لا أخفي على القارئ الكريم أنني أنفر ـ بكراهية واشمئزاز ـ من سماع هذه الكلمة: (المخابرات)، كما أشار إلى هذا الأستاذ الكريم في كلمة تقديم نسخة من مطبوعة هذا البحث التأريخي الموثق بالأدلة على عمق جذوره التاريخية الإسلامية، إذ قال: (لا أريدýإيذاءه بما سردتُّ، ولكنها الحقيقة كما تَوَهَّمْتُهَا).
ولئن كنت ممن لم يُبتل ـ ولله الفضل، وله الحمد على هذا ـ بأن ينالني أثر مُمِضٌّ من آثارها، فإن هذا الأستاذ الجليل قد اصطلى بنارها، على جلالة قدره، وسمو منزلته بالعلم، واتصاف أسرته الكريمة بالفضل، وعلو القدر، حتى طوَّحت به الأقدار، فاضطرته للنزوح من بلاده إلى مختلف أقطار العالم، مضطرباً متقلقلاً بين هذا وذاك، وها هو الآن على تلك الأخلاق الكريمة يعيش مقيماً، ولا أقول مستقراً، فالإستقرار لايتم إلا مع راحة البال، وصفاء النفس مما يكدرها، وفي البلاد التي خلق المرءُ من ترابها، واغتذى بلبان خيراتها، وسعد فيها بالعيش في كنف أسرته وعشيرته، وأهل وطنه وأمته. وأنّى لأستاذنا الجليل هذا الآن، وهو يعيش في مدينة نائية في أقصى المعمورة (بوزنان) من بلاد (بولندا) تلك البلدة التي يصدق عليها وصف أبي الطيب:
ولكن الفتى العربيَّ فيها غَرِيبُ الوجهِ واليدِ واللسان
إلاّ أنه ـ والحق يقال ـ يعيش بين قوم للعلم عندهم منزلة تسامي ـ بل تسمو ـ على غيرها، بعمق أثرها على جميع الصلات التي تربط بين البشر من قرابة ومواطنة وغيرهما، إنها ترتبط بأقوى آصرة تؤلف بين بني البشر، هي آصرة العلم والمعرفة، المؤثرة في الأفكار والعواطف، ومختلف الرغبات الإنسانية.
إن هذه الدراسة الجادة التي أوحت بهذا البحث الممتع في أسلوبه، المؤثر في محتواه، ما هي بالنسبة ـ لأستاذنا الجليل ـ سوى أنَّة محزون، وشكاة مقهور مظلوم، صادرة عن ضمير اكتوى بلهيب نار هذا الجهاز، فحاول التنفيس عما يحس به من حرقة وأسى، وسعير ملتهب في داخل أحشائه
ولعلي لا أذهب بعيداً حين أتوقع أن المؤلف الكريم قد عانى أشد المعاناة مما تحدث عنه، مستشفاً هذا من قوله مجيباً لمن استوضح منه عن اهتمامه بهذا الجانب المظلم من تاريخنا فذكر ـ فيما ذكر ـ فقال: (لم أكن أحسب يوم فكرت أن أبحث في هذا الموضوع أن أفاجَأَ بكل هذا الظلام الحالك). ثم أضاف فيما أضاف: (...وإلا فعجيب أن لايكون لحكامنا كلمة نافذة مسموعة في العالم، مع أنهم لو شاءوا أن يتحكموا ببعض هذا العالم لفعلوا، وأن لاتكون لنا نحن المحكومين حقوق البهائم في أن تُضْرِب عن الطعام).كذا قال، أتراه يشير إلى قول الشاعر الكبير فؤاد الخطيب؟:
وأعْجَب لغوغاءَ إن تشبعْ فقد رضيت رضا السوائم أقصى هَمِّهَا العلف؟!
ثم إن الأستاذ المؤلف عالم منصف، من أبرز صفاته أن يحاول ـ فيما يكتب ـ إظهار الحقائق كما اتضحت له، غير عابئٍ بمن قد يكون في إبراز بعضها بالنسبة لمن تتصل به مما لايرتضي {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} النساء/135.
وما عرضه ـ في الموضوع ـ مما يضاف إلى الحضارة الإسلامية، ويعني بهذه الإضافة الأمة المسلمة، التي تأثرت بحضارات من يجاورها من أمم العالم، من يونان واغريق، ورومان وفرس وغيرهم، وما كل ما أتت به الحضارة ـ أيَّاً كان مصدرها ـ بحسنٍ ولا مقبول، ولا كل ما أضيف إلى الأمة المسلمة يعد من الأخلاق الإسلامية النبيلة، وحسب المرء مُسمى المسلمين في هذا العصر.
لندع هذا الأمر، ولنسر في استقراء ذلك الجهد الذي بذله المؤلف من خلال دراسته الشاملة للموضوع، لقد تحدث عن كتابين حديث المتأثر بما فيهما، المستفيد مما حواياه من معلومات، رجعل إليهما واستفاد منهما، هما كتاب «نظم الاستخبارات عند العرب والمسلمين» لعارف عبد الغني، و «موسوعة الإستخبارات والأمن» لعلي دعموش العاملي، وأوفى الكلام عن الكتابين، ثم أوضح ماينبغي إيضاحه عن سر اهتمامه بهذا الموضوع دون سواه، وهو جانب مظلم من تاريخ الأمة، فأوضح أن من شأن الظلمة أن تلفت النظر في مهرجان الضوء نفسه، وأن الأمة تتفيأُ ظلال غابة ذُلّها المعاصر، فلا بد من أن تعرف كيف نبتت جذور هذه الغابة المظلمة وأن جانباًمن حضارتنا لم يكتب فيه المتخصصون، فاستهواه ليكتب فيه، كما استهواه قبله موضوع يتعلق بـ (المسرح) و(التمثيل) لم يكتب عنهما، فكتب «فن التمثيل عند العرب» وهو في الكتابين هاوٍ غير محترف.
إنه عالم يتصف بميزات يندر أن يتصف بها كثير من العلماء، ولو قلت: ممن ليس من قطرنا العزيز (العراق) ـ لما بالغت ـ إنها روح استسهال الصعاب، والإستخفاف بما يحلُّ بهم من كوارث مهما عظمت، ومقابلتها بعدم الإكتراث، وإرخاء الرأس بعد بذل الوسع في مصادمتها حتى تمُرَّ وذلك ما عبر عنه فيما كتب كمقدمة لتحقيق كتاب «الثقلاء» لابن المرزبان، مؤلف كتاب «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» وأبرز تلك الميزات ما استشهد به من قول شيخ القراء في عصره ابن مجاهد المتوفى سنة 324هـ حين وصف أحدهم فقال: (فيه ظرف البغاددة مع الدين والخير).
وللإستشراف للمعنى الواسع لكلمة (الظرف) لعلي لا أعدو الحقيقة حين أستشف ذلك مما عرف عن (البغداديين) من نظرتهم إلى الحياة نظرة تتميز بتقبلها على علاتها بروح مشبعة بالإستخفاف، وعدم الخنوع لبلاوائها وشدتها، فهي متقلبة متغيرة:
لكل حالٍ مُدةٌ وتنقضي ما غلب الأيام إلا من رضي
ولماذا إثقال النفس ـ مع ما اعتراها وأرهقها من جراء ما أصابها لماذا الإضافة عليها إرهاقها بالهموم والأفكار مما يزيد الشقاء شقاءً، والألم تبريحاً وشدة؟! أليس من الخير لها النأيُ بها ما أمكن عن هذا الجو، والخروج بها إلى جو رحيب بالآمال، وذلك بإضفاء أكثف الحجب على المساوئ والمنغصات، وإبعادها عن الأحاسيس ما أمكن، وإحلال بواعث المرح والسرور، والرضا بالواقع، إن لم يكن اختياراً فليكن اضطراراً، ترقباً لما يعقبه من تغير لابد منه:
دعِ المقاديرَ تجري في أزمتها ولاتبيتن إلا خالي البـــال
ما بين غمضة عين وانتباهتهـا يُغير الله من حالٍ إلى حال
ولعل أبا الطيب لم يذهب بعيداً عن هذا المعنى حين قال:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جباناً
إنني لاأستبعد أنه لم يعن بقوله هذا إلقاء النفس بالتهلكة، لتذهب فريسة للتهور وخطل الرأي، وإنما أراد النأي بقدر المستطاع عن كل ما يجر إليه العجز، من استسلام وخنوع وضعف، وذلك بتقليب الرأي على مختلف وجوهه فهو (قبل شجاعة الشجعان) وسيفضي ـ ولاشك ـ إلىما يفتح مجال الآمال الرحيبة لتصريف الأمور نحو ما هو أنجع وأنفع، وسيتضح أن خيرها وأولاها في تلك الحالة ما يتحلى به (الظرفاء) من إشباع النفس بالرضا ومتطلباته، من دواعي الطمأنينة لتبقى قوية، لاتخنع ولاتخضع ولاتذلَّ لأية كارثة، وإن عظمت وجلَّت، وإنما تقابلها بنفس صلبة ثابتة لاتلين صفاتها، ولاتتركها حرضاً، ولقى مطروحاً مستذلاً مستهاناً:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لاأتضعضع
وأراني نأى بي الإسترسال عن الحديث عما خصص هذا الكتاب للبحث فيه، مما قصدت فمررت على ما مهد به عنه مروراً سريعاً، فيحسن استعراض مباحثه بإيجاز:
يقع الكتاب ـ بعد مقدمته ـ في سبعة فصول وخاتمة.
ففي المقدمة أوضح المؤلف الحوافز لجمع ما يمر به أثناء قراءته الواسعة في كتاب الأدب والتاريخ، وكتب سياسات الملوك وسواها، بعد أن اتضح له عدم إفراده بحديث فاصل من القدماء، وعلل هذا بأن سِرِّية عمله هي التي حجبت حقائقه عن أن تكون موضع تأليف ـ أو هكذا توقع ـ مع أن من يقرأ التاريخ الإسلامي ومصادر الأدب لايعدم أن يجد إشارات متناثرة متفرقة، تومئ إلى هذا الجهاز ولاتصفه، وتشير إليه ولاتقترب منه، مما يثير فضول الباحث لعله يستنطق هذه الإيماءات، ويجمع تلك الإشارات لرسم صورة عنه وإن لم تكن كاملة الوضوح، مما أثار به رغبة لجمع ما يمر به أثناء قراءاته، مؤملاً أن يجد فيما جمع ما يمكن أن يقدم للناس، وشد من عزيمته في هذا الشان كتابان ـ تقدم الحديث عنهماـ ثم وصف ما توقع أن يثار حول ما جمع من مسائل، وذكر منه جوانب أوضحها،واعتذر عن عدم الإستقصاء لأنه لايملك ـ أثناء التأليفـ ما ينفعه من مصادر، ذكر من بينها كتاب «التاج في أخلاق الملوك» المنسوب للجاحظ، و«بدائع السلك في طبائع الملك» لابن الأزرق، و«لطف التدبير» ولم يذكر اسم مؤلفه، وأين عنه هذه وأمثالها، وهو يعيش في أقصى العالم، محروماً من كل وسائل العلم والإستزادة منه، مما يتعلق بما اتجه له من تأليف، وأضاف إلى ذلك السبب أنه لم يرد لنفسه أن يبدو بصفة (المؤرخ) بقدر ما أراد أن يرسم صورة لذلك (الجهاز) ولم يفته ـ في عرض أهم مصادرهـ أن يخص طائفتين من المسلمين (الشيعة) ومن سموا بـ (الخوارج) وما توقع في مؤلفات الطائفتين، وقد انتابه ـ وهو يختم المقدمة ـ هاجس (الظرف البغدادي) مما توقع أن يكون جزاؤه من بعض من سينهي قراءة ما كتب أن يتذكر المثل: «ومن شابه أباه فما ظلم» متمنياً أن يضاف إليه: (هذا الذي شابه أباه فما ظلم قد ظلمنا نحن، إذ جعل من حضارتنا العريقة ذكريات منبوذين في صقيع المنافي)!!
وإذن فلعل في عرض مباحث الكتاب بإيجاز ما يستهوي القارئ لرغبة قراءتهاـ ففي طرافة الموضوع، وبطريقة عرض نصوصه، وبأسلوب مؤلفه الرائع الواضح حقاًما يغني عن التفصيل.
الفصل الأول: البدايات الأولى (13-32)
الفصل الثاني: تنظيم الجهاز ورجاله (33-56)
الفصل الثالث: وظائف الجهاز ومهماته (57-80)
الفصل الرابع: المعارضة وتفادي الجهاز (81-104)
الفصل الخامس: الجهاز ومرافق الدولة (105-128)
الفصل السادس: أساليب التعذيب والقتل والسجون (129-150)
الخاتمة: (151-154)
المصادر: (155-159)