التغيير والتطور سنّة من سنن الله في خلقه. والإنسان، أرقى مخلوقات الله، المكرم بنعمة العقل، لا يفتئ يتطلع نحو الجديد. ومنذ خلق الله هذا الإنسان على وجه البسيطة، وهو يسعى إلى تطوير أدواته وتحسين سبل عيشه بما يكفل له المزيد من الراحة والمتعة مادياً ومعنوياً، وهكذا فلا يكاد يفتح باباً جديداً في مجال من المجالات، حتى تتراءى له من خلالها أبواباً أخرى تغريه باقتحامها لاكتشاف أسرارها والانتفاع بما ورائها.
يد أن هذه الحركة، حركة التطور المستمر والتغيير المتواصل ليست حركة تلقائية وبريئة لأن المتحكم فيها هو الإنسان المحكوم هو الآخر بمصالحه الذاتية التي تمليها اعتباراته الشخصية أو الوطنية أو الدينية أو العرقية، ومن ثمة فإن حركة التطور والتغيير لا بد أن تكون حركة صراع وتدافع بين قوى تختلف اتجاهاتها وتتضارب مراميها إلى هذا الحد أو ذاك إذ يترجم هذا الاختلاف وهذا التضارب في أشكال عدة تتراوح بين التنافس الفكري والسياسي والتطاحن العسكري. وفي تقديرنا فإن ما يسمى اليوم بالعولمة ليس إلا مستوى من مستويات هذا التطور الذي بلغته البشرية (1) في صراعها الطويل والمرير بين مختلف القوى الفاعلة فيها. ولا جدال في أن الغلبة في هذا المستوى من التطور هي للغرب بكل مكوناته (أوروبا أمريكا واليابان) على حساب باقي الاتجاهات الإنسانية الأخرى خاصة منها الإسلامية. الأمر الذي يجعل المسلمين اليوم أمام تحديات مصيرية تفرض َ عليهم ليس فقط حماية الذات المهددة حضارياً (فكرياً اقتصادياً...) ولكن أيضاً أن يقتحموا عقبة المواجهة لتأكيد وجودهم الحضاري وإسماع صوتهم انسجاماً مع روح الإسلام الذي لا يرضى بديلاً عن العزة والكرامة لأهله. فما طبيعة هذه التحديات التي تثيرها مقتضيات العولمة أمام المسلمين اليوم؟ وما هي شروط الاستجابة الإيجابية والفاعلة التي علينا كمسلمين أن نوفرها حتى تصبح تلك التحديات حوافز تثير فينا هممنا بدل أن تكون مثبطات تكرس فينا عجزنا؟ هذا المقال محاولة لإعطاء بعض عناصر الإجابة على هذين التساؤلين العريضين. وذلك بعد إلقاء بعض الضوء على مفهوم العولمة والظروف التي تمخضت عنها (1) .
لعل العولمة (2) هي المصطلح الذي يحتل الصدارة اليوم في التداول ليس فقط على النطاق الفكري الأكاديمي ولكن أيضاً على المستوى الثقافي والإعلامي بشكل عام. بل أن العولمة باتت من مفردات الخطاب الشعبي اليومي لكافة الشرائح الاجتماعية على اختلاف مستوياتها الثقافية. فما هي إذن هذه العولمة التي شغلت الناس؟ كيف ظهرت؟ وما هي تجلياتها ومضاعفاتها؟
محاولة في التعريف:
كتعريف مبسط للعولمة نقترح ما يلي: تمثل العولمة هذا التداخل الكثيف في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين مختلف دول العالم والذي أصبح من المستحيل ضبط تأثيراته والتحكم فيه بالإجراءات التقليدية كإغلاق الحدود وقطع العلاقات الدبلوماسية مثلاً.
فالعلاقات الدولية اليوم لم تعد تقتصر فقط، كما كان عليه الأمر من قبل، على العلاقات التجارية (استيراد وتصدير) والدبلوماسية (تبادل البعثات) أي تلك العلاقات التي كانت تقررها الدول بكامل إرادتها في إطار ممارستها لسيادتها على شعوبها وبلدانها، بل أصبحت اليوم، بفضل التقدم الهائل لوسائل المواصلات وتكنولوجيا والاتصالات، تتخطى كل الحدود وتحطم كل القيود لتفرض نفسها على كل المستويات الحساسة بعيداً عن أية مراقبة من أي نوع كانت، وهكذا فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً أصبح بإمكان رجال المال والأعمال في أية دولة أن يتواصلوا مع نظرائهم في الدول الأخرى وأن يصدروا لهم ويستوردوا منهم دون مغادرة بلدانهم بل عبر مكاتبهم وذلك نتيجة ما حققته تقنيات الإعلاميات من فتوحات عظيمة في مجال الاتصال. وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي فإن أجهزة الأقمار الاصطناعية اختصرت المسافات الشاسعة بين شعوب المعمورة، وإماطة اللثام عن الكثير من خصائص بلدانها وتقاليدها فضلاً عن أوضاعها السياسية وظروفها الاقتصادية ومنزلة كل واحدة منها داخل منظومة دول العالم.
كيف جاءت العولمة؟
إن ثورة الاتصالات هي روح عصر العولمة وعمودها الفقري. ولا يمكن إدراك أبعاد هذه الثورة إلا بإدراجها في إطار أشمل هو الثورة التكنولوجية والعلمية بشكل عام أو ما يسميه توفلر بـ «الموجة الثالثة» والتي يقصد بها نمط حضاري جديد قوامه العلم والمعرفة (3) ولا تمثل هذه الموجة الثالثة قفزة نوعية في تطوير وسائل الإنتاج فقط، بل أيضاً مرحلة جديدة في حياة الرأسمالية التي يحدد المختصون أطوارها في المراحل التالية (4) :
أولاً: الرأسمالية التجارية (خلال القرنين 16 و17) وقد تميز النشاط التجاري في إطار ما سمي بـ «الاكتشافات الجغرافية الكبرى» التي تمكنت خلالها القوى الأوروبية من دخول بلدان عديدة استنزفوا خيراتها الطبيعية لصالح بلدان أوروبا الصاعدة. فقد استوردوا «الأخشاب الثمينة والعاج والذهب من إفريقيا عبر تجار المغرب العربي. واستوردوا من الصين على طريق الحرير الشهير وعبر تجار من الإيرانيين وعرب الشام واستوردوا من الهند وجنوبي آسيا عبر حضر موت واليمن ومصر» (5) .
ثانياً: الرأسمالية الصناعية (خلال القرنين 18 و19) خلال هذه المرحلة لعبت الصناعة دوراً حاسماً في تطوير المجتمعات الأوروبية. وأهم إنجازات هذه المرحلة على السواء هو استبدال القوة العضلية (إنسانية أو حيوانية) بقوة الآلة. وقد أدى اكتشاف واستعمال هذه الطاقة الجديدة إلى الرفع من إنتاجية العمل خاصة في الميادين الصناعية كإنتاج الصلب والنسيج والطاقة...
ثالثاً: الرأسمالية المالية (1850 ـ 1914) رغم أن هذه الفترة واكبت مزيداً من التطور الصناعي إلا أن المؤسسات المالية باعتبارها مصدر التمويل لهذا القطاع ولغيره، أصبحت هي العمود الفقري للنظام الرأسمالي. فقد نشطت بنوك الأعمال التي كانت تحقق أرباحاً طائلة من خلال «تأسيس المشروعات وإصدار الأوراق المالية ومنح القروض للدولة ورجال الصناعة والأعمال... وهكذا صارت الرأسمالية المالية تعيش جزئياً من توظيف رأس المال أكثر من استثماره، أي على ريع الأوراق المالية أكثر من ربح المشروعات الإنتاجية» (6) .
رابعاً: الرأسمالية ما بعد الصناعة أو الثورة التكنولوجية: والتي بدأت معالمها تتأكد أكثر فأكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتتميز هذه المرحلة بالمكانة التي أصبح يحتلها البحث العلمي التطبيقي في التنمية الاقتصادية. فإذا كانت الآلة أو المكننة قد جاءت ـ إبان الثورة الصناعية ـ لتحل محل الطاقة العضلية فإن الثورة التكنولوجية الحديثة تسعى لاستبدال الطاقة الذهنية للإنسان باستعمال العقول الإلكترونية في تسيير وتدبير عمليات الإنتاج. وهذا ما يفسر تزايد أهمية ما يسمى بالقطاع الثالث والقطاع الرابع بالنسبة لإقتصاديات الدول المتقدمة مقارنة بالقطاعات التقليدية (الفلاحة، الصناعة..)
في هذه المرحلة المتقدمة من تطور النظام الرأسمالي تندرج العولمة باعتبارها مظاهر اقتصادية اجتماعية وسياسية لإنجازات علمية وتكنولوجية.
على المستوى الاقتصادي:
كانت الرأسمالية منذ نشأتها نظاماً ذا نزعة توسعية. وتزداد حدة هذه النزعة كلما تطورت قوى الإنتاج وتضاعفت إنتاجيتها، إذ تضيق بها الحدود الوطنية ولا تجد متنفسها إلا داخل إطار أوسع هو الإطار الدولي. وقد ساعد تقدم وسائل المواصلات والاتصال على تدويل المجال الاقتصادي إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً. كما لعبت الشركات متعددة الجنسيات دوراً طلائعياً في عملية التدويل هذه خاصة من خلال إعادة توطين الصناعات التقليدية على مستوى بلدان الجنوب وبالأخص تلك التي تجمع بين مستويات أجرية منخفضة والانضباط الصارم للعمال مع ارتفاع نسبي لإنتاجية العمل (7) كما هو الحال بالنسبة لدول جنوب شرق آسيا. كما أن التدويل الاقتصادي لم يعد يقتصر فقط على ترحيل المشاريع الإنتاجية على نطاق دولي فحسب، بل إن الإنجازات التكنولوجية أصبحت الآن تسمح بنقل جزء فقط أو أجزاء من العملية الإنتاجية وتوزيعها على فضاءات دولية مختلفة بحسب الامتيازات التي يمنحها كل فضاء وكذا الشروط التي يوفرها..
على المستوى الاجتماعي والثقافي:
أدى التواصل المباشر وغير المباشر بين الشعوب إلى انفتاحها على بعضها ومكن هذا الانفتاح من التعريف بخصوصيات الثقافات الوطنية والمحلية. وقد تمخض عن هذه الحالة ميلاد وتطور توجهان ثقافيان، هما في الظاهر متناقضان، غير أنهما في العمق منسجمان:
فمن جهة هناك ما يمكن الاصطلاح عليه بتيار «الثقافة العالمية» التي تلتقي في إطارها كل التوجهات والحساسيات القومية واللغوية والدينية دون تمييز. وتتأسس هذه الثقافة ذات البعد العالمي على قاعدة من القضايا التي يفترض أنها تهم كل الجنس البشري دون استثناء. ويتعلق الأمر بقضايا السلام والبيئة وحقوق الإنسان والتنمية...
بالموازاة مع هذا التوجه أو كرد فعل له، بدأت تطفو على السطح تيارات ثقافية تتبنى المحلية في طرحها السياسي وتؤكد على الخصوصيات العرقية واللغوية والإثنية. وتتراوح مطالب هذه التيارات بين الاعتراف الرسمي بها كمكوّن من مكونات الثقافة الوطنية والكفاح السياسي أو العسكري من أجل استقلالها وتقرير مصيرها.
في ظل عولمة العلاقات الاقتصادية والسيوثقافية بدأ سلطان الدولة القطرية يسجل تراجعات مهمة خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. فقد أصبح منطق السوق هو الحاكم والحاسم وعادت «اليد الخفية» (8) لتكون لها الكلمة الفصل في كل القضايا العامة بدل تخطيط السلطات العمومية، إن أهم اعتبار بات يحسب له ألف حساب هو المردودية. وهذه لا تقاس إلا داخل السوق باعتباره أداة التوظيف الأمثل للموارد. إن الاعتبارات القومية، فضلاً عن الإنسانية والأخلاقية هي آخر اهتمامات الشركات المتعددة الجنسيات التي تخطط من أجل الربح على المستوى العالمي. وقد أصبحت هذه الشركات شبه مستقلة عن الدولة. إذ لم تعد بحاجة إليها إلا باعتبارها شريكاً أو زبوناً لها لا غير. فعلى المستوى الأمني مثلاً، تعتمد الشركات الكبرى على وحداتها الأمنية الخاصة بدل الشرطة الرسمية كما بدأت تستغني عن القضاء فيما يخص قضاياها التجارية وذلك بالالتزام سلفاً بإجراءات التحكيم فيما بينها، ولم يعد معظمها بحاجة إلى مؤسسة البريد باستخدامها للفاكس أو اللجوء إلى شركات البريد الخاصة (9) .
وبإجمال فإن التصور الليبرالي الكلاسيكي لدور الدولة هو الذي يتأكد يوماً بعد يوم. ويقوم هذا التصور كما هو معروف على الاقتصار على دور الدركي أي حماية الحدود الخارجية وتوفير الأمن الداخلي.. بل حتى هذه الأدوار التقليدية للدولة باتت في زمن العولمة أقرب ما تكون إلى مظاهر رمزية للسيادة منها إلى أدوار طلائعية وحاسمة كما كان الشأن إبان المراحل الأولى للرأسمالية.
ومن الناحية الاجتماعية فإن زمام الضبط الأيديولوجي والتأطير الثقافي بدأ ينفلت من الدولة بعد أن أصبح مواطنوها على اتصال بما يموج به العالم الخارجي من أنماط التفكير وأساليب الحياة وذلك عبر مختلف وسائل الإعلام خاصة القنوات الدولية الفضائية التي باتت في متناول أدنى الطبقات الاجتماعية.
هذه بإجمال بعض تجليات العولمة وتلك لمحة عن الظروف التي تمخضت عنها. فما هي إذن طبيعة التحديات التي تطرحها بالنسبة لنا كمسلمين؟
لعل تساؤلات عديدة قد تتبادر إلى الذهن عند هذه النقطة بالذات وذلك من قبيل:
لماذا نصرّ على اعتبار إنجازات العولمة تحديات لنا؟
لماذا لا نتعامل معها كمكاسب إنسانية ونستثمرها لخدمة قضايانا المصيرية؟
بل هل لنا الاختيار أصلاً في قبول نتائج العولمة وقد أصبحت قدراً محتوماً من العبث تجاهله؟
بدءاً تجب الإشارة إلى أننا كمسلمين لم ولن نكون أبداً ضد الانفتاح على الآخر والتواصل معه لأن روح الإسلام روح إنسانية: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} تتخطى حواجز الأوطان والأجناس والألسنة بل وحتى الأديان {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (الحجرات / 13) غير أن هذا الانفتاح له شروطه وحدوده، وأولى تلك الشروط أن يقوم الانفتاح والتواصل على الحوار لا على إلغاء أو الاحتواء: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سبأ ، 24) وهو ما يعني أيضاً الحرص على موضوعية الحوار الذي لا ينبغي لأي طرف أن ينطلق فيه من أفكار مسبقة، أو من موقع استعلاء واستكبار. أما الحدود فيأتي على رأسها احترام الثوابت العقدية وعدم التعرض لها بالاستخفاف أو الاستهزاء {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره...} (النساء ، 139) حينما لا يستجيب الانفتاح لهذه الشروط ولا يحترم هذه الحدود ويكون فوق ذلك مفروضاً، فإنه لا بد أن يصير عندئذ تحدياً بل استفزازاً.
إن العولمة تمثل تحدياً حقيقياً للشعوب المسلمة ولعموم الشعوب المستضعفة، ليس فقط لأنها مفروضة عليهم، بما هي نتاج لحضارة غير حضارتهم، ولكن لكونها تهدد في الصميم كيانهم المعنوي بل وربما كيانهم الحقيقي أيضاً. وبإجمال يمكن أن نختزل هذه التهديدات في المستويات التالية:
أولاً على الصعيد الاقتصادي:
1 ـ من حيثيات العولمة السعي نحو توحيد السوق العالمية بإلغاء الحواجز الجمركية وغير الجمركية بين البلدان، فضلاً عن تطوير ما يمكن تسميته بـ «السوق الخفية» الممثلة في عمليات البيع والشراء التي تتم بالطرق غير المباشرة، خاصة عبر وسائل الإعلام، وهي سوق تتطور باضطراد ملحوظ على المستوى العالمي. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن «قانون السوق» (حرية العرض والطلب) هو الذي يحدد لكل طرف مكانته الحقيقية داخل السوق. ويقوم هذا القانون على دعامتين أساسيتين هما: الجودة والثمن. ولأن الدول الرأسمالية المتقدمة قطعت أشواطاً طويلة في المجال التنموي حققت خلاله تراكمات معتبرة في مختلف القطاعات الإنتاجية، فإنها توجد اليوم في موقع قوة بالنسبة لبلدان الجنوب التي ما تزال في عمومها عاجزة عن تحقيق انطلاقتها في طرق التنمية، ومنها من لم يحسم بعد حتى في اختياراته الاستراتيجية، فما مصير اقتصاديات «البلدان النامية"، والعالم الإسلامي جزء منها، حينما تلغى جميع الحدود وترفع كل الحواجز أمام سلع وبضائع الشركات الأوروبية والأمريكية واليابانية لتغزو الأسواق العربية والإسلامية وأسواق الجنوب عامة؟ لا جدال في أن القدرة التنافسية ال كبيرة التي تتمتع بها منتوجات الدول المتقدمة (جودة عالية + أثمان متناسبة) ستشكل الضربة القاضية لما تنتجه بلداننا من سلع وخدمات كان معظمها إلى حين قريب ـ ومنها من ما زال ـ يتمتع بالحماية الجمركية وبالدعم المالي من طرف الدولة في شكل إعفاءات جبائية ونحوها. فهل سيعيد التاريخ نفسه وتدمر منتجات الدول الرأسمالية المتقدمة البنيات الصناعية الوطنية للدول النامية كما دمرت من قبل بنيات صناعتها التقليدية إبان التدخل الاستعماري جاعلة بذلك حداً لنموها الطبيعي وتطورها الذاتي؟
إن المواطن / المستهلك في بلدان الجنوب بشكل عام لا يتردد في اختيار المنتوجات الأجنبية إياها عن المنتوجات الوطنية، وذلك لاعتبارات يتداخل فيها ما هو سيكولوجي بما هو سياسي واقتصادي. وهناك من سيعتقد أن هذه وضعية إيجابية على كل حال طالما أن المستفيد في النهاية من المنافسة هو المواطن / المستهلك لكونه سيدفع أقل مقابل سلع وخدمات ذات جودة أكبر. إلا أن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. فالمستفيد الأول هو الشركات الأجنبية، لأنها تبيع أكثر، وبالتالي فالرابح الأكبر هو اقتصاديات الدول الرأسمالية المتقدمة فيما تبقى «استفادة» مستهلكينا فردية وآنية، إذ على مستوى الأمة ككل وعلى المدى البعيد فإننا نحن أكبر الخاسرين.
ومجمل القول فيما يخص هذه النقطة أن العلاقة مع الدول الرأسمالية المتقدمة لا بد أن تكون لصالح هذه الأخيرة نظراً لموازين القوى التي تخدمها، بحيث هي التي تحدد طبيعة العلاقات معها على ضوء مصالحها الحيوية داخلياً وخارجياً. وظاهرة التدويل للإنتاج ورأس المال تأتي في سياق التنفيس عن الاقتصاديات الرأسمالية التي تمر بفترة أزمة حرجة يترجمها الركود الاقتصادي وتفاقم البطالة وغياب الأمن الاجتماعي.. وقد تأكد من خلال اتفاقية «الكات» ـ التي أنهت آخر دوراتها في خريف 1994 ـ أن الدول الرأسمالية هي الرابح الأكبر من تحرير المبادلات التجارية على الصعيد العالمي، إذ ستتمكن من اكتساح أسواق البلدان النامية بسهولة ويسر نظراً لقدرتها التنافسية الكبيرة على كل القطاعات الاقتصادية. وحسب بعض الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، فإن صافي عائدات دول العالم ـ بموجب تطبيق اتفاقية الكات ـ سيرتفع بحوالي 250 مليار دولار. وسيكون نصيب العالم الصناعي في هذه الزيادة 160 مليار دولار أي في حدود 64 في المائة، وحوالي 38 مليار دولار سيعود للدول الشرقية التي قطعت أشواطاً مهمة على طريق الرأسمالية. أما العالم الثالث فلن يحظى إلا بحوالي 16 مليار دولار أي 6.3 في المائة فقط. وسيكون الجزء الأكبر من هذه النسبة الضئيلة من نصيب دول جنوب شرق آسيا (10) .
2 ـ إن الثورة التقنية والتكنولوجية التي خرجت العولمة من عباءتها، أحدثت تغييرات بنيوية جوهرية وحاسمة في اقتصاديات الدول المتقدمة. ومن شأن هذه التغييرات أن تزيد من متاعب وتبعية الدول النامية الساعية بكل حماس واندفاع للاندماج في محيط الاقتصاد الدولي. وفحوى هذه الثورة، هو اقتحام العلم لعملية الإنتاج المادية بحيث اندمج فيها اندماجاً عضوياً حتى صار هو عمودها الفقري لكونه الوسيلة الفعالة والحاسمة لتحسين وزيادة الإنتاج وكذا لتوسيع قاعدته. لقد نشأت في الاقتصاد الرأسمالي صناعة جديدة هي «صناعة المعرفة"، العلم فيها سلعة وموضوعاً للإنتاج والمبادلة (11) . ونتيجة لذلك ارتفع معدل الصناعات كثيفة العلم قليلة المواد الأولية. لقد بات شعار التكنولوجيا الحديثة هو: «تصنيع منتجات أخف وزناً وأصغر حجماً وأكثر دقة". وكمثال على ذلك، فقد ظهر الجيل الأول من أجهزة الكمبيوتر بأحجام كبيرة جداً وبأثمان باهظة نظراً لكمية المواد التي كان يتطلبها إنتاجها مع أن طاقتها كانت محدودة للغاية بالمقارنة مع الأجيال الأخيرة ذات الأحجام الصغيرة والأثمنة المناسبة. إنها القيمة المضافة للعمل الذهني... للعلم.
ولا يقتصر الأمر على إحلال المعرفة محل المادة في الإنتاج ولكن أيضاً على إيجاد بدائل للمادة ذاتها، عن طريق علوم الكيمياء أرض المستقبل الخصبة، إن ثورة تكنولوجيا المواد تتيح استخراج مواد جديدة مركبة بابتكار أساليب جديدة في تجميعها انطلاقاً من العناصر الطبيعية المتاحة. فالألمنيوم مثلاً يكفي أن يدمج فيه 2% من الليثيوم لإنقاص ثخانتها بنسبة 10% مع زيادة مقاومته الميكانيكية بنسبة 10% أي بكسب 20% والأمر كذلك بالنسبة لمواد أخرى (12) .
ومن جهة ثانية هناك مصادر جديدة للطاقة لم تكن معروفة من قبل كطاقة الريح والطاقة الشمسية والطاقة الناجمة عن موج البحر والمد والجزر وعن الحرارة المنبعثة من أعماق الأرض.. كما أصبح من الممكن استعادة عناصر المواد المستهلكة عن طريق إعادة تدوير المعادن المستخدمة.
ما معنى كل هذا؟ معناه أن المواد الأولية الطبيعية التي كانت إلى عهد قريب ورقة ضغط رابحة بيد دول الجنوب الفقيرة في مفاوضاتها / صراعها مع دول الشمال الغنية لم تعد لها تلك الأهمية الاستراتيجية التي تمتعت بها ردحاً من الزمن.. وكلما تقدم العلم كلما ازدادت مكانة المواد الأولية تدهوراً لأن الحاجة لها تقل أكثر فأكثر. «فحجم المواد الخام المطلوبة لإنتاج وحدة من المنتجات الصناعية لا تتجاوز الآن 20% مما كان مطلوباً عام 1900. واليابان قد استهلكت في عام 1984 60% فقط من المواد الخام التي استهلكتها عام 1973 لإنتاج الكمية نفسها من المنتجات الصناعية (...) أن القوة الاقتصادية صارت تقاس بالقيمة المضافة. وعلى سبيل المثال فإن الخامات في السيارة لم تعد تمثل من 1 إلى 10 من ثمنها» (13) .
فإلى متى ستظل دول العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم الثالث عامة معتمدة في مواردها على مبيعات المواد الخام؟ وإلى أي حد هي واعية بالمصير الذي ينتظرها أن هي لم تبادر إلى تغيير إستراتيجيتها؟ بل أن الأمر لا يتعلق بالمستقبل، فقد بدأنا منذ سنوات نشهد بعض معالمه عندما تدهورت عائدات النفط العربي من 176 مليار دولار سنوياً سنة 79 ـ 80 إلى 113 مليار دولار في المتوسط سنة 82 ـ 83. وتستمر في التدهور لتصل إلى 48 مليار دولار فقط سنة 86 ـ 87 (14) .
ثانياً: على الصعيد الثقافي:
إذا كانت تحديات العولمة ذات البعد الاقتصادي تهم المصير المادي / المعنوي للدول المستضعفة، فإن التحديات الثقافية تتجه صوب ضرب مقوماتها المعنوية وتمضي في اتجاه طمس القيم والمبادئ التي تتشكل منها شخصيتها كشعوب وكأمم. إن أخطر افرازات العولمة هو أن تعتبر الليبرالية في ظلها نظاماً كونياً لنزعات الإنسان الفطرية ويلبي ميولاته الطبيعية. وقد زاد استئساد الليبرالية وعظم طغيانها عقب انهيار ما كان يسمى بالمعسكر الشرقي الاشتراكي حتى خيل لأنصارها أنها ـ الليبرالية ـ أرقى ما يمكن أن يصل إليه الفكر البشري وأن هذا الأخير عاجز عن إبداع بديل لهذا النظام الذي يسجل ـ في نظرهم ـ نهاية التاريخ (أطروحة فوكاياما). إنها بعض تجليات النزعة المركزية التي كانت دائماً تتسم بها الثقافة الغربية حيال باقي الثقافات الإنسانية الأخرى «لقد أعطى العصر الحديث للتمركز الأوروبي دفعاً متعالياً في خضم الانتشار الطاغي لنموذج الغرب المدعم بعناصر التفوق المادي والثقافي.. وفي كل مرة ينهض فيها طرف من الأطراف بمجالنا العربي والإسلامي للإعلان عن اختلافه وصده هذا الانتشار، ويعبر عن رغبته في تحصين هويته والسيادة على مقوماته، ينتصب في الل اوعي ـ الغربي ـ كل الصور السلبية التي نسجتها المخيلة الأوروبية عن الإنسان العربي والسلم. الأمر الذي يفسر لنا سر الهواجس اليومية لدول الشمال واستنفارها الضدي لدول الجنوب» (15) . إن الغرب يسخر كل إنجازاته العلمية وقدراته الاقتصادية وإمكاناته الإعلامية بل وقوته العسكرية، إذا اقتضى الأمر، ليفرض تصوراته الخاصة عن السلام والأمن والحرية والسيادة والديمقراطية وحقوق الإنسان ونحوها من المفاهيم التي لها عند كل أمة بل عند كل توجه فكري وسياسي تصوراً خاصاً. والغريب أن الغرب يحاول أن يضفي على تصوراته طابعاً إنسانياً ويرفض أي نوع من الاختلاف حولها. وهكذا فإن «السعي اليومي لترسيخ فكرة العالمية والعولمة قد جعل الدنيا قرية أمريكية أو أوروبية عن طريق سلطان المعرفة وغواية السلع وسحر تقنيات الاتصال، فضلاً عن قوة الحضور المستحضرة بالقوة. وقد غدا هذا الأمر منهجاً يكرس كل ما هو غربي في عالم المستضعفين، ويمثل تجلياً ساطعاً للمركزية المستكبرة التي تحاول اختراق خصوصيات الغير وتمزيق أنماطه الثقافية من أجل تأكيد قيم التبعية وآلياتها» (16) .
أمام هذه التحديات ذات الأبعاد المختلفة ما هي أدوات المواجهة التي يمتلكها المسلمون اليوم؟ وإلى أي حد هم قادرون على استعمالها؟
ليس اللجوء إلى خيار المواجهة مجرد اختيار بل هو ضرورة لا بديل عنها إلاّ تكريس التبعية وإعادة إنتاج التخلف بكل أشكاله. وإذا كانت رياح العولمة، في ظل ما يسمى بالنظام الدولي الجديد قد هبت بكل عنف وجبروت حتى بات الكثيرون يعتقدون ألا فائدة في التصدي لها بل لا محيد عن الاستسلام لها والمضي في ركابها فإنها لا تحمل في طريقها كل المستسلمين لها كما أنها لا تهب كيفما وحيثما اتفق. وإذا كان البعض من أصحاب الرأي وذوي القرار يعتقدون ألا فرصة للانفلات من قبضة التخلف إلا بالانخراط التام في دواليب النظام العالمي المعاصر اقتصادياً وثقافياً معتبرين أن التنمية في إطار التبعية طريق لا مناص منه معتقدين بأن البلدان التي تمكنت من اللحاق بكوكبة الدول المتقدمة إنما تأتى لها ذلك من خلال ارتباطها البنيوي الوثيق بهذه الدول (نماذج ألمانيا، اليابان وخاصة نمور جنوب شرق آسيا: كوريا الجنوبية، التايوان، سنغافورة..)، فإنهم لا يأخذون بعين الاعتبار خصوصية العالم الإسلامي والعربي بالنسبة للغرب. فالنموذج الحضاري الإسلامي كان دائماً المنافس الشديد للنموذج الغربي بل إن هذه المنافسة كثيراً ما وصلت إلى التصادم. وهذا ما جعل الغرب يقف موقفاً حذراً من أية محاولة نهضوية تستهدف الخروج من دائرة التخلف، بل لا يتردد في التصدي لها حتى لو كانت في دائرة التبعية للغرب وعن طريق التتلمذ على يديه. وهناك سلسلة طويلة من التجارب التي عرفتها المنطقة العربية على أيدي حكام قبلوا باللعب داخل الباحة الدولية، وكانوا على استعداد لاحترام قواعد اللعبة المرسومة من طرف «الكبار". بيد أنهم لم يتلقوا التشجيع المنتظر من قبل الدول الصناعية. بل إن محاولاتهم أجهضت من طرف هذه الأخيرة.
حدث هذا مع تجربة محمد علي، تجربة الخديوي، نوري السعيد، عبد الناصر.. ويجد هذا الموقف تفسيره، في الأهمية الجيوسياسية للمنطقة العربية والإسلامية للغرب، ولكن أيضاً وأساساً لكون الأمة الإسلامية تمتلك من المقومات الذاتية ما يؤهلها ـ لو استثمرت على نحو صحيح ـ لأن تشكل قوة ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل على المستوى الحضاري عامة. وهنا تكمن خطورة المشروع الإسلامي بالنسبة للغرب. إنه يحمل في طياته بذور البديل الحضاري للنموذج الغربي في الاقتصاد كما في السياسة والثقافة وفي تصور الإنسان والكون والحياة عامة، من هنا يأتي هذا الإصرار الغربي على أن يظل المشروع العربي الإسلامي رهن الاعتقال وراء قضبان التخلف والتبعية (17) ، ومن هنا أيضاً يجب أن يكون إصرارنا على المواجهة من خلال بناء الذات انطلاقاً من مقوماتنا المادية والمعنوية، وما أكثرها. ونكتفي هنا باختزالها فيما يلي:
إن الإنسان هو رصيد الثروة الحقيقي لأية أمة. فلا الخيرات الطبيعية ولا الموارد المالية يمكن أن تكون لها قيمة دون عمل الإنسان الذي يعود إليه الفضل في تدبير هذه الموارد وتسخير تلك الخيرات. ولقد سبقت الإشارة إلى الدور الحاسم الذي أصبحت تضطلع بها المعرفة في عملية التقدم باعتبارها أساس القيمة المضافة. فبلدان كاليابان وكوريا الجنوبية، رغم أنها تفتقر إلى المواد الأولية، إلا أنها غنية بكفاءة أبنائها، وعلى أساسها شيدت صرح نهضتها، ثم شرعت بعد ذلك في تصدير جزء منها نحو الخارج كخبراء وفنيين. وتقدر مساهمة العنصر البشري في الدخل الوطني الخام لليابان بأزيد من 80 في المائة، فيما لا تتجاوز هذه النسبة 10 في المائة بالنسبة لبلداننا (18) . والعالم الإسلامي اليوم قوة بشرية هائلة، لكن هذه القوة ما تزال مادة خام. فمعدلات الأمية ما تزال تضرب أطنابها في دول العالم الإسلامي إذ تتجاوز 80 في المائة في بعض الدول ولا تنزل عن 50 في المائة إلا في القليل منها فقط. هذا وضع أمة أول ما نزل من كتابها المقدس كلمة «اقرأ» وتدين بدين يرفع مكانة العلم ليجعله أحياناً فوق منزلة العبادة ويعظم قدر العلماء حتى ليعتبرهم ورئة الأنب ياء. فأية مفارقة عجيبة هذه.. إن الأدهى والأمرّ هو، من جهة غياب أي برنامج فعلي لمحو الأمية التي لن تستلزم حسب بعض الخبراء أكثر من 5 سنوات لو صدقت النيات (19) ، ومن جهة أخرى انتشار أنواع جديدة من الأمية تتمثل في الغربة التي يعيشها بعض المتعلمين عن روح عصرهم. فهم محسوبون عليه وإن كانوا يعيشون خارجه بسنين وربما بقرون. فأي مستقبل لهذه الأمة بدون سلاح العلم؟؟ وكيف يمكن مجابهة أمواج العولمة العاتية بحشود لا يحسنون فن السباحة؟؟
إن الوزن الديمغرافي للعالم الإسلامي، رغم علاته، يحسب له ألف حساب في الغرب الذي يتميز هرمه السكاني بانحسار قاعدته واتساع قمته مترجماً بذلك شيخوخة ساكنة للدولة الغربية. وهذه الأخيرة تدرك تماماً أن الدماغ البشري، أساس المعرفة، يوجد مخزونه اليوم وغدا في منطقة العالم الثالث التي تتوفر على ساكنة شابة وتعرف نسبة توالد مرتفعة (20) . ولعل لهذا القلق ما يبرره، إذ لم يعد خافياً أن الأدمغة العربية والإسلامية والثالثية عموماً، استطاعت، من خلال عطاءاتها العلمية أن تفرض وجودها على مستوى مراكز الأبحاث العلمية في كل من أوروبا وأمريكا، ورغم أن معظم هذه الطاقات قد اندمجت كلياً أو جزئياً في نمط الحياة الغربي. إلا أن ذاك لم يمنع أن ينظر إليها هناك على أنها تشكل احتياطاً أو قاعدة خلفية لبلدانها الأصلية.
إن إعداد الإنسان لا يعني فقط تسليحه بالعلم والمعرفة، بل لا بد من بناءه فكرياً وعقائدياً حتى يسخر علمه لخدمة قضايا قومه وأمته. إذ بدون هذا الشرط، يوشك العالم (بكسر اللام) أن يكون على أمته بدل أن يكون معها.
فالعالم أو العامل الياباني مثلاً لا يكون مدفوعاً في اشتغاله باعتبارات ذاتية فقط، كتحقيق الربح الشخصي، بقدر ما يكون مهووساً بالانتصار لنظامه الاجتماعي والاقتصادي والعقدي.. إن الشعور بالانتماء ـ خاصة الانتماء العقدي ـ كان دائماً القوة الدافعة والمحرك المنشط لعملية الإنتاج والعطاء.
لابد إذن من إعادة الاعتبار للمواطن بتمكينه من جميع حقوقه المادية (الشغل، السكن..) والمعنوية (حرية الاختيار، حرية التفكير..) وأن يستعيد ثقته بوطنه ودينه وقيم مجتمعه، ويحق له التعبير عندئذ أن يفتخر بمقوماته ويدافع عنها من خلال عطاءاته وإبداعاته. إن المواطن المقهور الذي لا يستشعر قيمته داخل وطنه يوشك أن يكفر بهذا الوطن بلا ولا يتبنى قضاياه وينتصر لها.
وبناء المواطن الكفء المسؤول، المبادر والمبدع لا يمكن أن يكون إلا نتيجة تخطيط تربوي محكم يأخذ بعين الاعتبار تحديات اللحظة التاريخية الحاسمة التي نجتازها عكس المناهج التربوية المطبقة حالياً في أغلب الدول الإسلامية والتي تقوم على أساس بناء الفرد المستهلك المعطل الدور، اللامسؤول (21) .
ثانياً: الاعتماد على الذات
إن الموقف من الذات وإمكاناتها عامل في غاية الأهمية في بلوغ النجاح أو السقوط في الفشل. يسري هذا على الأفراد كما ينطبق على الأمم والشعوب (22) . فالأمة التي لا تثق في قدراتها ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلاً للآخرين، تابعة لهم، لا تعتقد إلا فيما يقولون ولا تنفذ إلا ما يقررون. إنه «التسول الحضاري» (23) الذي يمثل قمة العجز والفشل والاستسلام أمام التحديات ويبعث على الاكتفاء بنقل الآخر وتقليده على نحو مشوه في نظمه وقوانينه وثقافته..
لقد ثبت من خلال التجارب التنموية التي خاضتها العديد من الدول أن التقدم لا يمكن أن يستورد من الخارج بل هو عمل داخلي ينم عن صيرورة تغييرية تتضافر فيها العديد من العوامل (اقتصادية سياسية ثقافية..) فيما تبقى العوامل الخارجية معطى مساعداً لا أكثر (24) . وإذا كانت العولمة قد جعلت من العنصر الخارجي عنصراً حاسماً في عملية التغيير والتطوير فإن ذلك لا يعني بتاتاً إمكانية القفز على العناصر الداخلية. بل على العكس من ذلك تماماً كلما كان حضور الخارج قوياً على المستوى الداخلي كلما تضاعفت الحاجة إلى تدعيم الجبهة الداخلية وتقويمها للرفع من مناعتها ضد الذوبان والسقوط أمام الخارج المنافس. والخارج لا يكون في أحسن الأحوال إلا منافساً. فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً فإن تحرير المبادلات التجارية على نحو يوفر كل المواد والسلع في السوق الداخلية بأثمان مناسبة لا يعني الاستغناء عن بناء صناعية وطنية بل على العكس من ذلك يحتم تطوير هذه الصناعة وبذل المزيد من الجهود المالية والقانونية والفنية والتربوية، لأجل الرفع من مستوى أدائها كيما تتمكن من مواجهة المنافسة داخلياً وخارجياً.
إن أمتنا تعيش اليوم مع الأسف لحظة الوهن التي تحدث عنها الرسول (ص) في حديث القصعة. ذلك الوهن الذي سببه ترك الجهاد. ولعل الجهاد هنا لا يدل فقط على خوض غمار ساحة القتال ولكن أيضاً خوض غمار ساحات أخرى لعلها لا تقل أهمية، كساحة العلم والعمل والمساهمة البناءة في تشييد صرح الحضارة الإنسانية وما التبعية المركزية التي تخضع لها هذه الأمة إلا تعبيراً عن فقدانها لفاعليتها وحيويتها التاريخية والحضارية بحيث دخلت مرحلة الجمود ومراوحة المكان وقد اعتراها التحلل والوهن والضعف. «والأمة التي تفقد الزخم في اندفاعها، والتي تمثل الحركة، تضيع في متاهاتها، لأن التاريخ لا يرحم ولا يحترم سوى الحي من الأمم والشعوب» (25) .
لا مناص إذن من انتفاضة شاملة تحقق من خلالها الأمة عودتها إلى ذاتها لتستثمر كافة مقوماتها المادية ولتستغل كل طاقاتها الروحية في اتجاه استرداد مكانتها وإعادة الاعتبار لنفسها بين الأمم. إن الاعتماد على الآخر والتبعية له في أية صورة، صفة لا تنسجم مع الشعور بالانتماء للإسلام الذي يحرص كثيراً على تميز واستقلالية الشخصية المسلمة بدءاً من مسائل الاعتقاد والتصور إلى قضايا الشكليات والمظاهر، مروراً بالسلوكيات والممارسات. وهكذا فإن التبعية للآخر والخضوع له اعتقاداً وممارسة لا يمكن تصورها إلا في ظل ضعف أو غياب الولاء لله سبحانه وتعالى. فالتبعية بكل صيغها الماضوية أو الاستكبارية. لا تخرج عن كونها «آلهة» يخضع لها الإنسان مما ينافي الوحدانية إذ أن الوحدانية هي نفي كل إله خارج الذات الإلهية المطلقة، وإثبات الذات الإلهية المطلقة كحقيقة نهائية ليس معها ووحيدة ليس معها شيء أبداً» (26) .
ثالثاً: التكامل والوحدة
إن حتمية الرفع من مستوى الأداء الاقتصادي بواسطة عقلنة استعمال الموارد ـ التي يفرضها منطق العولمة ـ دفع بالدول الرأسمالية المتقدمة إلى التكتل في إطار تجمعات جهوية، والهدف من هذه التكتلات هو «تعزيز القدرات التنافسية وخلق كيانات اقتصادية عملاقة ذات طاقات عالية وإمكانات كبيرة تؤهلها لخوض المنافسة الاقتصادية / التكنولوجية الدولية ومجابهة القوى الدولية الأخرى المنافسة» (27) . فعلى المستوى العالمي يمكن أن نلاحظ أن هناك ثلاثة تجمعات دولية كبرى في طور التكوين: فهناك من جهة أوروبا التي تمضي بخطوات ثابتة نحو الاندماج الشامل لبلدانها اقتصادياً سياسياً.. وهناك من جهة ثانية تجمع «النافطا» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يضم كل من كندا والمكسيك. وأخيراً هناك تكتل دول جنوب شرق آسيا تحت لواء اليابان. الأمر هنا كما هو واضح ـ يتعلق بدول متقدمة، ومع ذلك فإنها لم تجد بداً من التكتل على أسس اقتصادية، حتى تتمكن من مواجهة التحديات التي يفرضها الحاضر وتلك التي ينبئ بها المستقبل. غير أن البلدان العربية والإسلامية، من جهتها، ليست على ما يبدو، معنية بهذه التحديات. فهي رغم كل ما تملكه من مقومات الوحدة الما دية والروحية (الدين، اللغة، التاريخ، الجغرافية...)، إلا أنها ما تزال كيانات متنافرة وَفِيّة لخطة التقسيم الاستعماري الذي وضع بينها حدوداً وهمية سرعان ما تعززت بالحديد والنار حتى أضحت حقيقة مرة يتجرعها اليوم كل المسلمين. يتجرعونها أولاً لكونهم حرموا من حقهم في الانتماء ـ سياسياً ـ إلى وطنهم الإسلامي الكبير وفرض على كل جزء منهم أن يحصر عواطفه واهتماماته داخل إطار جغرافي وبشري محدود للغاية قيل له إنه كل وطنه. وما يحز في النفس أكثر ليس فقط تعدد أوطان المسلمين ولكن بالأساس تضارب اتجاهاتها واختلاف اهتماماتها. ولعل نظرة سريعة على الإعلام الرسمي للأوطان الإسلامية خاصة المرئي منه، كافية للوقوف على هذا الاختلاف وذاك التضارب. فكل «وطن» يعتبر نفسه أمة في حد ذاتها، لها خصائصها التاريخية والجغرافية ولها مميزاتها الثقافية والاجتماعية.. كما يعتبر نظامها السياسي والاقتصادي هو الاختيار الذي يجب أن يحتذى. وينظر إلى حكامها على أنهم النموذج المثالي لأولياء الأمور، أقوالهم ذرر من الحكمة وقراراتهم منبع كل خير ونعمة.. أما باقي الأوطان الإسلامية فلا يتعامل معها هذا الإعلام إلا من باب ما يجري في الخارج"، إذ لا تمييز بين ما يجري في فلسطين أو أفغانستان وما يحدث في كمبوديا وسريلانكا.
ولا يؤدي المسلمون ثمن تمزق وطنهم الكبير من عواطفهم فحسب، بل يؤدونه أيضاً وعلى حساب مستوى معيشتهم. فالتقسيم الجائر للأمة نجم عنه تقسيم غير عادل لثرواتها وخيراتها على نحو جعل من البعض أغنياء متخمين بالثراء إلى حد البطر وآخرين معدمين إلى حد الفاقة، وهذا ما يؤكده التباين الواضح في متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي والذي يتراوح بين 0.2 دولار في اليوم أي في حدود 73 دولار في السنة، و63 دولار في اليوم أي 23000 دولار في السنة (28) . ونظراً لأجواء عدم الثقة السائدة بين أوطان الإسلام فإن الأموال الفائضة عن أثرياء المسلمين تودع لدى البنوك الأجنبية التي تقرضها لبلدان العالم الثالث ومن ضمنها طبعاً الدول الإسلامية المحتاجة. ومن جراء هذه الديون اللعينة، تعيش هذه الدول تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، يؤدي ثمنها المواطنون المسلمون لصالح مواطني دول الغرب الوسيطة بين أغنياء المسلمين وفقرائهم.
إن المطلوب اليوم من ذوي القرار في العالم الإسلامي، ليس هو الوحدة، فهذا أمل غير وارد الآن حتى في الأحلام. إن المطلوب هو فقط محاولة تجاوز الخلافات المصطنعة والحساسيات الضيقة، والعمل قصد تحقيق حد أدنى من التنسيق والتعاون خدمة «للمصالح المشتركة". ولا يغني انضمام الدول الإسلامية ـ مفترقة ـ إلى تكتلات اقتصادية وسياسية ذات أهداف وتوجهات مختلفة (منظمة الوحدة الإفريقية ـ المؤتمر الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا..) عن تأسيس كيانها المستقل ذو البعد الإسلامي الواضح. فمثل هذا الكيان هو الذي يترجم بحق هوية الأقطار الإسلامية ويضمن لشخصيتها الاستقلال والتميز على غرار دول أوروبا المسيحية، ودول جنوب شرق آسيا البوذية. هذا فضلاً على أن المجال الإسلامي يتميز بغناه البشري وتنوعه الجغرافي وموقعه الجيو ـ استراتيجي المتميز وسط العالم. «إن توسيع دائرة الوحدة السياسية، والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي والثقافي والعلمي والتقني، أضحى ضرورة مصيرية، لايمكن بغيرها أن يكون لهذه الأمة وجود يذكر في عالم التكتلات السياسية والاقتصادية، حيث لم تعد اليوم إمكانية لتجمعات بشرية يقل تعدادها عن مائة إلى مائة وخمسين مليو ن نسمة» (29) .
الخلاصة:
إن دول العالم الإسلامي تقف اليوم في مفترق طرق حاسم. وإذا كانت المصالح الذاتية والآنية لبعض ذوي القرار وذوي الرأي تدفعهم لنهج أيسر السبل، سبيل التبعية الذي يمر عبر الاسترزاق الاقتصادي، والركوع السياسي، والذوبان الثقافي، فإن تحديات العولمة ـ حالاً ومستقبلاً ـ ستؤكد أن الاختيار السليم، وإن كان الأصعب، هو اختيار طريق المواجهة، عبر بناء الإنسان وإعادة الاعتبار لقيمته كأساس لكل نهضة، والاعتماد على الذات كسبيل وحيد لتراكم ثمار المجهودات التنموية. كل ذلك لا يمكن أن يؤتي أكله إلا في تربة مجال أشمل وأرحب من الحدود الوطنية الضيقة. ولن يكون غير العالم الإسلامي مجالاً حيوياً لتفجير طاقة أبنائه واستغلال خيراته على أحسن وجه.
*******
الهوامش:
(1) لا يتعلق الأمر في الواقع بكل البشرية، بل بجزء منها فقط المتمثل أساساً في العالم الغربي المتقدم وجزء ضئيل من العالم الثالث، فيما بقية أجزاء البشرية تعيش في ظل عصور مختلفة تتراوح بين ما قبل الصناعي وما قبل التاريخ.
(2) هناك من يرى أن الترجمة الصحيحة لمصطلح Globalisstion هو كلمة «كوكبة". انظر د. إسماعيل صبري عبد الله: «الكوكبة: الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالية» مجلة المستقبل العربي ـ عدد 222 ـ أغسطس 1997 ص:4.
(3) الفن توفلر: حضارة الموجة الثالثة، ترجمة عصام الشيخ قاسم ـ الطبعة الأولى 1990 ص 18 وما بعدها.
(4) فتح الله ولعلو: الاقتصاد السياسي ـ الجزء الأول ـ دار النشر المغربية ـ الطبعة الثانية، ص52 وما بعدها.
(5) إسماعيل صبري عبد الله، المرجع السابق ص: 7.
(6) د. فؤاد مرسي: الرأسمالية تجدد نفسها ـ كتاب سلسلة عالم المعرفة رقم 147 ص:234.
(7) د. محمد السيد سعيد: الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية ـ كتاب سلسلة عالم المعرفة عدد 107 ص: 167.
(8) مفهوم «اليد الخفية"، وإن كان يعزى للاقتصادي الكلاسيكي آدم سميث، إلا أنه يعتبر ركيزة من الركائز الأساسية للنظام الليبرالي. ومفاده أن هناك «قانوناً طبيعياً» يعمل في الخفاء على تدبير الحياة الاقتصادية والاجتماعية على نحو يخدم مصالح الجميع الخاصة، في اتجاه خدمة المصلحة العامة، وذلك في غياب أي تدخل «خارجي» كالدولة مثلاً.
(9) د. إسماعيل صبري عبد الله ـ مرجع سابق ص: 20.
(10) نبيل شبيب: «اتفاقية الكاطا الجديدة: مدخل آخر إلى نظام استعماري جديد» مجلة فلسطين المسلمة، العدد 2 السنة 12 ص 47.
(11) د. فؤاد مرسي، مرجع سابق ـ ص 28.
(12) نفسه، ص45.
(13) نفسه، ص51.
(14) حيدر موسى عبد العظيم: الإنسان وفلسفة التنمية: أزمة مجتمع ـ الطبعة الأولى ص 252 (1993).
(15) علي القرشي: «نحن والغرب: قراءة في التمركز الأوروبي وتجلياته في المجال العربي والإسلامي» مجلة المستقبل العربي/ العدد 196-1995، ص 147.
(16) نفسه ـ ص 148.
(17) منير شفيق: النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة، الطبعة الأولى 1992 ـ ص 153 وما بعدها.
(18) د. المهدي المنجرة: «قضايا التنمية; الإخفاقات والمستقبل» ـ مجلة الكلمة/ العدد 11 السنة الثالثة ص 111 (حوار).
(19) د. المهدي المنجرة: الحرب الحضارية الأولى، مستقبل الماضي وماضي المستقبل ـ الطبعة الثالثة (1991) ـ ص 283.
(20) رشيد أبو ثور: «التحولات العالمية الكبرى» مجلة المنعطف / العدد 12، ص8.
(21) فؤاد إبراهيم: «التنمية المستقلة: قراءة أولية في عوامل الإخفاق وشروط النجاح» ـ مجلة الكلمة، العدد السابق ص 70.
(22) محمد محفوظ: «نظريات التخلف في الفكر العربي: قراءة نقدية» مجلة الكلمة / نفس العدد السالف ذكره ـ ص 59.
(23) محمد محفوظ: نفس المرجع ـ ص 49.
(24) الحسين عصمة: «التنمية في إطار التبعية أو وهم الرهان على الخارج» جريدة الراية ـ العدد 91/1994 ص8.
(25) مصطفى الحاج علي: «مفهوم التنمية ومرتكزاتها في ضوء مشكلة التبعية: مقاربة تحليلية» مجلة المنطلق ـ العدد 68/69 ص 19.
(26) نفسه ـ ص 31/32.
(27) محمد المداح الادريسي: «الوطن العربي بين الفاعلية والتهميش في عالم متغير» مجلة الوحدة ـ العدد 86 ص 23.
(28) زغلول راغب النجار: قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر ـ كتاب الأمة عدد 20 ص 115.
(29) نفسه (مقتطف على غلاف الكتاب).