[1]
بين الدين والأدب.. التعارض والتوافق
العلاقة بين الدين والأدب وثيقة جداً, ولم تنقطع على مر العصور, لأن الدين والأدب فعاليتان إنسانيتان من حيث الممارسة والأداء لاسبيل إلى الإستغناء عنهما, أو نكرانهما مهما طرأت على حياة الإنسان من تغيرات وأحوال. إلا أن أحدهما قد يتقدم على الآخر في زمن أو تتبدل الصورة في زمن آخر, لكن تفاعلهما الدائم هو الأصل الذي لاعدول عنه. ولعل أوضح تجليات ذلك التفاعل بزوغ الأسطورة ثم ترعرعها بينهما, لتثري الفكر الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره, وتبين عن حيرته في التردد بين تينك الفاعليتين.
ويبقى الإنسان هو مركز الفاعلية بالنسبة للدين والأدب والأسطورة معاً, وهكذا يمكن لنا أن نعد كل نتاج على هذه البسيطة في المجالات السالفة هو نتاج انساني من حيث الغاية والهدف, إذ الكل مسخر للإنسان {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات ومافي الأرض, وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة, ومن الناس من يجادل في الله بغير علم, ولا هدى ولا كتاب منير} لقمان (2)
يلقي القرآن الكريم ضوءاًعلى جوانب تلك العلاقة بين المجالات الثلاثة في معرض رد ما اتهم به النبي الكريم حين نعته المشركون بالكاهن أو الساحر أو الشاعر (1) . فسواء أكان هذا الإدعاء مشيراً إلى تسفيه الدعوة وصاحبها بنظرهم, أو إلى اللبس في أذهانهم, فإنه يؤكد وجود العلاقة ـ عند من ادعوا ذلك, وهم المعنيون بالخطاب القرآني إذ ذاك ـ بسبب الذاكرة التاريخية, أو المشابهة العملية, أو التداخل النصي بين شخصية النبي والكاهن والساحر والشاعر, فيما يتصف به كل منهم, أو فيما يصدر عنه.
ولا أحسب الأمر يأتي هكذا للتعريض المحض بالتقليل من شأن النبي برميه بالكهانة أو السحر أو قول الشعر, فالوقائع التاريخية تشيرýإلى المركزية والمكانة المرموقة التي كانت تحتلها شخصية كل واحد من هؤلاء جميعاًفي المجتمعات الغابرة.
وليس يخفى أن الشاعر القديم كانت تناط به مهمات دينية, كما كانت تناط بالكاهن الذي يعتمد السجع في كلامه, وبالساحر الذي يبين عن ذلك بأفعاله, وقد قال الرسول (ص): «إن من البيان لسحراً, وإن من الشعر لحكما» (2) . ولعل ما يقال عن المعلقات في الشعر الجاهلي وصلتها بالبيت العتيق ليدعم مثل هذا الرأي (3) . ويزيد الأمر توكيداً ذهاب بعض الباحثين المحدثين إلى ربط التراث العربي الجاهلي بملاحم عربية قديمة مثل ملحمة جلجاميش التي تعد عندهم المعلقة العربية الأولى, وقد كشفت دراسات هؤلاء عن مكانتها الدينية, وأتاحت الفرصة لإعادة النظر في القصص الديني في سور القرآن مثل القصص والشعراء بقراءة جديدة أبرزت للعيان طبيعة الصراع الذي دار بين الرسول (ص) والمشركين في مكة بداية الدعوة وعلى الأخص القصاص منهم والشعراء (4) .
وعنيت دراسات بعض المستشرقين المعاصرين كذلك ببحث الآثار الآسيوية والأفريقية في الحضارة الإغريقية, لتؤكد ـ من جديد ـ الإتصال الديني واللغوي والفكري بين الشرق والغرب, ولتفتح المجال أمام الدارسين للنظر في العلاقة بين الدين والأدب والأسطورة في العالم القديم (5) .
كما كشفت دراسات أخرى عن الوشائج بين الحضارة المصرية القديمة والحضارات العربية التي كانت في جزيرة العرب واليمن والساحل السوري والعراق وشمال إفريقيا, فربطت بين آلهة مصر الفرعونية وآلهة تلك الحضارات من خلال الموروث الديني واللغوي, وأبانت عن الأصول السماوية للديانة المصرية القديمة (6) .
فكشفت هذه الدراسات جميعاًعن العلاقة بين شخصية الكاهن اليوناني والشاعر العربي القديم, وعن العلاقة بين الآلهة اليونانية والآلهة العربية القديمة في الجزيرة واليمن وسوريا والعراق وشمال إفريقيا ومصر القديمة, وربط ذلك بشخصيات منها الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وموسى وغيرهم مثل ذو القرنين. فعدلت من وجهات نظر الدارسين في الدين والأدب والأسطورة من جديد.
وعلى الرغم من أهمية التقسيمات الأدبية للعصور القائمة على القول بأولية الأدب الأسطوري ثم يليه الأدب الديني وأخيراًالأدب الإنساني مقترحاً لتطور الأدب على مر العصور, تبقى المسألة مثيرة للجدل ـ بعد الإكتشافات الأخيرةـ وإن كانت تقدم حلولاً هامة في مرحلتنا الراهنة (7) .
أما الأمر الذي لاشك فيه فهو أن الدين كان يلجأ إلى الأدب ومازال وسيبقى ليؤثر في الناس. ويتجلى هذا بوضوح في حالة الدين الإسلامي. وعلى الأخص في كتاب العربية الأكبر, القرآن الكريم. الذي جاء القسم المكي منه بعامة معتمداًأسلوب الفاصلة الموقعة, والسجع والتجنيس بنمط موسيقي عال, وعلى الأخص في قصار السور. وهذا ينسجم مع ما كان يدور في أذهان الجاهليين حول لغة المصادر الدينية, فإذا كان الشاعر أو الكاهن, بشعر الأول وسجع الأخير, من المصادر الدينية, فعلى الدعوة الجديدة أن تأتي بكلام يوازي في قوة تأثيره وإقناعه ما عندهما, وهذا شرط رئيس للرسالة اللغوية التي تهدف إلى إيجاد قدر مشترك من الإنسجام بين المرسل والمستقبل لتضمن بذلك نجاحها (8) . فإذا كان العرب يهتم بالأمر الديني ويتشوق إليه فلابد من أن يسمع الخبر عنه باللغة التي يألفها في ذلك السياق, وليس عجيباًأن تحقق لغة القرآن المكي تحديداً في بداية الدعوة الإسلامية مثل هذا التوجه ريثما يترسخ الفكر الديني الجديد.
فالقرآن الكريم إذن توسل بالجانب الأدبي أو الفني من اللغة التي عهدها العرب وتفوقوا فيها ورأوها مناسبة لعرض الأفكار الدينية, فتوهموا محمداً (ص) شاعراً وكاهناً, لأن هذين كانا من المصادر الهامة للفكر الديني والمعتقدات بعامة.
وصار القرآن الكريم ذاته أرفع صورة من صور الفن اللغوي العربي بأن أصبح الإعجاز علماً عليه, فهو لايعد من باب الشعر أو النثر لكنه تجاوزهما فنياًوسما مرتفعاً ليؤسس باباً من الفن الأدبي العربي الإسلامي يبقى مفتوحاً إلى آخر الزمان. ولا أدل على ذلك من كثرة الدراسات الفنية واللغوية والأدبية التي كتبت حول القرآن ولم تستطع حتى الآن أن تفيه حقه ولن تستطيع (9) .
إن هذه الحالة توضح ما نذهب إليه من العلاقة التي أشرنا إليها, وتعزز قولنا بأن الدين يتوسل بالأدب بعامة, كما يمد الأدب بكثير من التأثير يغدو به الإنسان مقتنعاًبهذا الفكر أو ذاك بفعل التأثير الأدبي في جانب منه.
ومما يلحظ على العلاقة بين الدين والأدب, أن الأدب يقوم بتثبيت أركان المعتقد الديني, من بعض جوانبه, فيدخل الإنسان مرحلة جديدة من حياته من أهم ملامحها وضوح المعتقد والركون إلى النص الديني في صلب ذلك المعتقد, فتنحل أزمة الذات الإنسانية في مرحلة من مراحل الزمن بفعل الوضوح الذي يهبه المعتقد الديني, أو يهبه الإنسان لذاته بفعل ذلك المعتقد, ويخلف ذلك حالة من الرخاء أو الرضى تقلل من الضغط على عمق الذات, فتخبو جذوة الأدب لمصلحة الإنشغال بما هو أكثر جوهرية في الحياة, مثل الجهاد أو الصراع من أجل تحقيق غايات واضحة في سبيل الدعوة الجديدة.
ولكن حين تشتد الأزمة من جديد في ظل حركة أو ثورة أو رؤية جديدة يعود الأدب إلى توهجه, ليسند كفاح الإنسان من أجل بناء هوية جديدة, ولعل هذا ما يفسر تراجع الشعر في بداية الدعوة الإسلامية, ومن ثم ازدهاره فيما بعد عند الخوارج أو الشيعة. أو تطور فنون النثر عند المتصوفة وبعض الفلاسفة والكتاب في مراحل لاحقة من حياة المسلمين.
كذلك يمكن أن ينأى الأدب فيخدم بعض قضايا الإنسان بما يتعارض مع الدين, فيؤدي ذلك إلى رفض الدين لهذا النوع من الأدب. وقد أشار القرآن الكريم إلى صنفين من الشعراء,نهى عن اتباع الصنف الذي يقول فيه الشعراء قولاً ينافي ما يصدر عنهم من أفعال فيضللون الناس. ونصر الصنف الآخر, أي المؤمنين من الشعراء الذي كان منهم من يحض الرسول (ص) على هجاء الكفار مؤزرين بروح القدس. فهذا الهجاء مقبول لنصرته الدعوة, وعلى الطرف الآخر هناك شعر أشر من القيح في جوف المسلم, هو الذي كان يناصب الدعوة العداء. فرفض الدين للأدب لاينصب على جوهر العمل الأدبي بوصفه الفني إنما ينصب على الموضوع الذي من أجله يكون هذا الأدب. وكذا مناصرته له.
في مرحلة تالية يصير الأدب الذي ينتج في ظل الفكر منتمياً إليه, فما كتب في دولة الإسلام أصبح مصطبغاً بصبغته, منذ بداية الدعوة الإسلاميةýإلى اليوم. إذ لاينفك الأديب عن واقعه مهما حاول التنكر له. ويسعفنا في هذا السياق مفهوم رؤية العالم عند الناقد الإجتماعي لوسيان غولدمان (10) , فالتأثير الإسلامي باد في فكر, ومن ثم في أدب, من ينتمون إلى العربية حتى وإن اختلفت أديانهم. وتفاعل الأديب مع الأفكار غير الإسلامية أحياناً لايخرجه عن الإسلام, لذا لا أرى أن نخرج عن نعت الأدب الإسلامي هذا التراث العظيم من الكتابات قديماًوحديثاًلمجرد تعارضها جزئياً مع بعض الأفكار الإسلامية وليس الإسلام ذاته.
وقد يكون من الخير أن ننعت الأدب أي أدب بإضافته إلى دعوة معينة أو مذهب أو حركة, لا أن نبقيه على إطلاقية الأدب الإسلامي وهو المحدد بأدب الحركة الإسلامية أو غيرها. فالدقة تدعونا إلى القول هذا شعر الخوارج أو أدب الشيعة أو أدب الحركة الإسلامية أو الإتجاه الإسلامي مقابلاً لاتجاهات أخرى على الصعيد الفكري أو السياسي لنبقي على اتساع هذا المفهوم.. وإلا فهل أدب المتصوفة يخرج من الإسلام?
بما أن العلاقة بين الدين والأدب قائمة دوماً, فلا خلاف في أن الدين يعود بدوره ليمد الأدب بكثير من الموضوعات, وهو الذي كان من قبل توسل به لإثبات بعض معتقداته. وهذا ما يمكن أن ينعت بالعلاقة الجدلية بين الدين والأدب.
لكن تناول الدين لبعض الظواهر يباين تناول الأدب لها. إذ قد تفترق غاية كل منهما في ذلك, فعندما تنتقل هذه الظواهر من مجال الدين إلى مجال الأدب تتشكل بأسلوب مغاير لما كانت عليه بسبب تفاعلها مع الحقل الجديد. وربما حدث ذلك مع كبار كتاب العربية الذين كانوا ينتقدون أحياناً بعض الممارسات الدينية من رجال كالقضاة أو السلاطين كما فعل المعري وآخرون. وعلى الباحثين المحدثين أن يتنبهوا إلى تلك المواقف التي جعلت السلطة السياسية أحياناًتتهم الأدباء من شعراء أو ناثرين, تحت مظلة المخالفة الشرعية توصلاً إلى إبطال فاعليتهم في المجتمع, بدعوى المروق أو الزندقة أو التنبؤ أو الخروج على الدين. وبذلك ربما أفقدونا إرثاًمن الأدب الإسلامي من أبي تمام إلى المتنبي إلى المعري إلى الوهراني إلى غيرهم حتى العصر الحديث. وهو في حقيقته نقد لممارسات اجتماعية هي بعيدة عن الشرع أصلاً. وما هو بخروج على الدين في صميمه.
وحتى تخرج بعض الأفكار الواردة في هذه الورقة من حيز النظرýإلى حيز التطبيق حري بنا أن نعززها ببحث قضيتين هامتين في ذلك هما الفانتازيا Fantasia أو الخيال واليوتوبيا Utopia أو المثال.
[2]
الدين والأدب ـ بين الحقيقة والأسطورة
إن الفانتازيا (Fantasia) تعني: «الأثر الأدبي الذي يتحرر من قيود المنطق والشكل والإخبار بحقائق في سرده, وإنما يعتمد اعتماداًكلياًعلى إطلاق سراح الخيال يرتع كيف شاء بشرط أن تكون النتيجة فاتنة لخيال القراء أو النظارة» (11) . وهي بهذا المفهوم واحدة من تقنيات الشكل الأدبي القديمة والحديثة, وعلى الأخص في الأعمال القصصية والمسرحية, وقد تعاظم شأن الحديث حولها في الآونة الأخيرة في تلك الأعمال الأدبية. وعدت مقياساً هاماً من مقاييس رواج الأدب وشيوع بعض أنماطه وانتشارها.
فإذا كانت الفنتازيا لها هذا الشأن في عالم الأدب فهي دينية المنشأ, وربما استعارها الأدباء أصلاً من المعتقدات الدينية حول العوالم الماورائية التي كان للفكر الديني فضل توضيحها وتبيين صورتها. وهي في الدين عقيدة, وفي الأدب تقنية فنية, ويمكن أن نستعيض عن كلمة الفانتازيا بكلمة الخيال في هذا السياق.
أما القضية الأخرى فهي اليوتوبيا (Utopia) التي تعني «لامكان» أو «خير مكان» (12) , دلالة على العالم المثالي الذي يحلم به الفلاسفة والشعراء منذ زمان طويل, وفي ظني أن الفكر الديني كان دائماً هو الأدق في تصور ذلك العالم المثالي القائم على الخير والحق والجمال في العالم الآخر, لذا كان الدين خير مصدر زود الفلاسفة والأدباء بعامة بالأفكار المتكاملة حول ذلك العالم.
فإذا كانت اليوتوبيا في الأدب هي محض عالم خيالي فإنها في الفكر الديني عقيدة واضحة المعالم والقسمات عند أبسط أتباعه, فلا يكد أحدهم ذهنه ـ كما يفعل الفيلسوف أو الشاعر ـ ليصنع عالمه ذاك, وقد تكفل الدين ذاته برسم حدود ذلك العالم, فيمكن القول إن الوعد بالحياة الآخرة كان معيناً لاينضب نهل منه الأدباء معتمدين الفكر الديني أملاً في تطوير عالم الواقع باتجاه عالم العدل والخلود.
وتمتاز منظومة الفكر الديني بمحافظتها على العلاقة بين الغيب والواقع المادي غضة طرية لتشبع بذلك تطلع الإنسان وأشواقه, وهو الذي جاء خلقه من تراب نفخ فيه رب العزة من روحه (13) . فالفكر الإسلامي خاصة يوازن بين الروح والمادة أو النفخة الإلهية والتراب بصورة دقيقة حتى لايجعل أحدهما يتغلب على الآخر فيشقى الإنسان بمادية هابطة أو مثالية حالمة.
من هنا فإن جانباً من المعتقدات تغذي النفخة الإلهية بالإبقاء على بعض المعجزات والأحداث الخارقة التي تساعد ـ دوماً ـ على حضور الفعل الإلهي في الحياة بطريقة تشعر الإنسان بالأنس والقربى فلا تجف عنده الروح.
وربما تمثل ذلك ببعض ما يروى عن رسول الله (ص) من معجزات أكرمه الله بها, فقد حن إليه الجذع (14) , ونبع الماء من بين أصابعه (15) , وانتصر علىالمشركين انتصاراً باهراً وخارقاً في مكة أولاً, وفي المدينة لاحقاً, حيث أسس دولة الإسلام بحروب مثل بدر وأحد والأحزاب. أما المعجزة الأهم في سياق البحث فهي معجزة الإسراء والمعراج.
لقد انطوت حادثة الإسراء والمعراج على ما هو خارق ومعجز فوجد فيها الأدباء ضالتهم إذ فيها من الغرابة والعجب والتشويق ما يشبع نهم الإنسان للإتصال بالعالم الاخر الذي يحن إليه باستمرار منذ بدء خلقه.
وكان لهذه الحادثة أثر كبير في قدح زناد الرؤى الخيالية عند الأدباء المسلمين, في كثير من أعمالهم الأدبية, الشعرية منها أو النثرية. وعلى الأخص تلك الأعمال التي قامت في جوهرها على الرحلة الخيالية في حالة النوم أو حالة اليقظة, إذ الإبداع الأدبي, لايأتي من العدم, بل لابد له من أصل يمتح منه.
يرد ذكر الإسراء صراحة في السورة القرآنية التي اتخذت هذا الإسم علماً عليها {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه آياتنا إنه هو السميع البصير} الإسراء(1). أما المعراج فلعل بعض المفسرين تأولوا وجوده في سور قرآنية أهمها سورة النجم (16) إضافة إلى سورة الإسراء. وليس في القرآن الكريم شكل قصصي للحادثة.
لكن الصياغة القصصية الأولى للحادثة بشقيها ـ الإسراء والمعراج ـ تكمن في صياغة الحديث النبوي في الصحيحين (17) . ثم زيد على هذا الأصل الكثير, بأن جاء كتاب السيرة والمحدثون والوعاظ فبعجوا القصة ومطوها وحشوا فيها ما حشوا وتوالى ذلك على مر الزمان, حتى تشكلت مادة قصصية, تفيد تارة من الوجهة الدينية وتضر طوراً, لما فيها من شطط, تبعاً للعصر أو المنزع أوالموطن الذي ترد فيه.
إن الذي يعنينا في هذا السياق أن نتبين كيف غدت هذه الحادثة, فيما بعد, من الآثار التي يمد الدين بها الأدب. وكيف تحولت عناصرها إلى أعمال أدبية, أو إلى رموز مؤثرة في صياغة أعمال أدبية, ذات قيمة, بدرجات متفاوتة (18) .
لقد أبقى كتاب السيرة والمحدثون والوعاظ وأوائل المتصوفة علىنسبة القصة إلى الرسول الكريم وزادوا عليها مفصلين لكثير مما أجمل حتى تضخمت تلك الحادثة وغدت قصة شعبية متداولة تحت عنوان «الإسراء والمعراج للإمام ابن عباس» (19) لذا يمكن أن تدرس هذه القصة في باب الأدب الشعبي ذي الأصل الديني.
لكن التجلي الأهم للإسراء والمعراج في هذا الباب هو النظر إلى القصة الأصل أو النواة على أنها تقنية فنية تشحذ الخيال, وعلى أنها رحلة إلى العالم المثالي. وقد ظهر ذلك بوضوح عند كثير من المتصوفة مثل الحارث المحاسبي وأبي اليزيد البسطامي والنفري والقشيري والغزالي وابن عربي والجيلي. وكذلك عند بعض الكتاب القدماء مثل ابن شهيد وأبي العلاء المعري والوهراني. وعند المحدثين من كتاب القصة القصيرة والرواية والمسرحية وهم كثيرون منهم ميرال الطحاوي وشكري عياد وعبد الحكيم قاسم ونجيب الكيلاني وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ ومحمدمحمود الزبيري وأحمد محمد الشامي ومحمد سيرجيه وعزالدين المدني (20) .
وبما أن المقام لايسمح باستعراض الأعمال النثرية التي استمدت من الإسراء والمعراج جميعها فلا ضير من حديث عن بعضها وتعميم ذلك ما أمكن.فعند المتصوفة بعامة صارت الحادثة جزءاً من الطريقة, ومرحلة من مراحل الوصول إلى الله. وتم ذلك برحلات خيالية إلى العالم المثالي محاكاة للقصة الأصل مع كون العارج هو الصوفي ذاته في كثير منها. فالنثر الصوفي يكون بذلك قد أفاد من البعد الخيالي أو الغرائبي لأصل المعجزة وتوج الرحلة بالوصول إلى الله (21) . ثم تطورت القصة عندهم بصورة رمزية من خلال الطيور المرتحلة إلى الله عند فريد الدين العطار والغزالي وابن سينا وآخرين.
أما البعد اليوتوبي أو صورة العالم الآخر فلعلها ظهرت بوضوح في أعمال غير المتصوفة, وذلك عند المعري (22) والزبيري (23) وسيرجيه (24) . وقد غذاها ذلك الحشد من آيات القرآن وأحاديث الرسول التي جعلت الدار الآخرة محط نظر المسلم إذ هي الحيوان (25) . وما هذه الحياة الدنيا إلا غفلة (26) . ومن هنا تكون أصالة الفكر الإسلامي في رسم ملامح العالم الاخر بصورة تتجاوز باستمرار الصور اليوتوبية التي حلم بها الشعراء أوالفلاسفة أو الكتاب قديماً وحديثاً إن هم لم يعمدوا إلى صورة العالم الآخر الإسلامية أصلاً.
وتجدر الإشارة إلى ان الأثر الديني ـ على أهميته ـ لابد من أن يعتريه تحوير وتغيير في العمل الأدبي. وسأمثل على ذلك برسالة الغفران ومنام الوهراني (27) . ففي الرسالة الأولى لاشك في أن التقنية الفنية, وهي الخيال المعتمد في الرسالة, إسلامية المنبع ومتأثرة بالأخص بالإسراء والمعراج. لكن العالم الآخر ينحو منحى يخص المعري, فقد قصر جنته وناره على الشعراء والأدباء واللغويين ونصب نفسه فيها قاضياً, تجرأ أحياناً على المعايير الدينية في تصنيف الناس في الجنة والنار. ولكن ظني أنه إنما كان ينتقد ويصنع عالماً خاصاً به ولا يقصد المحاكاة بدقة للعالم الآخر, ومن هنا نتخلص من الحرج الذي يجعلنا نحكم بخروج المعري على الأفكار الإسلامية كما يرى البعض, فلعل الصواب أن يعامل عالمه معاملة خاصة به.
وكذا الأمر بالنسبة للوهراني, فلعل قيامته في منامه الكبير ما هي إلا تقنية فنية اتكأ فيها على الحلم محاكياً المعراج وصنع مشهداً للحشر لا بهدف مضاهاة الخالق وإنما بهدف نقد الواقع الإجتماعي والتاريخ السياسي للدولة الإسلامية في زمنه أو قبل ذلك بعصور. فالأثر الإسلامي ماثل, في التقنية الحديثة وفي الفكرة التي يذهب فيها الكاتب إلى رسم المحشر أو العالم الآخر, ولكن الخلق الأدبي يجيز له أن يحاكي لابهدف المضاهاة كما اسلفت وإنما ليكون مؤثراً في السامعين أو القراء الذين لابد أن يصدموا بهذه الجرأة مما يضطرهم إلى مراجعة الأمور التي هدف الكاتب إلى بيانها.
وتجلى مثل هذا الأمر بوضوح كذلك في أعمال جمال الغيطاني وعلى الأخص في التجليات (28) التي حاكى فيها المعراج النبوي ومعارج ابن عربي, فجاءت تقنية حديثة جعلته من أهم المجددين في أسلوب الكتابة الروائية العربية بفضل إحياء هذه الأساليب التي هي في الأصل دينية المنشأ, وقد وظفها لخدمة كثيرة من الأفكار بغض النظر عن انسجامها مع الإسلام بدقة أو عدم انسجامها. ولعل في ذلك دلالة على أهمية الآثار التي يخلفها الدين في الأدب إن على صعيد الشكل أو على صعيد المضمون.
الهوامش
(1) أنظر الآيات القرآنية التالية:
ـ {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه, بل هو شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} الأنبياء(5).
ـ {ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} الصافات (36).
ـ {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون* أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} الطور (29ـ30).
ـ {إنه لقول رسول كريم* وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون* ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} الحاقة (40ـ42).
ـ{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} الذاريات (52).
(2) لسان العرب, ابن منظور, مادة (بين).
(3) ابن رشيق القيرواني, العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده, دار الجيل, بيروت, ط5, 1989م, ج1 ص96. يقول «وكانت المعلقات تسمى المذهبات, وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب, وعلقت على الكعبة».
(4) انظر: نجيب محمد البهبيتي, المعلقة العربية الأولى, أو عند جذور التاريخ, دار الثقافة, الدار البيضاء (المغرب) ط1, 1981م.
(5) انظر: مارتن برنال, أثينة السوداء, الجذور الأفرو أسيوية للحضارة الكلاسيكية ج1: تلفيق بلاد الإغريق 1785ـ1985, ترجمة أحمد عثمان وآخرون, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة 1997م.
(6) أنظر: علي فهمي خشيم, آلهة مصر العربية, بحث في تاريخ وادي النيل, ومعبودات قدماء المصريين, واللغة المصرية القديمة, منهج عربي جديد, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, ط2, 1988م.
(7) منى طلبة, الرمز في الأدب الأخروي, رحلة المعراج, مجلة إبداع القاهرية, عدد 12 ديسمبر 1997م, ص90ـ91.
(8) انظر: نصر حامد أبو زيد, مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن, بيروت, ط1, 1990م, ص137ـ157.
ـ محمد مفتاح, دينامية النص (تنظير وإنجاز) المركز الثقافي العربي, بيروت, ط2, 1990م, الفصل السادس, الإنسجام في النص القرآني, ص 189ـ223.
ـ وليد منير, النص القرآني من الجملة إلى العالم, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, القاهرة 1997, الفصل الأول, ص17ـ29.
(9) الدراسات الفنية واللغوية والأدبية حول القرآن الكريم كثيرة جداً, وما كتب حولها أيضاً كثير, حتى شكلت مدارس واتجاهات تستعصي على العد والحصر, ومازالت تترى.
(10) لوسيان غولدمان, البنيوية التكوينية والنقد الأدبي, ترجمة محمد برادة وآخرون, مراجعة الترجمة محمد سبيلا, مؤسسة الأبحاث العربية, بيروت, ط1, 1984م, ص 48 وص 93ـ100.
(11) مجدي وهبة, معجم المصطلحات الأدبية, مكتبة لبنان, بيروت د.ت ص 166ـ167.
(12) المرجع السابق, ص 589.
(13) انظر الآيات القرآنية التالية:
ـ {الذي أحسن كل شيء خلقه, وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون} السجدة (7ـ9).
ـ {وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (71ـ72).
(14) في الحديث: «... كان النبي (ص) يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه...» البخاري, صحيح البخاري, دار الكتب العلمية, بيروت, د.ت. مج4. ج4 ص173.
(15) في الحديث: «... فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله...» البخاري مج4, ج4 ص171.
(16) قال تعالى: {والنجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم وما غوى* وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى* ذو مرة فاستوى* وهو بالأفق الأعلى* ثم دنا فتدلى* فكان قاب قوسين أو أدنى* فأوحى إلى عبده ما أوحى* ما كذب الفؤاد وما رأى* أفتمارونه على مايرى* ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى* عندها جنة المأوى* إذ يغشى السدرة ما يغشى* مازاغ البصر وما طغى* لقد رأى من آيات ربه الكبرى} النجم (1ـ18)
(17) ـ البخاري, صحيح البخاري, كتاب الصلاة, مج1 ج1 ص 90ـ93.
ـ مسلم, صحيح مسلم, دار المعرفة, بيروت د.ت, كتاب الإيمان باب الإسراء وفرض الصلاة مج1 ج1 ص99ـ101.
(18) انظر تفصيل ذلك: مخطوطة رسالة دكتوراه تحت عنوان «حادثة الإسراء والمعراج وتجلياتها في النثر العربي» جمال مقابلة, الجامعة الأردنية, عمان, 1996م.
(19) عبد الله بن عباس, الإسراء والمعراج, المكتبة الثقافية, بيروت, د.ت. ولهانسخ شعبية عديدة متداولة.
(20) هذه الأسماء تجد الثبت بأعمالها الأدبية في الرسالة الواردة في هامش (18) مع زيادة وتوسع.
(21) انظر: تحليل معارج ابن عربي بالإفادة من نظرية تودوروف حول الأدب الغرائبي والعجائبي في كتاب سعيد الوكيل, تحليل النص السردي, معارج ابن عربي نموذجاً, الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة 1995م.
(22) أبو العلاء المعري, رسالة الغفران, شرح وتعليق على شلق, دار القلم, بيروت د.ت.
(23) محمد محمود الزبيري, مأساة واق الواق, دار الكلمة, صنعاء, ط2, 1985م.
(24) محمد سيرجيه, الغفران الجديد أو حلم في عرفات, مكتبة الرسالة, حلب, 1971م.
(25) قال تعالى: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} العنكبوت (64).
(26) قال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} الحجر (99) وقد فسرها بعضهم بأن لايقين حقاً إلا بعد الموت, وانطلقوا في ذلك من قول: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وانظر تفصيل الحياة الآخرة في كتاب ابن قيم الجوزية, حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح, تحقيق عبد اللطيف آل محمد الفواعير, دار الفكر, عمان ط1, 1987م.
(27) ركن الدين محمد الوهراني, منامات الوهراني ومقاماته ورسائله, جمع وتحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نغش, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر, القاهرة, 1968م. ص 24ـ33.
(28) جمال الغيطاني, كتاب التجليات في ثلاثة اسفار, الأول دار الوحدة, بيروت, 1983. والثاني والثالث دار المستقبل العربي, القاهرة, 1985م و1986م.
* محاضر في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة آل البيت ـ الأردن.