شعار الموقع

العلماء بين التهميش الواقعي والعجز النظري

محمد بن نصر 2004-10-15
عدد القراءات « 656 »


1ـ مقدمة
موضوع العلماء في الإسلام ـ ونعني بهم كبار المفتين والقضاة وخطباء المساجد الجامعة والمدرّسين من الدرجة الأولى.. ـ لم يجد في تقديرنا ـ الإهتمام الكافي من البحث والدراسة, فقلّما يُنظر إلى العلماء باعتبارهم فئة اجتماعية لها قوانينها الخاصة التي تحكمها وذلك في مستوى علاقتهم بالسلطة وفي مستوى علاقتهم بالمجتمع وكل ما يتعلّق بحركيتهم الإجتماعية. تمّ حشرهم في البداية ضمن دائرة المثقف التقليدي في إطار الثنائية المعروفة «التقليد/ الحداثة» ثم وقع تناسيهم بالكامل بعد أن تمّ تركيز الإهتمام على ما درجنا على تسميته بالظاهرة الإسلامية, في نفس الوقت أصبحت الساحة الفكرية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي تعج «بالمفتين والمفسّرين للنص الديّني» (1) أتوا من كل حدب وصوب,‏وانحدروا من نظريات متناقضة في المنطلقات والغايات, بعضها يعتبر الدين من المحطّات الأخيرة للخرافة والأسطورة. هذا الإهمال, لموضوع العلماء كان من بين الدوافع التي شجعتنا على أن نخصّص لذلك رسالتنا الجامعية فاخترنا الحالة التونسية لنعالج الأسس النظرية والتاريخية لمواقف العلماء السياسية والإجتماعية من بداية القرن العشرين حتى منتصفه. ولعلّ الظروف تساعدنا لإنجاز دراسة حول علماء الجزائر والمغرب ولاشك أن المقارنة بين كل هذه التجارب ستكون على درجة كبيرة من الأهمية.
في هذه الدراسة لانتعرّض للرسالة الجامعية التي قمنا بها حول علماء تونس (2) ولكن نود التركيز على بعض القضايا النظرية المتعلقة بموضوع العلماء بشكل عام بغض النظر عن الإهتمامات الإقليمية الخاصة, نحاول أن نفهم كيف يفكر العلماء وما الإشكالات التي تعيقهم عن الإبداع.

2ـ العلماء والمواقع المفقودة:
إذا سمحنا لأنفسنا بأن نقوم برسم لتطور العلاقة بين العقلانية ـ كما تمثّلناها في عالمنا العربي والإسلامي وبين موضوع الديّن والتدّين فإننا سنلاحظ أنها مرّت بمرحلتين أساسيتين, مرحلة أولى تميّزت بتعاملها معه على أساس أنه من مخلفات العقلية الأسطورية والخرافية, تلك القيود التي تخلّص منها العقل الغربي فانطلق ـ بحسب روّاد هذه العقلانية ـ حرّاً طليقاً في عملية تغييرية كبرى شملت الإنسان والطبيعة فكان التركيز في الإنتاج الفكري والفني (أدباً وشعراً وفلسفة ومسرحاً‏وسينما..) على مناقشة ودحض المسّلمات الدينية مثل الإيمان بالله وبالوحي واليوم الآخر وذلك باعتبارها من الركائز التي يقوم عليها المشروع الديني وامتدادته من معتقدات وطقوس وأحكام, وكاد يستقر الظنّ عند البعض ان معركة التأسيس النظري للفكر الوضعي قد ربحت نهائياً ولكن العودة المكثّفة للممارسات الدينية من طرف الشبان الذين نشأوا في إطار إيديولوجيا الحداثة وما صاحبها من أدبيات تناولت بالنقد المسلّمات النظرية الإلحادية جعل العقلانية المادية تدخل في مرحلة جديدة في تعاملها مع الدين, فسكتت عن مناقشة القضايا الإعتقادية وتحوّلت بترسانة أسلحتها إلى الساحة الدينية رافعة شعار الإستثمار الإيجابي للنص الديني وسرعان ما راجت تجارة توظيف النص الديني وأصبح النص القرآني تحديداً اساساً ‏نظرياً لكل النظريات التي عرفتها الساحة الفكرية رغم تناقضاتها الجوهرية بل أن البعض من أصحاب الايديولوجيات الوضعية لم يتردد في إصدار «فتاوى علمانية» فرضتها حاجة تطوير الأحكام الدينية التقليدية ولم تنجح هذه الإستراتيجية الجديدة في تحقيق النتائج التي رسمت لها واشتد الصراع بين التيارات الإسلامية والأنظمة السياسية القائمة فاحتمى المتطرفون الليبراليون بالقوة (العسكر) دفاعاً عن المجتمع المدني واستئصالاً للظاهرة الإسلامية واحتمى المتشددون الدينيون بأكثر الفتاوى تصلّباً ولم يترددوا في تكفير مخالفيهم. في ظل هذا الصراع الذي أتى على إيجابيات الظاهرة الإسلامية وعلى بعض المكاسب الجزئية التي بدأ يحققها المجتع على حساب الدولة الحديثة المهيمنة, كانت قضية الحرية في معناها الشامل هي الخاسر الأكبر وأصبح الفكر الإسلامي يتخبط بين التوظيف الإيديولوجي والعجز النظري «لعلماء» الدين المعاصرين. كل محاولات الإصلاح على المستوى الفكري كما على المستوى السياسي لم تتجاوز مستوى الأفكار المبعثرة حتى تلك التي توفرت فيها حسن النية والإجتهاد الصحيح (3) وذلك لأن أغلبها كانت أفكاراً وآراءً جاهزة وحضور النص فيها أو معها لم يكن إلا ليعطيها نوعاً من الشرعية التي تفتقدها فهي نتاج لقراءات نظرت إلى النص من الخارج, نظرت إليه باعتباره خطاباً تاريخياً ولم تجهد نفسها في البحث عن المنطق الداخلي الذي يحكم هذه النصوص ويعطيها استقلاليتها ويجعل استثمارها استثماراً مشروعاً (4) . ليس معنى ذلك أن هذه القراءات التي تنظر إلى النص من الخارج عديمة الفائدة فهي أحياناً‏تثير إشكالات في غاية الأهمية وتنبه إلى مداخل غير معهودة لفهم النص الديني ولكن نظراً للطريقة التي تُقَدم بها والخلفية الإيديولوجية التي تحكمها لاتزيد إلا في تيه فكر هوأصلاً في حالة قلق مستمر. من ناحية ثانية تواجه القراءات الأخرى التي تحاول أن تكشف عن جوانب لم يتعرض لها علماء السلف صعوبات جمّة لفرض نفسها في الساحة الفكرية الإسلامية ويكفي ان توصف بأنها تخالف ما قال به الأوائل حتى تصبح في موقع الإتهام ويصعب بعد ذلك التقاط أجزاء الحقيقة المتناثرة في هذه الإجتهادات ويصبح التجديد الديني (5) متمثلاً في أكثر الأفكار استرجاعاً لأقوال الفقهاء الأوائل وليست الأكثر تعبيراً‏عن المقاصد الشرعية وهكذا بقي الفكر الإسلامي يدور في حلقة مفرغة, يبدأ من نقطة ليعود إليها بعد أن تتراكم أدبيات الجدل الزائف حول الهوامش ويظل السؤال مطروحاً‏حول انعدام الحضور الإيجابي للعلماء وعن العجز النظري الذي أصاب تفكيرهم وعطّل فيهم ملكة الإبداع? والأسباب في نظرنا جزء منها تاريخي وجزء منها نظري.

3ـ من الفصل بين الدين والسياسة إلى الفصل بين الدين والمجتمع:
لو نظرنا في مؤلفات الفقهاء لوجدنا أن هناك تذكيراً مستمراً بالصورة المثلى للحكم السياسي الإسلامي كما فهموه من النصوص الدينية خاصة كما استخلصوه من تجربة النبوّة والخلافة الراشدة وذلك بالرغم من العلاقة التي غلب عليها الوفاق بين الفئة والسلطان بينما نجد في أدبيات أدباء السلاطين من الوصول إلى هرم السلطة وأكثر من ذلك الإستمرار فيها وقد حاول القاضي أو الحسن الماوردي أن يتجاوز هذا التناقض الظاهر بين الواقع والمثال وكان على أتم الوعي به فالخلافة العباسية كانت فعلياً بيد السلاطين البويهيين ولئن حافظوا على شكلها الخارجي أو الصوري فإنهم لايعتقدون في شرعيتها في الناحية المذهبية وخشي الماوردي أن ينفرط عقد الخلافة بشكل كامل ويتم القضاء على اليسير الذي تبقى منها, وفي نص يبرز فيه الخليفة المطبع قعوده عن الجهاد والغزو صورة معبرة عن الهوان الذي أصبح فيه «الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي, وإليّ تدبير الأمور والرجال. وأمّا الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفافي في أيديكم وايدي أصحاب الأطراف, فما يلزمني غزو ولا حج ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه. وإنما لكم مني هذا الإسم الذي يخطب به على منابر كي تسكنون به رعاياكم فإن أحببتم أن أعتزل, اعتزلت عن هذا المقدار أيضاً‏وتركتكم والأمر كله» خشية الماوردي من ذهاب هذا الإسم دفعته إلى إعطاء الشرعية لإمارة الإستيلاء والتضحية بمبدأ الشورى حيث يقول: «وأمّا إمارة الإستيلاء التي تعقد عن اضطرار فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يقلّده الخليفة إمارتها ويفوّض إليه تدبيرها وسياستها فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة, وهذا وإن خرج عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لايجوز أن يترك مختلاً مدخولاً ولا فاسداً‏معلولاً فجاز فيه مع الإستيلاء والإضطرار ما امتنع في تقليد الإستكفاء والإختيار لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز (6) لايهمنا كثيراً‏في هذا المقام المدلول السياسي لهذا الرأي ونتائجه الخطيرة ولكن المهم أنه رغم مبرراته التي لاجدال فيها قد أصبح قولاً مؤسساً لمنطق جديد في علاقة الفقهاء بالسلاطين, هذا المنطق يقوم على نوع من توزيع للأدوار فرضه واقع الهون الذي كانت عليه مؤسسة الخلافة اختص الأمراء والسلاطين بالمجال السياسي الذي كان بطبعه محدوداً‏بحيث لايتجاوز تجنيد الجنود وحماية الثغور واقتصر اهتمام الفقهاء على المجتمع وقضاياه من تعليم وقضاء وأحوال شخصية. ليس معنى ذلك أن توزيع الأدوار هذا كان دائماً‏قائماً على علاقة الوفاق فقد شهدت هذه العلاقة حالات من التوتر لم تصل إلى درجة القطيعة إلا في فترات نادرة وكذلك لم تصل إلى درجة التعاون الكامل إلا عبر مؤسسات استحدثت لهذا الغرض مثل «مشيخة الإسلام» ونحن هنا نحاول أن نرصد الإتجاه العام ونبحث في نتائج هذه العلاقة وليس في تعقيداتها الذاتية ونستطيع القول أن علاقة التوازن التي سلكها الفقهاء كانت البذرة التي أدت إلى استقلال السياسة عن سلطة الفقهاء واستقلال التشريع عن فضاء السلطة وهيأت هذه الوضعية نوعاً من القابلية لدى العلماء لإحتضان الإصلاحات السياسية الجديدة دون وعي كبير بآثارها فتّم قبول مبدأ الدستور ومبدأ الجمهورية والسيادة الوطنية, وكذلك مفهوم المواطنة.. وكأنّهم يعتبرون أن الإجتهاد في المجال السياسي يخرج عن نطاق اهتماماتهم ولاشك أن تكوينهم العلمي الذي أسقطت منه الإشكالية السياسية لم يكن قادراً‏على إسعافهم لفهم واستيعاب التحولات الكبرى في النظريات السياسية فضلاً على نقدها نقداً عميقاً من هنا تأسس الفصل بين ما هو «مدني» يدخل في اجتهاد الدولة وبين ما هو «شرعي» يختص العلماء بالإجتهاد فيه وطبعاً ‏لم ينتج عن الفصل أكثر من تعميق الهوة والإبقاء على الأحكام الشرعية بعيدة عن التطبيق وبالتالي فقدانها لحركية تجعلها قابلة للتطوير والتكيف. لم يكن بإمكان الدولة الحديثة التي تكوّنت من أجل أن تكون الأداة الفعالة سياسياً ‏واجتماعياً‏ في تأطير عمل السوق الوطنية المندمجة, احترام ذلك التوزيع التقليدي للأدوار فبدأت شيئاً فشيئاً تبسط نفوذها على المجال الإجتماعي ثم التشريعي وحوصر العلماء من كل جانب فاحتموا بمقولة الدفاع عن أحكام الدين وظلوا متشبثين بما قاله السلف من العلماء وأدت التحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الإسلامية إلى إقصاء الدين عن دائرةالفعل وأدت شمولية الدولة وهيمنتها على كل المجالات إلى ظهور دعوات تؤكد على شمولية الإسلام وترفض الفصل بين الدين والسياسة وتعارض بشدة الفقه السياسي الذي تأسست عليه الدولة السلطانية.
بالإضافة إلى هذه الأوضاع المتعاقبة والتي جعلت العلماء غير قادرين على الفعل والتفاعل مع التحولات الجديدة هناك أيضاً العجز عن الفهم والنظر إلى الدين على أنه مقولات جامدة لاحراك فيها ولانعتقد أن مقولة «الفقيه محكوم بقداسة النص وبالتالي فالنقل قبل العقل ولا اجتهاد مع النصوص ـ التي اتسعت دائرتها فشملتýأقوال واجتهادات السلف من العلماء» قادرة على تفسير هذا العجز النظري لأن المشكلة ليست في هذه الثنائية المفتعلة نقل/ عقل (7) . ولكن في عدم فهم العلماء للظروف الإجتماعية والسياسية التي تنزّلت فيها اجتهادات هذا العالم أو ذاك وأصبح كبار الأئمة منزّهين عن الخطأ وفوق التاريخ في حين كانوا هم أنفسهم ـ رحمهم الله ـ يؤكّدون باستمرار على نسبية اجتهاداتهم, ولم يقتصر العجز على استيعاب المشكلات التي كان يواجهها العلماء الأوائل ولكنه شمل أيضاً‏الأدوات المعرفية التي أنتجت ذلك الكم الهائل من الإنتاج الفكري, ليس المطلوب أن يبتدع الفقيه أو القاضي قاعدة قانونية جديدة إنما المطلوب هو الكشف عن جوانب أخرى اشتملت عليها النصوص ولم يكن الأوائل يملكون الوسائل القادرة على كشفها ولم تكن الإشكالات التي تواجههم في قراءة النصوص هي إشكالاتنا. لاشك أن الخوف من الوقوع فيما وقع فيه العقلانيون الماديون حينما تصدوا لتفسير النصوص الدينية, خوف مشروع ولكن هناك فرق شاسع بين من يجتهد ليأتي على اساسيات الدين وبين من يجتهد ليعطي للدين إمكانية الفعل والتأثير الإيجابي في الواقع الحالي مع إحترام القواعد الأساسية التي بنَي عليها الدين, الفقيه تحكمه قاعدة أن الشريعة قائمة على مبادئ العقل ومنع الظلم والرفق بالناس وإسعادهم كما تؤكّد ذلك عشرات الآيات في القرآن, فالأحكام الشرعية لم توضع لذاتها وإنما لتحقيق حكم ترتبط بها وجوداً‏وعدماً‏وفي ذلك تحقيق لمبدأýأصولي معروف «الحكم يدور مع العلة وجوداً‏وعدماً» وليس لتحقيق رغبة أو مصلحة خاصة لفرد أو مجموعة. ولكن عدم التمييز بين العبادات والمعاملات (8) حيث أن الأصل في الأولى هو التعبّد والأصل في الثاني هو التعليل والقياس كما أوضح ذلك الفقيه الشاطبي في الموافقات.
يقول أحمد الخمليشي: «.. فإذا كانت نصوص الشريعة أشارت إلى علة الأحكام بالنسبة لأغلب العبادات إلا أن هذه العلل لاتأثير لها على الحكم الشرعي إطلاقاً. فعلة التطهير لاترفع وجوب الوضوء للصلاة ولو كان المعني بالأمر في أعلى درجات النظافة والطهارة وفرض الصلاة يبقى قائماً‏وإن كان المكلّف من أكبر الزهاد ومعتزلاً لكل فحشاء ومنكر, ومثل هذا يقال عن العلل الواردة مع الصيام والحج والزكاة واستقبال القبلة.. الخ حيث تبقى الصفة التعبدية هي الأساس للفعل أو الإمتناع, ولو كانت العلة المرافقة له غير متحققة بالنسبة للمكلف المخاطب, في حين أن الحكم في ما اصطلح عليه بالمعاملات ليس له وجود‏مستقل فهو مرتبط بالعلة ارتباطاً لازماً‏وضرورياً».

4ـ المرأة في الإسلام..‏نموذجاً‏تطبيقياً.
نتوقف عند بعض الأمثلة التي تبين أن النص القرآني معين لاينضب وأنه سيظل قادراً على العطاء إذا أحسن المشتغلون عليه التخاطب معه واكتشاف المنطق الداخلي الذي يحكم توجيهاته الحكيمة. الأمثلة التي سنتعرض لها تتعلق بموضوع المرأة في الإسلام وهو من المواضيع الحساسة لأنه يترجم بحق هذه الحالة التي يمكن أن نطلق عليها بـ «المفكر فيه غير المعاش والمعاش غير المفكر فيه» ولأنه يحتاج في تقديرنا إلى ثورة منهجية تزيح عنّا الحجب الكثيفة التي تغطي هذا النفاق الإجتماعي الذي نمارسه جميعاً, كل على طريقته ولو أمعنا النظر لما وجدنا فرقاً يذكر بين «العقلاني المادي الإباحي» و«الإسلامي المتدين المتشدد» فكل منهما يتعامل مع هذا الكائن الذي كرمه الله سبحانه وتعالى على أساس أنها جسد, الأول يريد أن يجعل منه مصدر ربح مادي لايتوقف والثاني يعتبره مصدر الشرور كلها, الأول أزاح عنها ثيابها والثاني أثقلها بالأسمال وإذا استثنينا بعض المحاولات الإسلامية الراشدة وهي نادرة وبعض الأفكار المتناثرة هنا وهناك فإنّ المجتمعات الإنسانية مازالت تعيش تحت وطأة هذين النموذجين المتناقضين في الظاهر فقط.
كيف قرأ علماء السلف الآيات المتعلقة بالإرث والشهادة مثلاً وماذا يمكن أن تعطينا قراءة أخرى تحاول أن تفهم العلل التي بنيت عليها هذه الأحكام? وهنا لابد من التأكيد أن الذي يهمنا من القراءتين هي النتائج المترتبة عن ذلك تصوراً‏وواقعاً‏كما سنوضح لاحقاً وليس الحكم في حد ذاته, ولابد أيضاً من الإشارة إلى أنه أمام هذه الآيات التي تثير جملة من الإشكاليات كانت إجابات المسلمين جد متنوعة فمنهم من تمسك بالتفسيرات التقليدية معتبراً أن الأمر لايحتاج إلى كل هذا الإهتمام الذي يعود في نظره إلى تأثر بالنظريات الوافدة في هذا الموضوع ومنهم من ظلّ متمسكاً بهذه التفسيرات رغم إقراره بالإشكالات المثارة ومنهم من لم يجد حلاً لهذه الإشكاليات إلا بالأخذ بمنزلة التدرج في التشريع, وأن هذه الأحكام كانت مقدمة لإشراك المرأة إشراكاً كاملاً في الحياة الإجتماعية والسياسية وبالتالي فهذه الأحكام كانت استجابة لفترة تاريخية معينة وأن المطلوب تقديم اجتهادات جديدة تلغي هذه الأحكام وتدفع بها إلى اقصاها كما يقول البعض (9) , ولاشك أن في هذا القول الأخير مخاطرة كبيرة فرغم أن أصحابه ينطلقون من موقع الدفاع عن دينهم ويسعون إلى تمثّل العدل الإلهي فهم لايدرون أن القول بتاريخية بعض الأحكام يفتح الباب على مصراعيه لتاريخية الوحي بأكمله وهي من المسائل التي اشتغل عليها الإتجاه الوضعي طويلاً لأنه يعتبرها مقدمة ضرورية لتقويض الدين من أساسه ولكن قليلاً منهم من عاد إلى النص يسائله ليكشف أوجه الحكمة فيه. ما هذه الإشكالات المثارة? مقدمة هذه الإشكالات تقول أن الله سبحانه وتعالى سوّى بين الرجل والمرأة تسوية كاملة في مستوى التكليف الشرعي, بمعنى أن لها نفس الجزاء ونفس العقاب في حالة التزامها أو تجاوزها لحدّ شرعي, مثلها مثل الرجل. كيف نفهم إذن هذه الفروقات في بعض الأحكام? بالإضافة إلى ذلك كيف نفهم هذا التحول الذي حصل في موضوع المرأة فمن ناحية جاء القرآن ليؤكد هذه المساواة الأنطلوجية ومن ناحية أخرى تأسس الفقه التقليدي على تلك الفروقات التي جاءت في بعض الأحكام?
لنأخذ أولاً آية الإرث, يقول تعالى في كتابه العزيز: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحدٍ منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لاتدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضةً من الله إن الله كان عليماً‏حكيماً} (النساء: 11), قال ابن كثير في تفسيره: «{للذكر مثل حظ الأنثيين..} أي يأمركم بالعدل فيهم, فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث فأمر الله بالتسويةبينهم في أصل الميراث وفاوت بين الصنفين فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة, ومعاناة التجارة والتكسب, وتحمّل المشاق فناسب أن يعطي ضفعي ما تأخذه الأنثى». ثم يأتي ابن كثير بأدلة نقلية لتدعيم هذا الرأي الذي نجده تقريباً في كل الأدبيات الإسلامية. يمكن أن نبدأ بهذا الإعتراض الشكلي على التفسير الذي قدّمه ابن كثير, إن العدل الإلهي ليس وسطاً بين حالتين تاريخيتين. فليس لأن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث ولكن العدل اقتضى ذلك. أعطى الله للأنثى حق الميراث بغض النظر عما سبقه وعما سيلحق ولابد من البحث عن الحكمة في منطوق النص ذلك أن الأدلة التاريخية متحولة ومتغيرة وقد شهد التاريخ الإسلامي محاولات عديدة لإحياء نظام الإرث الجاهلي, أمّا ملاحظتنا الجوهرية فهي حول علة التفاوت التي أوردها ابن كثير «احتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة, ومعاناة التجارة دون الإناث» فهذه العلة لاتصلح لتفسير هذا التفاوت, فالتجارة لها أشكال واساليب ليست بالضرورة دائماً‏شاقة ثم إن هذا التفسير لايمكن أن يجيب عن سؤال لماذا ساوت الآية بين الرجل والمرأة في الإرث في حالة الأبوين مثلاً, لكل واحد منهما السدس في ولدهما المتوفي إذا كان له فرع {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} يرى أحمد الخمليشي إن التعليل الأكثر قبولاً هو ارتباط الإرث بنظامي الزواج وامتداد الأسرة حيث يترتب عنهما, فمن ناحية انتقال البنت المتزوجة إلى أسرة الزوج وسكناها واندماجها فيها بينما يتزوج الإبن ويستقر بجوار أبيه ومن ناحية ثانية ـ وهذا هو الأهم ـ اعتبار أولاد الإبن امتداداً لأسرة جدهم في حين يفقد أولاد البنت هذا الوصف بناء على نظام «النسب» الذي يميز بين الأبناء فوزع البنات, بهذا التعليل يمكن أن نفسّر كل أجزاء المتعلقة بالميراث ونفهم أيضاً لماذا ساوى الله سبحانه وتعالى بين الإخوة من الأم (وهم ذكور وإناث ينتسبون إلى أسرة أخرى, فالواحد منهم يرث السدس وذلك بغض النظر عن جنسه وإن كانوا أكثر من اثنين قسّم بينهم ثلث التركة بالسوية لافرق بين الذكر والأنثى {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} (النساء: 12). فالمسألة لاعلاقة لها بجنس الوارث, ذكراً أم أنثى ولكن لها علاقة بتخصيص الموارد Allocation of ressources .
كما سبق أن ذكرنا أن المهم عندنا ليس الحكم في حدّ ذاته ولكن في النتائج المترتبة عليه والتي تؤدي أحياناً‏إلى جعل الإستثناء هو القاعدة, فنحن أمام تفسيرين, الأول يقيم علاقة تقابلية بين المرأة والرجل ويجد علة التفاوت في صفات متعلقة بذات الرجل وبذات المرأة ومنها يستنتج أن المرأة في حاجة مستمرة للرجل, بل كثير من علماء السلف (10) من اعتبر أن السفهاء المنصوص عليهم في الآية {ولاتؤتوا السفهاء أموالكم} (النساء: 5) هم النساء والأطفال أين نحن من قاعدة التسوية في التكليف الشرعي?
التفسير الثاني يجد علة التفاوت في سبب موضوعي يتعلق بنظامي الزواج وامتداد الأسرة وهي علة مستخرجة من مجموع الآيات المتعلقة بالإرث ولو فهمت هذه الآيات على هذا الشكل لما عرفت مجتمعاتنا الإسلامية التمييز الذي عرفته بين الرجل والمرأة ولكن المشكل الأكثر تعقيداً أن الرأي الأول شكّل ثقافة وذهنية سائدة لأنه رأي عالم, والرأي الثاني يبقى مجرد رأي لا أكثر فرغم أنه في تقديرنا التفسير الأكثر صواباً والأكثر تعبيراً عن القاعدة الأساسية في موضوع توزيع المواريث لكل من المرأة والرجل فإنه لم يتحول إلى رأي موجّه ومرشد لتصحيح هذه العلاقة.
أمّا فيما يتعلق بآية الشهادة فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه.. واستشهدوا شهيدين من رجالكم, فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء..} (البقرة: 282). لوقعنا باستجواب عفوي وسألنا الناس عن أهلية المرأة في الشهادة لذكروا لنا هذه الآية التي تفرق في ظاهرها بين المرأة والرجل وذلك لسبب بسيط, إنها الآية التي شكلت الرأي السائد حول شهادة المرأة في حين أن الله سبحانه وتعالى ذكر عدد الشهود في خمس آيات جاءت كالآتي:
1ـ {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15).
2ـ {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: 4).
3ـ {فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2).
4ـ {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} (المائدة: 106).
5ـ {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه.. واستشهدوا شهيدين من رجالكم, فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء..} (البقرة: 282).
الأولى والثانية تتعلق بإثبات الزنا, الثالثة في إمضاء الطلاق أو التراجع عنه عند انتهاء العدة, الرابعة في الإشهاد على الوصية في السفر والخامسة في الإشهاد على كتابة الدين.
جاء في تفسير ابن كثير للآية الخامسة المتعلقة بالإشهاد على كتابة الدّين ما يلي: «..وهذا.. إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال, وإنما أقدمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الإستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار? قال: «تكثرن اللعن وتكفرن العشير, ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت يا رسول الله: ما نقصان العقل والدين? قال: «أمّا نقصان عقلها فشهادة إمرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل, وتمكث لاتصلي وتفطر رمضان فهذا نقصان الدين» (11) بغض النظر عن أدلة ابن كثير النقلية فهي بذاتها تحتاج لدراسة مفصلة حول صحة بعض الأحاديث وحول الظروف التي قيلت فيها, فإن ابن كثير يجد العلة في نقصان عقل المرأة ولا ندري لماذا حمّلت المرأة الأمانة مثلها مثل الرجل إذا كانت ناقصة العقل ثم إذا كانت فعلاً ناقصة العقل فلماذا لم يجعل لها الله أحكاماً خاصة ـ إذا تجاوزت حدوده ـ تأخذ بعين الإعتبار هذا النقصان? ماذا يقول الخمليشي الذي حاول أن ينظر إلى هذا الموضوع من خلال كل الآيات المتعلقة بآيات الشهادة..? يقول: «الآيتان الأوليتان تتعلق بالإثبات أمام القضاء وبجريمة الزنا التي تخضع لقواعد استثنائية في الإثبات مباشرة أمام القضاء وإنما بتوثيق الحق وكلها تخص تصرفات قانونية فهل بينها اختلاف? لانخرج عن آراء فقهية في الموضوع إذا قلنا أن الأمر لايتعلق بالتمييز بين الحقوق الماليةوالحقوق غير المالية كما هو الرأي السائد في الفقه وإنما بالمقتضيات الظرفية والضرورية المتوفرة في كل حال على حدة ففي آية الإشهاد على الوصية في السفر وعلى إمضاء الطلاق أو الرجعة, ورد اللفظ عاماً‏{إثنان ذوا عدل منكم} «ذوي عدل منكم» وهو ينصرف إلى الرجل والنساء حسب الإستعمال اللغوي للتثنية.. لأن وقت اقتراب الوفاة الذي تصدر فيه الوصية أو إمضاء الطلاق أو الرجعة يحضره الجنسان معاً (12) ..‏وفي الإشهاد على عقود الدّين المؤجلة يبدو أن الأمر بإشهاد رجلين أو رجل وامرأتين يرجع إلى ظروف وملابسات الشهادة فسوق المعاملات المالية بعيدة عن المرأة المقيمة في خبائها.. ولذلك فإنّ المجالات التي كانت العادة المألوفة إطلاع النساء عليها تقبل فيها شهادة رجلين أو شهادة امرأتين على السواء كما هو مذهب مالك. بل إن الإمام أبا حنيفة يقبل شهادة امرأة واحدة لأن الأصل الإكتفاء بشهادة فرد واحد متى اطمئن القاضي إلى ما شهد به ولم يعرف منه ما يؤثر على قبول شهادته, أو يطعن فيما المشهود عليه بمطعن مقبول..» (13) المسألة إذاً لم تعد تتعلق بطبيعة المرأة وبنقصان عقلها ولكن العلة هنا تتعلق بضرورة تثبيت الشهادة بالتالي تأكيد على ضرورة الإختصاص في موضوع الشهادة, فإذا أقدمت شهادة المرأة على الرجل في موضوع معيّن فلا يعني ذلك أن الرجل ناقص العقل.. والأمر في تقديرنا يحتمل اجتهاداً‏آخر في الحالة التي يصبح فيها وجود المرأة في سوق المعاملات المالية أمراً مألوفاً وكما لاحظنا فإن الأمر يتجاوز الحكم في حدّ ذاته إلى القيم والتصورات المترتبة عن ذلك.
من هنا نخلص إلى القول بأن تقسيم الفقه إلى فقه مدني من اختصاص الدولة وفقه شرعي من اختصاص المؤسسات الدينية سينتهي بالضرورة ـ ولعله وصل في بعض البلدان الإسلامية إلى هذه الحالة ـ إلى هيمنة كلّية للدولة في مجال التشريع ويصبح تطوره رهين رغباتها ومصالحها وليس وفق ما تقتضيه المقاصد الشرعية وأن الفصل أيضاً‏في مجال الإصلاح الفكري بين مراكز دراسية ومجالس شرعية سيزيد من تعميق الهوة بين الأفكار والفتاوى.
* أستاذ مساعد في قسم أصول الدين ومقارنة الأديان, كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا, ومدير تحرير مجلة التجديد.

الهوامش:
1ـ ينبغي ألا يفهم من هذا الكلام أننا ضد حرية التفكير والإشتغال على النص الديني فمن حق كل مفكر أن يدرس الدين والممارسة الدينية من الزاوية التي يراها مناسبة وأن يستعمل الآليات المنهجية التي يختارها ولكن بشرط أن يكون واضحاً في منطلقاته العقائدية بمعنى أن يكون محترماً‏لنفسه ولفكره وبالتالي لحريته فلا ينطلق مثلاً من مقولة: «أن الوحي ظاهرة تاريخية» ثم يتحول في أثناء التحليل إلى مجتهد في أحكام الدين, فالحرية الحقة تتحقق عندما يحقق الفرد توازنه الذاتي فيكون الفعل معبّراً عن الإعتقاد فلا يحتاج المؤمن للفرار بدينه ولايحتاج الملحد إلى الظهور في زي الناسك المتعبّد..
2ـ في انتظار القيام بعرض واف لهذه الرسالة نكتفي في هذه الزاوية بعرض العناصر الأساسية التي اشتملت عليها, بالإضافة إلى المقدمة العامة والمقاربة التاريخية قسمنا الرسالة إلى خمسة فصول: تعرضنا في الأول إلى مكانة العلماء في التراجم ووظيفة شيخ الإسلام والإنتماء المذهبي واثره في الإرتقاء الإجتماعي للعلماء والإنتماء الجهوي واثره في التكوين العلمي وفيه أيضاً تعرضنا لعلاقة العلماء بالطرق الصوفية, جاء هذا الفصل ليسلط الضوء على حركية العلماء الإجتماعية. في الفصل الثاني تعرضنا لموقف العلماء من القضايا التي عرفها المجتمع التونسي في النصف الأول من القرن العشرين: إصلاح التعليم الزيتوني, ومسألة المرأة والإصلاحات السياسية. في الفصل الثالث تعرضنا لعلاقة العلماء بالسلطة السياسية المحلية والإستعمارية أكدنا فيه على استراتيجية التوازن عند العلماء..‏في الفصل الرابع حاولنا أن نبحث في إشكالية الإجتهاد عند العلماء وخاصة عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وفي الفصل الخامس أجرينا مقارنة بين علماء الأمس وإسلامي اليوم واستراتيجية كل منهم لإمتلاك السلطة المعنوية. وختمنا بتقديم بعض الأسس المنهجية لفهم القرآن الكريم.
3ـ الإجتهاد في التفسيرلايكتسب وصف علم القانون إلا إذا توفرت فيه خصائص البحث العلمي وفي مقدمة هذه الخصائص التقيد بضوابط التحليل والإستنتاج الموثوق بها والتحرر من أوهام الايديولوجيا ومن النزعات الشخصية.
4ـ في محاضرة ألقاها محمد أركون في المركز الثقافي الجزائري بباريس, ترجمة هشام صالح, مجلة الوحدة, الرباط, 1/1989, ص 17-26 يتوقف المحاضر عند تفسير كلمة «كلالة» فيستند لرأي أسنده لأحد المستشرقين لكلمة «كلالة» بأنها موجودة في اللغة الأكاديمية بمعنى «كنة» وتساءل قائلاً: «إذا كان القرآن قد ورّث «الكنة» فإن ذلك يعني أن كل نظام قرابة والضبط الخاص بانتقال الأملاك والثروات في المجتمع القبلي قد انهد وانهار ورأى في قراءة الفقهاء برفع كلمة «أو امرأة» بدلاً من نصبها وتفسيره لكلمة كلالة بأنه (من لاولد ولا لوالد له) وقراءتهم لها بصيغة المبني للمجهول, تأويلاً فرضته حاجيات المجتمع ونظام القرابة السائد في زمنهم وضرورات العلاقات الإقتصادية وضبط التبادل التجاري..»‏ويسهب محمد أركون في طرح الإشكالات من خلال توقفه عند هذه الكلمة ولو تأنّى قليلاً لوجد تفسيرها في الآية 175 من نفس السورة {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} ووفر عن نفسه كل هذا العناء. 5ـ نتحفظ بعض الشيء عن مفهوم التجديد الذي كثيراً ما استخدم في غير معناه الحقيقي: كل الإجتهادات التي وصفت بأنها تجديدية لاتتجاوز أحد أمرين إمّا أن تكون ترجيحاً لقول في قضية معينة من عدة أقوال أخرى أو إعطاء حكم لقضية مستجدة وفي كلا الحالتين لايمكن اعتبارها تجديداً فالتجديد يعني إعطاء حكم جديد في قضية لها حكم أو أحكام قديمة.
6ـ الماوردي, أبو الحسن, الأحكام السلطانية (مصر: ط3, 1973), ص 33.
7ـ يتساءل أحمد الخمليشي محقاً فيقول: «الله الذي أنزل الشريعة زوّد المخاطبين بها بقوة العقل الذي يمكنهم به أن يدركوا على الأقل أغلب أوجه المصلحة التي تربط بها الأحكام. وإلاّ فكيف يخاطبهم بقوله مثلاً: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} إذا كانت عقولهم عاجزة عن إدراك مفهوم العدل في تصرّفات الأفراد وسلوكهم وعلاقات بعضهم ببعض وفي تنظيم التعايش الإجتماعي عموماً? وإذا كانت عقولهم ممنوعة من توخي «العدل والإنصاف» كما يقول المرحوم علال الفاسي?» انظر: أحمد الخمليشي, وجهة نظر (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة, 1988), ص295.
8ـ‏نستعمل هذا التفريق بين العبادات والمعاملات بوصفه تفريقاً فنياً‏فقط وإلا فإنّ من المعروف أن المعاملات هي في ذاتها عبادات لايقل التعبد بها عن التعبد بالعبادات.
9ـ قال محمد شحرور في كتابه: الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة (دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع, 1990) ص603: «بينا أن آيات الإرث عبارة عن آيات حدودية لاحدّية ولعدم الإلتباس قال الله بعدها {تلك حدود الله} حيث أعطى الله للأنثى نصف حصة الذكر حداً أدنى, وهذا الحد الأدنى في حالة عدم مشاركة المرأة في المسؤولية للأسرة وفي حال المشاركة تنخفض الهوة بين الذكر والأنثى حسب نسبة المشاركة وما تفرضه الظروف التاريخية». تعليق يتحدث الكاتب عن حق الأنثى بإطلاق في حين أن الآية تشتمل على دقة متناهية حين يبدأ بالقول: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.
10ـ نذكر منهم ابن عباس, الضحاك, مجاهد, عكرمة, وابن أبي حاتم..
11ـ المتأمل في الصيغة التي ورد بها الحديث لايستطيع أن يصرف نفسه عن السؤال التالي: صحيح أن المرأة لاتصلي في حالات معينة وصحيح أنها تفطر رمضان في ظروف صحية معينة ولكن عدم صلاتها وعدم صيامها لم يكن إلا اتباعاً‏وانصياعاً لأمر إلهي فهل يعتبر ذلك نقصاً في دينها? هل المسافر الذي يقصر صلاته أو يفطر في رمضان يصبح دينه ناقصاً?
12ـ مع الإشارة إلى أن حالة حضور الوفاة من الحالات التي تغلب فيها المشاعر ويسيطر فيها الحزن ومع ذلك ورد اللفظ عاماً {إثنان ذوا عدل منكم}.
13ـ مصدر سابق, ص 172ـ173.