نجح الخطاب الفلسفي الرشدي بمضامينه الانسانية والعالمية في التوغل خلف التحصينات الأوروبية القروسطية التي سممتها أجواء الحروب الصليبية والعداء الشديد لكل ما هو إسلامي. كان التواصل الثقافي والفكري أمراً واقعاً وحتمياً بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي وقام المسيحيون في الشرق بدور وسيط مؤثر في هذا التواصل، ولم يكن الموقف (المسبق، الغامض، الإشكالي، الاستريابي) (1) يمنع وصول المؤثرات الفكرية الإسلامية إلى المسيحية الغربية. أثار الإسلام بانتصاراته السريعة وروح أتباعه القوية أسئلة كثيرة في العقل الغربي، وكان انتشار الاسلام بين الشعوب المسيحية في الشرق بمثابة ضربة قاسمة للاهوت المسيحي الذي راح يلملم أنفاسه ويعيد بناء أصوله الفكرية والروحية. فما هو الإسلام؟ ولما ينتصر؟ ما هو المضمون الفكري للإسلام؟ وما هي مشيئة الله في وجود هذا الدين وانتصاره؟؟.
من غير الممكن إنكار تأثير الحضارة العربية الاسلامية على أوروبا والذي شمل كافة الميادين الثقافية والاقتصادية والفنية والعلمية وإذا كان وصف رينان لابن رشد بقوله إنه «آخر ممثل لحضارة تنهار» حقيقة صحيحة فإن القول بأن الاكويني كان أول ممثل لحضارة تنهض لا يقل صحة عن سابقه. لاشك أن تبعات الانهيار الغربي الذي ترسخت في واقعنا وعقولنا يجعل من إمكانية إنصاف ابن رشد أو حتى فهمه أمراً صعباً. لقد مرَّ ابن رشد من الشرق دون أن يشعر به أحد (2) فلماذا أغفل ابن خلكان والصدفي والقفطي ذكر ابن رشد في مؤلفاتهم وحتى حاجي خليفة لم يذكره إلا عرضاً في سياق حديثه عن تهافت الفلاسفة للغزالي؟! كان ابرن رشد الامتداد الطبيعي للفلسفة الاسلامية وقد استطاع أن يهضم فلسفة الكندي وابن باجة وابن سينا والفارابي.
إن فهمنا لابن رشد يصبح أكثر عمقاً وأبعد غوراً عندما نحفر في تاريخ الفكر الوسيط لنتعرف على انتعكاسات الرشدية في اللاهوت المسيحي في القرن الثالث عشر، وأبرز أعلام اللاهوت المسيحي على الإطلاق القديس توما الاكويني.
يهدف هذا البحث إلى دراسة تأثير ابن رشد والرشدية في اللاهوت المسيحي الغربي الوسي من خلال تركيز الضوء على أكبر أعلام ذلك اللاهوت. إن عملية التأثر والتأثير بين الحضارات والمجتمعات عملية واقعية لا مجال للتنكر لها أو التبرؤ منها فالفكر الانساني بطبيعته المتراكمة وتركيبة المبدع يسير وفق التاريخ ومن خلاله لا رغماً عنه وفوقه، لقد كان اللقاء الأول بين الحضارة العربية والاسلامية والحضارة المسيحية على أرض بلاد الشام والعراق ومصر وقد أنتج هذا اللقاء علم الكلام وتم دمج العديد من العناصر الثقافية للبلدان المفتوحة حيث كانت المدارس اللاهوتية المسيحية منتشرة وبعد اربعة قرون كان لقاء ثان في مكان آخر وهو أوروبا وكانت الفلسفة هي أكبر نتاج هذا اللقاء وكانت طليطلة وصقلية أكبر بوابتين لدخول الفكر الفلسفي الإسلامي إلى البلاد الغربية ويؤكد ماسينيون أن الحوار بين المسلمين والمسيحية قد بدأ في القرن الثالث عشر بعد أن كان الجدل والمناظرة هو وسيلة المعرفة الوحيدة بينهما (3) .
لقد ساهمت أربعة عوامل في توجيه التفكير الفلسفي عند العرب وجهة جديدة وهذه العوامل هي:
1 ـ تأسيس الجامعات.
2 ـ إقامة سلك الرهبنة (العاملة).
3 ـ اكتشاف أرسطو.
4 ـ الاتصال بالفلسفة العربية.
ترتبط هذه العوامل ببعضها بصورة وثيقة فقد كانت مناهج التعلمي في الجامعات الأوروبية قد شرعت في إعطاء مساحة لدراسة أعمال أرسطو واكتشاف أرسطو قد تم من خلال الفلسفة العربية (4) . نجح العقل الغربي في تحويل الفكر الفلسفي والعقلاني إلى آلية واقعية بعد أن أحسن تتبع مواطن القوة في الفكر الإسلامي وأعاد توظيفها بما يتلائم مع غاياته وأهدافه. ليس المقصود من هذا البحث تضخيم دور ابن رشد أو الوقوع في التمجيد وكيل المديح دون أساس علمي سديد بل محاولة الوقوف على أثر هذا الفيلسوف الكبير في اللاهوت المسيحي من خلال القديس توما الاكويني.
<f2>وصول ابن رشد إلى الغرب
بدأ الغرب عصر الترجمات قبل ابن رشد وكانت الترجمات مختارة ومختصة وجاءت المرحلة الأولى منها في القرن الثاني عشر مشتملة على كتابات الكندي (في العقل) والفارابي (في العقل) والغزالي (مقاصد الفلاسفة) وابن سينا (مقتطعات من الشفاء) (5) . وقد جاءت ترجمة كتب ابن رشد في القرن الثاني عشر والثالث عشر وكان ميخائل سكوت (ت1235) أول من ترجم شروح ابن رشد على أرسو ثم تبعه هرمان (ت1272) (6) . وقد تم خلال القرن الثاني عشر ترجمة خمسة عشر شرحاً من شروح ابن رشد الثمانية والثلاثين على مؤلفات أرسطو من العربية إلى اللاتينية (7) . تركزت الترجمات اللاتينية حول شروح ابن رشد لأرسطو وهناك نقاش حول وصول مؤلفات ابن رشد التي أظهر فيها ابداعه وأصالته الخاصة تهافت التهافت، الفصل، مناهج الأدلة. فلم تنحصر مؤلفات ابن رشد على شرح أرسطو وإن كان هذا الشرح في قمة الابداع والعمق واستيفاء آراء وأخطاء الشراح الآخرين خاصة ابن سينا والفارابي. لم تتعرض المسيحية اللاتينية لترجمة شاملة لكل ما هو إسلامي بل اقتصر اهتمامها على الجوانب الضرورية لها. وهذا بمثابة ما حدث مع ترجمات بغداد عن اليونانية والسريانية التي تركزت حول الفلسفة والعلوم وقد كانت الفلسفة هي الموضوع الأساسي للترجمات اللاتينية وكان أرسطو، الذي أعيد اكتشافه بطريقة مختلفة تماماً، قطب الرحى الذي دارت عليه حركة الترجمات الأولى. ومثلت شروحات ابن رشد على مؤلفات أرسطو البوابة الكبرى التي دخل منها أرسطو إلى الغرب فقد استوفت هذه الشروحات كل عبارة وجملة في مؤلفات أرسطو مؤسسة بذلك أسلوباً جديداً في شرح أرسطو يشبه أسلوب التفسير القرآني الذي يفسر النص عبارة عبارة وجملة جملة وهذا هو نفس الأسلوب الذي اتبعه القديس توما فيما بعد في شرحه لأرسطو (8) . لقد عرف ابن رشد بأنه الشارح الأكبر لأرسطو وأدت شروحاته إلى تأسيس حركة فكرية غربية عرفت بإسم الرشدية كان لها أكبر الأثر في استنهاض الفكر اللاهوتي المسيحي وعلى وجه الخصوص الاكويني الذي اتخذ من الفلسفة الارسطية الأساس الذي أقام عليه مشروعه اللاهوتي الجديد.
من جهة أخرى ساهم المفكرون اليهود في إيصال فلسفة ابن رشد إلى الغرب فقد كانت الترجمات العبرية جسراً واسعاً انتقل عبره العديد من المؤلفات والمنجزات إلى الغرب. كانت مؤلفات ابن رشد تقرأ بالعربية بين العلماء اليهود المتأثرين بالثقافة العربية، وقد أدى تشرد اليهود في مطلع القرن الثالث عشر إلى ما وراء جبال البيرينيه وعلى ساحب البحر الأبيض إلى انتشار أفكار ابن رشد. قام المفكرون اليهود بترجمة مؤلفات ابن رشد إلى العبرية ومن أشهر المترجمين اليهود موسى بن طبون، يعقوب بن أبا ماري، وسمعان أنا طولي، سليمان بن يوسف، زكريا بن اسحاق، يوسف بن ماخي، وفي القرن الرابع عشر انضم إلى هؤلاء كالونيم بن كالونيم وكالونيم بن تودروس وصموئيل بن يهوذا وقاموا بوضع شروحات على شروح ابن رشد على ارسطو. ورغم النقمة الشديدة الذي كان اللاهوت المسيحي يكنها لليهود فإن الروابط اللاهوتية والثقافية بين اليهود والمسيحيين لم تكن مقطوعة الأمر الذي سهل انتقال ابن رشد بطريةق غير مباشرة إلى اللاهوت المسيحي، واستفادت الترجمات اللاتينية من الترجمات العربية من خلال مقارنة النصوص للخروج بالترجمة الأفضل لأعمال ابن رشد (9) . كما أن تأثر ابن ميمون بابن رشد قد ساهم بنقل العديد من الأفكار إلا الاكويني الذي تأثر بدوره بابن ميمون. لقد أدت مساهمة المفكرين اليهود في نقل الفكر الإسلامي إلى إضافة مبرر جديد لنقمة وكراهيمة الكثير من المسيحيين الغربيي لليهود فقد اعتبر هؤلاء أن اليهود هم وراء إدخال ابن رشد وقيام الحركة الرشدية في الغرب بهدف تخريب المسيحية وتدميرها. كانت الكنيسة معارضة لدخول الأرسطية وشروحاتها وقد أصدر مجمع باريس (1210) تحريماً يقضي بمنع كتب أرسطو وشروحاته وفي مجمع (سنة 1231) أكد الباب غريغوار التاسع تثبيت الحظر الذي أقره مجمع باريس لكنه فتح باباً للاستفادة من طبيعيات أرسطو بعد تنقيتها وتطهيرها من الأخطاء حتى يتسنى للاهوت المسيحي الاستفادة منها وقد فتح هذا القرار الباب لدخول الفلسفة في أبحاث اللاهوت، وهكذا راحت كتابات أرسطو بالولوج إلى الغرب رفقه العديد من الشرائح العرب (10) .
<f2>الرشيدية اللاتينية
شكل اتباع ابن رشد في أوروبا تياراً فلسفياً قوياً في القرون الوسطى، بداية من القرن الثالث عشر وحتى السادس عشر، شغل الفكر واللاهوت الغربي وقد أطلق على هذا التيار إسم الرشدية، وقد أطلق الاكويني نفسه هذا الاسم عليهم في كتابه «وحدة العقل ضد الرشديين» (11) ، تركزت قوة الرشديين في كلية الفنون في جامعة باريس التي ازدهرت في القرن الثالث عشر واتجهت نحو الفلسفة والمنطق (12) . يقف في طليعة الرشديين اللاتين سيجير دي برابان (ت1284) الذي درس في جامعة باريس وكانت له حوارات كثيرة مع اللاهوتيين وخاصة الاكويني. (خاصة قضية وحدة العقل والحقيقة المزدوجة). ومن رموز الرشدية في القرن الرابع عشر جان دي جندان، ومار سيليو دي بادوا; وليم الأوكامي، وقد استمر وجود الرشدية كاتجاه فكري فلسفي يتسم بمعارضة الكنيسة حتى عصر النهضة مع بومبانازي وكريمونيلي، اندرياشيزالبينو (13) . وقد أثنى العديد من اللاهوتيين المسيحيين على ابن رشد وعلى رأس هؤلاء الفرنسي جيوم دوفراني (ت 1249) الذي نعت ابن رشد بالفيلسوف الشريف جداً (14) ، واللاهوتي الاسكتلندي جون دونس سكون الذي وصف ابن رشد بأنه أصدق شراح أرسطو وأن شرحه يمثل العقل الطبيعي (15) ، لكن الاتجاه العام للرشيدية بقي يتسم بمعاداة الكنيسة ولذلك اتهموه بالإلحاد والهرطقة كما وجد بين اتباع الرشدية بعض الملحدين الذين اتخذوا من مقولات ابن رشد وأرسطو ذريعة لتبرير إلحادهم ونقمتهم على الكنيسة (16) وقد أسهمت عدة قضايا في معاداة الكنيسة للرشدية أهمها:
1 ـ تبني الرشدية لمواقف وآراء تعارض اللاهوت المسيحي التقليدي والمقررات الكنسية الرسمية (خاصة قضايا وحدة العقل، خلود العالم).
2 ـ خشية الكنيسة من فقدان سلطتها التعليمية أمام مناهضة الرشديين الذين دعوا إلى كسر احتكار الكنيسة للحقيقة والحد من سلطتها على عقول الناس.
وبناءً على ذلك فقد تعرضت الرشدية لعدد من المقررات الكنسية الناقمة كما هو الحال مع مقررات عام 1270 عندما انتقدت الكنيسة خمس عشرة أطروحة رشدية وأطروحتين لتوما الاكويني، وفي مجمع فيينا قدم ريمون كول (1316) ثلاثة مطالب وهي خطر الرشدية، استئناف الحروب الصليبية، تأسيس منابر في الجامعة لدراسة العربية والعبرية واستمرت الكنيسة على موقفها المدين للرشدية حتى مجمع لايتران 1512ـ1517 (17) .
وبصفة عامة كانت آراء المفكرين واللاهوتيين المسيحيين منقسمة تجاه ابن رشد إلى ثلاثة اتجاهات:
1 ـ الاتجاه الرافض (بقايا الأغسطينية).
2 ـ أنصار ابن رشد (الرشدية اللاتينية أمثال دي برابان).
3 ـ التوفيقيون الذين قبلوا ارسطو وحاولوا تخليصه من ابن رشد أمثال الاكويني.
<f2>أزمة اللاهوت المسيحي
يرجع بعض الباحثين بداية الاصطلاحات الدينية في المسيحية الغربية إلى القرن العاشر مع إنشاء نموذج جديد للدير (الحركة البندكتيه) الذي يؤسس لنظرة جديدة للمؤمن المسيحي (الإيمان والعمل). وفي القرن الثاني عشر حاول المسيحيون منع شراء المناصب الدينية أو تنصيب أحد منهم على أيدي السلطات المدنية. لكن الاصلاح لم يكن بالأمر السهل فظاهرة الانشقاق متعمقة في اللاهوت المسيحية الذي ضيّع في أغلبه على هامش صراعات دينية وظهور هرطقات وبدع إلى الحد الذي جعل مجامع الكنيسة تكاد لا تجتمع إلا نتيجة الانشقاقات، ويوشك اللاهوت المسيحي أن يكون تاريخاً للاهوت اللاهرطوقي في مواجهة اللاهوت الهرطوقي.
قد كان اللاهوت المسيحي بأمسّ الحاجة إلى الإصلاح وكان ينتظر ميلاد لاهوتي عقلاني أرسطي بعد قرون من ظهور أوغسطين العرفاني الأفلاطوني. تأثر الاكويني في بداية حياته بالاغسطينوية التي استقت من أبن سينا روحاً جديدة حاول من خلالها بث الروح في جسد اللاهوت الأغسطيني التقليدي (18) ، وكسائر هؤلاء الأغسطينين تأثر الاكويني بابن سينا وظهر ذلك جلياً في مؤلفاته. فقد استشهد الاكويني بأقوال لابن سينا في حوالي 400 موضع (19) ، وقد أحس الاكويني بالهوة التي أحدثتها الرشدية في اللاهوت المسيحي وعجز الأغسطينية عن مواجهة الأسئلة المتواصلة للعقل الغربي، لذلك انتقلت من قيود الأغسطينية وراح يؤسس لمذهب فكري جديد يهدف إلى إعادة النظر في الأصول الدينية المسيحية على أساس من العقل والفلسفة، الأمر الذي جلب له عداوات الأغسطينين الذين راحوا ينتقدون (رشدية) الاكويني (20) .
<f2>الاكويني رشدي أم ضد الرشدية
تكمن أهمية الاكويني باعتباره أكبر اللاهوتيين الفلاسفة الذي مهدوا الطريق أمام الفكر الأوروبي الحديث والنهضة الشاملة للحضارة الغربية. كانت جامعة باريس والتقائه بالرشدية أهم مراحل حياة الجرل حيث دخل أثناء تدريسه في تلك الجامعة (1269ـ1272) في حوارات بل وصراعات مع الرشديين الذي تكاثروا في كلية الفنون، وكان جل تلك الحوارات يدور حول فهم أرسطو وكانت مسألة وحدة العقل قطب الرحى الذي دارت عليه كثير من الحوارات. لقد تأثر الاكويني باستاذه البرت الأكبر صاحب الثقافة الثقافة الأرسطية الواسعة والمطلع على الكثير من المؤلفات العربية المترجمة لكن الاكويني تجاوز استاذه في تعمقه الشديد في الفلسفة الأرسطية وشروحاتها الرشدية انطلق الاكويني في تأسيس علم اللاهوت يقوم على الفهم والمنطق الصحيح. وقد عرف الاكويني اللاهوت بأنه علم مستقصى مضمون العقيدة بمعاني العقل مستنيراً بالإلايمان (21) ، واستخدام الاكويني الفلسفة الأرسطية في سبيل تحقيق هذا العلم وصياغة نظرية معرفية تنطلق من الواقع المحسوس بشقيه سواء كان خارجياً (الحواس) أم داخلياً (الصورة) فكلاهما يرتبط في وحدة متكاملة وهو يتبع مذهب أرسطو في هذه النظرية (22) . تقوم نظرية المعرفة عن الاكويني على وظيفة التجريد الذهني الذي يختص بها العقل البشري وتقابل هذه الفكرة العقل المفارق عند الرشديين والسينوريين والاشراق عند الأغسطينين (23) . عمل الاكويني على إدخال الأرسطية العقلانية في اللاهوت المسيحي خدمة للدين وطمعاً في استجلاب أنصار الرشدية والعقلانية من المسيحيين والمسلمين مظهراً مدا انسجام العقيدة المسيحية وتدافقها مع الفلسفة العقلانية. منتقداً الفكرة الرائجة بين بعض اللاتين الذين يعتقدون بأن اليونان والعرب وحدهم القادرون على التفلسف والقبول بالحقيقة العقلية (24) ، عند النظر إلى موقف الاكويني من ابن رشد لابد لنا من استرجاع بعض الحقائق:
أ ـ تأثير الصراع مع الرشديين اللاتين في موقف الاكويني من ابن رشد وبصورة أوصع الصراع بين المشرق المسلم والغرب المسيحي.
ب ـ محاولة الاكويني الحثيقة تجريد الأرسطية من الرشدية.
ج ـ إخضاع الفلسفة لخدمة العقيدة المسيحية.
لذلك لم يكن من المستبعد أن ينتقد الاكويني ابن رشد والرشدية فقد أطلق على ابن رشد لقب المحرف واتهمه بتحوير آراء الفلاسفة اليونان، ولكن الاكويني لم يكف عن الاستشهاد لابن رشد وشروحاته بعيداً عن موضوع وحدة العقل أو ازدواجية الحقيقة. إن ما يجمع بين ابن رشد والاكويني أكثر بكثير مما يفرقهما فكل منهما معجب بالفلسفة الأرسطية ويرى بأنها لا تتعارض مع الدين والوحي. استخدم الاكويني الأدوات الصناعة لابن رشد وهي تشمل التعريفات والتمييزات في المفاهيم وقام بتطوير بعضها بحسب الحاجة (25) ولا ننسى اتباع الاكويني أسلوب ابن رشد نفسه في شرح أرسطو وتتبع فلسفته ويبقى موضوع تأثر الاكويني بابن رشد مجال نقاش واختلاف بين أولئك المؤيدين لوجود هذا التأثر أمثال ميغيل آسين، ليون غوتيه وآسين بلاسيوس، والمعارض له. وانتهى هؤلاء المؤيدون إلى إثبات تأثير ابن رشد على الاكويني مفرقين بين رشدية الاكويني ورشدية سيجير دي بربان. يتصور ميغيل آسين التوافق بين المفكرين من خلال اللاهوت المسيحي ويؤدي به ذلك إلى اعتبار ابن رشد مفكراً تومستياً أما ليون غوتيه فيجعلهما يتلاقيان على صعيد (العقل) (26) وأما آسين فقد أفرد بحثاً مستقلاً للتعرف على أثر ابن رشد في الاكويني ويتردد كثير من اللاهوتيين. المسيحيين في تقييم الحقائق التي خلص إليها هؤلاء الباحثون تقييماً إيجابياً وهذا يؤكد استمرار عقدة الإسلام في الفكر الديني المسيحي وكأن وجود هذه العلاقة يؤثر في صحة المسيحية ونقائها. كما ويحاول هؤلاء نفي تأثير علم الكلام في اللاهوت المسيحي عموماً والاكويني على وجه الخصوص (27) ، وهذا التأثير يظهر جلياً في مؤلف الإكويني (الخلاصة في الرد على الأجانب) الذي ألفه الرهبان المبعوثين إلى الأندلس والمغرب الإسلامي ورغم محاولة الإكويني الرد على المتكلمين المسلمين إلا أنه استعمل ادواتهم ونظرياتهم من قبل الجزء الذي لايتجزأ ونظرية نفي العلل الوساطية وغيرها من القضايا (28) . وفي سياق الحديث عن تأثير الإكويني بابن رشد يثار السؤال عن وصول مؤلفات ابن رشد (تهافت التهافت، الفصل، مناهج الكشف عن الأدلة) إلى الإكويني خاصة وإن أصالة ابن رشد وإبداعه تكمن في مؤلفاته أكثر من شروحه لأرسطو. ومن المرحج أن الإكويني قد عرف التهافت ورسائل ابن رشد الصغيرة (فصل المقال، الكشف عن مناهج الأدلة، العلم الإلهي) من خلال أثار ريمون مرينوس، ويذكر آسين بلاسيوس أن مارتين قد ذكر في كتابه المشهور (صراع الإيمان رداً على المسلمين واليهود) كتباً لابن رشد ترجمت عن العربية نحو كتاب التهافت والرسالة في العلم القديم ويشير كذلك إلى «فصل المقال» (29) . وعند الرجوع مرة أخرى إلى ذكر (رشدية الاكويني) نجد المستشرق الإسباني آسين بلاسيوس يؤكد وقفه الداعم لرشدية الاكويني بالعديد من الإستشهادات النصية من مؤلفات الاكويني، منها موضوع ضرورةالوحي من حيث درجتها وطابعها ولاسيما الوحي الواقع على الحقائق الطبيعية، فإن المفروض في ضرورة الوحي المتعلق بهذه الحقائق الظاهرة لمعظم البشر أن تكون أمراً يخطر بالبال بطبيعة الحال، على أنه لايمكن أن يطلب منهم المجهود اللازم من البحث الفلسفي لإكتشافها بالعقل وحده. وفي هذاالموضوع توجد مادة شبيهة عند الفيلسوف اليهودي بن ميمون في كتابه دلالة الحائرين (30) .
التوفيق بين الفلسفة والشريعة
لم تكن قضية التوفيق بين الفلسفة والدين وليدة تأثير ابن رشد في الثقافة الأوروبية فقد شغلت هذه المسألة اللاهوت المسيحي منذ عهد مبكر، لكن مساهمة ابن رشد جاءت في طريقة فهمه ومعالجته لهذه الإشكالية. يعتبر فيلون الإسكندري (ت50) صاحب التأثير الأكبر في تأسيس التوفيقية المسيحية، فقد تأثر عدد من اللاهوتيين المسيحيين الذين حاولوا فهم معاني النصوص المسيحية بطريقة تناسب معاني الفلسفة اليونانية مستخدمين التأويل كأدة لتحقيق هذا الغرض (31) .
ومن أشهر هؤلاء كليمنضوس، أوريجينوس (ت254) أغسطين (ت430) وقد شكلت معالجة هذا الأخير الحل المسيحي الرسمي الذي استمر حتى الاكويني ولكن الطبيعة الوعظية التبشيرية كانت طاغية على التوفيقية الأغسطينية «ليست الفلسفة الحقة إلا الدين الحق، وبالمقابل فإن الدين الحق ما هو إلا الفلسفة الحقة» (32) ، ويقول «وقع بين يدي بعض الفلاسفة كتب الأفلاطونيين المترجمة من اليونانية إلى اللاتينية، قرأت فيها، ليس بنفس اللفظ والكلام، وإنما بمعنى مشابه جداً، ومدعوم بعدد كبير من البراهين أن الكلمة كانت منذ البدء وأن الكلمة كان في الله، وإن الكلمة كان الله..» (33) .
لكن موقف اللاهوت المسيحي لم يكن واحداً وثابتاً تجاه الفلسفة ولذلك ظهر اتجاه مبكر يعادي الفلسفة وفي مقدمة هؤلاء ترتليانوس (ت220) وإيرنيوس صاحب كتاب (الرد على الهراطقة) (34) . وكان صدور الحرمان الكنسي عام 1210 امتداداً لهذا الموقف المأزوم تجاه الفلسفة «تمنع تحت طائلة الحرام، قراءة كتب أرسطو حول الفلسفة الطبيعية جهاراً أو خفية وكذلك الشروحات حولها» (35) ، وي عام 1231 منع الباب غريغوريوس قراءة كتب أرسطو على منابر الجامعات واعتبر الفلسفة العلمانية تشوه علم اللاهوت وفي هذا الوقت من القرن الثالث عشر كان الاكويني يصيغ لاهوتاً توفيقياً ينسجم مع الفلسفة بعيداً عن المقررات الكهنوتية المعادية للفلسفة متأثراً برياح الفكر القادم من الحضارة الإسلامية.
لاشك أن التوفيقية الإسلامية هي أكثر وضوحاً من التوفيقية المسيحية نتيجة السببية التعليلية التي تصبغ القرآن الكريم، ويؤكد ذلك بعض اللاهوتيين المنصفين بقوله: «إن الذي يزيدها (التوفيقية) ضبطاً وتعييناً في الإسلام هو أن غياب عقيدة التثليث يتيح لنا القول: إن الإله الذي اكتشفه العقل والله الذي يوحي به القرآن هما إله واحد» (36) ، هذا بالإضافة إلى عدم اعتراف الإسلام بطبقة خاصة لرجال الدين تفرض تفسيراً نهائياً ومطلقاً للنص فالتفسير من حقل كل واسع في العلم. وقد اهتمت الفلسفة الإسلامية، خاصة تلك المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة ببحث موضوع الإتفاق بين العقل والوحي والفلسفة والعقيدة. وقد ساهم كل من الكندي (ت875) والفارابي (ت950) وابن باجة، وابن طفيل (37) في التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية ورآى هؤلاء جميعاً بأن الوحي قد جاء مطابقاً لما وصل إليه العقل من حقائق. آمن ابن رشد بالعصمة المطلقة للقرآن وفي الوقت نفسه آمن بوحدة الحقيقة وتكافؤها بين الفلسفة والشريعة، وكان تأليف (فصل المقال) لأجل هذا الغرض وقد استخدم ابن رشد التأويل كآلية فاعلة لتحقيق التوافق والوحدة بين معاني النصوص الشرعية والفلسفة العقلية. سعى ابن رشد إلى تأصيل العقيدة تأصيلاً معرفياً عقلانياً وفي الوقت نفسه إيجاد تأسيسات عقدية لبنائه المعرفي الفلسفي مستخدماً أدوات إصطلاحية جديدة ومحددة.
وبكلمة موجزة يمكن تلخيص موقف ابن رشد في سعيه للتوفيق بين الشريعة والفلسفة بقول: «جاء الوحي متمماً لعلوم العقل» (38) وللتعرف على مدى الإشتراك والإفتراق بين ابن رشد والإكويني في قضية التوفيق بين الدين والفلسفة يتأكد هنا ضرورة النظر في مسألة وحدة العقل والحقيقة المزدوجة التي ترتبط بالتوفيق ارتباطاً عميقاً.
<f2>بين وحدة العقل والحقيقة المزدوجة
غالباً ما يتم معالجة موضوع وحدة العقل مستقلاً عن موضوع الحقيقة المزدوجة أو ثنائية الحقيقة وهذا يؤكد اضطراب الفهم في هذه المسألة وغياب التصور الدقيق لها.
ويمثل هذان الموضوعان أخطر الموضوعات وأكثرها جدلاً في القرن الثالث عشر بين الرشديين من جهة والإكويني من جهة أخرى. فقد آمن الرشديون أن الناس جميعاً يشتركون في العقل وهو ثابت بصفته وطبيعته، لكن تفاوت الناس يكون في استمدادهم منه وكلما كان الإستمداد أكثر كان قرب الإنسان إلى الكمال والسعادة (39) لكن بعض الباحثين يرون أن الرشدية اللاتين هم الذين ابتكروا قضية وحدة العقل ونسبوها إلى ابن رشد (40) لاشك أن ابن رشد يؤمن بوحدة الحقيقة وإمكانية الوصول لها بالجهد الإنساني العقلاني وما كان للتوفيق بين الشريعة والفلسفة أن يكون لولا وجود هذه الفكرة عند ابن رشد والحق أن القول بوحدة الحقيقة يعود إلى الأفلاطونية المحدثة التي رأت وجود حقيقة واحدة لها مظاهر متعددة. وقد وقع تحت تأثير هذه الفكرة كل من الكندي وابن سينا والفارابي وإخوان الصفا والمدرسة الإشراقية بصفة عامة مثلت المقولة المنسوبة لابن رشد والتي استشهد بها الاكويني في كتابه «وحدة العقل ضد الرشديين» المعنى السائد لمفهوم وحدة العقل. «العقل يجعلني أعتقد بالضرورة بأن ليس هناك سوى عقل واحد غير أنني بالايمان أعتقد بشدة نقيض ذلك» (41) وهذه العبارة تخلط أيضاً بين موضوع وحدة العقل وموضوع ثنائية (ازدواجية) الحقيقة.
هنا مجموعة من الإقتراحات يمكن أن تقدم للتعرف على أصول فكرة الحقيقة المزدوجة منها:
أ) أن هذه الفكرة هي مجرد حل اخترعه الرشديون اللاتين في محاولة منهم للتخفيف من حدة النزاع مع الكنيسة فهذه الصيغة ناتجة عن أسباب سياسية في الأساس حاول اتباعها الإبتعاد بأنفسهم عن مخاطر اللعنات الكنسية.
ب) يعتقد مارتين جريمان بأن مبدأ الحقيقة المزدوجة قد ظهر في القرن السادس عشر مع بومبانازي، وهذا رأي يخالف الواقع فالإكويني نفسه قد قام بالرد عليه في القرن الثالث عشر!!
ج) ويذهب إدوار جونو إلى أن الرشدية لم تقل بالحقيقة المزدوجة بل كان ذلك ناتجاً عن سوء فهم اللاهوتيين لهم فقد ذهب الرشديون إلىأن الحقيقة شيء والفلسفة شيء آخر غير الحقيقة وهذا يلغي النزاع بين الفلسفة (كعلم) والإيمان فلا علاقة لأحدهما بالآخر. ومثال على ذلك ما يقوله زعيم الرشدية دي برابان في معرض حديثه عن أرسطو «هذا وفقاً لرأي الفيلسوف (أرسطو)، ولكن دون أن نؤكد أن ذلك حقيقي» (42) .
د) ويمكن أن يكون هذا الموقف ناتجاً عن توجه (لاأدري) في المدرسة الرشدية لايسعى إلى التعرف على الحقيقة بقدر سعيه إلى فهم معانيها لدى أصحابها.
ويظهر أن احتمال اختراع الرشديون لهذه الفكرة محتملاً جداً خاصة وأن إغراق اللاهوت المسيحي ما كان ليسمح بظهور مذاهب دينية تتكلم عن الحقائق المطلقة لكنه قد يسمح بوجود حقيقة مخالفة لاتشكل مذهباً دينياً بل اتجاهاً فكرياً. كماأنه يمكن القول أن إزدواجية الحقيقة قد شكلت مرحلة تمهيدية للوصول بالعقل المسيحي إلى الوحدة والإنسجام مع الفلسفة الأرسطية.
انشغل القديس توما وأستاذه ألبرت الأكبر في الرد على أطروحة وحدة العقل فقد قام ألبرت بتكليف من البابا بتحرير رسالة الفلسفة، 1256 أطلق عليها اسم في وحدة العقل رداً على ابن رشد (43) .
وهنا يظهر التباين بل التناقض في موقف اللاهوت المسيحي تجاه موضوع وحدة العقل فقد هرب ألبرت من القول بوحدة العقل إلى الحد الذي جعله يقول بثنائية الحقيقة!! فكيف يكون من المعقول أن ينتقد ابن رشد والرشدية بقولهم بثنائية الحقيقة ثم نجد اللاهوت المسيحي الرسمي يقع بها. يقول ألبرت «الأمور اللاهوتية لاتتفق في مبادئها مع الأمور الفلسفية، فإن اللاهوت يقوم على الوحي دون العقل، وإذن فلا نستطيع في الفلسفة الخوض في مسائل لاهوتية» (44) . اعتبر كل من الإكويني وألبرت أن مكمن الخطر في القول في وحدة العقل هو إنكار الخلود الشخصي للنفس وبعث وخلود الجسد الأمر الذي رأوا فيه تهديداً لعقيدة الثواب والعقاب (45) .
ويحتج الإكويني في سياق رده على الرشدية في قضية وحدة العقل، بأنه من غير المحتمل أن لايكون في النفس العاقلة مبدأ بموجبه تستطيع أن تظهر فعاليتها الطبيعية وهذا مبدأ يتحقق في حال قبولنا بمبدأ وجود عقل فعال واحد سواء سميناه الله أم العقل (46) .
وقول الإكويني هذا مستمد من قول ابن سينا الذي ذهب إلى أن لكل فرد عقلاً منفعلاً خاصاً به في حين يوجد عقل فعال واحد للجنس البشري قاطبة (47) ويرى الإكويني أن امتلاك كل إنسان لعقل فعال مستقل وخاص به يشكل تعد على خصوصية الإنسان وكرامته ويؤدي إلى تجريد الإنسان من نشاطه وتعطيل السببية. لكنه وكما أشرنا يقر بوجود نور صادر عن الله موجود في كل إنسان (النور الذاتي) يرد عليه عقله ويتيح له أن يدرك نوعاً من الحقائق لايتسع لها هو وحده (48) .
ويبقى أن تشير إلى أن الأصول العامة التي ارتكز عليها كل من الإكويني وابن رشد في نظرتهما إلى العقل تقوم على:
أ) اتفاق العقل والإيمان «العقل الطبيعي لايمكن أن يكون متعارضاً مع حقيقة الإيمان فكل من العقل والايمان منبثق عن الله» (49) .
ب) السببية: رفض كل من ابن رشد والإكويني تعطيل الأسباب ورأي ابن رشد أن يستلزم إبطال مفهوم الفعل ويقوض الأسس التي يمكن أن تنسب بحسبها ظواهر الكون الفساد في العالم إلى الله، فالسببية هي اساس العلم الذي هو في الحقيقة علم بالأسباب التي تكمن وراء ظاهرة معينة وبمقدار جهلنا بالأسباب نجهل حقائق الأشياء، وإذا ما قدرنا رفع الأسباب رفع العقل.
يرفض الإكويني إغراق كل سببية مخلوقة في محيط السببية الإلهية ويرى أن من ينفي سببية الإنسان يقع في عكس ذلك تماماً، فالسببية في المخلوقات تأت من السببية في الخالق (50) .
الأدلة على وجود الله
يرى كل من ابن رشد والإكويني أن العلم بوجود الله كعلة أولى واجب عقلاً وهو سابق على التعرف على ما هيته وصفاته، فالعقل الطبيعي قادر على التعرف على علل الموجودات الطبيعية ويؤدي بنا إلى الإيمان بالله (وجوده ووحدانيته).
وأما فيما يتعلق بما هية الله وصفاته فهي خاضعة للوحي ومن الجدير بالملاحظة إقرار الإكويني لضرورة وحدانية الله من خلال العقل في حين لايمكن فعل ذلك مع الثالوث الذي يتجاوز العقل. إن تنزيه الله من كل تركيب ونقص وجسمانية أمر واجد عقلاً يتفق عليه كل من ابن رشد والإكويني، رغم أن مشقة إثبات ذلك أكثر صعوبة في اللاهوت المسيحي منها في العقيدة الإسلامية.
اختلف ابن رشد مع ارسطو في تصور الله فهو يرى الله على صلة مع العالم عبر الوحي. ويؤمن ابن رشد بأنه حي خالق فاعل يحدث الأحداث باستمرار ويهب الوجود والحياة للموجودات في حين يتصوره أرسطو كجوهر أول وعقل محض مكتف بذاته ولا علاقة له مع الكون (51) .
وفي كتابه الكشف عن مناهج الأدلة يرفض ابن رشد الدليل السببي لأرسطو ودليل الجواز لابن سينا ولبعض المتكلمين ويؤثر دليل الإختراع والعناية لإتفاقهما مع مدارك الناس كافة وارتكازها على النصوص القرآنية (52) . أما الإكويني فيضع في خلاصته اللاهوتية خمس طرق توصل إلى الله وتدل عليه على ضوء العقل وهي:
1ـ الحركة
2ـ العلة الفاعلة
3ـ الإمكان
4ـ درجات الكمال
5ـ النظام أو (غائية الكائنات).
وهذا الدليل الخامس هو دليل العناية عند ابن رشد يقول الإكويني في شرحه لهذا الدليل «الدليل الخامس من جهة نظام الطبيعة وله وجهان، أما الأول فإننا نرى الموجودات العاطلة من المعرفة تفعل لعناية، وهذا ظاهر من أنه تفعل دائماً أو في الأكثر على نهج واحد وبحيث تحقق الأحسن مما يدل على أنها لاتبلغ إلى الغاية اتفاقاً بل قصراً وما يخلو من المعرفة لايتجه إلى الغاية ما لم يوجه إليها من موجود عارف، فإذن يوجد موجود عاقل يوجه الأشياء بالطبيعة كلاً إلى غايته، وإما الوجود الثاني فهو أن جميع الكائنات منظمة فيما بينها لانتفاع بعضها ببعض والمتباينات لاتتفق في نظام واحد ما لم تكن منظمة من واحد» (53) .
<f2>خلق العالم:
ويتفق كل من الإكويني وابن رشد في موقفهما من قضية خلق العالم التي قال بها الفلاسفة.
فكل ما خلا الله فهو مخلوق من الله ضرورة، لأن الوجود القائم بذاته لايمكن أن يكون إلا واحداً يقول ابن رشد بخلق الله وصنعه للعالم لكنه ينكر في سياق رده على (تهافت الفلاسفة) أن يكون خلق الله للعالم مشابهاً لخلق الفاعل في الشاهد، فالعالم في حدوث مستمر وليس بمنطقه (في زمان محدد) (54) .
لقد اعتقد كثير من المسلمين والمسيحيين أن القول بقدم العالم يفضيإلى القول بوجود قديمين (الله والعالم) وهذا يجعل العالم يشارك الله في أخص خصائصه، ويفضي في الوقت نفسه إلى نفي الحدوث عن العالم. يجتمع ابن رشد في رده على الغزالي، الذي جعل قدم العالم أحد الأسباب المكفرة للفلاسفة، بالتفريق الذي استمده من ابن سينا (بين القديم بالذات والقديم بالزمان) رغم اشتراك لفظ القدم بينهما فالأول هو ما ليس له علة وأوجدته فهو واجب الوجود والقديم بالزمان موجود بعلة خارجة فهو محدث بالذات (55) . يذهب الإكويني إلى أن قدم العالم ممكن(غير مستحيل عقلاً) وهو في ذلك يتبع البرت الأكبر وابن ميمون، اللذين تأثرا بابن رشد، ويعتبر الإكويني أن العقل غير قادر على البرهنة والقطع في حدوث أو قدم العالم والوحي وحده قادر على حسم هذه القضية (56) ويعتبر الاكويني أدلة أرسطو على قدم العالم جدلية وليست برهانية (57) ولذلك لامجال لإثبات حدوث العالم إلا بالإيمان.
<f2>الخاتمة
استطاع اللاهوت المسيحي الخروج من أزمته الطويلة التي استمدت قروناً طويلة عندما شرع بالإستفادة من التراث الفلسفي الإنساني متجاوزاً ذلك الشعور الخادع بإكتمال المعرفة وعدم الحاجة بالنظر وراء جدران الذات. لقد كانت مساهمة ابن رشد في اللاهوت المسيحي وفي نشأة الوعي الفلسفي الأوروبي مساهمة عميقة ومؤثرة. لكن حقل البحث مازال بحاجة إلى الجهد والتنقيب عن العلاقة بين أكبر شخصية في الفكر الفلسفي الإسلامي وأكبر شخصية في اللاهوت المسيحي، ولعل هذا الجهد الذي قدمته في هذا البحث يكون مقدمة لإستنهاض البحث بطريقة أشمل وأعمق.
لقد سعى كل من ابن رشد والإكويني إلى إصلاح العقل وبناء المعرفة على أسس منطقية تقوم على مراجعات شاملة للفكرين الإسلامي والمسيحي واستطاع كل منهما تجاوز العثرات والتغيرات التي ارتكز فيها العقل والدين قدماً فهماً عقلانياً جديداً لحقائق الإيمان.
استطاع اللاهوت المسيحي أن يعيد ترتيب المعارف الفلسفية الوافدة من الفكر الإسلامي بما يتناسب وأغراضه وكان الإكويني في طليعة اللاهوتيين الفلاسفة الذين قاموا بهذا العمل وقد كان تطويبه قديماً في القرن الرابع عشر تحولاً ذكياً في إدارة السلطة الكنسية وتوجهها نحو المعرفة الإنسانية الأوسع.. ويتبقى عدد من القضايا التي أثارها ابن رشد في طليعة الإهتمام لكل مشروع إصلاحي جاد يهدف إلى استنهاض العقل الإسلامي الذي أرهقة تلبيس إبليس وغيره من الكتب التي ترى في الفلسفة والفكر الإنساني الحر وسوسة شيطانية.
* ورقة مقدمة لندوة العطاء الفكري لأبي الوليد ابن رشد. عمان / الاردن، نظمها المعهد العالمي للفكر الاسلامي بالتعاون مع جامعة آل البيت الاردنية، بتاريخ 18/11/1998م.
** استاذ مقارنة الأديان، جامعة آل البيت / الاردن
الهوامش
(1) أليكس جورافسكي، الإسلام والمسيحية ص35.
(2) انطوان سيف، ابن رشد رؤية عربية معاصرة ص53.
(3) فروية، قنواتي، فلسفة الفكر الديني ج1، ص.
(4) ادوار، الفلسفة الوسيطة 109.
(5) غرديه، فلسفة الفكر الديني ج2، ص141.
(6) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ص128، ص129.
(7) مايد فخري، تاريخ الفلسفة الاسلامةي ص375.
(8) ماجد فخري ص373.
(9) ماجد فخري، 375.
(10) ادوار، الفلسفة الوسيطية ص112.
(11) يرى م. ف شتينبرغن أن تسمية الرشدية اللاتينية هي اقتضاب لتسمية أكبر وهي «أرسطو طاليه آخذه، بالأفلاطونية المحدثة، هرطوقية أو راديكالية، متأثرة بالوقت عينه بالرشدية والتومائية» وهذا رأي غير دقيق فالاكويني نفسه قد أطلطق اسم الرشدية عليهم. ادوار ص138.
(12) ادوار، الفلسفة الوسيطية ص116.
(13) جورج، الفكر العربي ص22.
(14) كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية ص133.
(15) كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية ص219.
(16) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الأوروبية ص7.
(17) أدوار، ص142.
(18) التكيس، الاسلام والمسيحية ص36.
(19) ادوارد، الفلسفة الوسيطية ص20.
(20) غرديه، فلسفة الفكر ج2 ص221.
(21) Catholic dectianary / Johm A.H. U.S.A 1976432.
(22)ادوار، ص134.
(23) غرديه، ج2 ص222.
(24) جورج، الفكر العربي ص20.
(25) غرديه ج2، ص223ـ224.
(26) غرديه، ج2، ص228.
(27) غرديه ج2 ص330.
(28) يؤكد جلسون تأثير الاكويني بالكلام الأشعري في ستة قضايا في كتابه الخلاصة في الرد على الأجانب انظر غرديه ج2، ص234.
(29) غرديه ج2، ص229.
(30) غرديه/ ص229.
(31) يوسف كرم/ 170.
(32) إدوار جونو/ ص58.
(33) إدوار جونو/ ص33.
(34) غرديه/ فلسفة الفكر الديني ج2، ص94،96.
(35) غرديه/ فلسفة الفكر الديني ج2، 195.
(36) غرديه/ فلسفة الفكر الديني ج2 ص182.
(37) ماجد فخري ص364ـ370.
(38) ماجد فخري، ص384.
(39) محمد عبده، الإسلام والنصر القيم، الجزائر، 1987، ص182.
(40) جورج زيناتي، ابن رشد والفكر اللاتيني، ص16.
(41) جورج زيناتي، ابن رشد والفكر اللاتيني، ص16.
(42) المرجع السابق، ص20.
(43) إدوارد، ص138، 139.
(44) يوسف كرم، ص162.
(45) يوسف كرم، ص164.
(46) يوسف كرم، ص208.
(47) يوسف كرم، ص130.
(48) يوسف كرم، ص 162.
(49) غرديه، ج1، ص231.
(50) إدوارد، ص129ـ130.
(51) إدوارد، ص131.
(52) ماجد فخري/ ص381.
(53) كرم/ ص177.
(54) رفيق النجم/ ابن رشد في رسائله الفلسفية ص11.
(55) شفيق البقاعي/ ابن رشد العالم والفيلسوف ص89.
(56) كرم/ ص165.
(57) كرم/ ص183.