شعار الموقع

مؤتمر: «التعليم العالي في القرن الواحد والعشرين: رؤية وعمل»

محمد دكير 2004-10-15
عدد القراءات « 1311 »

 باريس: 5ـ9 تشرين الأول (اكتوبر) 1998م
محمد دكير

عرف قطاع التعليم العالي خلال النصف الثاني من هذا القرن، أكبر وأهم توسع له، فأعداد الجامعات تزايدت في العالم بشكل كبير جداً. كما تزايد الاقبال على الالتحاق بالكليات والمعاهد الخاصة بالتعليم العالي والمتخصص. فقد أكدت الاحصائيات الأخيرة ان عدد الطلبة في العالم قد ارتفع من (13) مليون سنة 1960م إلى (82) مليون سنة 1995م، ومن المحتمل أن يصل عدد الطلبة خلال الربع الأول من القرن القادم إلى (100) مليون طالب وطالبة.
وهذا التطور النوعي والكمي، إنما جاء نتيجة ازدياد الوعي العالمي بأهمية التعليم العالي، وما يقدمه من مساهمة فعالة وضرورية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بالاضافة إلى كونه ثمرة ونتيجة موضوعية للسياسات والخطط التعليمية والتربوية التي وضعتها غالبية الدول في العالم، وهدفت إلى تحقيق ديمقراطية التعليم والمساواة في الفرص التعليمية وضمان الحق في الحصول على تعليم متقدم وراقي لجميع المؤهلين له والراغبين فيه.
لكن هذا التطور حمل معه تحديات ومشاكل عديدة، خصوصاً بالنسبة لدول العالم الثالث، الفقيرة أو السائرة في طريق النمو، والتي انطلقت منبهرة بالانتصارات التي يحققها التعليم العالي في الدول المتقدمة ـ حيث تشارك الجامعات والمعاهد المختصة بالبحث العلمي في التنمية والتطور التقني بشكل فعال ومتميز. في محاولة لمسايرة هذه الدول، بالاهتمام بهذا القطاع عَلَّهُ يوصلها إلى ما وصلته هذه الأخيرة من تقدم، أو على الأقل يربط قاطرتها بمسيرة الركب الحضاري على المستوى العلمي خصوصاً. لكن هذا الاهتمام انصب على جوانب كمية وشكلية، حيث ارتفعت أعداد الجامعات والمعاهد والكليات المتخصصة في مجالات العلوم الانسانية والطبيعية والتطبيقية، وسمح لكل طالب أو طالبة حصلا على البكالوريا أو شهادة الثانوية العامة، أن يلتحقا بالتعليم العالي، وأن يتمكنا من تحصيل مقعد في إحدى الكليات. لذلك نرى أن في العالم العربي على سبيل المثال، تضاعف عدد الطلبة ليصل إلى 3 ملايين طالب وطالبة، وتتوقع التقارير والاحصائيات الميدانية ان يتضاعف هذا العدد ليصل إلى 6 ملايين خلال العقد الأول من القرن المقبل. وقد قدم المشاركون في المؤتمر العربي الاقليمي التحضيري الذي نظمته اليونسكو وعقد في بيروت بين (2ـ5 آذار / مارس) 1997م، عدة احصائيات وتقارير تكشف عن مسيرة تطور التعليم العالي في عدد من الدول العربية، (انظر مجلة الكلمة عدد 19 ربيع 1998م).
لقد تضاعف عدد الطلبة بنسب كبيرة جداً وقياسية (160 مرة في الجزائر خلال الفترة بين 1962ـ1997م). كما تمكنت الدول العربية خلال العقود الأخيرة. من بناء نحو (1000) جامعة ومعهد عالي وفني، مما دفع مكتب اليونسكو في القاهرة إلى الحديث عن «انفجار طلابي» في تقرير له حول تطور التعليم العالي العربي. لكن وكما قلنا سابقاً، حمل هذا التطور في طياته مجموعة من المشاكل والتحديات أهمها: مسألة تمويل هذا القطاع المهم والاستراتيجي، لأن ميزانيات التعليم بشكل عام أرهقت الدول والحكومات العربية وباقي دول العالم الثالث، وكثرت الشكوى من هذا الارهاق المالي والضغط الذي يشكله الانفاق الكبير، دون مردود مالي مباشر يخفف العبء أو يساهم في التمويل، ثم الخلل العميق الذي أصاب المواءمة بين خريجي الجامعات والمعاهد المتخصصة، وبين احتياجات السوق من هذه الكفاءات المتخصصة، فظهرت بطالة الخريجين ذوي الشهادات والكفاءات العملية العالية الذين لم تستوعبهم سوق العمل. بالاضافة إلى الحديث عن ضعف المناهج، وعدم مواكبتها للتطور العلمي والتقني مما أثر على مستوى الطلبة وتحصيلهم للمعارف الجديدة ومسايرتهم للتطور العلمي العالمي.
هذه المشاكل المزمنة التي يعاني التعليم العالي منها في أكثر من دولة في العالم، بالاضافة إلى مسألة التعاون الدولي في مجال تبادل المعلومات وتسويقها والاستفادة من تقنية الاتصالات الجديدة التي كشف عنها التطور التكنولوجي، شكلت المحاور التي ناقشها المشاركون في مؤتمر باريس الذي جاء تتويجاً لأعمال خمس مؤتمرات عالمية اقليمية سابقة نظمتها منظمة اليونسكو وعقدت تباعاً خلال أربع سنوات في كل من هافانا وداكار وطوكيو وباليرمو وكان آخرها مؤتمر بيروت. ومن خلال هذه المؤتمرات والمشاورات التي قام بها الخبراء في مجال التربية، توصل المشاركون في مؤتمر باريس الذي عقد بين 5ـ9 تشرين الأول (اكتوبر) 1998م، إلى وضع خطة رئيسية، اعتبرت بمثابة برنامج للمؤتمر، وجاءت البحوث والدراسات المقدمة لمعالجة هذه الخطة، وتقديم رأيها بخصوص الحلول المقترحة للمشاكل المعروضة. العناوين الرئيسية أو العامة لهذه الخطة هي: المواءمة، النوعية، الإدارة، التمويل، التعاون الدولي، ومن خلال مناقشة هذه القضايا الكبرى سيتمكن وزراء التعليم المشاركون بمساعدة مجموعة من الخبراء والمفكرين والمهتمين بالشأن التعليمي والتربوي، من وضع الخطط العلمية لما يجب أن يكون عليه التعليم العالي في القرن القادم.
المؤتمر الذي افتتحه فيدريكو مايور مدير عام منظمة اليونسكو في مقر المنظمة بباريس، اعتبر من أهم التظاهرات العلمية العالمية على مشارف القرن القادم، حيث بلغ عدد الوزراء المشاركين (115) وزيراً للتعليم جاؤوا من مختلف القارات، بالاضافة إلى 2700 مفكراً وخبيراً ورجل أعمال ينتمون إلى 186 دولة. في كلمة الافتتاح تحدث مايور عن التطورات الجوهرية التي عرفها العالم على جميع المستويات الفكرية والتعليمية والتقنية، وأكد على أن الاهتمام بالجامعات والتعليم العالي لا يرجع فقط لدور هذا القطاع في مجال التربية والتأهيل الفكري والثقافي والأخلاقي، وإنما يتجاوز ذلك الآن ليشكل «نطلاقة هامة على مشارف القرن المقبل لبنى تحتية جديدة تضمن انتشار التكنولوجيا والمعارف الحديثة، بحيث يصبح مواطن الغد، مواطناً‏متعدد المعارف والثقافات وقادراً على مواجهة التحديات..».
أما ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الفرنسي، فقد تحدث عن تطور التعليم في العالم وفي فرنسا، وكيف تضاعف عدد الطلبة في بلاده خلال السبعين سنة الماضية من 300 ألف طالب سنة 1900م ليصل إلى مليونين الآن. ورفض خلال كلمته المفهوم الماركانتيلي الذي يفرض الخضوع للسوق. وان كان يؤيد ضبط التعليم العالي على واقع السوق، لأن السوق في نظره «وسيلة وليس غاية الديمقراطية»، وأضاف قائلاً: «فالجامعة هي ليست فقط مكان للمعرفة والتعليم، وانما هي أيضاً موقع تعلم الديمقراطية وتأهيل المواطنين وسعادة الفرد. وبهذا المعنى نحن متعلقون بالقطاع العام للتربية، وبالتالي بالدور الأساسي للدولة، حارسة المساواة في الفرص وضامنة ذلك... ومن هنا أيضاً ينبغي السهر على مراجعة حقوق التسجيل (في الجامعات) مستندين إلى هاجس العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص...» الأمير طلال بن عبد العزيز رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية ورئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية، تحدث عن العولمة التي أصبحت واقعاً ملموساً لا يمكن تجاوزه أو نسيانه، مؤكداً على أن «البشرية اليوم هي أحوج ما تكون لتوسيع مساحات المصالح المشتركة بين الأمم والشعوب، وترسيخ قيم العدالة والحرية والتضامن وفتح قنوات الحوار والتواصل. لأن هذه القيم هي التي تشكل أساس الديمقراطية وبناء ثقافة السلام..».
وقد خصصت الجلسة الصباحية لتقديم الكلمات الافتتاحية، ثم تلاها عرض لوقائع برنامج المؤتمر الذي استغرق مدة سنتين للتحضير له. بالاضافة إلى عرض نتائج المؤتمرات الاقليمية السابقة.
وقد تضمنت وثيقة العمل التي أعدها المؤتمرون، عدداً كبيراً من المهام والقضايا التي يجب علاجها واتخاذ القرارات بشأنها، مثل كيفية جعل التعليم العالي يساهم في فتح قنوات جديدة وطرق لمستقبل «أفضل للمجتمع والانسان عبر مهمة مزدوجة، هي المشاركة النشطة في المشكلات الكبرى والعمل على تعزيز التنمية المستديمة والحفاظ على المعرفة عن طريق البحوث والابداع الفكري.. وأن يتحمل التعليم العالي مسؤولية الحفاظ على الذاتية الثقافية وتحقيق التعليم المستمر. بالاضافة ـ كما يقول جورج حداد رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمر، تهييء هذا التعليم ليكون «قادراً أن يتدخل عندما تكون الديمقراطية في خطر، وعندما تكون حقوق الانسان مهددة، وأن يتدخل من أجل الدفاع عن الهوية الثقافية والتراث الثقافي»».
الوفود العربية التي اعتمدت اعلان بيروت كوثيقة تأسيسية لمشروع تطوير التعليم العالي العربي، والذي أكد أن التعليم العالي لم يعد يقتصر على تخريج الاخصائيين والكوادر المدربة لتلبية الاحتياجات الصناعية والادارية والخدماتية، بل يتجه لرفع مستوى مشاركة المواطنين في الحياة العامة والحراك الاجتماعي، هذه الوفود اغتنمت فرصة المؤتمر والحضور الاعلامي العالمي لتحويله إلى منبر سياسي أعلنت من خلاله عن رفضها للضغوط الأمريكية والاسرائيلية التي يتعرض لها الوطن العربي. فقد أكد الدكتور منذر صلاح وزير التعليم العالي في السلطة الفلسطينية، ان السياسة الاسرائيلية تهدف إلى تخريب المؤسسات التربوية والتعليمية الفلسطينية وعلى رأسها مؤسسات التعليم العالي. وطالب بدعم المجهودات التي تقوم بها السلطة في المجال التربوي، واقترح: «أن يضاف بند في المادة الأولى في الاعلان العالمي حول التعليم العالي في القرن الحادي والعشرين بمطالبة الجتمع الدولي ومؤسساته الدولية المختلفة دعم مؤسسات الدول النامية التربوية والثقافية والاجتماعية والعمل على تدريب كوادرها وتنمية قدراتها في مجال انتاج المعلومة في مختلف مستوياتها وحقولها وخاصة الثقافية منها بهدف تقوية التكامل الاقليمي والتفاهم العالمي وبناء ثقافة سلام متوازنة...»
وزير التعليم العالي العراقي الدكتور عبد الجبار توفيق، ندد بالحصار الأممي على بلاده، وتحدث عن آثاره عن النظام التربوي ككل. كلمة الدكتورة صالحة سنقر وزيرة التعليم العالي السورية، ذهبت في اتجاه التنديد بالاستعمار والعدوان الاسرائيلي على الأرض العربية وان تعزيز ثقافة السلام يجب أن ينبني على العدل والإنصاف واحترام حقوق الانسان.. أما وزير التعليم العالي والبحث العلمي الجزائري فقد قدم احصائيات حول تطور التعليم العالي في بلاده، ونوه بالجهود التي بذلت بعد الاستقلال وإلى الآن. مما جعل عدد الطلبة يتضاعف من 2500 طالب غداة الاستقلال إلى أكثر من 400 ألف طالب وطالبة في السنة الدراسية 98ـ1999م. مشيراً إلى أن الاحصائيات الميدانية تؤكد على أن عدد الطلبة في الجزائر في سنة 1963م لم يكن يتجاوز 23 طالباً لكل 100 ألف ساكن، وقد وصل الآن إلى 1350 طالباً طالباً لكل 100 ألف ساكن. وقد أكد الوزير الجزائري في كلمته ان الاضطرابات السياسية التي تعرفها بلاده لم تؤثر في مسيرة التعليم العالي بالرغم من تعرض بعض الأساتذة للتهديد أو القتل. فوزي حبيش وزير الثقافة والتعليم العالي اللبناني، ألقى كلمة حملة عنوان: «التعليم العالي في لبنان: أي واقع لأي غد؟» تحدث فيها عن ثلاثة محاور هي أولاً: النمو الكمي يضبط ايقاعه هاجس النوعية، حيث ارتفع عدد الجامعات والمعاهد في لبنان ليصل إلى (21) مؤسسة للتعليم العالي منها (9) جامعات و(12) معهداً، تحتضن 82446 طالباً وطالبة. وأن الجامعة اللبنانية باعتبارها المؤسسة الرسمية الوحيدة، تؤمن التعليم المجاني لـ 56% من أعداد الطلبة. ثانياً: بالنسبة لتلبية حاجات السوق المحلية، ذكر الوزير حبيش أن هذه المؤسسات العلمية أمّنت خلال السنوات الخمس الماضية 31052 خريجاً متخصصاً في مختلف الفروع انضموا لسوق العمل. وأما بخصوص البطالة التي يعاني منها قسم من هؤلاء الخريجين، فقد أرجعها حبيش إلى شكل المواءمة الذي يعاني منه هذا القطاع بشكل عام. المحور الثالث تحدث فيه عن ضرورة تطوير وتنشيط البحث العلمي الأكاديمي وتزويد المؤسسات بالامكانيات والتجهيزات التقنية المتطورة.
استمرت أعمال المؤتمر خمسة أيام، كانت حافلة بالمداولات ومناقشات البحوث والمقترحات المقدمة من طرف الوفود المشاركة. وقد تم التركيز خلال أربع جلسات، استمرت كل جلسة نحو 4 ساعات، على مناقشة محاور منها: سبل تنمية التعليم العالي وتطوير الكادر الجامعي وتأهيليه، وكيفية دعم وتنشيط البحث العلمي داخل مؤسسات التعليم العالي، بالاضافة إلى مناقشة قضية مهمة وحساسة جداً تتعلق بموقع الثقافة داخل المجتمع ومساهمة التعليم العالي في تفعيل الثقافة ونشرها وتمكين أفراد المجتمع من تحصيل حاجاتهم الثقافية بسهولة ويُسر، لأن ذلك يساهم في ترسيخ مفهوم المجتمعات المدنية المتطورة والمتقدمة. بالاضافة إلى مواضيع أخرى تخص مشاركة المرأة في التعليم العالي ووضعها الحالي باعتبارها طالبة وكادر مؤهل يساهم في العملية التربوية والتعليمية.
وقد تخلل الجلسات عرض لمشاريع جامعات مفتوحة مقترحة باعتبارها نماذج لجامعات القرن المقبل، فقد قدم الأمير طلال بن عبد العزيز مشروع «الجامعة العربية المفتوحة» كما اطلع المشاركون على خطط مشاريع «الجامعة المفتوحة» البريطانية والكندية، و«الحرم الافتراضي» لجامعة سانفورد في الولايات المتحدة. وقدم الدكتور طارق البشري مشروع «الحرم الجامعي العالمي» الذي تدعمه الحكومة المصرية ويفترض أن يربط بواسطة شبكة الانترنت أهم الجامعات المصرية بنظيراتها الأمريكية. بالاضافة إلى مشاريع عالمية أخرى ذات أهمية كبيرة من حيث التخطيط والأهداف التي يسعى أصحابها للوصول إليها مثل مشروع «مافوق الجامعة الافتراضية الفرنسية» و«الجامعة الافتراضية» السويسرية وشبكة الجامعات الكندية الناطقة بالفرنسية، ومشروع «جامعة افريقيا الافتراضية» الذي يموله البنك الدولي، ومشروع «معهد تكنولوجيا المعلومات في التعليم» الذي تدعمه اليونسكو ومقره في موسكو ويسهى لاقامة دورات تعليمية مستمرة يستفيد منها الطلبة من جميع أنحاء العالم.
كما وزع خلال أعمال المؤتمر، الاعلان العالمي بشأن التعليم العالي للقرن الحادي والعشرين، أما خطة العمل التي توصل إليها المشاركون وتمت المصادقة عليها عند اختتام المؤتمر، فقد حثت جميع الدول المشاركة لوضع الاطار التشريعي والسياسي والمالي اللازم لتطوير التعليم العالي وفقاً للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تنص بنوده على حق التعليم للجميع تبعاً لكفاءتهم، وترفض أي تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو المعوقات البدنية. فيمايلي مقتطفات من الاعلان العالمي بشأن التعليم العالي للقرن الحادي والعشرين، لأن بنوده تعتبر بمثابة الخطة الاستراتيجية التي ترسم الملامح الأساسية للتغيير الذي أصبح ضرورياً إحداثه لمعالجة التحديات الكبيرة التي تواجه التعليم العالي على مشارف القرن القادم.
مقتطفات من الإعلان العالمي بشأن التعليم العالي للقرن 21
جاء في ديباجة الاعلان: «اننا، نحن المشتركين في المؤتمر العالمي للتعليم العالي والمجتمعين في مقر اليونسكو بباريس في الفترة من 5 إلى 9 تشرين الأول (اكتوبر) 1998.
إذ نذكر بالاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تنص الفقرة 1 من المادة 26 فيه على ان «لكل شخص الحق في التعليم» وعلى أن «يكون التعليم العالي متاحاً للجميع تباً لكفاءتهم»، ونصادق على المبادىء الأساسية الواردة في الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في مجال التعليم (1960) التي تنص المادة 4 فيها على أن الدول الأطراف فيها تتعهد بـ«جعل التعليم العالي كذلك متاحاً للجميع على أساس القدرات الفردية».
واقتناعاً منّا بأن التعليم هو دعامة أساسية من دعائم حقوق الانسان والديمقراطية والتنمية المستديمة والسلام، وبأنه يجب من ثم أن يكون متاحاً للجميع مدى الحياة، وانه لذلك يلزم اتخاذ تدابير لكفالة التنسيق والتعاون عبر مختلف القطاعات وفي ما بينها وعلى الأخص فيما بين مؤسسات التعليم الثانوي العام والتقني والمهني والتعليم بعد الثانوي، وكذلك في ما بين الجامعات والكليات والمؤسسات التقنية.
ونعتقد، في هذا الاطار، أن حل المشكلات القائمة على أعتاب القرن الحادي والعشرين سيتحدد تبعاً لتصورنا لمجتمع المستقبل ووفقاً للدور الذي يعهد به إلى التعليم عموماً، وإلى التعليم العالي بوجه خاص.
وندرك انه على مشارف الألف الجديد، ينتظر من التعليم العالي أن يعمل على تعزيز وسيادة قيم ومثل ثقافة السلام، وانه يجب على الأوساط الفكرية أن تعبىء جهودها لتحقيق هذا الهدف».
وبالنظر إلى أن التغيير الجوهري للتعليم العالي وتطويره وتحسين نوعيته وزيادة ملاءمته والتصدي للتحديات الكبرى التي يواجهها هي أمور لا تتطلب المشاركة القوية من جانب الحكومات ومؤسسات التعليم العالي فحسب، بل من جانب كل المعنيين بهذا التعليم، بما في ذلك الطلبة وأسرهم، والمدرسون، وقطاعات التجارة والصناعة، وهيئات القطاعين العام والخاص، ومجالس النواب، ووسائل الاعلام، والمجتمعات المحلية والرابطات المهنية والمجتمع، كما تتطلب من مؤسسات التعليم العالي التحلي بقدر أكبر من المسؤولية تجاه المتجتمع وقبول المساءلة بشأن استخدام موارد القطاعين العام والخاص، الوطنية أو الدولية.
وإذ نشدد على ضرورة أن تزيد نظم التعليم العالي من قدرتها على التعامل مع اللايقين، وعلى التغيير ومعالجة الاحتياجات الاجتماعية وتعزيز التضامن والانصاف، وان تصون وتلتزم الصرامة والأصالة في مجال العلم من غير تحيز باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لبلوغ مستوى الجودة المطلوب والمحافظة عليه.
كما نعتقد أن التعاون والتبادل على الصعيد الدولي وسيلتان للتقدم في مجال التعليم العالي في مختلف أنحاء العالم.
إننا نؤكد على ضرورة صون مهام وقيم التعليم العالي الأساسية وتعزيزها وتوسيع نطاقها، ولاسيما مهمة الاسهام في تنمية وتحسين المجتمع في مجموعة، وذلك من أجل مايلي:
أ ـ اعداد خريجين ذوي مهارات عالية ليكونوا مواطنين مسؤولين قادرين على تلبية متطلبات كل قطاعات النشاط البشري، وذلك عن طريق اتاحة فرص الحصول على مؤهلات مهنية تجمع بين المعارف والمهارات ذات المستوى الرفيع خلال دورات ومضامين دراسية تطوع باستمرار لتلبية احتياجات المجتمع.
ب ـ اتاحة مجال مفتوح للتعليم على مستوى عال والتعلم مدى الحياة يتيح للدارسين أكبر قدر من الخيارات مع المرونة للدخول في النظام والخروج منه، فضلاً عن فرص التنمية الذاتية والحراك الاجتماعي، ابتغاء التربية من أجل تكوين المواطن الصالح وتأمين المشاركة النشطة في حياة المجتمع، ويوفر رؤية عالمية شاملة تساعد على بناء القدرات الذاتية وتوطيد أركان حقوق الانسان والتنمية المستديمة والعدالة والديمقراطية والسلام.
جـ ـ تطوير المعارف ونشرها عن طريق التعليم والمنح الدراسية والبحوث والاضطلاع ـ كجزء من الخدمات التي يقدمها هذا التعليم للمجتمع ـ بتوفير الخبرات الملائمة لمساعدة المجتمعات في عملية التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال زيادة المعارف عن طريق البحوث وتشجيع وتنمية البحث العلمي والتكنولوجي والدراسات الأكاديمية المعمقة في مجالات العلوم الاجتماعية والانسانيات، ومن خلال تشجيع وتنمية النشاط الابداعي في ميدان الفنون.
الجامعة العربية المفتوحة
كنا قد تحدثنا باسهاب عن المشاكل التي يتخبط فيها التعليم العالي في العالم العربي، بمناسبة انعقاد مؤتمر بيروت التحضيري (انظر مجلة الكلمة العدد 19)، والتي يمكن اختصارها في ثلاثة مشاكل رئيسية، هي مشكل التمويل، النوعية، المواءمة، وقد قدمت أثناء المؤتمر عدة مقترحات وآراء لعلاج هذه المشاكل المزمنة، ومن بين هذه المقترحات مشروع الأمير طلال بن عبد العزيز الخاص «الجامعة العربية المفتوحة»، وهذا المشروع الذي حمله الأمير معه إلى مؤتمر باريس، وناقشته مرة أخرى الوفود العربية في اطار مائدة مستديرة خلال اليوم الأخير من فعاليات المؤتمر، كان قد حظي بموافقة الجامعة العربية ووزراء التعليم العرب.
ما هي آفاق هذا المشروع؟ وما هي الخطوات العملية التي يمكن أن يساهم بها في علاج بعض مشاكل التعليم العالي العربي؟ وما هي خططه التي يطرحها للنهوض بمجالات البحث العلمي؟ هذه الأسئلة وغيرها حاول الاجابة عليها كل من الدكتور عدنان شهاب الدين مؤسس معهد الكويت للبحث العلمي، ومدير المكتب الاقليمي لليونسكو (القاهرة)، والدكتور عصام مصطفى النقيب أستاذ فيزياء ومستشار لشؤون العليم (اكسفورد)، في مقالة معدة خصيصاً لجريدة الحياة اللندنية.
سنستعرض أهم ما جاء في هذه المقالة لأنه يكشف عن خطة مستقبلية طموحة، ترسم الطريق الجديد الذي من المفترض أن تسلكه الجامعات خلال القرن المقبل.
أولاً يعتبر مشروع الجامعة العربية المفتوحة، أهم المبادرات المستقلة التي قدمت بهدف تعبئة القطاع الخاص العربي وتفعيل التنسيق بينه وبين القطاعات الحكومية لمواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها قطاع التربية والتعليم العالي بالخصوص. فمن خلال الأهداف التي حددها مشروع الجامعة ستتم معالجة مشكلة المواءمة بين البرامج العلمية واحتياجات السوق المحلية والعالمية، وسيعاد النظر في البرامج والمناهج التقليدية التي تعتمد على نقل المعلومات والتلقين واستبدالها بمناهج تهتم ببناء الشخصية العلمية المفكرة والمنتجة للمعرفة، مع الاستفادة القصوى من تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصالات المتطورة. كما يتحدث المشروع عن خطط لاعادة تأهيل الأطر العاملة أثناء ممارستهم أعمالهم، والمساهمة في نشر الثقافة العلمية دون اهمال لمقومات الثقافة العربية والاسلامية التي ستحظى بنصيب مهم في عملية الانتاج والنشر.
ثانياً: يستطيع هذا المشروع بعد تجاوزه عقبة الاختيار بين الانتشار الكمي أو الأداء النوعي وتوفيقه بين الموارد المحدودة وتزايد الطلب على التعليم، أن يقدم المساعدة العلمية والفنية والاجرائية التي يحتاجها التعليم العالي العربي، لأن الجامعة المفتوحة ستشرع في انتاج برامجها النوعية الجديدة والمتماشية مع خططها التغييرية المستقبلية، وبالتالي ستقدم نموذجاً تطبيقياً يمكن للجامعات العربية أن تستفيد منه لاحداث الاصلاحات المطلوبة داخل نظمها التعليمية.
ومن خلال المقالة التي أنجزها كل من الدكتور شهاب الدين والدكتور النقيب يمكن الحديث عن ثلاث مجالات سيستفيد التعليم العالي منها من خلال مشروع الجامعة العربية المفتوحة. المجال الأول: الاستفادة من الاستثمار الكبير الذي ستقوم به الجامعة لإنجاز مقررات وبرامج علمية ذات نوعية جيدة، بالاضافة إلى اختياراتها الدقيقة للكتب وسواء المحاضرات التي ستتحول إلى مواد مرئية ومسموعة، مستفيدة من أرقى وسائل الاتصال والنشر التي يسمح بها التطور التقني العالمي، وبالتالي يمكن الحديث عن سوق مستقبلية للبرامج التعليمية والعلمية سيمتد داخل العالم العربي، يتحكم في حجمه تزايد الطلب وتوجهه سياسة الحرص على الجودة والأهمية العلمية والتربوية. وهذا ما سيساهم بفاعلية في معالجة شكل التوسع الكمي والأفقي على حساب الأداء النوعي في العملية التعليمية ومخرجاتها. وقد أثبتت التجارب العالمية في هذا المضمار ان الجامعات المفتوحة استطاعت أن تتنتج برامج مهمة ذات مستوى علمي جيد وبطرق واساليب تعليمية مبتكرة، مكنت الطالب من الاستفادة الجيدة من المادة العلمية، فهماً وتحصيلاً، خصوصاً مع استخدام الرسوم البيانية والصور والخرائط. كما أن سهولة الحصول على هذه المنتجات والبرامج واقتنائها والاستفادة منها في أي وقت وأي ظرف ساهمت في استدامة العملية التعليمية ووسعت آفاقها لتتجاوز مقاعد الجامعات والكليات والمكتبات المحدودة، لتدخل كل بيت ويحصل عليها كل راغب.
وعليه فإن الجامعة العربية المفتوحة ستكون لها المبادرة التاريخية للقيام بهذا العمل الحضاري المتميز، وستؤسس للسوق العربية لانتاج المواد التعليمية والمعلومات وستوجهها وتغذيها بالانتاج العربي والعالمي كذلك.
ثانياً: ومن خلال استفادة الجامعة من التقنية المتطورة في مجالات الاتصالات الحديثة، ستتمكن من توفير خدمات جامعية متميزة ومهمة، وبالتالي ستتم الاستفادة من العولمة في جوانبها الايجابية. كما أن الجامعة العربية المفتوحة ومن خلال استثمارها المكثف في مجال وسائل الاتصال، ستطور امكانات جديدة داخل العالم العربي، لأنها ستستفيد من البنية التحتية للمواصلات والاتصالات المتوفرة وستشارك في تطويرها وتنميتها. بالاضافة إلى ابتكارها لوسائل أخرى تساعدها في توسيع أنشطتها وأعمالها، مما سيكون له الأثر الايجابي على تطوير قطاعات أخرى لها علاقة بالاتصالات والتربية داخل البنية الاقتصادية في العالم العربي.
ثالثاً: الاستفادة من المقررات والبرامج الجيدة التي سيتم انجازها في تخصيصها قليلة ومنتقاة، إلا أن معدي المقالة يقترحان أن يتم الاهتمام بالمرحلة الجامعية المتوسطة بين التعليم الثانوي والجامعي، لأنها تشكل نقطة الضعف في نظام التعليم العربي، وذلك من خلال «إنشاء الجامعة المفتوحة لبرامج «ما بعد الثانوية العامة» لشهادة ثانوية عربية، أو إنشاء دبلوم عربي عالي المواصفات للدراسات المتوسطة.. وبالتركيز النوعي‏ـ الكمي على هذه المرحلة تتمكن الجامعة من انتاج طيف واسع ومتميز من المقررات التأسيسية والأكاديمية أو التطبيقية والفنية تغذي كافة احتياجات طلبة وأساتذة الجامعات... ومن فوائد هذا التوجه أنه يغطي طيفاً واسعاً‏من التخصصات المطلوبة للتنمية ولسوق العمل، ويمد الجامعات بطلبة جامعيين ذوي تأهيل عال للمرحلة المتقدمة من الدراسات الجامعية.
وكما لاحظنا أثناء مؤتمر بيروت الذي اعتمدت الوفود العربية إعلانه كوثيقة عربية مقدمة لمؤتمر باريس بشأن مستقبل التعليم العالي العربي ومعالجة مشاكله، فإن مشروع الجامعات الخاصة وجهت إليه عدة انتقادات مهمة، صحيح‎انه يقدم بعض الحلول لمشكل التمويل الذي يرهق الميزانيات الحكومية العربية، ويستوعب الطلب المتزايد على التعليم العالي، ويساعد كذلك في إحداث الإصلاحات والتغييرات المطلوبة، الكمية والنوعية، داخل نظام التعليم العالي كما يدعي المدافعون عن مشاريع الجامعات الخاصة والمفتوحة كما مر معنا قبل قليل. لكن استراتيجية الجامعات التي يمولها القطاع الخاص لن تنسجم بالضرورة مع التوجهات الإيديولوجية والخطط والمشاريع التنموية والإقتصادية والثقافية، التي تحرص على وضعها الحكومات العربية، وتسهر على تنفيذها باعتبارها ذات علاقة وطيدة بالوضع الثقافي والديني والحضاري للأمة بشكل عام في الحاضر والمستقبل، خصوصاً مع امتداد ظاهرة العولمة الإقتصادية لتشمل الثقافات ومنتجاتها وسعيها الحثيث لإلغاء الحواجز الفكرية والقيمية التي تدعم التميز الحضاري لباقي الأمم غير الغربية، بالإضافة إلى ارتباط القطاع الخاص بالشركات المتعددة الجنسيات، وارتهانه بالتالي للسوق العالمية التي ستتدخل في توجيههه لتلبية احتياجاتها. وهذا سيؤثر سلباً بشكل واضح على خطط التنمية وأولوياتها داخل الوطن العربي. وقد تحدث المشاركون في ندوة تونس حول «التعليم العالي والتنمية في البلاد العربية» التي نظمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) من هذه السنة، عن جانب آخر يصب في التقييم السلبي لإنتشار الجامعات الخاصة، عندما اعتبرها بعض المشاركين لاتعدو كونها مؤسسات تجارية لاتهتم إلا بالربح السريع، وأن الممولين لها لاتهمهم نوعية التعليم أو جودته. وقد ذكرت بحوث هذه الندوة أن عدد الجامعات في العالم العربي قد ارتفع خلال السنة الماضية من 132 في مطلعها إلى 142 جامعة في أواخر هذه السنة، وعليه فإن العالم العربي قد دخل فعلاً في ممارسة تجربة تسيير القطاع الخاص لمجالات التربية والتعليم، ويحتاج المراقب لمزيد من الوقت لمعرفة اتجاهات هذه الجامعات الخاصة ومساهمتها الحقيقية في تطوير التعليم العالي العربي من جهة، وفي المشاركة في التنمية الإقتصادية والإجتماعية. لذلك نرىالبعض وانطلاقاً من هذا الواقع الموضوعي لايدعو للوقوف في وجه إنشاء الجامعات الخاصة أو تحجيم دور القطاع الخاص في المجال التربوي والتعليمي، لكنه يرى ضرورة الإهتمام بالتوازن بين القطاع الرسمي والخاص في هذا المجال، بحيث لايترك المجال للقطاع الخاص للإستحواذ على القطاع التربوي وتوجيهه حسب رغبات السوق. بل لابد من الإهتمام بالقطاع الرسمي ودعمه وتطويره وجعله المحور الذي يتحكم في العملية التربوية بشكل عام، لأن ذلك سيضمن أولاً ديمقراطية التعليم نص عليها الإعلان العالمي بشأن التعليم العالي الذي صودق عليه خلال مؤتمر باريس، ثانياً سيمكن الدول أو الحكومات من إمكانية اتخاذ المبادرة والتحكم في التوجيه العام للتعليم العالي بما يخدم مصالحها التنموية والحضارية. لذلك لاغضاضة من إفساح المجال للقطاع الخاص، للمساهمة في تمويل التعليم العالي، لكن ضمن هذه الحدود والتوجهات.
وهذا ما أكده المشاركون في ندوة تونس الذين انتقدوا سياسة القبول في التعليم العالي التي يحاول البنك الدولي أن يتدخل في توجيهها، انطلاقاً من منظور اقتصادي بحت. أما بخصوص مشكلة التمويل، فلا ينحصر حلها فقط في تشجيع القطاع الخاص لدخول ميدان التمويل والاستثمار، ولكن يجب التخطيط في الإطار الرسمي لإنجاز مشروع الجامعة المنتجة. بالإضافة إلى الإهتمام بترشيد الإنفاق على التعليم بشكل عام بمايتماشى مع رؤية تنموية مستقبلية. وبالتالي سيتم تدريجياً تخفيف العبء على الميزانيات الحكومية.
وإذا أصبحت مشاركة القطاع الخاص ضرورية في هذا المجال، بحكم التطور والتوسع العمراني والبشري، فمن الضروري ألا يسمح لجامعات هذا القطاع أن تقدم الإستثمار والدمج على حساب الوظيفة التعليمية وأهدافها الإستراتيجية. وعليها كذلك أن تلتزم بشروط القبول كما تحددها الجامعات الرسمية حفاظاً‏على المستوى التعليمي أولاً وضماناً لتكافؤ الفرص ثانياً.
وعليه من خلال ما قدم حول مشاكل التعليم العالي العربي والآراء والمقترحات لعلاجه والنهوض به، نرى أن رؤية علمية موضوعية واستراتيجية في طريقها إلى التبلور، هناك اعتراف بوضع تم تشريحه بدقة لمعرفة سلبياته وإيجابياته، واعتراف كذلك بأن اصلاحات جوهرية أصبحت ضرورية لامجال لغض الطرف عنها أو تبريرها، كما قدمت مقترحات جيدة ومفيدة انطلقت مع فهم ووعي بالواقع كما هو. كما أنها لم تغفل احتياجات الحاضر وآفاق المستقبل.
وبالتالي لانملك إلا الإشادة بالجهود العالمية التي تضافرت بشكل لم يسبق له مثيل في معالجة موضوع آخر، ومكنت الخبراء والباحثين والمسؤولين من الإطلاع على وضع التعليم العالي في العالم ومناقشة مشاكله وأزماته واحتياجاته، ومن ثم التداول في وضع خطط محلية ودولية استراتيجية لما يجب أن يكون عليه هذا القطاع الحساس والمهم وهو يستقبل القرن الحادي والعشرين. وبالتالي لم يعد هناك أي مبرر أمام اية دولة في العالم للحديث عن تخبط تعليمها العالي في مشاكل مزمنة وعدم مواكبته للتطور التقني أو ضعف مشاركته في التنمية المحلية، لأن مجمل المشاكل والأزمات عرضت ونوقشت وحللت أسبابها بالتفصيل، واطلع عليها الخبراء والمسؤولون المشاركون في هذه المؤتمرات من جميع دول العالم.
كما قدمت المقترحات والآراء العلاجية والخطط الإصلاحية والتغييرية للنهوض بالتعليم العالي. وقد استوعبت دول العالم الثالث ومن ضمنها الدول العربية من خلال هذه المؤتمرات رسالة مهمة مفادها ومضمونها أن نموذجاً تعليمياً عالياً عالمياً قابلاً للتصدير وجاهزاً للنسخ والنقل غير موجود وغير متيسر الآن. وبالتالي كما يقول جورج حداد الرئيس الفخري لجامعة السوربون حالياً: «أعتقد أنه يجب على تلك الدول أن تكون خلاقة وواسعة الخيال وإن يتمكن وزراءها وأصحاب القرار فيها وكل المشاركين في عملية التحديث من بناء نماذج أكثر ليونة وتنوعاً كي يتطابق مع واقع هذه الدول»..
التعليم العالي بين تطور تكنولوجيا المعلومات وتحديات العولمة:
يقول فيديريكو مايور المدير العام لليونسكو إن «تكنولوجيا المعلومات والإتصالات الجديدة، وخصوصاً‏الإنترنت، تقدم للباحثين ورجال التعليم والفنانين والمديرين في جميع أنحاء العالم فرصة لإنشاء مجتمعات مثقفة لم يشهد العالم مثيلاً لها في الدَّرَبة والتخصص والحركية والفاعلية.. واتضح سريعاً أن التعليم العالي والبحوث ونشر المعرفة وترويجها من أهم الميادين التي يمكن استخدام التكنولوجيا الجديدة فيها، خصوصاً الشبكات العالية القدرات المعروفة باسم جادة المعلومات التي سيمكنها حمل النصوص والمعطيات الصوتية والمرئية..»
هذا الكلام أكدته فعاليات مؤتمر باريس بشكل تطبيقي وعاينه المشاركون مباشرة عندما شاهدوا على شاشات خاصة، كيف يغير المولود الرحم الذي ولد فيه، ثم شاهدوه مرة ثانية عندما تم الربط والإتصال المباشر مع جامعات من اليابان والولايات المتحدة والبرازيل والمغرب في الوقت نفسه على شاشة واحدة مقسمة إلى أربعة أقسام. ومع عرض مشاريع الجامعات العالمية المفتوحة ونماذج لحرم جامعي افتراضي تربطه شبكات الإتصالات المتطورة بجميع الجامعات العالمية. لقد ظهر أن العالم مقبل فعلاً على تطورات مذهلة ستهدم جميع البنى التقليدية لتحصيل المعارف ونشرها، وستستبدل ببنى جديدة. فإذا كانت الجامعات ومؤسسات البحث العلمي قد أوصلت العالم إلى هذا التطور التقني الكبير وساهمت في تطوير تكنولوجيا الإتصالات، فإن هذه التكنولوجيا المتطورة ستلد جامعات المستقبل وستتحكم في تسييرها، وقد تأكد لجميع المشاركين في مؤتمر باريس، الذين لم يخفوا اعجابهم بهذا التطور والترحيب به لأنه سيفتح أمام الإنسانية آفاقاً أوسع للمعرفة والتعلم كما قال مايور، لكن هذا الترحيب ساده نوع من التخوف والتوجس خصوصاً‏من طرف المسؤولين والخبراء المهتمين بالشأن التعليمي في العالم الثالث والعالم العربي بالخصوص. كما أن مجموعة من الأسئلة طرقت للمناقشة باعتبارها تحديات جديدة، من هذه الأسئلة، مآل قاعات المحاضرات في الجامعات ومعاهد التحصيل، هل ستستبدل بمواقع على الإنترنت، يتم فتحها والإتصال بها مباشرة في أية لحظة؟ وماذا بشأن الهيئة التدريسية وإعداد المدرسين، هل سيتعامل الطلبة غداً من أساتذة إلكترونيين أو عقول الكترونية مزودة بجميع البرامج والمعارف التي يحتاجها الطالب؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرح بدورها سؤالاً كبيراً يتعلق بالشكل العام أو البناء التقليدي للتعليم العالي، هل سينهار بعد عقد من الزمان، وتصبح الجامعة التي عرفها الإنسان منذ قرون من أخبار الماضي؟!
الأجوبة والاستفسارات كانت كثيرة ومتنوعة، عرض قسم منها أثناء المؤتمر خلال جلسة خاصة عقدت تحت عنوان: «من التقليدي إلى الإفتراضي» وكذا في جلسة أخرى خاصة لمناقشة التكنولوجيا الجديدة وأثرها في تغيير أنماط التعليم والتعلم، والأجوبة وإن اختلفت وتناقضت، انطلاقاً من قراءة الواقع واستشراف المستقبل، إلا أن اجماعاً تم التعبير عنه وكشف عن قناعة جميع المشاركين بأن التغيير الذي ستحدثه وسائل الإتصال المتطورة والذي بدأ ولن يتوقف سوف يشمل قاعات الجامعات والمحاضرات والمكتبات والمناهج وهيئة التدريس وحول الأدوات والوسائل المستخدمة في البحث العلمي. وأن الطالب والأستاذ معاً سيتحرران من قيود الزمان والمكان، مما سيوسع قاعدة التعليم العالي، ويخفض من كلفته في المستقبل، لأن الطلب على زيادة بناء قاعات التدريس لن تكون له جدوى. كما أن الدرس الواحد قد يحضره مئات الآلاف عبر العالم عن طريق شاشات التلفزة والربط الإلكتروني.
هذا الوضع الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكل بسرعة، طرح بدوره أسئلة كبيرة ومهمة لها علاقة بالتعليم العالي من جوانب أخرى، اقتصادية على وجه الخصوص، فالعولمة الإقتصادية سيكون لها حضورها القوي والفاعل، لأن تسويق وسائل وأدوات الإتصال، بل المادة العلمية التي أصبحت سلعة ذات مردود اقتصادي مهم ومغر للإستثمار، سيجعل التعليم العالي صناعة دولية تخضع لقوانين السوق العالمية، وبالتالي سيجد هذا القطاع نفسه في خضم العولمة الإقتصادية التي ستوجهه وتتحكم فيه، كما ستدفع به باتجاه المنافسة القوية والمحمومة لإنتاج مادة معرفية قابل للتسويق والترويج، وهنا يكمن المشكل بالنسبة للعالم الثالث، لأن مشاركته في هذه العولمة لاتتجاوز اعتباره سوقاً استهلاكية فتحتها العولمة من قبل عن طريق اتفاقية «الغات» عندما تم الإتفاق على إلغاء الحواجز الجمركية أو التخفيف من قيودها بما يسمح بترويج الإنتاج الصناعي والثقافي للدول المتقدمة. وقد بدأت آثار هذا التبادل العالي المفتوح وسيطرة المركز الغربي المصدر على المجالين الإقتصادي والثقافي، تظهر بشكل واضح وتتكشف معالمها المعقدة والمتشابكة كل يوم. وستزيد الحاجة إلى المادة العلمية والمعرفية ووسائل تبادلها وترويجها الأمر تعقيداً، مما سيضع دول العالم الثالث أمام تحد حضاري شامل لم تعرفه من قبل. يقول شكري حمروني رئيس المنتدى الدولي من اجل الديمقراطية والتنمية الذي نظم مؤخراً ندوة في جامعة باريس الثامنة حول موضوع: «الجامعة والعولمة»: «إن العولمة تنقل التحولات المختلفة التي يأتي بها هذا التبادل العام لمجموع الإنسانية، كل شيء يتسارع وحتى أن هناك «تسارع للتسارع» على الرغم من أن التطورات التكنولوجية التي أنتجها التطور العلمي تؤدي إلى عقلنة وتبسيط عدد كبير من العمليات، أصبح معترفاً اليوم بأن أثر العولمة العام يسبب تعقيداً‏وارتباطاً متزايداً لنشاطاتنا» هذه الحقائق لم تكن غائبة عن المشاركين في مؤتمر باريس، لكن الردود القوية والإستفسارات المهمة جاءت من طرف خبراء العالم الثالث، لأنهم يدركون ماذا تعني العولمة الإقتصادية، وبالتالي فالحديث عن عولمة ثقافية عن طريق التحكم في وسائل التعليم العالي وتوجيهها لخدمة السوق العالمية، سيطرح من جديد وبقوة قضايا لم تُحسم بعد، وما فتئت تغذي الصراع العالمي، مثل الغزو أو الإختراق الثقافي، الاستتباع الحضاري. وهذا ما يبرر لنا التخوف الذي ساد مؤتمر باريس وقبله وبعده، وظهر في أعمال أكثر من ندوة ومؤتمر ودراسة وبحث علمي.
فالمادة العلمية والثقافية التي ستروجها العولمة الإقتصادية والثقافية، ستكشف عن هيمنة لغوية تحمل معها قيماً‏وأفكاراً‏وأيديولوجيات ليست بالضرورة موائمة للعالم الثالث وعلى رأسه العالم العربي والإسلامي صاحب حضارة وقيم متميزة كما كشفت هذه الأسئلة والاستفسارات للخبراء والمشاركين في مؤتمر باريس عن الجوانب السلبية (بالنسبة للعالم الثالث خصوصاً) التي يحملها التطور التقني واستخدام وسائل الإتصال الحديثة في ميدان التعليم ككل والعالي بالخصوص وقد أدركت الدول العربية والإسلامية أنها أمام تحدٍّ كبير يواجهها بشكل جدي ويمس مصيرها الحضاري، فلم يعد هناك مجال لرفض الإستفادة من تكنولوجيا المعلومات وما تحمله معها من إيجابيات، كما أن طلب المساعدة من الدول المتقدمة للحصول على هذه التقنية، لايمكن إغفاله بل لابد من الحرص عليه لضرورة التحديث ومواكبة التطور العالمي، لكن ينبغي علينا كما يقول فيدريكومايور: «ان نوازن بعناية قوة العوامل المقترنة بتكنولوجيا المعلومات والتأكد من أن «العون» لايقود إلى الإستعمار الجديد، فإذا لم تكن على حذر فإن مقدمي العون قد يحاولون تقديم تدريب مفصل وفق حاجاتهم، والحض على إنشاء شبكات توافق مواقفهم، ودعم تدريب ملائم أو مريح لهم. فعلى كل بلد أن يحدد حاجاته وطلباته وإقامة هياكله ووضع الشبكة الإقليمية التي يرغب في أن توافق طموحاته..»
لقد تمكنت المؤتمرات التحضيرية السابقة التي نظمتها اليونسكو وتوجتها بمؤتمر باريس، من الكشف عن علل ومشاكل وأزمات التعليم العالي في العالم، واستطاعت البحوث والدراسات والإحصائيات العلمية الدقيقة التي أنجزت وقدمت خلال هذه المؤتمرات أن تقدم ثروة معرفية هائلة من الإقتراحات والآراء والإنتقادات، يمكن من خلالها وضع خطط للنهوض بالتعليم العالي في العالم، وأن تستفيد كل دولة من هذا الكم المعرفي والعلمي في وضع خطة مناسبة لها ومتماشية مع طموحاتها في التنمية والتقدم.
أما بخصوص ما توصل إليه مؤتمر باريس كخطة عمل عالمية، فإن الحكم عليها يحتاج إلى وقت ليس بالقصير لإعطائها فرصة التطبيق والتنفيذ، لأن مؤتمرات ضخمة كمؤتمر باريس «لاتظهر ـ كما يقول الدكتور رضوان السيد ـ نهاياتها واستخلاصاتها ودروسها إلا بعد فترة قد تمتد أشهراً‏من المتابعة وإعادة النظر..» لمعرفة ماذا ستحدثه من تغيير داخل هذا القطاع، وما هي المشاكل التي ستنجم عن تطبيق هذه الخطط المستقبلية، لأن العملية التربوية حيوية ومتفاعلة، وبينها وبين التطور العلمي والتقني الذي يصله الإنسان، علاقة جدلية، فالنظام التربوي والتعليمي هو المسؤول عن تحديث المجتمعات وإنمائها حضارياً، وهو المسؤول كذلك عن صناعة التطور بجميع‎اشكاله، وتركيزه وتعميقه وتحويله من كم إلى كيف جديد ونوعي. وهذا التطور الذي ستصله المجتمعات هو الآخر يدفع باتجاه تطوير النظام التربوي والتعليمي بشكل يتماشى مع الوضع الحضاري الجديد وهكذا دواليك..