدلات كبيرة فوق العادة حول هذا الموضوع. ففي فرنسا فإن من المستجدات التي قفزت إلى المشهد الثقافي/ السياسي، والتي أوجبت على الباحثين والصحافيين والمفكرين والناشرين التعامل معها والإنكباب عليها هو الظاهرة الإسلامية. الأمر الذي حدا بعدة دور نشر إلى إصدار سلاسل عن الإسلام والحركات الإسلامية، أو إلى تعزيز سلاسل قديمة مع إعادة طبع كتب قديمة عن الإسلام والعالم العربي وذلك لتلبية طلبات المتغيرات (14) .
وفي ألمانيا حازت المستشرقة في الدراسات الإسلامية «آنا ماريا شيميل» على جائزة دور النشر الألمانية لعام 11995م. وجاء في حيثيات قرار منح دور النشر هذه الجائزة لأعمالها القيمة التي قدمت المعارف حول الديانة الإسلامية وساهمت في التقارب الحضاري.
وفي اعتقاد البعض في المانيا أن تكريم إحدى المستشرقات وفي هذه الفترة بالذات يأتي كرد اعتبار لعلم ظل مهملاً لزمن طويل، وخلق شعوراً بالغبطة فيýاوساط المستشرقين وطلاب الدراسات الشرقية، لأنهم شعروا لأول مرة بتكريم مجال علمي ظل لفترة طويلة لايجد صداه خارج جدران الجامعة (15) . وذات الإهتمام والإشتغال نلاحظه في بريطانية وروسيا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا والسويد ودول أوروبية أخرى. ومصادر الإشتغال عديدة منها الصحافة والإعلام والجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها من هذه الحقائق على قلتها بالقياس لحجم واقعها، فإنها تؤكد لنا صحة ما وصفناه ووصفه البعض بإحياء ما يشبه الإستشراق بلون جديد، ودوافع جديدة، ومناهج جديدة.
أولاً: دراسة الإسلام والفكر الإسلامي ليس في بلاد الشرق فقط كما هو التقليد. والجديد في المنهج وباهتمام خاص هو دراسة الإسلام في بلاد الغرب.
ثانياً: دراسة الإسلام والفكر الإسلامي ليس في الماضي، والماضي السحيق كما هو العرف الذي كان سائداً في حقل الإستشراق بل التركيز على دراسة الإسلام في مستقبلياته ودينامية تطوره وتقدمه.
ثالثاً: التركيز على جوانب معينة وهي مورد الحاجة والملحة والأساسية. وعلى حد تعبير الفقهاء مورد الإبتلاء ومحل النزاع. وليس بصورة موسعة وتفصيلية كالذي عهدناه في الإستشراق القديم.
رابعاً: توظيف العلوم الإنسانية والإجتماعية في أرقى مستوياتها النقدية والتحليلية والمنهجية التي وصلت إليها في دراسة الفكر الإسلامي والظاهرة الإسلامية.
خامساً: الإعتماد على أبناء الشرق وبالذات من العالم العربي الذي يدرسون ويعملون في الغرب في المؤسسات والجامعات الأكاديمية والبحثية بتقديم الدراسات والأبحاث حول دولهم وحول الإسلام والعالم الإسلامي. وفي الجامعات الأمريكية والأوروبية هناك تأكيد على الذين يحضّرون الرسائل الجامعية من دول العالم العربي والإسلامي على تخصيص موضوعات هذه الرسائل عن مناطقهم وعن الإسلام والظاهرة الإسلامية. بعكس الإستشراق الكلاسيكي الذي كان يعتمد على التواجد في بلاد الشرق.
والغرب بإمكانه إذا انشغل بأمر أن يشغل العالم معه في هذا الأمر، وهذه طبيعة كل من يتفوق حضارياً، يساعده على ذلك هيمنته على وسائل الإعلام العالمية، ونفوذه الواسع في العالم. وحينما انشغل هذه المرة بالإسلام فإنه أشغل معه العالم برمته، إذا كان يريد أن يخلق أجواء الخوف من الإسلام على نطاق عالمي واسع، وأن يكرر تجربته مع الشيوعية حين عمل جاهداً على إخافة العالم منها، وتصويرها العدو الأول للغرب.
ومن طبيعة انشغالات الغرب بالإسلام والفكر الإسلامي أن تفرز إشكاليات وتحديات فكرية ومعرفية، نتيجة لطريقة تعامل الغرب في هذا الحقل بالذات من الدراسات، الذي تتعدد طرائقه بين أن يكون متسائلاً أو مشككاً أو منتقداً، أو رافضاً لآراء ومواقف الفكر الإسلامي خصوصاً في القضايا التي تشغل اهتمام العالم كقضايا المرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والحداثة والدولة وغيرها.
هذه الإشكاليات والتحديات الفكرية والمعرفية التي أفرزها التحدي الغربي دفعت بالفكر الإسلامي المعاصر نحو الإهتمام بتلك القضايا التي تشغل اهتمام العالم. والذي عرضنا له يشكل أهم البواعث الذاتية والموضوعية، الإسلامية والعالمية، الراهنة والمستقبلية التي تحفز الفكر الإسلامي المعاصر نحو مشاغل فكرية معاصرة، والبحث عن مسارات جديدة.
التطورات السياسية قد لا تحتاج في العادة إلى بحث وتدقيق، لشدة وضوحها، وكثرة الإشتغال بها، ولأنها من طبيعتها تفرض الإهتمام والمتابعة. أما التطورات الفكرية فهي في العادة بحاجة إلى تأمل ونظر، ولايتوقف عندها إلا من تربطه بالفكر والثقافة صلة، كسباً وإنتاجاً وتفكراًونقداً.
وبشكل عام فإن التطورات الفكرية في العالم الإسلامي على قلتها إلا أن حركتها بطيئة، وقد لاتظهر للعيان ولاتأخذ قسطها من الإهتمام والإشتغال بوسائط النقد والحوار والنشر. إلا تلك الأفكار التي تخرج عن المشهور، وتصطدم بالأعراف أو المقدسات. وهذا مما يكشف عن أزمة النقد والحوار في فكر المسلمين. ومن هذه الحالات وقبل سبعة عقود كان كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ «علي عبد الرزاق» [1305-1386هـ/ 1887-1966م] الذي إصطدم بالمقدسات، فأثار في وقته ضجة كبيرة. ومن الحالات المعاصرة كتاب «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» للشيخ «محمد الغزالي» الذي وصفه البعض بأنه رد الإعتبار للعقل المسلم، واعتبره بعض أخر بأنه خروج على المشهور، وبين من قال عنه إنه بمثابة حجر في مياه راكدة، ومن قال عنه بأنه دعوة إلى بيريسترويكا اسلامية، وبين من قال عنه بأنه محاولة لبلورة منهج جديد لنظر الإسلاميين إلى قضاياهم الفقهية، ومشكلاتهم الدينية على ضوء الواقع الحضاري الجديد. إلى جانب هذه الآراء هناك من انتقده ورفضه وأعاب عليه بطريقة حادة وجارحة (16) .
بينما الأفكار التي تقدم نفسها بهدوء وإيجابية وتدعو إلى البناء الحضاري وإيقاظ الفاعلية في العقل المسلم، فإن هذه الأفكار في العادة لاتكتسب حيوية كما ينبغي ولاتحرك ساكناً. وهذا من آفاق الفكر عندنا في العالم الإسلامي.
والمتغير الذي نلمسه خلال العشر سنوات الماضية أن التطورات الفكرية بدأت تأخذ حركة ونمواً بالقياس عما كانت عليه سابقاً. وحتى هذا ما كان يحصل لولا ما تعرض له الواقع الإسلامي من هزات عنيفة حركت ما كان يلفه من جمود وسكون حتى على مستوى الأفكار والمفاهيم.
وهذا ما نريد التوقف عنده رصداًووصفاً وتحليلاً. فالفكر الإسلامي المعاصر يمر بتطورات في المناهج والمفاهيم ويتطلع من هذه التطورات أن يجدد نفسه نحو نهضة حضارية جديدة. ومن هذه التطورات التي نرصدها، والتي بحاجة إلى أن نؤرخ لها، ونحلل مكوناتها:
أولاً: لقد أصاب فكر المسلمين الشيعة لسنين طويلة عوارض الجمود والإنكفاء والعزلة، لأسباب وظروف ذاتية وموضوعية، أثرت بدرجات كبيرة على تأخر مستويات التطور العام لأوضاعهم الإجتماعية والثقافية، فكانت الفرص أمامهم ضيقة في المشاركة في الوظائف العامة في المجتمع والدولة، صاحبتها مظاهر ضعف الإرادة والإندفاع الذاتي من قبلهم. وانصرف اشتغالهم العلمي والفكري على صعيد العلماء والفقهاء بصورة أساسية في ميادين الفقه والأصول واللغة، وهي العلوم التي تتأسس عليها نظم التعليم في الجامعات الشيعية، التي تعرف بالحوزات العلمية، والتي كان أكبر ضعف فيها إفتقادها إلى العلوم الإجتماعية والعلوم المعاصرة. ومن الثابت أن الفكر لايتطور بمعزل عن الواقع، الواقع الحي المتحرل الذي يفرز المنبهات للفكر ويوقظه على حاجات الأمّة ومتغيرات الحياة والزمن.
وليس أمامنا من الوسط الشيعي دراسات تحدثت بوضوح عن هذه الأوضاع الإجتماعية والثقافية، كما جاء في كتاب «الثقافة الرسالية» حيث يقول المؤلف: في كل مكان، من حدود الصين في ارض أفغانستان، حتى جنوب لبنان، ومن البصرة حتى سلطنة عمان على الخليج، ومروراً بكل أراضي إيران والعراق. رأيت واقعاً متخلفاً، شرس التخلف، عميق التخلف، يسود أوضاع الشيعة. بالرغم من أن حوادث كثيرة عصفت بهم في طول خمسين عاماً الأخيرة، والبعض منها كان كافياً لتحريك أضخم أمّة وبعثها تصارع الزمن. فهم لم يزالوا تلك الأمّة العاجزة، الفقيرة المفككة، المظلومة، المقهورة. علماً بأن شعوباً معاصرة مع الشيعة، ومتواجدة معهم، هم أكثر تقدماً في كل حقول الحياة (17) .
هذا عن واقع الأمس أما عن واقع اليوم فهو أحسن حالاً بالقياس النسبي بعد التحول الإسلامي في إيران. الحدث الذي جعل من الفكر الإسلامي الشيعي في العالم الإسلامي ينتفض من ركام الجمود ورواسب الركود، وتدب فيه الحركة والحيوية والفاعلية. فيخرج من العزلة إلى الحضور، ومن الجمود إلى الحركة، ومن التراث إلى المعاصرة. وإذا به يكتشف خطورة منطقة الفراغ في هذا الفكر، ومضاعفات العزلة عن الواقع وعن الآخر الإسلامي، والإكتفاء ببعض العلوم على حساب علوم العصر. فما كان عليه إلا أن ينهض بنفسه ليواجه ضخامة المهام الفكرية التي تنتظره وتحيط به من كل جانب وفي كل إتجاه.
وفي دولة مثل إيران وجد الفكر الإسلامي الشيعي نفسه أمام مجتمع ومؤسسات ودولة تتصف بمساحتها الشاسعة، وعدد سكانها الضخم، وموقعها الحساس، وقومياتها المتعددة. والفساد الذي استشرى فيها لزمن طويل في مختلف مرافق الحياة والدولة. فأي ضخامة فكرية يحتاجها هذا الواقع بالإنتقال به نحو الصياغة الإسلامية، وأسلمة الحياة والدولة والمجتمع. فما كان هناك خيار أمام الفكر الإسلامي الشيعي إلا ان ينهض من داخله ويواجه ما ينتظره من ثقل المسؤوليات الفكرية والثقافية والقانونية.
وعن هذا النهوض في الفكر الإسلامي الشيعي وامتداده في العالم الإسلامي يقول الأستاذ «راشد الغنوشي»: كان لإنتصار الثورة الإسلامية في إيران أن أطلق موجة عاتية من الفكر الشيعي اجتاحت عدداً كبيراً من مثقفي العالم ومثقفي السنّة. وفي غمرة الحماس لإنتصارات الثورة كانت تجد أفكار هؤلاء الرواد ـ كتابات الصدر ومطهري وشريعتيـ بل حتى التراث الشيعي صدى متعاظماً، وكانت انتصارات الثورة تقوم مقام كاسحات الثلوج أمام الفكر الشيعي تفتح في وجهه الطريق فيتقدم دون مقاومة تذكر (18) . ولاشك أن نهوض الفكر الإسلامي الشيعي هو لصالح الفكر الإسلامي العام وضرورة له. لأن هذا النهوض سوف يستفيد منه كل العالم الإسلامي. ولازالت تنتظر الفكر الإسلامي الشيعي مهام فكرية كثيرة بحاجة إلى إجتهاد وتجديد ومراجعة وتأصيل.
ثانياً: الذين يؤرخون لتطورات الفكر الإسلامي في تاريخ العالم الإسلامي والثقافي الحديث والمعاصر، يصنفون مرحلة جديدة يصطلح عليها البعض بالفكر الإسلامي الجديد (19) . ويصنف لهذه المرحلة الدكتور «طه جابر العلواني» التي يؤرخ لها بالمرحلة الرابعة من مراحل تطور فكر المسلمين. فالمرحلة الأولى عنده يصطلح عليها بمرحلة الصدمة الأولى والإنبهار المباشر، حيث زلزل فيها المسلمون زلزالاً شديداً عن مواقعهم الفكرية والثقافية، وفقدوا ثقتهم بفكرهم الإسلامي. والمرحلة الثانية: التي بدأت فيها النفوس تستقر إلى حد ما وتجتاز فترة الإنبهار. والمرحلة الثالثة وهي التي نعيشها أو نعيش جزءاً منها، وهي التي سميت بمرحلة الصحوة الإسلامية، اي مرحلة الوعي بالذات أو اكتشاف الذات. أما المرحلةالرابعة وهي التي نقصدها، فهي مرحلة تقديم البديل الإسلامي الحضاري لكل ما قدمه الغرب (20) .
ويصنف لهذه المرحلة الأستاذ «منير شفيق» بالمرحلة الخامسة أو ما بعدها. فالمرحلة الأولى عنده وهي التي مثلها فكر «جمال الدين الأفغاني» وتتسم بمحاولة إصلاح الدولة العثمانية من داخلها. والثانية: وهي مرحلة تثبيت أقدام الإستعمار وتمتد مع نهاية الحرب العالمية الأولى. ومثلها فكر «محمد عبده» و «رشيد رضا» و «الكواكبي» و «أرسلان». والثالثة: وهي مرحلة الإستعمار المباشر. والرابعة مرحلة الدولة العربية المستقلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وأما المرحلة الخامسة فيمكن اعتبار نجاح الثورة الإسلامية في إيران وبداية القرن الخامس عشر للهجرة إيذاناً بالدخول إليها، وقد أخذت تتسم بمحاولة الفكر الإسلامي مراجعة تجربته السابقة، والإنتقال إلى مواقع الهجوم والإيجابية في تغيير الواقع (21) .
وفي داخل الخطاب الإسلامي المعاصر نلحظ دعوات لاتنقطع وبعناوين كثيرة تتلمس التعبير عن هذه المرحلة الجديدة التي يتطلع إليها الفكر الإسلامي. من هذه العناوين «تجديد الفكر الإسلامي» (22) ، «إصلاح الفكر الإسلامي» (23) ، «ضرورة تجديد الإجتهاد» (24) ، «إحياء الفكر الديني» (25) ، «التطوير في الثقافة والفقه» (26) ، «تجديد اصول الفقه الإسلامي» (27) .
والفكر الإسلامي مع هذه المرحلة يريد أن يخرج من مآزقه ومشاغله التقليدية إلى المشكلات الحضارية الكبرى في العالم الإسلامي، وأن يواكب القضايا العالمية المعاصرة، وأن ينهض بالحياة الإسلامية نحو آفاق التنمية الشاملة.
ثالثاً: المراقب للساحة الثقافية الإسلامية خلال العقد الماضي وهذا العقد يلحظ تطوراً في العمل الفكري الإسلامي من جهة الكم والنوع. فمن جهة نلحظ تنامي الإدراك بأهمية العمل الفكري والإرتقاء به، بعد أن كان في حالة إنحسار وتراجع خلال العقود الماضية مع ما أصاب فكر المسلمين من عوارض الجمود والعزلة.
وهذا الإدراك ما كان يحصل لولا التنبه لعمق المشكلات الفكرية التي نعيشها، والإنصراف عن العمل الفكري إلا في بعض الأطر الفردية، حيث بات هذا الحقل الحيوي مهملاً، وكأنه لم يكتشف على أهميته وضرورته وآفاقه ومستقبلياته. ومع هذا الإدراك بأهمية العمل الفكري المركز والعميق تشكلت خلال هذه الفترة التي نؤرخ لها في تطورات الفكر الإسلامي المعاصر، العديد من مراكز الدراسات ومعاهد البحث، والمنتديات الثقافية، والمؤسسات والجامعات ذات الصفة الإسلامية، والتي تحمل تطلعات الإرتقاء، بالعمل الفكري والنهوض بالبحث العلمي الإسلامي، وتأهيل العالم والمفكر والمثقف الإسلامي، وإيجاد حلقة من التواصل العلمي بين مفكري وباحثي العالم العربي والإسلامي، وإعداد الدراسات والبحوث الإسلامية ذات المواصفات العلمية، بالإضافة إلى عقد الندوات والمؤتمرات العلمية الإسلامية. وقد أعطت هذه الجهود ثماراً قيّمة ولازال أمامها الوقت.
من جهة أخرى أخذ يتكثف حضور الدوريات الفكرية والثقافية والإسلامية وهي تحمل معها هموم النهوض بالعمل الفكري والإسلامي، وتطوير خطاب حضاري إسلامي معاصر، وممارسة نقد الواقع الإسلامي مقدمة للنهوض به.
كما ظهرت لنا مجموعة من الأدبيات الفكرية الإسلامية المتميزة، الجديدة في موضوعها، المتطورة في خطابها، العلمية في منهجها، الموضوعية في معالجتها، المتمسكة بأصالتها.
ودخلت على ساحة الفكر الإسلامي شريحة من الأكاديميين الإسلاميين وجيل جديد من المفكرين الإسلاميين الذي جمعوا بين الأصالة والإنفتاح على علوم العصر وثقافاته فكانت لهم اسهامات علمية على درجة كبيرة من الأهمية على الصعيد الإسلامي والعالمي.
رابعاً: ما كان من الممكن أن يحدث نهوضٌ في الفكر الإسلامي، وتجديداً في مناهجه، وتطويراً في حركته، من غير أن يترافق ذلك مع مراجعات ونقد في فكر المسلمين وخطاباتهم الثقافية لإزالة ما علق عليه من جمود ورواسب بالية، وعوائق منهجية، وسلبية وإنغلاق. وبجرأة أكثر فقد دعا السيد «محمد حسنين فضل الله» إلى أن نعيش حالة طوارئ لنتخلص من كل هذا السكون والجمود الميت الذي يطبق على كثير من أمور الثقافة الإسلامية (28) .
ومن كان يتردد عن ممارسة النقد فيما مضى، تحت عناوين الحرج أو الضرر، أو الإحتياط، أو سد الذريعة، أو غير ذلك، فهو اليوم يمارس النقد بعد أن ارتفعت تلك العناوين، وأصبح النقد الضرورة التي لايجب السكوت عنها، كالنزاع المسلح الذي حصل بين بعض الجماعات الإسلامية، وظواهر التكفير وإلغاء الآخر الإسلامي، وممارسة العنف في غير مكانه، وسيطرة التقاليد على حساب الدين وتعطيل العقل إلى غير ذلك.
وأغلب الخطابات الإسلامية المعاصرة مرت خلال هذه الفترة بمراجعات فكرية في تجديد وتطوير منظومات المفاهيم عندها. بما في ذلك الخطاب الإسلامي السلفي في أحد روافده الذي يقدم نفسه بالمظهر المستنير.
وهذه المراجعات، هناك من يمارسها علناً وبوضوح، وهناك من يتكتم عليها، ومن العقل والحكمة أن تحصل هذه المراجعات بعد كل هذه التحولات والمتغيرات النوعية التي حصلت في العالم والواقع الإسلامي.
وفي هذا الجانب يمكن أن نرصد مجموعة من الكتابات الإسلامية المعاصرة التي عبرت عن هذا التطور في الفكر الإسلامي، من هذه الكتابات «مسائل حرجة في فقه المرأة» (29) للشيخ «محمد مهدي شمس الدين»، «أزمة العقل المسلم» (30) للدكتور «عبد الحميد أبو سليمان»، «تراثنا الفكري بين ميزان العقل والشرع» (31) للشيخ «محمد الغزالي»، «الصحوة الإسلامية بين الإختلاف المشروع والتفرق المذموم» (32) للشيخ «يوسف القرضاوي»، «في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية» (33) للدكتور «خالص جلبي»، «الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية وأزمة الخليج» (34) إعداد «أحمد يوسف».
هذه عينة من كتابات جاءت في سياق نقد الواقع الإسلامي، ومراجعة بعض المفاهيم والقضايا الفكرية التي بحاجة إلى إعادة نظر وتجديد، وقد اكتسبت هذه الكتابات اهتماماً لجدية خطاباها النقدي وتطلعاتها للتجديد والتطوير.
والساحة بحاجة إلى هذه النوعية من الكتابات الجادة والجريئة في نقد الواقع والأفكار التي تكبح نهوضنا وتقيد انطلاقتنا، وتعطل فاعلية عقولنا، وتوكلنا إلى السلبية والقشرية والإنغلاق.
خامساً: المعاصرة كمنهجية معرفية لايدركها ولايكتسبها من لايعيش الواقع بتفاصيله وتطوراته، ويكون حاضراً بقدراته في التأثير عليه، بتعدد مصادر القدرة بين أن تكون ثقافية، أو سياسية أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو إعلامية...
والمعاصرة تترك آثارها واضحة على بنية الأفكار وحركيتها ومنهجية تنزيلها على الواقع، وعلى أولويات وتراتب هذه الأفكار، فيما يجب أن يتقدم وفيما يجب أن يتأخر، فيما يجبýان يكون فورياً وفيما يجب أن يكون تدريجياً، فيما يجب أن تتوفر مقدماته وفيما لايحتاج إلى أن تتوفر مقدماته، فيما يجب أن يكون معيناً وفيما يجب أن يكون مخيراً.
المعاصرة كمنهجية من الممكن أن نشخصها بالتعرف على منهجية القرآن الحكيم في علاقته بالواقع خلال فترة التنزيل، حتى نزل منجماً من بدء الدعوة الإسلامية إلى اكتمال التشريع خلال ثلاثة وعشرين سنة هي زمن نبوة الرسول «محمد» (ص). من آية «إقرأ» وهي أول من نزل من القرآن إلى آية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (35) وهي آخر ما نزل من القرآن على اختلاف في الروايات.
فالمنهجية التي اتبعها القرآن الحكيم في تنزيل آياته على الحوادث الواقعة، كشفت عن منهجية علمية محكمة في علاقة التشريع بالحوادث الواقعة. فكان القرآن يستجيب لتطور حاجات الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في تبدل أوضاعه وتغير ظروفه، حتى تبلور ما عرف في علوم القرآن بعلم المكي والمدني، وخصائص كل خطاب وشروطه وحاجاته. ومن المعروف أن القرآن الكريم خلال زمن الدعوة لم يترك منطقة فراغ تشريعية إلا وسدها، ولا إبتلاء إلا ورفعه، ولا واقعة محيرة إلا وشخصها، ولاحاجة إلا واستجاب لها.
وما نراه اليوم أن الفكر الإسلامي أكثر معاصرة من السابق لأنه يجد نفسه اليوم أكثر قرباً من الواقع التي هي علاقة بالزمان والمكان وشروطهما ومقتضياتهما.
وقد وجدنا أن المكان الذي يكون فيه الفكر الإسلامي أكثر قرباً من الواقع، يكون أكثر استيعاباً وتقدماًنحو المعاصرة. وهذا ما نلمسه في إيران فالفكر الإسلامي هناك وبالذات على مستوى الفكر الإسلامي الشيعي، ليس قريباً من الواقع فحسب بل هو الذي يوجه حركة الواقع لذلك فهو يتجه نحو المعاصرة بسرعة وفي مختلف المجالات الفكرية والقانونية والتشريعية، ففي مجال الأصول والتشريع طرح مفهوم الإجتهاد المتحرك مقابل الإجتهاد الجامد، وفي مجال الفقه طرح مفهوم الزمان والمكان في المباني الفقهية، وهكذا في تفسير القرآن وحركة التجديد تتواصل هناك ومن المهم متابعتها.
وبصورة عامة فإن الفكر الإسلامي اليوم أكثر معاصرة منýأي وقت مضى، والمعاصرة هي صيرورة لا تتوقف ولاتنقطع.
تلك كانت التطورات العامة التي ترتبط بالبنية المعرفية للفكر الإسلامي ومنهجياته الكلية. أما التطورات التي ترتبط بحركة الافكار ونوعية الإشتغال الثقافي في الفكر الإسلامي على مستوى المفاهيم خلال الفترة التي نؤرخ لها، فهذا ما يحتاج أيضاً إلى دراسة وتأمل.
والمعيار الذي نقيس عليه تحديد نوعية هذه التطورات هو كثافة وسعة الإشتغال في الموضوع الواحد وبصورة مميزة وبمنهجية جادة، تأخذ بعين الإعتبار تحولات الواقع في عنصري الزمان والمكان، وتحولات الفكر في اتجاه التجديد والتطوير.
وهذه التطورات هي تخصيصات لتلك التطورات العامة، ومتغيرة في بعض مفرداتها، فما هو أولوي في هذه الظروف، قد يفقد أولويته في ظرف آخر، ويحل مكانه إهتمام جديد، وقد تحافظ بعض المفاهيم على حيويتها في أكثر من ظرف لنوعيتها وطبيعة علاقتها بالظرف ومتغيراته.
ومن هذه التطورات التي تشكل مسارات جديدة أو قديمة لكنها متطورة عن السابق في الفكر الإسلامي المعاصر:
أولاً: المشتغلون في حقل الحركة الإسلامية والمفكرون فيها يدركون في هذه الفترة أكثر من أي فترة مضت ضرورة تجديد الحركة الإسلامية والفكر الحركي الإسلامي بعد أن تغيرت الظروف وتطورت الأوضاع وما مرت به الحركة الإسلامية من تحولات ذاتية كالتحول من السرية إلى العلنية ومن الفئوية إلى الجماهيرية، ومن الثقافي إلى السياسي، ومن التضييق إلى التوسع، ومن المعارضة السلبية إلى المعارضة الإيجابية في بعض الساحات، ومن الصدام إلى الحوار في ساحات أخرى. إلى غير ذلك من تحولات يضاف إلى ذلك أن جيلاً جديداً من الكفاءات الشابة دخل ساحة الحركة الإسلامية وأخذ يتصدى لفعاليات حيوية، كما أن جيلاً جديداً من الحركات الإسلامية ظهر إلى الوجود على خلفية تجاوز إشكاليات ومحن الحركات الإسلامية التقليدية أو القديمة.
والقناعات اليوم تتأكد من وقت لآخر بضرورة تجديد وتقويم الفكر الحركي الإسلامي، فهو في نظر الأستاذ «محمد فريد عبد الخالق» من الإخوان المسلمين في مصر (إن محنة العمل الإسلامي في هذه الآونة بصفة خاصة، هي محنة فكر قبل أن تكون محنة سلوك حركة وابتلاء عملي) (26) ، وفي نظر الأستاذ «جاسم مهلهل الياسين» من الحركة الدستورية في الكويت، (ان من الأزمات التي تعترض الحركات الإسلامية، أزمة الفكر الحركي حيث أصابها شيء من الجمود والتوقف، وأصبح فكرها غير قادر على إخراجها من أزمتها) (37) .
ويصف هذه الأزمة الأستاذ «موسى أبو مرزوق» من حركة حماس الفلسطينية، بفكر المحنة حيث يذهب إلى أن الفكر الإسلامي الحركي في الستينات وأوائل السبعينات، قد اتسم بردة فعل أججتها سنوات المحنة والإبتلاء فنضج فكر «محنوي» لازلنا نعاني منه حتى الآن. لذلك فإن الكثير من معالجات المفكرين وأطروحاتهم الحالية تتجه صوب ذلك الفكر محاولة تغييره أو الدفع في اتجاه تجاوزه، وتبني منطلقات حركية جديدة (38) .
ومن الذين نهضوا لتجديد الحركة الإسلامية ونظّروا لهذا المسار من الفترة السابقة الدكتور «حسن الترابي» والأستاذ «راشد الغنوشي» وقد صدر لهما كتاب مشترك حمل عنوان «الحركة الإسلامية والتحديث» (39) ويراد من التحديث هنا بلورة فكر حركي جديد يتجاوز فكر الإخوان المسلمين في مرحلتي «حسن البنّا» [1327-1370هـ/ 1903-1949م] و «سيد قطب» [1324-1386هـ/ 1923-1966م] وهو الفكر الذي هيمن على الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب لسنين طويلة. بالإضافة إلى فكر «أبو الأعلى المودودي» [1321-1398هـ/ 1903-1979م].
ولهذه المهمة أيضاً جاء كتاب «الحركة الإسلامية هموم وقضايا» للسيد «محمد حسين فضل الله» فقد جاء في مقدمة الكتاب «أن هذه التأملات تصلح أن تكون عنصراً من عناصر الإثارة الفكرية التي تخطط للمنهج الفكري الذي يحاول إبداع نهج لحركة إسلامية جديدة» (40) وكذلك كتاب «الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي» (41) الذي تضمن أربعة عشر ورقة من مفكري وقيادات من داخل الصف الإسلامي. وهو من إعداد وتقديم الدكتور «عبد الله النفيسي».
وبتوسع أكثر جاءت ندوة «الفكر الحركي الإسلامي وسبل تجديده» التي عقدت بالكويت فيýإطار مشروع «مستجدات الفكر الإسلامي والمستقبل» في الفترة ما بين 8-10 فبراير 1993م تحت إشراف الأمانة العامة للأوقاف ومازال الفكر الحركي الإسلامي بحاجة إلى تجديدات وتطويرات سعياً نحو صياغة متقدمة لحركة إسلامية جديدة.
ثانياً: لقد جاء إشتغال الفكر الإسلامي بقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان، كقضايا فكرية، سياسية، قانونية، حديثاً ومتأخراً. يمكن أن يؤرخ لهذا الإشتغال كتطور مع النصف الأول من عقد الثمانينات، وتزايد الإهتمام بصورة مميزة ومتصاعدة مع النصف الثاني من العقد نفسه. سواء على صعيد بعض الجوانب النظرية كالكتابة والنشر والندوات، أو على صعيد بعض الممارسات العملية من خلال تشكيل بعض الهيئات الحقوقية، أو من خلال الإقتراب والتداخل مع المنظمات الحقوقية في العالم.
وقبل هذه الفترة كانت هناك بعض الكتابات الإسلامية حول هذه القضايا لكنها محدودة جداً، لا تكاد تشكل نسبة معتبرة. وقد ظهرت هذه الكتابات في النصف الثاني من حقبة السبعينات ويكشف لنا هذا التطور في الفكر الإسلامي المعاصر نحو الإهتمام بهذه القضايا، الأستاذ «حسنين توفيق إبراهيم» في دراسته التوصيفية «حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية مع التركيز على مصر» (42) حيث يكشف أن هناك زيادة نسبية في عدد الكتب التي تعرض لحقوق الإنسان في الإسلام. وهذه الزيادة على مستوى الكتابات الإسلامية ومقارنة بكتابات التيارات الأخرى.
ولقد كانت أمام الفكر الإسلامي بواعث كثيرة نحو الإشتغال بقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان والإهتمام بهما وإعطائها أهمية مميزة بما يفوق قضايا أخرى عديدة.
وفي مقدمة هذه البواعث أن المشرع الإسلامي خلال السنوات الماضية كان الأكثر إبتلاء بهذه القضايا من غيره من الإتجاهات الأخرى.
بالإضافة إلى أن هذه القضايا أصبحت تشغل إهتمام العالم كله، وتفرض حضورها دوماً مع ما يحصل في العالم من انتهاكات لحقوق الإنسان وتضييق على الحريات العامة.
والندوات الإسلامية التي عقدت حول هذا الموضوع خلال هذه الفترة التي نؤرخ لها تتقدم على أي موضوع آخر مما يؤكد إهتمام الفكر الإسلامي بهذه القضية الحيوية والإنسانية والتي كانت بحاجة إلى هذا الإهتمام الواسع والمكثف.
ثالثاً: لم تكن قضايا الحكم والدولة في الإسلام سابقاً تأخذ حيزاً مهماً من الإشتغال في الفكر الإسلامي إلا بنسب ثانوية، ولعلاقتها بموضوعات أخرى في أغلب الأحيان. والكتابات التي تناولت هذه الموضوعات في الفترة الماضية لاتكاد تشكل قيمة معرفية في مجموعها، مع أهميتها.
وهذا العزوف عن الإشتغال بهذه القضايا في أحد أسبابه الأساسية هو القطيعة بين العلماء والدولة، القطيعة التي ترتب عليها إخراج موضوع الدولة من الأبحاث الفقهية والتشريعية والقانونية إلا بعنوان الدولة الظالمة أو الجائرة وباهتمام قليل جداً. بالإضافة إلى أن الدول الموجودة في الديار الإسلامية لايصدق عليها عنوان الدولة الإسلامية حسب الفهم الذي كان سائداً.
هذه الأسباب وغيرها كانت وراء عزوف الكثير عن الإشتغال بقضايا الدولة في الإسلام، حيث لاموضوع لها مع إفتقادها ولا إبتلاء فيها.
وحينما أصبحت هذه القضايا مورد إبتلاء حقيقي مع إنبثاق دول إسلامية، وتنامي الدعوة للمطالبة بالدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، تبلورت دواعي حقيقية وبواعث عملية نحو الإشتغال بموضوعات الحكم والدولة والسلطة في الإسلام وظهرت كتابات كثيرة حولها كشفت لنا عن التطور في الفكر الإسلامي المعاصر.
ولاشك أنه لتطور كبير أن تنبثق في هذا العصر دول تتبنى الحل الإسلامي، ضخامة هذا التطور خلقت هزات شديدة في الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي وبالذات على الصعيد الشيعي الذي شهد تطورات أساسية على ضوء ذلك أبرزها:
ألف: من الآراء التي كانت مطروحة قديماً في الفكر الشيعي والفقه الشيعي الرأي الذي لايعطي شرعية لقيام دولة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي «ع» والذي هو الموكل بالقيام بهذه الدولة حسب هذا الرأي. وليست هناك شرعية عندئذ لدولة إسلامية، ولايجوز الدعوة إليها في غيبته. الأمر الذي يعتبره هؤلاء حسب فهمهم نوع من المنازعة والتهكم في حق الإمام الغائب. هذه الآراء تميل إلى السلبية والإحباط تراجعت وبلا عودة.
باء: تبلور نظرية ولاية الفقيه وهي من أهم نظريات الفكر السياسي الإسلامي الشيعي المطروحة اليوم. حيث يتسع الإشتغال بها بصورة كبيرة ومميزة في الدراسات الفقهية والأبحاث السياسية.
بعد أن كانت هذه النظرية ولزمن طويل لاتجد من يشتغل بها ويدعو إليها. فحينما طرح هذه النظرية الإمام الخميني في وقت مبكر في الدروس التي قدمها في النجف الأشرف والتي جمعت فيما بعد في كتاب «الحكومة الإسلامية» ودافع عنها بحماس كبير، لم تقابل هذه النظرية آنذاك باهتمام كبير بعكس ما هي عليه اليوم. وقد فتحت هذه النظرية آفاقاً واسعة في علاقة الفقهاء والعلماء بالحكم والدولة وهذا ما كان غائباً وينظر له من مواطن الحرج في العقود الماضية. ولازلت تحوم حول هذه النظرية سجالات فقهية ودستورية وسياسية..
جيم: موضوعات الدولة التي كانت تبحث في الدراسات الفقهية الشيعية فيما مضى كانت دائماً تدور تحت عناوين الدولة الجائرة والدولة الظالمة، والأحكام الشرعية كانت تتحدد وفق هذين العنوانين لغياب الدولة الإسلامية، العنوان الذي يسلب من الدول القائمة في العالم العربي والإسلامي والتي هي لاتدعي لنفسها هذا العنوان، ومع ضعف الإعتقاد في الأوساط الإسلامية بقيام دولة إسلامية. ومع قيام دولة إسلامية فقد ترتب على ذلك تنقيح أحكام فقهية كثيرة كانت مجمدة ومعطلة.
ومن التطورات الهامة في هذا الجانب دعوة بعض الجماعات الإسلامية إلى الدولة الإسلامية حتى من خلال الديمقراطية وصندوق الإقتراع، والإهتمام بإعداد برامج سياسية عند هذه الجماعات، وبلورة مشاريع للدستور الإسلامي، والإتجاه نحو المشاركة السياسية مع الأنظمة الموجودة إلى غير ذلك، فالإشتغال يتسع بقضايا الحكم والدولة والسلطة في الإسلام (43) .
رابعاً: حينما اقترب بعض المثقفين الإسلاميين الأكاديميين من العلوم الإجتماعية والإنسانية التي كان حقلاً عند البعض في دراساتهم وتخصصاتهم إكتشفوا أهمية هذه العلوم في تطوير المجتمع وإنمائه وتجديده والتقدم به كما إكتشفوا ما هو أخطر من ذلك وهو غربة الفكر الإسلامي عن هذه العلوم التي تهيمن عليها الثقافات الأوروبية وتقدمها على أنها علوم إنسانية عالمية. وإن الغرب بهيمنته على هذه العلوم الحيوية يقوم بأخطر أدواره الثقافية بعد أن أصبحت هذه العلوم مناهج في التعليم العالي والتخصص الأكاديمي. فوجد هؤلاء أن من الضروري إقتحام هذا الحقل بالتمكن أولاً من هذه العلوم وإستيعابها، ومحاولة إكتشاف ما عندنا من تراث إسلامي على علاقة مباشرة بهذه العلوم. وإبراز المعارف الإسلامية من المصادر الإسلامية القرآن والسنة في موضوعات هذه العلوم.
وكان من المهم هذا الإلتفات الذي تطور فيما بعد إلى جهد معرفي على درجة كبيرة من الأهمية، خصوصاً الجهد الذي نهض به «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» في واشنطن. حيث جعل من إسلامية المعرفة وإصلاح مناهج الفكر الإسلامي قضيته المعرفية الكبرى التي يرتكز حولها أنشطة المعهد من خلال منهجية علمية إسلامية.
وفي اعتقادي أن من أهم أولويات الإجتهاد والتجديد في نظام المعرفة الإسلامية، والمنهجية العلمية الإسلامية التجديد في مجالات العلوم الإنسانية. العلوم التي لانجد لها تأسيساً إسلامياً أصيلاً ومعاصراً، عميقاً وعلمياً، في المنهجية العلمية الإسلامية، المنهجية التي لاتتكامل إلا بتأصيل هذه العلوم وإستيعابها ومن غير هذا التأصيل فالضعف يظهر واضحاً في نظام المعرفة الإسلامية على مستوى النظرية والتطبيق.
من جهة أخرى لقد تأخرنا كثيراً في إنجاز هذا العمل، وظهرت مضاعفات هذا التأخير في التجارب التي كان فيها تنزيل القوانين والقيم على الواقع العملي. في حين أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة العلوم الإجتماعية والإنسانية لأن فلسفتها هو الإنسان والمجتمع والحضارة. مع ذلك فإن أعمق نقص في الثقافة عن الإسلاميين هو النقص الواضح في العلوم الإجتماعية الذي سبب إرباكاً وخللاً في النظام المنهجي والبنية المعرفية الإسلامية (44) .
مع ذلك (فإن الحديث عن اسلامية المعرفة لايزال يقابل باستنكار، فلايكاد الإنسان يطرحه في محاضرة أو مقالة إلا ارتفعت عشرات الأصوات تعترض، ما للمعرفة والإسلامية؟ فإن المعرفة واحدة مهما كان مصدرها، وهي ملك للبشرية جميعاً بمختلف مللها ونحلها، أتريدون أن تحشروا الإسلام في كل شيء! والعلوم لاتخرج في حقيقتها عن جهود إنسانية تجريبية، وخبرات أفراد ومجتمعات في جوانب الحياة المختلفة تقوم على مناهج علمية محددة ثابتة لايؤثر فيها دين العالم ولامذهبه فلماذا يزد الإسلام في هذا؟ وهو دين مجرد يحدد علاقة الفرد بربه، ويزكي سلوك الإنسان أما المعرفة فهي موروث إنساني مشترك يحمل صفة العالمية والتطور. وقد تكون الإشكالية التي حالت دون إدراك المطلوب لحقيقة المشروع فيما نعتقد كامنة في العجز عن التفريق بين العلم ومنطلقاته وهدفه وحكمته وقيمه التي أورثها الإستلاب الثقافي (45) .
كما أن هذا الإستنكار لايفرق بين العلم والثقافة، بين ما هو حيادي تجريدي جازم، وما هو متميز سلوكي متطور. وهي الفروقات التي بين العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية.
وهذا المسار في الفكر الإسلامي المعاصر أخذ اهتمامات متعددة بين من ركز على إسلامية الأدب، أو إسلامية الإقتصاد، أو إسلامية علم النفس، وعلم الإجتماع. وهكذا في العلوم الإنسانية والإجتماعية الآخرى.
ولاداعي لما يطرحه البعض من حساسية تجاه هذا الربط بين الإسلامية وهذه العلوم إذا التزمت هذه الدراسات بالضوابط العلمية والإحكام المنهجي. والدراسات التي بحثت في هذا الحقل على قلتها إلا أنها سدت فراغاً مهماً في منظومة الأفكار الإسلامية.
خامساً: من المفاهيم التي أخذت حضوراً واسعاً في الخطابات الإسلامية المعاصرة مفهوم «المشروع الحضاري» الذي يعبر عنه البعض كتطلع، والبعض الآخر كتحدي، وهناك من يدعو للحوار حوله، لبلورته وتحديد مفهوميته ومكوناته المعرفية.
وسبق وأن بحثت في دراسة سابقة تاريخ تطور الأفكار في العالم الإسلامي، فوجدت أن في فترات تاريخية متعاقبة هناك ما يشبه السيادة لبعض الأفكار الكبرى التي كانت على إرتباط وثيق بطبيعة كل مرحلة ونوعية المتغيرات فيها واتجاهات التأثير عليها. فمع حركة السيد «جمال الدين الأفغاني» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برز مفهوم «الجامعة الإسلامية» رداً لما كان يتعرض إليه العالم الإسلامي من تمزق وتفرقة وتجزئة. ومع النصف الأول من القرن العشرين برز مفهوم «شمولية الإسلام» التي عبرت عنه باهتمام كبير أدبيات الإسلاميين المصريين، وذلك رداً على إنهيار الخلافة العثمانية في عام 1924م، وعلى ما كان يطرح من فصل الدين عن السياسة والمجتمع والدولة. وفي النصف الثاني من القرن العشرين برز مفهوم «الحل الإسلامي» الذي طرح بعد هزيمة حزيران يونيو 1967م، رداً على تراجع الإيديولوجيات الفكرية التي تبنتها الدولة العربية الحديثة بعد الإستقلال كالإشتراكية والعلمانية وغيرها. ومع الإنبعاث الإسلامي في عقد الثمانينات وتبلور مفهوم الدولة الإسلامية برز مفهوم «المشروع الحضاري» والذي هو تفصيل مناهج الحل الإسلامي وتقديم الإسلام كأطروحة حضارية (46) .
ولاشك أن سيادة هذا المفهوم في هذا الوقت يحمل دلالات ترتبط بالمضامين التي يختزلها هذا المفهوم وبالتطلعات التي يعبر عنها الفكر الإسلامي في هذا الوقت.
إلى جانب تلك التطورات كانت هناك بعض الأفكار والقضايا التي لم يتقدم تجاهها الفكر الإسلامي بقدر ما كان متعثراً في بعض الحالات، ومتوقفاً في حالات أخرى، ومتحرجاً في حالات. وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه المشتغلون في الفكر الإسلامي لتقديم معالجات جديدة حولها.
وقبل الحديث عن هذه القضايا نشير إلى ظاهرة تركت تأثيرها على حركية الفكر الإسلامي وتطوراته فما إن استقبل العالم الإسلامي مرحلة حساسة وخطيرة مع بداية عقد الثمانينات والتي بدأت معها سلسلة من التطورات المتلاحقة والحرجة والهامة. وقبل هذه المرحلة وفي غضونها فقد العالم الإسلامي نخبة من كبار المفكرين الذين كان من التأكيد أن يكون لهم تأثير فكري مهم على تطورات الفكر الإسلامي في علاقته بالمتغيرات الجديدة والمستجدات حصلت لاحقاً. ومن هؤلاء «مالك بن نبي» [1973م]، و «علي شريعتي» [1977م]، و «أبو الأعلى المودودي» [1979م]، و «مرتضى المطهري» [1979م]، و «السيد محمد باقر الصدر» [1980م]، و «السيد حسن الشيرازي» [1980م]، و «السيد موسى الصدر» [1980م]. هؤلاء الذين عرفوا بعطائهم الفكري المميز والجاد، و كان لهم التأثير الفكري الواضح على العالم الإسلامي. فهم من رواد النهضة والتجديد والإصلاح في الأمّة. غيابهم جاء في وقت كان فيه العالم الإسلامي المعاصر في أشد الحاجة إليهم. لكنه القضاء والقدر. ومن القضايا التي تمثل تحديات أمام الفكر الإسلامي المعاصر والتي بحاجة إلى مزيد من الإهتمام بها والتعمق بدراستها وإعطائها حظها من العناية المعرفية.
أولاً: لازالت التورات التي مرت على الفكر الإسلامي المعاصر لايعيشها ولا يتعاطى معها إلا فئة قليلة جداً هي فئة المثقفين والمشتغلين بقضايا الفكر والثقافة، وبعيدة عن إدراك وتعامل جمهور الأمّة. وهذا مما يفقد هذه التطورات حيوية كبيرة. والذي هو أحد أهم إشكاليات الواقع الإسلامي والفكر الإسلامي، حيث أن العلماء والمفكرين لايشكلون إلا بنسبة ضئيلة لاقياس لها مع تعداد الجمهور وليست لها زيادة ملحوظة. وهذا النقص يخلق فجوة عميقة وواسعة تعرقل نهضة الفكر والثقافة في العالم الإسلامي.
من جهة أخرى إن تطورات الفكر الإسلامي لاتجد لها إهتماماً وتفاعلاً من جهة الدولة ومؤسساتها وخططها ومشاريعها في العالم العربي والإسلامي، ولاتستفيد منها ومن حيويتها وفاعليتها الثقافية في إنماء وتطوير المجتمع والدولة.
ثانياً: قضايا المرأة في الفكر الإسلامي لازالت تعاني من إلتباسات صعبة وحرجة، بعد أن دخلت على هذه القضايا أعراف وتقاليد وموروثات وأساطير وغير ذلك. حتى بات من الصعب أن نميز رؤية الإسلام الأصيلة حول المرأة وقضاياها. والمرأة المسلمة لاتجد في هذا الواقع الذي نعيشه ما يحفزها على النمو والنهوض، والذي يؤثر أيضاً على نهضة وتقدم المجتمع برمته.
ثالثاً: إن من أهم عيوب الفكر الإسلامي تلك التي تبرز في قضايا الحوار والتعددية والإختلاف في الداخل الإسلامي. فلازالت هذه القضايا تمثل تشنجات حادة في الواقع الإسلامي، تدفع بالكثير إلى أن يتحرج من الإقتراب منها. في الوقت الذي يرتفع هذا الحرج مع الجهات الأخرى ويتقدم الحوار معها، كالحوار الإسلامي ـ المسيحي، أو الحوار الإسلامي ـ القومي، أو حتى الحوار الإسلامي ـ العلماني.
وبالتأكيد فإن هذا لايعني بأي حال من الأحوال التحفظ على هذه الحوارات أو الإعتراض عليها. وإنما نريد أن نكشف عما يحيط بالحوار الإسلامي ـ الإسلامي من حساسيات وتشنجات تجعل من البعض يهرب من هذه القضايا ولايقترب منها. وهكذا في قضايا التعددية والإختلاف فلا نزال نسلب من الآخر الإسلامي حقه في التعددية والإختلاف والذي يعني سلب حقه في العقل والتفكير والإجتهاد. يضاف إلى ذلك القطيعة الثقافية بين الفكرين الإسلاميين السني والشيعي، فلا مانع عند البعض أن تأخذ من ثقافات الغرب ما تشاء لكن أن يأخذ السنّي من فكر الشيعي أو العكس فهذا ما يتعامل معه البعض بحرج، وحرج شديد عند بعض آخر.
رابعاً: قضايا التربية والتعليم والبحث العلمي في البلاد العربية والإسلامية من أشد الهموم التي بحاجة إلى اهتمام مكثف من الفكر الإسلامي. فلا نزال ندافع عن حماية الحد الأدنى من التعليم ومكافحة الأمية التي لم نستطع أن نسيطر عليها بعد. وهذا يتطلب رفع مستوى الوعي عند الناس في كيفية التعامل مع التعليم والنظر إليه.
والغريب حقاً أن عندنا من الدين حول العلم والتعليم ما يتناقض كلياً مع ما نعيشه من أوضاع في حقول التربية والتعليم. وما لم نتقدم خطوات باتجاه العلم فلن نتقدم خطوات باتجاه الحضارة.
خامساً: قضايا التنمية والإنماء هي الأخرى بحاجة إلى إهتمام من الفكر الإسلامي. فالفقر والحرمان وانسداد أبواب الرزق هي منýأخطر المشكلات الإجتماعية والإقتصادية في البلاد العربية والإسلامية.
سادساً: في الوقت الذي ينشغل العالم بالإسلام وهناك من يتقصد تشويهه وإخافة العالم من صعوده وتقدمه، لم نستطع نحن أن نقدم الإسلام على نطاق عالمي. وفي هذا الجانب تبرز قضايا العلاقة بين الغرب والإسلام وقضايا حوار الحضارات وتعارفها. ومشكلة العلاقة بين الغرب والإسلام هي من أكبر القضايا الفكرية والحضارية على مستوى العالم.
إلى جانب هذه القضايا هناك مشكلات التعامل مع التراث وأزمة التخلف والأزمة الثقافية وهي من الأمور التي بحاجة إلى إهتمام في الفكر الإسلامي المعاصر.
وفي الختام فإن ما نتوصل إليه أننا أمام فترة يمكن أن نؤرخ فيها لمرحلة جديدة في مسار الفكر الإسلامي حيث تحيط به التطورات والمتغيرات من كل جانب تفرض عليه أن يكثف إشتغالاته، وأن يجدد في منهجياته بما يستوعب المستجدات المعاصرة التي تراكمت عليه حتى شكلت ما يسمى عند البعض منطقة فراغ واسعة، وأن يحرك قدرته الإجتهادية والتجديدية بما يضمن له الحضور بعد زمن الغياب.
وما توصلنا إليه أن الفكر الإسلامي أخذ مسار الحركة، وبدأ يتقدم في بعض الجوانب، وتعثر في جوانب أخرى، ولازالت تنتظره مهام كثيرة، منها تراكمات من الماضي، ومنها مستجدات من الحاضر، ومنها تحديات وآفاق من المستقبل.
إنني لا أجزم في هذا العمل الإحاطة بكل تطورات الفكر الإسلامي ومساراته المعاصرة، أو تحدياته ومعوقاته. لكنني أجزم الإحاطة بجوانب رئيسية وهامة في هذه التطورات.
1ـ أنظر صدام الحضارات. مجموعة من الباحثين، بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1995م، ص 84-25 .
2ـ من محاضرة ألقاها إدوارد سعيد في بريطانيا،بعنوان «صراع الحضارات أو خلافات في التعريف» أنظر جريدة الحياة (لندن) العدد 11686، 17 فبراير 1995م.
3ـ صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب في بيروت بدون ذكر الناشر، ترجمة: م. محمد مصطفى مازح، 1993م، والمؤلف هو سفير ألمانيا في المغرب.
4ـ صدر الكتاب عن دار الإيمان في بيروت، ترجمة: عبد المجيد بارودي، 1983م.
5ـ صدر الكتاب عن دار الشروق بالقاهرة، بالتعاون مع مجلة النور الكويتية، ودار بافاريا الألمانية، 1994م.
6ـ صدام الحضارات، مصدر سابق، ص 57-62.
7ـ انظر جريدة الحياة (لندن) العدد 11798، 12 يونيو 1995م. قراءة في تقرير فرنسي عن العلاقات الدولية الجديدة، قيس جواد العزاوي.
8ـ الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين. د. شوقي أبو خليل، بيروت: دار الفكر المعاصر، 1995م، ص 10. انظر Tyenew York Times INTERNATIONAL، Wednesday ، January 32، 1991.
9ـ أنظر الحركة الإسلامية ومعالم المنهج الحضاري، زكي الميلاد، بيروت: دار البيان العربي، 11991م، ص 25.
10ـ محاور إسلامية، راشد الغنوشي، الخرطوم: بيت المعرفة، 1989، ص 27.
11ـ انظر الإستشراق في أفق انسداده. د. سالم حميش، الرباط: منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1991م، ص 7.
12ـ المستقبل العربي. (لبنان) العدد 108، 2/1988م.
13ـ انظر ورقة «مركز دراسات الشرق الأوسط في الغرب وإهتمامها بالمسلمين» أعدها: د. صالح بن حمد الصقري، مقدمة لمؤتمر «المسلمون في الغرب» عقد في لندن عام 1993م. راجع جريدة الشرق الأوسط (لندن) العدد 5448، 28/10/1993م.
14ـ انظر جريدة الحياة (لندن) العدد 117903، 24 سبتمبر 1995م.
15ـ انظر جريدة الحياة (لندن) العدد 11790، 3 يونيو 1995م.
16ـ حول هذه الآراء والمناقشات انظر «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، المنهج وأزمة النقد الإسلامي» زكي الميلاد، البصائر (لبنان) السنة الرابعة، العدد 8، صيف 1992م.
17ـ الثقافة الرسالية. أحمد ناصر، بيروت: دار التوجيه الإسلامي، بدون تاريخ، ص 3.
18ـ الحريات العامة في الدولة الإسلامية. راشد الغنوشي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م، ص 142.
19ـ انظر الفكر الإسلامي المعاصر نظرات في مساره وقضاياه. قيس خزعل العزاوي، بيروت: دار الرازي، 1992م.
20ـ انظر الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج. د. طه جابر العلواني، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1993م.
21ـ الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات. منير شفيق، بيروت: دار الناشر، 1991م. ص 30.
22ـ انظر الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد. زكي الميلاد، بيروت: دار الصفوة، 1994م.
23ـ انظر إصلاح الفكر الإسلامي: ورقة عمل. د. طه جابر العلواني، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1991م.
24ـ انظر مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية. د. يوسف القرضاوي، بيروت:/ مؤسسة الرسالة، 1993م.
25ـ انظر إحياء الفكر الديني. الشيخ مرتضى مطهري، بيروت: دار التعارف، 1989م.
26ـ انظر التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده. السيد محمد تقي المدرسي، طهران: إنتشارات المدرسي، ج2.
27ـ انظر تجديد أصول الفقه الإسلامي. د. حسن الترابي، بيروت: دار الجيل، 1980م.
28ـ السفير (لبنان) السنة الثانية والعشرون، العدد 7224، الإثنين 30 أكتوبر 1995م.
29ـ الكتاب من إصدار المؤسسة الدولية للدراسات، بيروت، 1994م.
30ـ صدر الكتاب عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، 1992م.
31ـ صدر الكتاب عن دار الشروق بالقاهرة.
32ـ صدر الكتاب عن مؤسسة الرسالة في بيروت، 1993م.
33ـ صدر الكتاب عن مؤسسة الرسالة في بيروت، 1985م.
34ـ الكتاب هو مجموع أعمال ندوة أشرف عليها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع المؤسسة المتحدة للدرسات، عقدت بواشنطن في الفترة ما بين 19-21 يوليو 1991م. جمع أعمالها أحمد يوسف.
35ـ سورة المائدة.
36ـ ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، عقدت هذه الندوة في البحرين في الفترة ما ين 22-25/2/1985م، صدر الكتاب عن مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1987م، ص 449.
37ـ الفكر الحركي الإسلامي وسبل تجديده، أبحاث وتعقيبات الندوة الثانية لمستجدات الفكر الإسلامي والمستقبل، الكويت: الأمانة العامة للأوقاف، 1993م، ص 311.
38ـ الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية وأزمة الخليج. مصدر سابق، ص 412.
39ـ صدر الكتاب في بيروت عن دار الجيل، 1984م.
40ـ الحركة الإسلامية قضايا وهموم. السيد محمد حسين فضل الله، بيروت: دار الملاك، 1990م. ص 5.
41ـ الكتاب من إصدار وإعداد وتقديم د. عبد الله النفيسي، الكويت، 1989م.
42ـ منبر الحوار (لبنان) السنة الثالثة، العدد 9، ربيع 1988م، حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية: مع التركيز على مصر. حسنين توفيق إبراهيم، ص 74.
43ـ إنظر مصادر الدراسة عن الدولة والسياسة في الإسلام، عبد الجبار الرفاعي، طهران: منظمة الإعلام الإسلامي، 1986م.
44ـ الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، مصدر سابق، ص 369.
45ـ إصلاح الفكر الإسلامي بين القدرات والعقبات. مصدر سابق، ص12.
46ـ انظر الكلمة (لبنان) السنة الثانية، العدد 7، ربيع 1995م. مقدمات في صياغة المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر زكي الميلاد.