مرّت المسألة الثقافية في العالم العربي والإسلامي بعدة مراحل دفعت بها إلى تكريس الإختلاف الفكري في مواقع متعددة، متباينة ومتناقضة أحياناً في كافة مجالات الحياة. وشمل هذا التباين والتناقض أيضاً حتى أخطر المواقع حساسية في التجربة السياسية، ألا وهو الموقع الرئاسي، بما يحمله من بنية فكرية تؤسس لحالة القبول أو الرفض في الشارع العربي والإسلامي، نتيجة التطورات والتحولات التي عصفت بمفهوم (الخلافة) واستبدلته بالأطروحة العلمانية الغربية في تأسيس الدولة الحديثة في الشرق الإسلامي.
إن المسألة الثقافية تنزع دائماً إلى الحضور والتجلي مع أول تطور وتبدل يصيب الحياة الإقتصادية، مما يجعلها ترتبط بعلاقة جدلية واضحة مع عامل الإستقلال المادي فضلاًعن الإستقلال العقلي.. لانعني بذلك أن العامل الإقتصادي هو العنصر الوحيد الذي يقوم بتشكيل الوعي الطبقي كما يقول ـ ماركس ـ لكننا نريد بذلك تفسير التحولات التي طرأت على المسألة الثقافية في الوطن العربي والإسلامي أواخر أيام الإحتلال العثماني وبداية الغزو الأوروبي ومن ثم حصول الإستقلال الكامل من هذا الغزو للمنطقة العربية والإسلامية ولعل هذا التفسير الذي يعمل دائماً على توصيف إشكالية المسألة الثقافية ضمن أُطرٍ محددة بحدود الرؤى الشخصية يختصم إلى الواقع ذاته دوماً عندما يقدم تصوراته المتعددة والتي يطغى عليها بُعد الصراع الواضح بين الأصالة والحداثة، فضلاًعن تأرجح مسألة الهوية بين هذه وتلك خصوصاً بعد تفاقم الغزو الإستعماري والثقافي للوطن العربي والإسلامي، وما أحدثه هذا الغزو من تحطيم وتدمير شامل للبُنى التحتية للمقدرات الإقتصادية وما تركه هذا التدمير من جهة أخرى من آثار سلبية كبيرة على الواقع النفسي والإجتماعي للشعوب الإسلامية، ومن ثم انتقال هذه الآثار إلى عملية تشكيل الوعي الثقافي لهذه الشعوب ضمن صور مشوهة أحياناًومجهولة الملامح في أحيان كثيرة.. فكيف تُفسَّر هذه الإشكالية الثقافية؟وما هي أبرز الآراء التي حللت هذه التبدلات وردتها إلى أسبابها الحقيقية بشكل معقول؟ وإلىýأي مدى أثرت العوامل الإقتصادية والتنموية في تشكيل درجة الوعي الثقافي في العالم العربي والإسلامي، وهي تتأرجح صعوداًونزولاً في السلم الثقافي الذي يُعبر عنه هذا الواقع المعاش؟ كل هذه الأسئلة كانت مستهدفة في الكتاب الذي بين أيدينا الآن، بين الدكتور رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية والدكتور أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق يمتد خط طويل من الإشكاليات والإجابات والتعقيبات التي تُكسب الموضوع أهمية وثراءً.
اختار (رضوان السيد) أن يُداخل المسألة الثقافية في العالم الإسلامي من مدخل النزاعات الثقافية المشتعلة الأوار، بداخل البيئات الثقافية الإسلامية من جهة وفيما بين الصحويين الإسلاميين والغرب بما هو مفهوم شامل من جهة ثانية.. ولعل هذا الإختيار هو الذي منح التصورات التي ساقها (السيد) في ورقته مصداقية أكثر، على الرغم من أنها غاصت إلى حد بعيد في أعماق التاريخ، حتى خشينا أن تتحول تصوراته هذه إلى تهويمات فكرية مجردة، لكنه تعامل معها بحذرٍ وذكاء فساق الوقائع التاريخية بعقلية المؤرخ الواعي. حيث أوضح منهجيته في هذه المداخلة مُبيناً سلبياتها وإيجابياتها، فأما إيجابياتها فتتمثل في تسليط الضوء على مواطن الضعف والنقد مما يُسهم في الإصلاح وتجاوز المشكلات. وأما سلبياتها فتتمثل في إمكان غلبة طابع (ردود الأفعال) على المحيط الثقافي، لكن تجاوز كل ذلك إلى سياقات الواقع الراهن هو العنصر الأبرز في كل التفصيلات التي ضمتها المداخلة.
لقد كان المدخل النزاعي الذي اختاره(رضوان السيد) لمقاربة المسألة الثقافية العربية يضم بين دفتيه النزاعات والتيارات والأطروحات التي يعتبرها (التيار الرئيسي) في الثقافة العربية مضرة أو معادية، وهي تتراوح بين ما هو غربي بحت أو تقليدي داخلي، أو خليط أو مشع بين هذا وذاك. وقد بحث أسباب الصراع وأشكاله مُذكراً بهجوم الكتاب المسلمين منذ ثلاثينات هذا القرن على ما أسموه بـ (التغريب) أي تبني الأساليب الغربية في الفكر والسلوك حيث اتخذت المسألة في البداية سمة النقد الإجتماعي فالثقافي، إلىýأن تحولت في الستينات إلى نقد سياسي أيضاً.. وعلى الرغم من أن التغريب مصدره الغرب، فإن النقد انصب في الأساس على الفئات الإجتماعية والثقافية الداخلية التي كانت في نظر جماعات التيار الرئيسي أو السائد، تتخذ من الغرب نموذجاً لفكرها وسلوكها الخاص والعام، ومع امتداد الحرب الباردة إلى الثقافة، بدأ الغرب نفسه يتعرض لهجمات من جانب الكتاب المسلمين من جهتين اثنتين: من جهة التبشير وتأثيراته في الثقافة، ومن جهة الإستشراق، المتهم تارةً بالتآمر مع التبشير، وطوراً بالتآمر مع الإمبرياليين الغربيين (ص14).
ولابد لهذا الصدام من أن يولد عناوين جديدة في ساحة الصراع الثقافي الإسلامي ـ الغربي، وبعض هذه العناوين معلنة، وبعضها الآخر مستتر يعمل في الخفاء أو بطريقة غير مباشرة علىýأقل تقدير. لكنها امتازت على الأولى بكونها تحدثت عن الأصالة في مواجهة المعاصرة التي بدأت تبرز في مظاهر جديدة على النمط الغربي، فاعتبرها الكتاب الإسلاميونـýاي هذه التحولاتـ غزواً صليبياً جديداًومن نوع مختلف للعرب والمسلمين بشكل عام.
على أنَّ الملاحظـ حسب السيد ـ أن الإسلاميين لم ينفردوا باكتشافاتهم للغزو الثقافي هذا والهجوم عليه، بل شاركهم في ذلك أكثر القوميين التقليديين أو القدامى، الذين ما تحولوا في الستينات إلى ماركسيين لينينيينـ ومن هنا ـ من مقولة الغزو الثقافي عادت الأمور إلى الإختلاط في السنوات الأخيرة عند الحديث عن العولمة، صحيح أنَّ الإقتصاديين كانوا هم السباقين إلى التحذير من مخاطرها. لكن سرعان ما أقبل المثقفون القوميون والإسلاميون (وبعض اليساريين) على مهاجمة آثارها الثقافية المدمرة، وقد خشي الإسلاميون على خصوصية الثقافة الإسلامية. كما خشي القوميون على الأبعاد الثقافية القومية (ص15)... وعلى الجانب الآخر يشكل صدام الحضارات ركناً اساسياً في عملية التجاذب الثقافي، حيث اتضح موقف الإسلاميين والقوميين على حد سواء، من أطروحتي (فوكوياما) ذات النزعة الإلغائية وتسويغ الهيمنة الغربية و (هنتنغتون) لنزعتها الإنكماشية والإنفصامية.. ها هنا يستخلص (رضوان السيد) أن المواقف السالفة الذكر (التغريب، العولمة، الغزو الثقافي، صدام الحضارات) تشكل مدخلاً لمقاربة المسألة الثقافية في العالم الإسلامي، باعتبار أن تلك النزعات والتيارات والأطروحات التي يتناولها الإنتقاد والنقص، قنوات للهجوم على الثقافة العربية والإسلامية، وأن كتاب النزعة الإسلامية ـ كما يرى السيد ـ يرون فيها حوائل دون الإستتباب والإزدهار، بيد أن نظرة ثانية على المواقف الإسلامية من هذه النزعات، تجعلنا نعيد النظر أيضاً فيما تقوم عليه أفكار الكتاب الإسلاميين المعاصرين أنفسهم لافي ردودهم فحسب، بل وفي أطروحاتهم أيضاً(ص 17).
تاريخياً تأرجحت مواقف الإسلاميين من الغرب وثقافته بين الرفض الكامل لكل ما هو غربي على المستوى الثقافي والسياسي، وبين النزعة الإنتقائية المحسوبة التي مارسها البعض إزاء كل ما يتفق مع النزعة الحضارية المستديمة للإسلام، لذلك لم يشأ الباحث (رضوان السيد) أن ينساق مع حالة التسرع في النقد المباشر لنتائج النزعة الإنكماشية الأولى إزاء الغرب، قبل أن يقرأ ولو بشكل موجز أسباب هذه النزعة توصلاً لإستطلاع نتائجها الظاهرة وغيرها.
فهذا الغرب الهائل ـ كما يرى السيد ـ مشكلة تكاد تستعصي، وهي تواجهنا بأشكال مختلفة منذ القرن الثاني عشر الميلادي، ثم صار المشكلة الحاضرة المستمرة منذ اكثر من قرنين من الزمن، وليس من شك فيýأن الثقافة الإسلامية اليوم لاتمت إلا بصلة ضعيفة جداً لثقافة المسلمين في القرن التاسع عشر، كما لاشك أن ذلك يرجع إلى الثقافة أو الثقافات الغربية بالذات، فالنقد الخارجي لرفض المسلمين للغرب ثقافياً حريّ بألا يحيط بالمشكلة من كافة جوانبها (ص18)
ولعل التأرخة التقليدية التي لم يستطع المثقفون العرب إلى الآن تجاوزها، والتي ارتبطت بصدمة العرب بالثقافة الغربية منذ أن وطأت قدم نابليون (مصر) كانت هي أيضاً هي النقطة التي حددها (رضوان السيد) لإنهاء حقبة من التغيير والتجديد الذاتيين التي ازدهرت في القرن الثامن عشر على حد قوله، على الرغم من أنه يسوق في هذا الإطار رأي Peter Gean في كتاب هذاالأخير (الأصول الإسلامية للرأسمالية)، غير أنه في نفس الوقت يرى ـ أي السيد ـ أن التصنيف الذي احتواه هذا الكتاب للتحولات التي برزت في المنطقة العربية والإسلامية والتي عبّرت إلى حد ما عن مسارات الصحوة واتجاهاتها في تمظهر الثقافة الإسلامية، يجب أن لايصرفنا المدخل النابليوني عن التفكير به وتحليله وردّه إلى أسبابه الحقيقية، فثمة حركة داخلية إسلامية للتجدد والإنبعاث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لايمكن تفسيرها بالهجمة النابليونية أو الغربية فقط، بل كانت هناك حاجة ملحّة للتغيير تعتمل في نفوس الإسلاميين دفعتهم إلى التحرك باتجاه الإصلاح، وامتدت هذه الحركة منذ أيامها الأولى حتى وصلت إلى رجالات الإصلاح الإسلامي أمثال (رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفيق العظم).هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بوعي أو تلقائياً في تحالف مع المشروع السياسي الإصلاحي، وإن اختلفوا مع بعض الحكام أو السلاطين، وهكذا فقد كان هناك عمل استمر على تقطع لما يزيد على الخمسين عاماً في سبيل تجديد الفكر الإسلامي ودعوته، وتجديد المشروع السياسي للأمة (ص21) وقد تمحور العمل الثقافي/ السياسي الإسلامي خلال نصف القرن ذاك حول فكرتين مُستقطبين ـ حسب السيد ـ أولاهما فكرة المنافع العمومية للشيخ رفاعة الطهطاوي والثانية فكرة (التنظيمات) التي أسهم بها خير الدين التونسي في الإصلاح الإسلامي. ويردّ الباحث هاتين الفكرتين إلى الإستئناس في صياغتهما عبر التأثر بالأسلوب الغربي الحديث، حيث قامت الأولى على الإستئناس بالدستور والنظام السياسي الفرنسي وقامت الثانية على الإسئناس بالتنظيم الغربي للمؤسسات ضمن الدولة الواحدة، مما دفع بهذين المفكرين إلى إرجاع هاتين الفكرتين إلى الأدلة الفقهية الإسلامية وتوصيات الدين الإسلامي بضرورة الإلتزام بهما، على الرغم من أن الثاني كان متحمساً أكثر من الأول للبحث عن الأدلة الشرعية التي تؤيد فكرته، وفي كل الأحوال فقد جاءت الفكرتان وسادتا الفكر الإسلامي ليصبّا في الإصلاح الديني والسياسي على حد سواء، وبذلك وضعت المؤسسات السياسية والإجتماعية في باب الضروريات من أجل بقاء الدين والمجتمع، حيث اتخذت المسألتان السياسية والدينية أبعاداً جديدة وخلاّقة، وذات طابع بنائي مُتّزن.. وكانت هذه العملية مقدمة ضرورية لفكرة (الجامعة الإسلامية) التي دعا إليها (جمال الدين الأفغاني) عام (1897م) وناضل في سبيلها عقوداً من الزمان.
يفهم (رضوان السيد) من بعض الأفكار والخواطر التي كتبها (الأفغاني) خلال رحلاته الإستطلاعية والتحشيدية واتصالاته الدولية أن المشروع الذي كان يرمي إليه هو مشروع (التضامن الإسلامي) الواعي واليقظ، الذي يضع المسلمين في موقف واحد أو مترابط في مواجهة الهجمة الغربية من أجل الإستعمار والهيمنة على العالم الإسلامي، لكن على ماذا يقوم (التضامن الإسلامي) المنشود؟ أو لماذا يمكن أن يقوم؟ يقوم ذلك التضامن في نظر (الأفغاني) على التوحد الذي تحدثه العقيدة الواحدة اليقظة والواعية، فالذي يجعل من هذا العالم الشرقي أو المشرقي ممكن التوحيد أو الإجتماع على موقف هو تلك الثقافة الشاسعة والرحبة التي نجمت عن ذلك الدين التاريخي الكبير الذي يستيقظ عالمه الهائل من سبات عميق ليستغل كل طاقاته من أجل إخراج الغربيين من دياره، والوقوف إزاءهم موقف الند، وفي سبيل ذلك، لا حرج في استخدام كل شيء من المخزون الثقافي لهذا العالم بما في ذلك العصبيات المحلية (الجنس أو القومية) دونما خشية جديدة من حدوث انقسامات داخلية بين الأعراق والعناصر فيه، لأن المشكلة (الغزو الغربي) واحدة، وهي تواجه الجميع، ويقتضي الأمر: أمر الوجود والنهوض التصدي بكل الإمكانات، وبشكل جماعي، وقد شهد (الأفغاني) أحائر ذلك النهوض، وذلك الوعي في كل مكان مضى إليه، في إيران والهند والنواحي الإسلامية في الإمبراطورية الروسية، والسودان ومصر، بل وبين المسلمين في منافيهم الأوروبية (ص25)
ومروراً بالكواكبي وولي الدين يكن وأفكارهما حول الإستبداد واستنكارهما لفكرة (المستبد العادل). وما حدث ورافق كل ذلك من تحولات سياسية عالمية عشية الحرب العالمية الأولى، حيث انعقاد المؤتمر العربي (1913) بباريس وتجلي توجهات الأكثرية الداعية إلى لامركزية واسعة ضمن الدولة العثمانية، في نظام تسوده الديمقراطية والعدالة بين شعوب الإمبراطورية. دخلت الثقافة العربية والإسلامية مرحلة تداول المصطلحات السياسية والأفكار الإصلاحية الشاملة للواقع السياسي، وكرست معظم مشاريعها الفكرية لمعالجة المشكلة السياسية، حتى ظنّ البعض أنّ المفكرين المسلمين قد أهملوا الجانب الإجتماعي. غير أن الباحث (السيد) يسوق لهذا الغرض مجموعة من النصوص التي تثبت خلاف ذلك، وكان أهم هذه النصوص نص في الفكر الإجتماعي كتبه (رشيد رضا) عام 1899م يبحث في الحقوق والمصالح المشتركة والمنافع القومية للأمة.
ثم أخذ (رضوان السيد) ينتقل بين الأفكار الإصلاحية لـ (محمد عبده في مصر) و(أحمد خان في شبه القارة الهندية) و(التيار الإصلاحي في بلاد الشام) معرّجاً على أهم التطورات التي حصلت في الفكر الإجتماعي والسياسي خصوصاً بعد التغيرات الكبيرة التي رافقت الحرب العالمية الأولى. وبداية دخول الإستعمار الغربي لغزو الديار الإسلامية والتحديات الجديدة التي فرضها هذا الغزو على العرب والمسلمين جميعاً، حتى ترتب على نهاية الدولة العثمانية (1918-1920) ثم الخلافة (1922-1924) ثلاث نتائج ـ حسب السيد ـ هي: تبلور مشروع الدولة الوطنيةـ القومية في المشرق الإسلامي وافتراق الفكر الإصلاحي تدريجياً عن الدولة الطالعة، وصعود تيارات واتجاهات وحركات الهوية والأصالة ضمن الفكر الإسلامي(ص34)
أما كتابات الصحويين ومشاريعهم في أربعينات هذا القرن فقد توزعت بين فضح الإستشراق والربط بينه وبين الإستعمار من جهة وبين القطيعة التدريجية مع الغرب وثقافته من حيث الإتجاه للنقد الحضاري من جهة أخرى، فالغرب كان قد ورّط نفسه في حربين ضروسين وحشيتين وبدأت الرؤى التشاؤمية المنُذرة بانهيار الغرب وزواله تظهر وتنتشر من جانب المثقفين اليائسين في الغرب، ومن جانب العرافين وأشباههم من صناع الثقافة الشعبية.. هذه الرؤية التي استمرت حتى الآن لتكرس القطيعة بين الإسلاميين والغرب تحت عنوان ان الثقافة الغربية تحتوي على جوانب مظلمة وأنّ من مقاصدها الإستعمارية سحق ثقافة العرب والمسلمين وإذابتها لكي يسهل عليها ـ وقد تحطمت هويتهمـ أن تفترسهم نهائياً. وهنا ينقد الباحث بعض الإسلاميين الذين تتباين مواقفهم وتتناقض أحياناً في صراعهم ضد الغرب حيث يقول «الطريف أن هذا التصور المهول الذي يتطرف أحياناً إلى أقصى الحدود فيعتبر الثقافة الغربية على اختلاف تياراتها نتاجاً يهودياً ـ هذا التصور ينزع لأطروحة هنتنغتون التي تقول بالبعد الثقافي والحضاري للصراع على المستوى العالمي، وينبري للرد عليه في مقالات مستفيضة، على الرغم من أنّ الإسلاميين على اختلاف تياراتهم ظلّوا طوال نصف القرن الأخير يزعمون أن صراعنا مع الغرب صراع ثقافي وحضاري مثل هنتنغتون تماماً وإن لأغراض أخرى» ص40.
ثم استمر الباحث في ملاحقة مسيرة التحولات الفكرية والإسلامية، وتوقف قليلاً عند المسألة الحضارية الكبرى التي تناولها (أبو الحسن الندوي) في منتصف الخمسينات في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) والتي أطلق عليها الباحث بـ (النزعة الإكتفائية) التي ـ كما يرى ـ أنها برزت عشية القطيعة بين القوميين والإسلام، أو بين الإسلاميين والدولة الوطنية الناهضة.. وكان لأبرز التيارات الإسلامية الحديثة جداً كالسلفية الجديدة والإحيائيين الجدد الذين وصفهم ـ السيد ـ بأصحاب النزعة الإنغلاقية التأصيلية حضور في مفاصل البحث الذي قدمه الباحث، حتى انتهى به المطاف إلى تناول المفكر الجزائري الكبير (مالك بن نبي) الذي كتب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) و(الصراع الفكري في البلدان المستعمرة)، إلا أن الباحث وصفه بأنه يغرد خارج السرب لأنه اتجه للتواصل مع الثقافة الحديثة، ونخب الدولة الوطنية، في وقت كان فيه الإحيائيون الإسلاميون بالمشرق كله يتجهون للقطيعة مع الدولة الوطنية والثقافة الحديثة على حد سواء.
وأتت الثمانينات بمتغيرات في المواقع الإجتماعية والسياسية للإسلاميين فتمايزوا بين راديكاليين ومعتدلين، وبدأ المعتدلون يعدّلون من خطابهم وسلوكهم السياسي، ليس نتيجة نقد ذاتي للخطاب والأطروحات، بل لتحولهم إلى فريق المعارضة الرئيسي وإرادتهم أن يحظوا بقبول الفئات الوسطى في المجتمع، وأن تتغير النظرة إليهم على المستوى العالمي. وكان من ضمن التحول الذي حدث لديهم تدريجياً إدخال تعديلات على طرائق استخدامهم لمنهج التأصيل، بتجاهله في الأمور الفقهية، والجمع بينه وبين مقاصد الشريعة في المسائل النظرية والقيمية والمعرفية، ومسائل العلاقة مع العالم.
أخيراً يصل الباحث (رضوان السيد) إلى نتيجة بحثه وهي (أننا نطل على القرن الحادي والعشرين، ونحن نحاول الخروج من أزمة متعددة الوجوه، أعمقها الوجه الثقافي الذي استولى عليه الإسلاميون بعد اليساريين فما كانوا أكفأ منهم بكثير.. إلاýأن الباحث يعود ليذكر أن التحول الإسلامي عن القطيعة على المستوى الثقافي قد بدأ أواخر السبعينات على يد المرحوم الأستاذ اسماعيل راجي الفاروقي وزملائه الذين أقاموا مؤسسة بأميركا لإسلامية المعرفة (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) وبذلك حاولوا مخلصين العودة للتواصل دون التخلي عن إشكالية الهوية.
ويخرج (رضوان السيد) بتصوراته الأخيرة في بحثه هذا بأنّ الوضع الثقافي العربي الإسلامي لايبدو مطمئناً إذن، وتفاقم من أزمته المتغيرات على المستويين السياسي والإقتصادي، بمعنى أن البيئة لاتساعد على تراكم سريع أو القيام بنقدية جذرية من الداخل. بيد أن المطمئن والواعد أمران: عودة مسائل النظر والتفكير والنقاش إلى الواجهة، وأن هناك قناعة عميقة لدى الإسلاميين بضرورات التغير والتجدد والتواصل مع العالم من أجل الإستمرار، ومن أجل المستقبل (ص49).
في تعقيبه الذي أورده الدكتور «أحمد برقاوي» على بحث الدكتور «رضوان السيد»، أشار الأول إلى أن الوصف التاريخي يغلب عند أكثر المؤرخين على التوقف عند بنية الوعي ذاته، وأرجع سبب ذلك إلى غلبة المهنة عندهم، إذ أن ولع المؤرخ برصد التطور التاريخي يُقلل من توجهه إلى الواقعة ذاتها من دون أن تقدم لديه الرغبة في التقاط العام المجرد.
البرقاوي لايشك في أن فكرة النهضة العربية قد جاء تزامناً مع نزعة التوسع الأوروبي المسلح بالتقنية والعلم والعسكر والديمقراطية والأفكار التنويرية، إلا أنه يرى أن تزامناً كهذا لايفسر نزعة الشرق لإنتاج أوروبا في عالمه لو لم يكن الشرق قد وعى ـ على نحو ما ـ تخلّفه عن الغرب.
هكذا ولّد الواقع والغرب والتاريخ الذاتي أشكال وعي التقدم التاريخي، فكان الإصلاح الديني الإسلامي في مصر والشام شكلاً من أشكال الوعي التاريخي الجديد، وعي أساسه الإسلام، ولكن الإسلام كما يجب أن يكون، لا كما هو كائن، اسلام يكون بمقدوره أن يواجه التجربة الجديدة، فكان تجاوزاً أرقى لسلطة السلف التقليدية، أو للإسلام الذي كفّ عن الإجتهاد، وصار أسير ترسيمات فقهية صُلبة، فما عاد بمقدوره أن يقدم إجابات أصيلة عن أسئلة العصر، وهي أسئلة على أي حالـ لم يطرحها أي عصر من العصور السابقة.
من هنا يرى البرقاوي أن الإصلاح الديني ثمرة تناقض بين النص والتاريخ بين التجربة التاريخية القديمة والتجربة المعيشة.
وضمن هذ العملية الواعية للواقع والتاريخ في الوقت نفسه يتلون الصراع الثقافي الإسلامي ـ الغربي بألوانٍ مختلفة في تيارات متعددة تنزع غالبيتها لتحقيق الذات عبر مشاريعها الفكرية والثقافية العامة، ويبقى مقياس اقترابها أو ابتعادها عن إصابة الهدف الذي يمثله التمازج الحضاري والتعايش الثنائي بين المختلفين هو الذي يعكس واقعية هذه المشاريع والتفهم الكامل للتعامل معها انطلاقاً من الموضوعية العلمية وحدها، ودون أن يتم التعامل معها في دائرة المواقف المسبقة.
لكن البرقاوي يرى ها هنا أن المرحلة التي نعيش، وهي مرحلة مأزومة، وقد حوّلت الإختلاف إلى صراع سياسي، صارت شروط الحوار معها معدومة.
ولعل أهم معلم من معالم الأزمة هو الوعي المأزوم ذاته، الذي يظهر الآن في صورة هجوم بعض الإسلاميين الجدد على الإصلاح الديني ذاته والنظر إليه على أنه مؤامرة خارجية وخارج عن منطق الإسلام ذاته بوصفه ديناً، واستشهد ببعض النصوص للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، حيث يستنتج ـ أي البرقاويـ أن هناك منطلقات فكرية نكوصية إسلامية راهنة، فهناك رفض مطلق لأي عملية تجديد اسلامية، وأن كل عملية تجديد إنما هي ثمرة من ثمرات مخططات الغرب لتخريب الإسلام ذاته.
انطلاقاً من هذه الفكرةـ يؤكد البرقاوي ـ صار من السهل على المسلم الصحوي أن يربط مباشرة بين الشيخ الأفغاني والشيخ عبده وأشياعهما من جهة وبين السياسيين الإنكليز المتآمرين على الأمة، دون أن يكلف السلفي نفسه دراسة الشروط الإجتماعية ـ السياسية والتاريخية والعالمية التي أنجبت الإصلاح الديني الإسلامي في مصر والشام وتونس.
ولم ينسَ البرقاوي في تعقيبه أن ينتقد الإسلاميين الذين يتميزون بنزعة انغلاقية على النص الإسلامي الموحى به والذي ـ كما يرى ـ لايترك للعقل أدنى قدرة على التحرك وقد ربط بين أصحاب هذه الأفكار وجميع الحركات العنفية الأصولية التي تقف وراء حملة التكفير التي تطال كل من له عقل يفكر على حد قوله.
ويرى البرقاوي أيضاً، أنه لما كانت شروط الأزمة المجتمعية لاتسمح بإظهار محاولات التجديد الإسلامي الراهنة، فإن للخطاب النكوصي الإسلامي مركز الصدارة الآن(ص60).
أما الدكتور أحمد برقاوي فقد بدا ـ كما جاء في مقدمة بحثه ـ أنه يعتقد بأن أسهل الحلول التي تريح العرب اليوم لمناقشة المسألة الثقافية، هي تلك الحلول التي تجمع النقائض للخروج من النقائض، بحيث لايغضب أحد الطرفين.. وهو يرى أنَّ ظهور نزعة كهذه سببها غياب القوى الإجتماعية ذات الفاعلية التغييرية للمجتمع والتي يتيح غيابها ظهور مختلف الطوباويات.
إنه يحاول الدخول إلى صميم الموضوع «ميتودولوجياً» واختار صيغة (التصالح) المحببة إلى الكثيرين، عبر دراسته ومناقشته لمجمل الأفكار الواردة في كتابين صدرا في عامٍ واحد يرى أنهما أنموذجين مناسبين لتناول مشكلة واحدة (المسألة الثقافية) حيث قدّما حلولاً متقاربة من دون أن يطّلع أحدهما على كتاب الآخر.
لقد أبرز (البرقاوي) أهم الأفكار الواردة في الكتابين على طريقته المعهودة في عرض السياقات العامة التي تقرب الإشكالية المطروحة إلى الأفهام أولاً، ومن ثم الشروع في نقد المتهافت منها منطقياً، أو على أقل تقدير نبش المتناقضات فيها وطرحه من البحث.
يرى الكاتب الأول الدكتور الخطيب في كتابه (الثقافة والتربية في خط المواجهة) ـ والكلام للبرقاوي ـ إنّالمجتمع العربي يسير في تطوره باتجاه التقدم العلمي والتنظيم الإجتماعي على اساس القيم التي فرضت نفسها على المجتمعات المعاصرة، سواءً أكانت شرقية أم غربية، وهذه القيم هي الإتقان التقني، الإستهلاك والرخاء، وما أشبه ذلك من القيم..والمشكلة بالنسبة إلى العربي المعاصرýأنه كلّما اقترب من الموروث الثقافي شعر بالإطمئنان إلى هويته أو إلى المفهوم السائد عن هويته، ولكنه في الوقت نفسه، شعر بالإبتعاد عن روح العصر ومشكلاته ومتطلباته.. وعلى هذا الأساس يقرر الخطيب: أنّ الميل الشديد باتجاه الهوية أو الأصالة التاريخية يحمل في ذاته خطر الإنقطاع عن العالم المعاصر، وبالتالي عن إمكان تحقيق الأصالة ذاتها.. وفي الوقت نفسه فإن الجنوح الشديد باتجاه المعاصرة والزي الشائع. يحمل في ذاته خطر انقطاع الإنسان أو المجتمع عن تاريخه وهويته وبالتالي يجعله معرضاً للغزو ويضعف حاسته التمييزية.
ومن هنا يرى الخطيب: أن أنصار الأصالة، يتهمون كل جديد بأنه دسيسة أجنبية وأفكار مستوردة.. بل ويشيعون أن كل جديد في طراز الثقافة، إنما يستهدف شيئاًواحداًهو القضاء على ثقافتنا وأصالتنا..وبالمقابل فإن أنصار المعاصرة يدمغون التقليديين ـ أي أنصار الأصالةـ بالتحجر الفكري، والإنقطاع عن روح العصر، وعبادة الماضي، ويربطون بين النفوذ الإستعماري وبين التمسك المتحجر بالقديم.
ولابد للخروج من هذا المأزق من حل يكفل الراحة لكلا الطرفين، من خلال صيغة فعّالة لإقامة توازن خلاّق بين الأصالة والمعاصرة.. كيف يتم ذلك بمعادلة منشودة بين ثلاثة محاور، تفعل فعلها اليوم في تكوين ثقافتنا المعاصرة.
1ـ الثقافة العربية الموروثة
2ـ المتطلبات الثقافية لمجتمع عربي متطور باستمرار
3ـ المناخ الثقافي المعاصر في العالم.
هنا، ينتهي الدكتور (البرقاوي) من عرضه للفكرة الرئيسية التي عالجها الدكتور الخطيب في كتابه المذكور، وينتقل بعد ذلك إلى كتاب الدكتور عبد الله عبد الدايم(في سبيل ثقافة عربية ذاتيةـ الثقافة العربية والتراث) حيث يتساءل (عبد الدايم): مالمسألة الثقافية في عصرنا، وما موقع الثقافة العربية فيها؟
ويتساءل ايضاً: هل هناك ثقافة عليا ترنو إليها الأنظار، ونحوها يجب أن تشرئب إلى جانب ثقافات تعدو وراءها لاهثة، وتشعر تجاهها بالنقص والتخلف؟ وبعد أن يستعرض المواقف التي وقفها المثقفون إزاء الثقافة الغربية لاتروق له هذه المواقف، فيستبدلها بصيغة جديدة للثقافة المطلوبة، أو للثقافة العربية كما يجب أن تكون، كمعالم على الطريق دون أن يزعم أبداً أنه يقدم تصوراً كاملاً للصيغة الثقافية المطلوبة.
إنه يرفض التلفيق من جانب ويؤمن بالتفاعل الثقافي بين الثقافتين من خلال ربط عضوي، لن يتم إلا إذا غدت قيمة التراث واتجاهاته قيماًمتحركة محركة حيّة; إلا إذا لبست اللبوس الذي يستلزمه التقدم العلمي التكنولوجي، والثورة الثقافية الحقة لاتعني هدم الماضي وتقويضه، وإنما تعني أن نجعل هذا الماضي حياً جديداًعن طريق دمجه بالممارسة الإجتماعية والحضارية الفعلية.
يتجه (البرقاوي) بعد ذلك نحو تحديد نظري لمفهوم الثقافة، فيرى مبدئياً: أنّ الثقافة هي طريقة الوجود الإنساني بعامة، التي لامعنى لها خارج ما يبدعه البشر وخارجه العلاقات التي يقيمونها فيما بينهم، وتحدد بالتالي سلوكهم وردود أفعالهم ونشاطاتهم وأهدافهم.
إنّ البرقاوي يحاول أن يذكر دائماً بأن الثقافة هي مجمل العلاقات الإجتماعية وقد انصبت في قالب مادي علمي يحقق غرض الوجود الإنساني وتفاعله مع الطبيعة فهي إذن تعبير عن مجمل السيرورة التاريخية ـ الإجتماعية، وما السيرورة التاريخية ـ الإجتماعية إلا تطور الحياة ذاتها الذي ينطوي على جميع القوى الإنتاجية بدءاً من الإنسان مروراً بوسائل العمل وانتهاءاً بكل أشكال الإنتاج المادية والروحية.الثقافة هي التعبير عن كلية حركة المجتمع البشري ماضياً وحاضراً وفي المستقبل.
وعلى هذا الأساس، فإن الحديث عن ثقافة عالمية لايلغي إمكانية الإحتفاظ بالثقافة القومية. ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن تطور ثقافة قومية، نتحدث عن جملة من الشروط الموضوعية، أحد هذه الشروط هو ذلك الذي يدرس العلاقة بين الثقافة القومية والثقافة العالمية ذات التأثير المباشر وغير المباشر عليها.
ويربط (البرقاوي) عالمية الثقافة بالعامل الإقتصادي، التقني، السياسي، العلمي، الديني، الأيديولوجي. إذ بدون تفوق ظاهر في كل هذه المجالات لايمكن أن تسود ثقافة معينة وتصل إلى العالمية واستشهد على ذلك بحضارة الشرق القديم التي كانت تتفوق منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد. ولم ينس (البرقاوي) أن يعطي أهمية بالغة لنمط الحياة والصراعات الطبقية والحرية السياسية في إحداث عملية التغيير الثقافي، فقد فصّل الكلام فيها، وساق أمثلة كثيرة لتأثير هذه العوامل في عملية التغيير الثقافي، وهو بذلك ـ كما أراهـ ينقل صورة مشابهة لأفكار (غرامشي)، أو منهجية مشابهة لمنهجية ذاك، فالثقافة ترتكز على الإستقلال أولاً ومساحة واسعة من الحرية لاتضاهى.
على الجانب الآخر يربط (البرقاوي) بين التناقضات الموجودة بين الدول العربية الفقيرة والدول العربية الغنية. هذا التناقض الذي يؤثر بشكل أو بآخر على الشعور والإحساس المتنامي بالقضية القومية ومصلحة مواطني كل دولة، وهنا تختلف التصورات عند الناس حول مفاهيم مثل (الدولة، المواطن).
في المبحث الثاني الذي قدّمه (البرقاوي) في ورقته، تناول الشروط الراهنة لتكوّن الثقافة العربية، فنقول (إنّ أول ما يواجه الباحث العربي سؤال قد لايطرحه الفرنسي أو الإنكليزي، وهو يجعل من ثقافته موضوع بحث، ألا وهو، فالمقصود بالثقافة العربية؟ وهل هناك ثقافة عربية بالمعنى الذي أشرنا إليه، أي بعضها كلية؟ أم نحن أمام ثقافات؟
فنحن انطلقنا بالأساس ـ والكلام للبرقاوي ـ من أن الثقافة في نهاية الأمر ثقافة مجتمع محدد تاريخياً، غير أننا في حالة العرب اليوم أمام مجتمعات ودول عربية متعددة جرى ويجري تطور كل منها بمعزل عن الاخر من جهة وفي ترابط من جهة أخرى، غير أن عوامل التجزئة هو الآن أكثر حضوراً من عوامل الوحدة (ص80).
وهنا يستعرض (البرقاوي) عوامل التجزئة وحالة التبعثر العربي واختلاف الثقافات في الخصائص من بلد لآخر، دون أن ينفي وجود خصائص ثقافية عامة مشتركة بين البلدان العربية وشعوبها. على الرغم من أنه يقسم الثقافات العربية إلى الدوائر التقليدية المعروفة (بلدان الجزيرة والخليج، بلاد الشام والعراق، بلدان المغرب العربي، دائرة مصر والسودان) حيث نجد في كل دائرة من الدوائر سمات ثقافية مشتركة إلىýابعد الحدود هي أكثر بكثير من السمات المشتركة بين الدوائر(ص83)
وفي خضمّ التأثير القوي للكثير من العوامل المشتركة بين هذه الدوائر يكتشف البرقاوي أن التبدلات والتحولات الجذرية في الجانب الإقتصادي والتاريخي يؤسس لعملية الصراع بين القديم والجديد في كل بلدٍ من بلدان هذه الدوائر، ويستعين بذلك بالإستشهاد ببعض السياقات الفكرية العامة لبعض المثقفين العرب أمثال (هشام شرابي ومنير شفيق) في تحليل البنية الأساسية لعملية الصراع هذه من خلال بعض كتاباتهم في هذه الإشكالية ولهذه السياقات الفكرية طبعاً تدخل في تحليل حالة الصراع القائمة بين الإسلام السياسي الجديد والإسلام التقليدي، حيث تعطى المسألة بعداً شمولياً يتناول كل مفاصل الحياة المجتمعية الراهنة.
لم ينج تعقيب الباحث (رضوان السيد) على كلام (البرقاوي) من العودة إلىýأساسيات الإختلاف التي تحدث عنها في ورقته هو في النصف الأول من الكتاب، غير أنه اتجه إلى التركيز على تفصيل (الإنهماك في عملية لتشريح الذات) همّها الظاهر الغرق في الماضي والتاريخ، إعادة للكتابة والتـأمل والتصوير في محاولاتٍ للسستمة، أو النقض، أو التقديس، أو التأويل.. فاستعرض من جديد محاولات الإسلاميين من جهة ومثقفي اليسار في الستينات الذين كانوا يمارسون القراءة التراثية من مواقع السلطة والسلطان. وهم أو أعقابهم يقومون بذلك اليوم بحثاً عن دور أو رؤية أو سلطةٍ ضاعت من أيديهم، ويأملون بوعي أو بدون وعي أن يتمكنوا من التقاطها من جديد بعد أن ضاعت مصداقيتهم سلطة كانوا أم معارضة.
همّ المثقف العربي الفعلي ـ كما يرى السيد ـ هو هامشيته وضآلة تأثيره، وعلى الرغم من ذلك فالتشخيص الذاهب إلى أن الثقافة العربية اليوم متخلفة من مواكبة العصر بحجة عدم دخولها في (العولمة) أو انهماكها في بحوث وتأملات الهوية.. هذا التشخيص يتجاوز عدة أمور أنجزتها الثقافة العربية في العقود الخمسة الأخيرة، تدخل ضمن (مهماتها التاريخية) هي: تحقيقها ما يمكن اعتباره ثقافة واحدة (تفصيل) والطابع التنويري العام الذي اتجهت إليه كتاباتهم (تفصيل) وتمكنهم من إقامة علائق متشعبة وقوية وعميقة مع ثقافات العالم المتقدم (تفصيل).
غيرýأن الثقافة العربية اليوم تعاني من مشكلتين إحداهما بنيوية والأخرى ايبستمولوجية من جهة، واجتماعية/ سياسية من جهة أخرى.
المشكلة البنيوية تتعلق بالعودة لمناقشة أساسيات مثل قضية الهوية وقضية الأصالة، والإمتداد بذلك بالعودة لتدارس الوجود السياسي وفكرة الدولة.
والمشكلة الإيبستمولوجية فتتمثل في ضآلة المعلومات التي تستبطنها الكتابات العربية الجديدة حتى ما كان منها مدرسياً أو ميدانياً.. أما الجانب الإجتماعي ـ السياسي للمشكلة فيتمثل بالتهميش الذي يعاني منه المثقفون العرب بشتى فئاتهم.
من جهة أخرى أخذ (السيد) على بحث (البرقاوي) السكونية النسبية في طرائقياته واختلف معه ومع سميرýأمين وهشام شرابي في الرؤية إلى الحداثة والتحديث، وحينما يصل (البرقاوي) بعد رحلته الطويلة هذه إلى نهاية بحثه في المسألة الثقافية يتناول العلاقة بين (الثقافة والتحولات الطبقية).. يحاول الباحث هنا أن يجيب على سؤال أساسي هو: هل تنتج هذه التحولات المجتمعية ـ الطبقية العميقة معادلها الثقافي في الوطن العربي أم لا؟
يستعرض (البرقاوي) أولاً طبيعة هذه التحولات الطبقية، والتي أرجعها إلى رأسملة المجتمع ابتداءً من مجتمع الفلاحين في القرية وحتى تجار المدينة والدولة، وهم يقفزون بمستواهم الإقتصادي عالياً نتيجة توفر الوسائل الحديثة للعمل والتطور السريع، مما أدى إلى تحول ملحوظ في البنية الاساسية لكل حقل من هذه الحقول الإجتماعية، فحدثت الهجرة المتزايدة من الريف إلى المدينة.
لقد شهدت الفترة منذ السبعينات حتى الآن توسعاً هائلاً في المدينة العربية حيث أكثر من نصف السكان يعيشون في المدن، وخاصة في العواصم، وهذا لايعود إلى الزيادة السكانية الطبيعية للمدنيين بل إلى هجرة الريف إلى المدينة.
ويقصد (البرقاوي) من استعراضه المفصل هذا إلى دراسة الأسباب التي قد تشكل عوامل مهمة في التغير الثقافي في القيم والأعراف والعادات والتقاليد التي تبرز كملامح خاصة ومميزة بين كلا البيئتين (الريفية والمدينية). ها هنا يوجد صراع بين هذه القيم، يحاول القديم التمسك بقديمه من جانب غير أنه ينزع إلى تقليد (الحديث) والجديد من أسلوب الحياة تبعاً لتقدم وسائل الإنتاج السلعي والتعامل مع المنظومة الإنتاجية المادية، وما تتركه من أثر كبير في تأسيس المشروع الثقافي الذي يستوعب هذه التغيرات والتحولات الطبقية. لأن التعامل مع هذه التحولات يحتاج إلى مستوىً علمي يتعاطاها وفق ضوابطها العامة على أقل تقدير.
أخيراً يخلص الباحث إلى نتيجة هي (أن الثقافة العربية الراهنة، تعيش حالة تكوّن مرتبطة بسيطرة العلاقات الرأسمالية العالمية، فالمجتمعات العربية التي تدخل الآن حقل العلاقات الرأسمالية، تدخلها بعوامل كبح ثقافة سائدة موضوعياً، وبعوامل اختراق شديد للثقافة العالمية بالمعنى الذي أشرنا إليه في تعريفنا للثقافة العالمية) ص110
وفي التحليل الطبقي، وفي الأحكام البنيوية على مجتمعاتنا وأنماطنا الثقافية، وإذا كانت (تبعية) سمير أمين ـ والكلام للسيد ـ فرضية تتطلب نقاشاً، فإن (بطركية) شرابي رؤية رجعية لاتصمد أمام المحاكمة العقلية فضلاً عن إمكان إثباتها ميدانياً. لكنه ـ أي السيد ـ في تعقيبه هذا لم يعدم وجود اتفاق مبدئي مع بعض الآراء التي أرودها (البرقاوي) كالعلائق الإجتماعية للثقافة ومسألة الهوية الثقافية للأمة العربية ككل فضلاً عن الثقافة الوطنية التي تتجاوز المعنى الجغرافي.
عالج الكتاب المفاصل الرئيسية في المسألة الثقافية عبر منهجين مختلفين بعض الشيء، هذا الإختلاف الذي رسم صورة جديدة في الحوار، أستطيع أن أطلق عليها صورة الحوار (المتمم والمتناقض) في الوقت نفسه، لأنّ «البرقاوي» أعاد ما كتبه زميله «السيد» بشكلٍ مقلوب من جهة، ومعاكس من جهةٍ ثانية.
هذا لايعني طبعاً، أن ليس ثمة جديد في ما يطرحه (البرقاوي) من تحليل ووجهات نظر، إلاّ أن الأول ـ أي رضوان السيد ـ استخدم منهج «العرض التاريخي» وحاول أن يتوقف قليلاً عند محطاتٍ اعتقدها مهمة وجديرة بالبحث والتحليل، لكنه مع كل ذلك لم يقدم جديداً، ويعود السبب باعتقادي إلى الإستهلاك الكبير الذي أصاب هذه الأساليب المنهجية في الطرح، إذ لم يعد جيلنا الجديد يقتنع بهذا العرض الظاهري لعملية الصراع الثقافي مع الغرب، ولم تعد هذه الأجوبة الجاهزة تروي عطش هذا الجيل الذي يُعبر عنه كمٌّ هائل من التساؤلات حول طبيعة الصراع ومسألة الهوية الثقافية، وموقفنا كعرب وكمسلمين من التسارع الثقافي والحضاري للأمم الغربية، صحيح إنّ الدكتور رضوان السيد استطاع أن يعرض لتاريخ هذا الصراع بعقلية غير تقليدية في كتابة التاريخ، إلا إنه ـ كما أرى ـ لم يلامس جذور المشكلة الثقافية كما ينبغي له كمؤرخٍ واعٍ يكتب لنهاية قرنٍ ماضٍ كالقرن العشرين الذي عجَّ بتيارات وعيٍ جديدة ومتلاحقة تنهض على أساس (البنيوية والتفكيكية، وما إلى ذلك) من المذاهب، فكان على الباحث أن يلتفت إلى أن موضوعاً كهذا لايمكن أن يكتمل معرفياً دون أن يتناول بنيوياً وتفكيكياً، على الأقل في مجال النصوص التي تركها الإسلاميون أو التنويريون العرب في حدود هذه المسألة، لأن هذه المناهج أثبتت في الواقعýأنها قادرة على كشف الكثير من القضايا التي تغفلها المناهج الأخرى وخصوصاً التقليدية.. أو على أقل تقدير، لو كان الباحث قد تناول المسألة الثقافية عبر ما يسمى بـ «ايبستمولوجيا التاريخ» فإنه سوف يصل حتماً إلى نتائج جديدة تكسب الموضوع أبعاداً إضافية تساهم كثيراً في توضيح ما التبس منه على الباحثين، هذا من جانب، ومن جانب آخر لم يكن التحليل الذي ساقه السيد بخصوص معرفيات ومنهجيات الصحويين الإسلاميين المعاصرين في مواجهة التغرب موفقاً في الطرح، وهذا الشيء نفسه وقع فيه زميله الدكتور (البرقاوي) إذ قاما بجمع الصحويين الإسلاميين كلهم تحت لافتة واحدة واستشهدوا ببعض سقطاتها الفكرية والسلوكية كاعتناق الإرهاب ديناً والسعي لتطبيقه تحت عنوان الخروج عن الدين مما يؤدي إلى التكفير، بالإضافةýإلى نقطة مهمة أخرى، وهي إغفال الباحثين الدور المهم للصحوة الإسلامية في إيران في التعاطي مع الغرب ثقافياً وحضارياً، خصوصاً بعد التغيرات الأخيرة التي حصلت في إيران مع بداية عهد الرئيس الجديد الدكتور محمد خاتمي.
إنّ الباحثين نفيا وجود حالة من الصحوة الإسلامية تتعاطى مع الغرب دون أن تلغيه وهذا الرأي أثبتت التجربة خطأه بشكل واضح مع ما تقدم من القول إنّ ثمة تغيب لايفسر لطائفة كبيرة من الصحويين الإسلاميين المعاصرين تتمثل بالحركات الفكرية والسياسية والشيعية في العالم الإسلامي، لايعدّها الباحثون والمثقفون والمعنيون بهذا الشأن ذات وجود مؤثر، ولم يكلفوا أنفسهم عناء بحث ودراسة أفكار هذه الحركات وبرامجها الفكرية والسياسية في قيادة المجتمع والدولة، ولذلك وقع الباحثان في نفس هذا الإتجاه التغييبي، فلم يُلفتا النظر إلى وجود صحوة إسلامية معاصرة متفهمة كالتي تمثلها هذه الحركات، وعلى هذا الأساس ننفي أن يكون خطاب الصحوة الإسلامية المعاصرة كله نكوصياً كما يزعم الدكتور أحمد برقاوي.
من جانب آخر، فإن الدكتور البرقاوي نفسه ـ وكما قدمنا القول في ذلكـ حاول أن يستخدم منهجاً بنيوياً في تحليل المسألة الثقافية، فكان أكثر تركيزاً من زميله (السيد) حيث أجاد عرض المشاكل الرئيسية التي تقف حائلاً وحاجزاً في طريق التغير الثقافي نحو الأحسن، كما قام بتحليله الماركسي للصراع الطبقي والتناقض الطبقي الذي أنتج جملة من العوامل التي اشتركت في تأخير عالمنا العربي والإسلامي مما أثر باسقاطاته الكثيرة على الفهم الواعي لعملية التخلف نفسها إزاء الغرب، ولعل البرقاوي في طرحه لهذهِ العوامل كان أكثر جرأة من زميله (السيد) لأنه طرح المسألة السياسية بكل تفاصيلها ودرس آثارها السلبية على حرية الفكر ومن ثم آثارها على المسألة الثقافية بشكل عام.
غير أن البرقاوي في طرحه الأخير الذي يتمثل بتأثير الرأسمالية العالمية على حالة التكوّن في الثقافة العربية الراهنة، لم يكن موفقاً تمام التوفيق، بل بدا متراجعاً في تفاؤله بتطور الثقافة العربية الراهنة عبر تحررها من عوامل الضغط الخارجية والداخلية على عكس زميله (السيد) الذي عبّر عن اطمئنانه المشروط الواعد في تطور الثقافة العربية إذا حدث أمران هما: عودة مسائل النظر والتفكير والنقاش إلى الواجهة، وقناعة عميقة لدى الإسلاميين بضرورات التغير والتجدد والتواصل مع العالم من أجل الإستمرار، ومن أجل المستقبل.