شعار الموقع

العرب والغرب.. إشكاليات المعرفة وملابسات المنهج

هاني ادريس 2004-10-15
عدد القراءات « 785 »


الكتاب: العرب والغرب.. أية علاقة.. اي رهان?
الكاتب: إدريس هاني
الناشر: دار الإتحاد بيروت
الصفحات 285 من القطع الكبير
سنة النشر: ط1, 1998م.
عبد الرحمن الوائلي(*)
[1]
ما كانت العلاقة بين العرب والغرب لتأخذ مسارها على ما هي عليه اليوم, لولا الصدمة الحضارية التي اجتاحت كليهما تحت معادلة «الضدّ» التي فرضت نفسها منذ الأيام الأولى لتفجير الصراع الفكري بينهما.. تلك المعادلة الثنائية التي لعب الغرب دور الطرف الأول فيها حينما شعر بصدمةٍ كبيرة إزاء العرب والمسلمين, أصحاب الدين الذي التف حوله الفقراء والمستضعفون فما لبثوا أن حكموا الدنيا به في إطار منظومةٍ فكريةٍ يترأسها مفهوم سياسي جديد يدعى «الخلافة», فانكبَّ ـ أي الغرب ـ على دراسة سرّ هذه الثقافة الجديدة التي سعت منذ الأيام الأولى من ولادتها إلى العالمية دون أنْ تسلب الإنسان إرادته في الإختيار بالإنضمام إليها أو الوقوف في وجهها.
وزاد من صدمة الغرب هذه, أنّ العرب أمة متخلفة على المستوى الحضاري (المادي), فهم ـ في نظر الغرب ـ رعاة إبل يتخذون الصحراء موطناً مبتعدين ما أمكنهم ذلك عن المدن والعمران, وبالتالي فهم بعيدون عن العلم وفقاً لهذه المعادلة, إذن كيف وبأي شيء حكم العرب على الخصوص والمسلمون عموماً‏هذه المناطق المترامية الأطراف في دولة الخلافة? تساءل الغرب كثيراً, وأخذ يبحث عن الجواب ثم ما لبث أن وجد جواباً‏لكل أسئلته تلك!
تكمن قوة العرب والمسلمين في إسلامهم.. فإذا ما سعى طرف الصراع الأول (الغرب) لتقويض الإسلام, فإنَّ العربَ والمسلمين سوف ينهارون لامحالة. وارتأى الغرب أنْ يُعيدَ الصدمة التي أُصيب بها إلى العرب أنفسهم, فخطّط بدهاء شامل, فكانت الحروب الصليبية الدموية أولى حلقات هذا الصراع (الصدمة), ثم تتالت مشاريع السيطرة الإستعمارية الشاملة لكافة جوانب الحياة, حتى بلغت ذروتها الضدّية في الإستعمار الأوروبي الحديث للشعوب العربية والإسلامية, ومحاولة فرض الثقافة الغربية على هذه الشعوب المستعمرة بامتلاك الغرب لناصية القوة والتقانة, عندها برزت صدمة العرب بالغرب واتسعت شيئاً فشيئاً حتى أفرزت تيارات فكرية متغربة تدعي التحديث على حساب تيارات الأصالة التي يُنادي بعضها بالعودة إلى القومية العربية الواحدة, وبعضها الآخر ينادي بالعودة إلى الإسلامية الواحدة, لأنّ الصراع شامل لايخص العرب وحدهم وحسب.
إذن, نحن أمام صدمةٍ أرسلها العرب إلى الغرب بشكل عفوي, فأعادها الغرب إليهم بشكل مقصود مُؤطر بالعنف العسكري والثقافي والسياسي مستفيداً ـ أي الغرب ـ من قوته وتقدمه العلمي في تشكيل ملامح هذه الصدمة ومستويات تأثيرها في إلغاء الآخر.
ومادام الأمر كذلك, فإنّ‏جدلية العلاقة بين العرب والغرب تبقى في إطار نزعة الغرب إلى إلغاء الآخر, فيما يبقى العرب والمسلمون في موقف الدفاع والإحتماء منه.. وليس من الضروري أن يكون إلغاء الآخر هذا نفياً له على المستوى الوجودي, بل تغييره وتحويره حتى يتمثل (الأنا الغربية) وهذا ما يسعى إليه الغرب في هذه الجدلية.
ولأنَّ الثقافة الشاملة هي الطريق الأنسب والأوحد لتغيير الآخر وتحويره, فقد أصبحت هي الهمّ الأول عند كلا الطرفين. لذلك لم تحتل إشكالية من الإشكاليات موقعاً مهماً‏ومرموقاً‏بقدر ما احتلته المسألة الثقافية بين الإسلام والغرب, لأنها هي التي تعطي وجه العلاقة بينهما ملامحه المحددة والمميزة.
والكتاب الذي بين أيدينا يُحاول أن يتولى مهمة تفصيل نوع هذه العلاقة بين العرب والغرب, كما يحاول أيضاً‏ـ وذلك واضح من عنوان الكتاب ـ أنْ يجيب على السؤال الكبير حول طبيعة ومستوى الرهان على هذه العلاقة التي تحاول بعض التيارات الثقافية العربية رسم ملامحها للعرب والمسلمين.
هل هذه الملامح مكتملة أم ناقصة? وهل هذه الملامح هي ملامح وجهنا الحقيقي أم لا? يُجيب الباحث الأستاذ ادريس هاني على هذه الأسئلة في هذا الكتاب.
[2]
يتألف الكتاب من أربعة فصول ومقدمة للمؤلف سبقتها مقدمة للدكتور رضوان السيد تحدث فيها عن ثلاثة مفاهيم أساسية كان الكتاب قد تناولها في طيّات فصوله الأربعة وهي (الأصالة والخصوصية والتقدم).. أما مقدمة المؤلف فقد تضمنت مروراً سريعاً بظروف نشوء أهم الإشكاليات التي يعاصرها العالم العربي في الجانب الثقافي والإقتصادي والإنمائي وعلاقة كل ذلك بالهوية, ومبنى العلاقة بين العرب والغرب على ضوء التحولات العالمية الجديدة.
وفي هذا السياق حمل الفصل الأول عنوان (جدلية التراث والحداثة), هذه الجدلية التي شغلت الفكر العربي منذ أمدٍ طويل جداً, ودفعت المفكرين العرب إلى جملةٍ من التكهنات في أفضلية المناهج الثقافية المطروحة على الساحة الثقافية العالمية, بحيث تحولت هذه التكهنات فيما بعدإلى أزمة حقيقية كما وصفها المؤلف, تبدأ من الحيرة والقلق إزاء ما يوصف بالحداثة التي تحمل معها الحلول لكل شيء كما يراها أصحابها من المفكرين العرب ـ‏المتغرّبين ـ على حدّ قول المؤلف.
في هذا الإطار ينتقد المؤلف المفكر العربي المغربي (محمد عابد الجابري) الذي دفعه قلق الحداثة إلى التخبط في اختيار المنهج الذي يعالج موضوعاً‏مهماً بمستوى (التراث), وهنا يؤكد المؤلف أنّ (الجابري وقف موقفاً مجازفاً من التراث. كرّس الجمود على اكثر من صعيد وعزّز الوعي السائد, وهو بذلك كلّه حفر خندقاً جديداً‏للفكر العربي للعودة إلى انتاج «الظّلام» وبقليل من التثبت وكثير من الهرطقة, أوقع نفسه في مأزمٍ معرفي) ص21.
ويسوق المؤلف عدة اسباب لفهم الجابري الخاطئ للتراث, حيث ظلّ هذا الخير ـ برأي المؤلف ـ يبحث عن أسواق جديدة ليعيد فيها بناء نمط من التحليل النفسي المهترئ, تجاوزه الشذوذ الغربي نفسه, ووجد له سوقاً رخيصة في التراث.. ثمة شواهد وأدلة ينتقيها الباحث من نصوص الجابري تعبّر عن ارتباط هذا الأخير في فهم التراث الذي ذبحه بمبضع الحداثة على حدّ وصف الدكتور جورج طرابيشي في كتابه (مذبحة التراث).
ها هنا يدوّن الباحث (إدريس) جملة من التجاوزات المنهجية كان الجابري قد ارتكبها في مصنفاته (تجاوز الإختصاص, تجاوز الحقيقة, تجاوز التاريخ), إذن فالأزمة في الحقيقة هي أزمة الشعور بالرغبة الكبيرة في تجاوز الكل في سبيل «منهجٍ» ضائع.
وقد أفضى الحديث عن أزمة المنهج بالمؤلف إلى الدخول في صميم مشكلة الحداثة وبؤس الإنتقاء السائد في الساحة الثقافية العربية عند أبرز روّادها (الجابري, العروي, أركون, مهدي عامل) حيث توزعت المشكلة بين تاريخيين وبنيويين, كلٌّ منهم يفهم الحداثة على طريقته المنهجية الخاصة به, ليخلص إلى نتائج مختلفة ومتباينة, بين رفضٍ للتراث وقبول به, بين أخذه كما هو, أو ردّه إلى مخبئه الأزلي المنعزل عن الحياة والواقع. أو بين شيء ثالث يطرحه الباحث حلاًّ للخروج من هذه الأزمة المتأرجحة بين هؤلاء وأولئك, شيء تنتظم فيه المفاهيم الأساسية للتعامل مع التراث ضمن منهجٍ رصين يحترم التراث كما ينبغي ويعطيه حقه كما يجب.
ولعل الباحث أدرك أهمية الرجوع إلى الأصول الأولى للمناهج الغربية المستوردة التي استعارها بعض المفكرين العرب بشكل انتقائي ليؤلفوا منها منهجاً يصلح ـ كما يعتقدون ـ لمعالجة المشاكل العربية الراهنة, لذلك استغرق الباحث في تحشيد هذه المناهج وروادها البارزين عارضاً لأفكارهم التي شكلت غطاءً عاماً للطروحات الفكرية العربية, مُتسائلاً عن إمكانية صمود هذه الطروحات في الواقع العربي والإسلامي كحل بديل, لاسيما وإن البنيوية كانت قد أخفقت في تقديم الحل الأخير للأزمة الغربية نفسها, يقول الباحث:
(إنّ الفلسفة والايديولوجيا التاريخانية التي رفضتها البنيوية كانت أساساً لجنونها. وبهذه المناسبة, نرى أنه إذا أخفقت البنيوية, ملخصة الحداثة الجديدة في عالم الغرب, فهل بمقدورها حل الأزمة في عالمنا العربي والإسلامي? وهل بنيوية «مهدي عامل» الماركسية و«الجابري» و«إدوارد سعيد» و«حسن قبيسي»..‏قادرة على حلها في عالمنا اليوم?) ص35
لقد حاولت الحداثة العربية على أيدي روّادها الدخول إلى كل مضمار في الواقع النفسي والإجتماعي والإقتصادي العربي, بل تعدّت إلى أكثر من ذلك فحاولت الدخول إلى اللغة والدين والمعتقدات والخصوصية العربية, متجاوزة التباين الواضح بين جغرافيتها الثقافية في العالم الذي ولدت فيه وبين جغرافيتها الثقافية في العالم الذي استوردها وسعى إلى تطبيقها.. يؤكد الباحث هنا (أنّ الحداثة المتمثلة اليوم في الغرب, ليست قارّة معرفياً وايديولوجياً, وليست في مستوى حل المشكلة الإنسانية, بَلْهَ المشكلات العربية الموجودة في عالمنا, كما أنّ الفكر الإسلامي بصيغته ووضعه الراهن, ليس فكراً‏تجدد نسبته إلى الإسلام, لأن الفكر الذي يقوم على قاعدة نفي الآخر, وتحديد أولياته ومناهجه من خلال حركة «النفي» ليس فكراً) ص49
إنّ بين انتاج التراث وفهمه خط طويل وطريق مجهد على المفكر العربي أن يعبره بحذرٍ وذكاء, في سبيل انتاج رؤية جديدة تتجه لتلامس الحقيقة في مسألة تقويم التراث نفسه والكشف عن أسباب العطل الحضاري وتشخيصه بشكل كامل وموضوعي في نفس الوقت.. أما أن يتخبط المفكر العربي في اختيار المنهج فيضطر إلى تبنّي منهجٍ معدّل أو منشق أو مخالف كما حدث للنظرية الماركسية من تفسيرات وتأويلات أصبحت فيما بعد مناهج تسعى لتحوير الواقع كما تراه, فذلك هو الشيء المرفوض في عملية البحث عن الحل ـ كما يرى المؤلف ذلك ـ (لقد جرّب العالم العربي كل الأشكال الأيديولوجية الممكنة للنظرية الماركسية.. لينينية وستالينية.. ألتوسيرية وغرامشية, مازلنا نعايش الإخفاق والبلى في مقاربات تيزيني وسمير أمين وحسين مروة.. لقد آن الأوان للتحليل المادي ونجله التاريخاني كي يعلن التوبة النصوح ويخرج من شرنقة الفتنة الشيوعية في فهم العالم من حوله) ص57
لقد قرأ المؤلف أفكاراً متعددة لمثقفين عرب تأرجحت كما ذكرنا بين ماركسية وبنيوية في قراءة التراث, وكلها لم تدخل دائرة الحقيقة في الفهم الشامل لهذا التراث الذي بدا عصيّاً على أصحاب المناهج المستوردة والدارسين في جامعات الغرب المتأثرين بأفكاره.. وفي هذا السياق ينتقل الباحث لمناقشة افكار (محمد أركون) البنيوية. والتي هي ـ بتحليل المؤلف‏ـ تنبثق عن دعوة إلى اللامنهجية, حيث ينفتح المعنى على شطآن لامتناهية من الإحتمالات.
ويؤكد الباحث من جهة أخرى على أنّ النص ـ على طريقة التفكيكيين ـ يشكل بؤرة أساسية في التحليل الأركوني, ومن هنا ـ والكلام للمؤلف ـ يجب أن نعلم أنه في ضوء النظرية التفكيكية يتيه النص, يتمرد على الحضور الكاذب فيرفض الإقامة.. ينتج أمام النص إمكانية توليدية يكون فيها الحضور منطلقاً لسلسلة من الحضورات لاتنتهي البتة, مادام المؤول موجوداً والنص مكتوباً/ ص64.
إن التحليل الأركوني يشكل خطورة بقدر ما يشكل تعقيداً لكل مفاصل النص عبر بنيانيته والتي تعبر عن الهمّ الأساسي لأركون في ملاحقة (اللاّ مفكر فيه) في التراث الإسلامي, من أجل غاية شريفة هي جعل الإسلام معاصراً لنا, وهو إذ يقوم بهذه المهمة يتوصل بالأدوات المنهجية الحديثة.. يضيع المنهج ـ برأي المؤلف ـ في الوسط الفكري الأركوني مادام يحمل تمركزاً‏للغرب رغم الإيجابيات الكثيرة التي يحملها معه. حيث يعرب الباحث بقوله: (مع كل هذا يبقى التحليل الأركوني أصدق لهجة من نظرائه في العالم العربي, لأنه يقارب ما لم يفكر فيه داخل التراث العربي الإسلامي).. ثم يبدأ المؤلف بعقد مقارنة سريعة بين (الجابري وأركون) موضحاً‏نقاط الإلتقاء ونقاط التقاطع بينهما, ومشيراً إلى أهم المناهج والمذاهب الغربية التي استقى منها الجابري منهجيته في تحليل التراث ليكشف عندها أنّ منهج الجابري هو منهج ملفق من عدة مناهج ومذاهب لم يعترف الجابري بفضلها عليه, ولم يشر لها في طيّات مصنفاته في نقد الفكر العربي.
ثم ينتهي الكاتب إلى نتيجة هامة تؤكد على إعادة النظر في مناهج القراءة قبل المادة التاريخية. إذ إنّ أي نظر في التراث إذا لم يهدف إلى فهمه والإتصال به من أجل التكيف معه بشكل موضوعي, لن يؤدي إلاّ إلى تدميره.. ذلك بأنّ التراث من الناحية المعرفية يبقى يشكل ينبوع وعينا الثرّ.. واتصالنا به لن ينتهي إلا بتحقيق تغيير شامل في تاريخنا وبيئتنا وتراثنا نفسه, وهذا أمر مستحيل/ ص79
[3]
ومادام الكتاب يتمحور بشكل أساسي حول الإجابة على نوع هوية العلاقة بين العرب والغرب, والتي تتبدى ـ أي الهوية ـ في مظاهر مختلفة, وتتجلى في صور متعددة, إذن لابد لبعض العناوين التي تدخل في تحديد ملامح هذه الهوية من أن تُطرح على مائدة البحث والإختبار, حيث تصبح معرفة الوشائج التي تربط هذهِ العناوين واضحة, وتفتح في الوقت نفسه آفاقاً جديدة في التعرف على جملة مفاهيم الفكر الإجتماعي وهي تمتد في أحشاء المجتمع الذي يتعاطاها في إطار خصوصيته وذاتيته.. وقد تولى الفصل الثاني هذه المهمة ضمن عنوانه الذي هو (جدلية الآنا والآخر/ جملة من العناوين الفرعية).
تناول الباحث العلاقة بين المثقف والمجتمع وإشكالية الهوية والإنتماء, وأهمية دور المثقف وإيجابيته داخل بيئته الإجتماعية التي ينتمي إليها في إطار التعريف العام والمشترك للثقافة والذي يربط ربطاً‏ووثيقاً بين التصورات التي ينبغي أنْ يحملها المثقف عن مجتمعه في دائرة التقاليد والنشاطات التي تمتلك خصوصية واضحة تميزها عن غيرها, وبين النتائج التي يتوصل إليها هذا المثقف في تشخيص مشكلات مجتمعه وعلله ويرسم حلولها الواقعية.. هذا الكلام قاد المؤلف إلى التساؤل عن إمكانية وجود ثقافة عالمية متميزة بالمعنى الحقيقي, التي تمكّن المثقف من الإنفلات من مؤثرات ثقافة مجتمعه وخبرته? وما هي طبيعة العلاقة التي تربط الثقافة بالهوية?
يدوّن الباحث رأيه (جوابه) في هذا السياق بالفصل بين ثقافة النخبة التي لاتمثل في رأيه وجهة نظر المجتمع في غالب الأحيان, وبين المثقف الحقيقي الذي يسعى للحفاظ على موضوعية نسيجه الثقافي وتعادليته, ويتمثل دور هذا المثقف في حمل مسؤولية التكامل لهذا النسيج لكي لايبقى حبيس عتمة الخصوصية من دون إيجاد أو الإنتماء إلى الدائرة الكونية المشتركة لدى جميع الثقافات/ ص85, وعلى هذا الأساس يمكن للثقافات أنْ تتعايش دون أنْ تفقد الواحدة منها خصوصيتها المميزة لها.
وفي العنوان الثاني الذي تناوله المؤلف من هذا الفصل وهو (نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي ـ حالة إفريقيا) يفصل الباحث عملية التفكير الأوروبي في إطار تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر, هذا التطبيق يُعبّر بوضوح تام عن النزعة الإستعلائية لمرجعياته الفكرية التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً, لأنهم يمثلون (ذات) تطمع إلى التفرد.. وعلى هذا الأساس ينظر الغرب إلى الشعوب الأخرى على أنها بدائية, عاشت حسب حقب تماثل ما كانت عليه أوروبا منذ مئات السنين.. إنها المركزية الأوروبية التي حاول بعض زعماء الفكر الأوروبي مثل (ليفي شتروس) دحضها من دون أن يقطع كل أشواط البديل على حد تعبير المؤلف.. إن هذه النظرة الغريبة للذات اصطدمت بحقيقة مرّة تمثلت بالنموذج الأفريقي, في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخر في خدمة التمركز الأوروبي لكنها انقلبت ضده, حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة, ومن ضمنها المجتمع الأفريقي.
هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الإتجاه, وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي الذي يعبّر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الأفريقي وبين المجتمعات البشرية, راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الأفريقي وانغلاقه من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع.. ثم يسوق الباحث مجموعة أمثلة بهذا الصدد تعبر عن الإختلاف الثقافي بين المستوى الذي وصل إليه العقل الأوروبي وبين مستوى الحياة المعقدة التي يعيشها الأفريقي والتي هي بنية ثقافته التي يواجه بها كل ما حوله.. وليست الحضارة هنا ذلك التقدم العلمي في التقانة الإلكترونية أو الفضائية بقدر ما هي تكيف مع الطبيعة وفق محددات عقلية وروحية على حدّ سواء, وهذا هو الوجه الآخر لأفريقيا الذي مثلته مصر القديمة وبلاد النوبة ـ السودان ـ واللتان تعتبران أم الحضارات وأقدمها, لذلك سعت أفريقيا اليوم من خلال كتابها ومثفقيها إلى رسم خريطة أمل للإنسانية في مستقبلها المنفتح على العالم.
[4]
يدرس الباحث بعد ذلك محاولة (حسن حنفي) في كتابه «مدخل إلى علم الإستغراب» دراسة مفصلة, محاولاً مواكبة الأخير في رحلته الطويلة هذه أخذاً ورداً, حيث يرى المؤلف أنّ (حنفي) كان صريحاً, وصاحب جرأة وهمّ حقيقيين, وهو يمتلك الشجاعة الكافية والثقة الكاملة بالنفس, لكي يخرج عن «الفتنة» الأوروباوية بهزة «الأنا» وإن كان أحياناً يصل بـ «الأنا» إلى عمق الغرب.. إنّ المشروع ـ الكلام للباحث ــ واقع ضمن رؤية متكاملة, وضمن استراتيجية معرفية ثابتة لمحاصرة الآخر الوافد المتسلط, القاهر.. وإفساح المجال للأنا, وإبرازها, استراتيجية لتحجيم «الغرب» وتعميم حضارة الإسلام في مشروع التراث والتجديد/ ص100
وتحت عناوين فرعية تفصيلية يقوم الباحث (إدريس هاني) بمتابعة مشروع «حسن حنفي» ويتوقف أحياناً ناقداً لبعض الثغرات التي يجدها حسب وجهة نظره في ثنايا المشروع (نحن والآخر وبناء الموقف, من الإستشراق إلى الإستغراب, مراحل الوعي الغربي, البنية والتاريخ, الإستغراب والإعتراف بالعجز..) كل هذه العناوين يصبها الباحث في قالب استعراضي ونقدي في نفس الوقت متأملاً في حدود الثقافة العربية وصراعها مع من يسعى إلى تأكيد المركزية الفكرية في الساحة العالمية وهو (الغرب). لكنه ـ أي المؤلف ـ يؤكد, أنّ الخروج من المحيط ليس خروجاً فلسفياً, فالحديث لابد أن يجري في الدائرة التي ترتبط بالواقع, وعلى هذا, فإنّ مشروع (حسن حنفي) تعلق بالتجريد, وحلق بعيداً‏عن العياني, إنها قراءة للغرب بأدوات الغرب وبشامة عروبية. بهارات كثيفة ومركزة أفقدت المعرفة ذائقتها العلمية, إنها بذلك تحتاج إلى استغراب جديد. استغراب الإستغراب!/ ص118
ويسير المؤلف على نفس الوتيرة في نقده للدكتور علي حرب الذي حاول عن طريق (التفكيك) أن يضيف إلى البحر ماءً بمشروعه في نقد الحقيقة ذاتها, من حيث هي حضور كاذب ينتجه نص محتال, وتستمد قوتها من قوة تداوله.. والصعوبات التي تطرحها هذه الإستراتيجية التفكيكية تكمن في أنها تمثل فكراً‏واقعاً ضد كل ما هو نسقي وتراتبي, وضد أي منطق إجرائي ينحدر من نظام ميتافيزيقي, إنه لايحتفظ في نهاية المطاف إلا بفعالية العقل, كقوة مفكرة وغامضة في الوقت نفسه, قوة تستهدف دائماً زعزعة الأفكار وتفكيكها ونفي كل ما يطرحه منطوق الخطاب, والصعوبة الثانية تكمن في عدم انتساب علي حرب إلى أي منهج أو نظام ابستيمي معين.. وبعد أنْ يتسلسل الباحث مع أفكار علي حرب التفكيكية, يتساءل قائلاً: عن أي زاد سوف يحظى به فكرنا العربي المعاصر, عندما نقرر ابتداءً أن لاهمَّ لنا بالحقيقة?
هل بإمكان علي حرب أنْ يجرأ بالإدعاء أنّ هذا الفكر بديل للشعوب والأمم, للثقافات والحضارات.. طبعاً, فإن طبيعة هذا التفكير لاتستدعي أي شكل لمثل هذه التقريرات?
إذن, الأمر يتعلق بتيار تجريدي محض, ونخبوي جداً‏جداً, تلك هي ـ بالأساس ـ أزمة الفلسفة المعاصرة في فرنسا مهد التفكيكية/ ص125
[5]
اختار المؤلف للفصل الثالث أن يناقش (جدلية الشمال والجنوب, العرب والإنماء) من خلال محددات العقل العربي المتجلي في الساحة الثقافية العربية اليوم, وتساءل هل هذه المحددات المطروحة اليوم هي لعقل عربي جديد أم اجترار لعقل عربي قديم? خصوصاً بعد التغيرات الفكرية التي حدثت في ضوء حدث هام تعرض له العالم العربي وهو «حرب الخليج الثانية» وتداعيات عاصفة الصحراء.. ولقد ناقش الباحث في هذا الإطار أهم مطارحات المفكرين والمثقفين العرب, الذين وفدوا من كل الأقطار العربية, لحضور الندوة الفكرية التي انعقدت في مدينة «أصيلة» بالمغرب‏ـ حول الثقافات العربية والنظام العالمي الجديد ـ وذكر المؤلف في بداية هذه الورقة أنه سيحاول قدر المستطاع الكف عن نقاط القوة والضعف في الفكر العربي الجديد الذي حدد نفسه في ضوء التحولات السياسية الكبرى, ومقاصد النظام العالمي الجديد/ ص129
ومن وجهة نظر نقدية لاحظ الباحث في «الندوة» تكاثف نمط من الطرح الفكري قديم في تاريخ النقد العربي, ومعالجاته لمشكلاته المستمرة.. طُرحت مشكلة «التغريب» وهي ليست جديدة في الفكر العربي, وما تجدد فيها هو حدّة الطرح لـ (تعريب) الحداثة الذي يعني بكل وضوح, ترحيل الغرب إلينا, وموت الندوات التي لاتخفف عنها اللّغة. وقد تعرض الباحث في هذا الإطار لبعض طروحات الندوة, مثل ما جاء في ورقة الدكتور «مبارك ربيع» صاحب اقتراح التصحيح التربوي, حيث يعتقد الباحث أنَّ حديث «مبارك» عن إشكالية الإنتقاء والتبعية التي تطبع الثقافة والحياة العربيتين, لايسمو عن تلك الرؤية الفوقية التي لاتلامس جوهر الإشكالية.. كان موضوع «مبارك» عن المشكل التربوي والتعليمي دقيقاً في التشخيص, لكنه متهافت الحل (نظرة المؤلف) ثم ينتقل الباحث لمناقشة ما طرحه «عبد الإله بلقزيز» عن (مدار العلاقة بين قومية الثقافة العربية وعالميتها), حيث استهجن هذا الأخير المفهوم العرقي للثقافة والمنظور «الإثني» للرابطة العربية, وفي هذا الإطار ناقش الباحث إشكالية العروبة والإسلام, وأكد على أنّ العنصر الجامع والمحوري في ذلك الخليط الموحد من الهويات ظل هو الإسلام لا العروبة, فلماذا يخشى أصحاب الطرح المعتدل للقومية من ملامسة موضوعة العلاقة بين العروبة والإسلام? إن على المثقف الحقيقي أنْ يقترب أكثر في فهمه للإسلام, حتى يسمح للإسلامي أنْ يقترب من عروبته/ ص132
ويؤكد الباحث من جهة أخرى على «التميّز» قبل «التصالح» في مناقشته لورقة «عبد الرحمن الراشد» التي دعت إلى تحقيق «تصالح» مع ثقافة المركز ـ الغرب.. لقد تحدث «الراشد» في ورقته عن الخوف, الذي سببه الجمع بين هموم التطور والحفاظ على التراث والهوية, وهو الشيء الذي أدى ـ كما يرى الراشد ـ إلى تخلفنا, فتساءل الباحث (إدريس) كيف يتخلف من أراد التطور بالهوية? وهل الهوية سبب في التخلف?
وبين هذه الأفكار المطروحة وبين تأملات الباحث في المشكلة التي وقع فيها الفكر العربي وثقافته (الحقيقة الغائبة) يُنبّه (إدريس) إلى أنْ ندوة (أصيلة) لم تأت بجديد على مستوى النقد الذاتي العربي, إنما هي اجترار لنفس الأفكار, وإنْ كانت جديدة في صيغ طرحها, إنما الشيء الذي يصعق الفكر العربي ـ التحرري‏ـ في عالمنا العربي, هو السلطة التي اكتسبتها الثقافة الإنهزامية ـ التابعية ـ التي حاولت تبديد آخر ما تبقى للعرب, يُميز هويتهم/ ص139
أخيراً‏وعبر عناوين متعددة, درس الباحث (إدريس) مسألة الإنماء في العالم العربي بجميع جوانبها الفكرية والإقتصادية والسياسية, وقارن بين الأفكار الأصيلة ومدى فاعليتها في الواقع العربي الفقير إلى كل ذلك, وبين الأفكار المستوردة التي هبت من رياح الكونية والمركزية الأوروبية.. وقد عرض الباحث أهم الأفكار الغربية في مسألة (البروسبيكتيف) والتنبوءات المستقبلية على أسس علمية, عرضاً‏جيداً, فخلص إلى حقيقة هي «المستقبل الذي مهما حاولنا استشرافه, لن نقع إلاّ على تكهنات, جزئية ومضببة برواسب حاضرنا وهمومنا» ص155
ثم أنهى الباحث الفصل الثالث من الكتاب بدارسة آفاق النهضة في الفكر العربي المعاصر وعلاقة ذلك بجدلية العلاقة مع الغرب عبر عناوين متعددة أهمها (الكونية والعالم العربي, العالم العربي بين التحدي الداخلي والخارجي, العالم العربي والمصير الإقتصادي, العالم العربي والسقوط الأحمر, الإسلام الذات والحل, العالم العربي وآفاق التنمية, التنمية والسكان, تنمية العالم الثالث, صياغة جديدة للعالم» من ص156 حتى ص186
[6]
يصل الباحث في الفصل الأخير من كتابه إلى (رهانات الفكر الإسلامي) حيث يدرس جملة من الإشكاليات التي يوضح من خلالها الرؤية الإسلامية وموقفها ـ من وجهة نظره طبعاً‏ـ من التيارات والطروحات الفكرية الحديثة.. وإلى حدّما يمكن القول أنَّ الباحث حاول, في هذا الفصل أن يقدّم البديل عن كل ما سبق من أفكار وطروحات في الثقافة العربية رغم أنه يذّكر في كل مرّة أنّ ما يطرحه هنا لايمثل البديل الكامل, لأنه يحتاج إلى الكثير من الترميم فضلاً عن التفصيل الدقيق الذي لايستوعبه الكتاب, إنه مشروع يهدف إلى التكاملية مع كل مفردات الواقع, رغم الفهم القاصر لبعض الإسلاميين لبعض مفاصل هذا المشروع, حيث تبدو عملية إيجاد الحل الناجع للمشكلة الراهنة معقدة وشائكة في خضم التبدلات والتغيرات السريعة والمتلاحقة للثقافة العالمية.
وقد ارتأى الباحث قبل أن يبدأ مسيرته الشائكة هذه أن يبدأýبتعريفات عامة للمفاصل الأساسية لهذا الموضوع, فلكي نعرف العلاقة بين الفكر الإسلامي ونقرأ موقفه من تيار ما بعد الحداثة مثلاً, علينا أن نعرف أولاً ما هية الفكر الإسلامي نفسه, هذه الماهية التي يُقصد بها ـ حسب المؤلف ـ مجمل الإنجازات الفكرية والمعرفية التي تؤطر عموم الرؤية الثقافية الإسلامية. وتتمظهر في شتى الحقول والمجالات العلمية داخل التراث الإسلامي, في علم الكلام والفلسفة والأدب واللغة وباقي العلوم والفنون, وتشمل أيضاً علوماً أساسية مثل الدراية والفقه وأصوله/ ص189
وقد امتد الباحث في نظرته للفكر الإسلامي إلى أبعد من الصيغة العرضية, حيث طعّمها بالصيغة النقدية أيضاً, وهو يتجه في ذلك إلى إبراز جوانب القوة في هذا الفكر, ويعرّج في الوقت نفسه على مواطن الضعف التي هي ليست في طبيعة الفكر الإسلامي نفسه بقدر ما هي عملية سوء فهم يقع فيها بعض الإسلاميين أنفسهم, فضلاً عن سوء التطبيق عند بعضهم الآخر.
إنّ الباحث هنا, ينهدُ إلى الطرح الموضوعي الخالص الخالي من التأثر النفسي بالإتجاه الذي يحمله هو بوصفه (إسلامياً).. إنّ الفكر الإسلامي كما نقدمه ـ والكلام للمؤلف ـ هو التراث الذي يشكل منظار المثقف المسلم الذي يعي أبعاد وجوده الحضاري, وينطلق من مخزونه التراثي في فهم حاضره, فهماً يزاوج فيه بين مطلب الحقيقة وشرط الوجود. وهو نفس الإتجاه الذي سلكه روّاد النهضة والإصلاح, منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وأمثالهم/ ص190
وبين ماهية «الحداثة» وماهية «ما بعد الحداثة» وماهية «الإسلامية» التي هي صفة الصحوة الإسلامية كما يعبر عنها أصحاب الإتجاه الإسلامي, يدرس الباحث الحركة الفكرية ضمن مساراتها السائدة على أرض الواقع, فاصلاً بين اتجاهين يمثلان خطاب (الإسلامية) هما: اتجاه الحركات الأصولية القاعدية الحرفية التي لاتنطلق في رؤيتها للواقع ونظرتها لحاضرها من فقه وفكر وسياسة.. واتجاه الإصلاح الإسلامي التقدمي الذي ينخرط فيه جيل من العلماء والمفكرين والمثقفين, الذين يقفون موقفاً إيجابياً من العقل والمدنية, ويقفون على مفترق طرق ما بين جمود الإرتجاعيين الحرفيين أعداء العقل والمدنية, وبين استلاب المتغربين التابعين.
هؤلاء هم الذين غيّروا إلى حدّما من النظرة الغربية القديمة من الإتجاه الإسلامي, وأصبح بعض الغربيين المتحررين من الأنوية الغربية ينظر للإسلاميين بمنظار التعددية ا لثقافية والإعتراف بالآخر. وقد درس الباحث نموذجين في هذا الإطار هما:
(دانيال بابيبس) و(خلدون جولألب) اللذين اعتبرا الظاهرة الإسلامية متجاوزة للحداثة وناقدة لها من نفس منطلقات ما بعد الحداثة.
ثم ينتقل الباحث إلى جملة قضايا وإشكاليات يعاصرها الإسلاميون في وضعهم الراهن, ويؤكد أن الفكر الإسلامي هو الكفيل بتقديم النظرة السليمة لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام في اندفاعه وحركته في حياة المجتمعات العربية والمسلمة من خلال مسألة التمامية التي يحملها هذا الفكر (إمكانية اللقاء والحوار بين الفكر الإسلامي وما بعد الحداثة, والنقد الإسلامي للغرب) يدرسهما المؤلف من وجهة نظر أبرز الكتاب والمفكرين الإسلاميين أمثال (د. حسن الترابي, السيد محمد حسين فضل الله, السيد محمد تقي المدرسي) فضلاً عن الكتاب القدماء مثل (سيد قطب) وغيرهم.
أخيراً, يستغرق الباحث (إدريس) في جملة اشكاليات معاصرة وملحة, ويُبين الموقف الإسلامي منها عرضاً ونقداً, هذه الإشكاليات التي على أساسها يتحدد التعايش بين الفكر الإسلامي وفكر الحداثة وما بعد الحداثة, لأنها تدخل في صميم المجتمع الإنساني وما يعاصره من أفكار سياسية واقتصادية وتنموية ابتداءً من (العلاقة بين الشورى والديمقراطية, والعلاقة بين العلمانية والديمقراطية ووهم الملازمة, ودراسة بعض المواقف الإسلامية من العلمانية التي تمثلت ببعض الأقلام الإسلامية مثل (أنور الجندي) و(الشيخ محمد مهدي شمس الدين) وغيرهم). وانتهاءً بأزمة الفكر السياسي عند المسلمين, بعد المرور بنقد الفكر الشوروي ووجهات النظر المتباينة في مسالة الحاكمية والأنظمة الإدارية السياسية في الدولة والمجتمع.. ويبدو أنّ الكاتب يميل إلى الديمقراطية الموجهة إسلامياً, حيث تمثل هذه الحالة الجديدة روح الشعب العربي والمسلم على حد سواء, فإذا ما خرجت الديمقراطية عن أساسها العلماني الغربي يمكنها أن تحقق شيئاً في عالمنا العربي والإسلامي/ ص238
ولايكتفي الباحث في هذا الفصل بكل ما تقدم من الطرح, بل يستغرق من جديد في دراسة الموقف الإسلامي من القضايا الملحة الأخرى مثل (حقوق الأقليات في المجتمع الإسلامي) التي درسها من خلال ورقة الدكتور القرضاوي التي أكد فيها على الحقوق وجعلها مدرجة ضمن عنايته بالواجبات والفرائض التي ركز عليها أكثر من تركيزه على الحقوق. لكن الباحث تقدم بنقدٍ لهذه الورقة واعتبرها فاقدة لصفة الدليل المعتبر, بالإضافة إلى عرضه ونقده لجملة الأفكار التي تناولت مسألة أهل الذمة في ضوء فلسفة الأمة وفي ضوء المعطى التاريخي الإسلامي.
أما آخر ما تطرق إليه الباحث في كتابة هذا الفصل فكان عن المجتمع الأهلي المسلم ومطلب التمدن من خلال إنماء الرؤية وإنماء المشروع, حيث درس إشكالية المدنية وعلاقة ذلك بالتغريب. ثم قرأ التنمية في إطار تجديد الفكر الإسلامي قراءة نقدية, وكان العنوان الأول حول التنمية هو عنوان الندوة الفكرية السنوية التي أقامتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت. لقد درس الباحث أهم الأفكار التي طرحت في هذه الندوة وقام بمناقشتها ونقدها نقداً مفصلاً.
ثم استرسل الباحث في دراسة ونقد الإشكاليات الأخرى (التحديث), نظام الحكم, التنمية الإقتصادية في المنظور الإسلامي, الإسلام والموقف من التخلف, والإسلام وموقفه من المرأة والإنماء والتقدم.
بعدها اختتم الباحث كتابه بالحديث عن مشروع وعي عربي: مشروع رؤية تنموية رغم أنه ـ اي المؤلف ـ لايزعم هنا إنجاز أي بديل أو أي أخبار, إنما عرض فقط لمقومات التنمية التي تنمو وتزدهر في ظل مساحة من الحرية الفكرية التي تنتمي إلى خصوصية التراث العربي والإسلامي, وهي الكفيلة بكل حدود التنمية وجسورها في المجتمع الإسلامي الحديث والمتمدن.
[7]
مناقشة وتقويم
من الواضح أن الباحث بذل جهداً‏كبيراً في كتابه هذا, وأحسبه قد أدرك تمام الإدراك أن المرحلة التي نعاصرها اليوم في ساحتنا الثقافية, قد استنفدت صيغ الحوار برمّتها, ولم تبق صيغة حوارية إلاّ وجربتها عبر لقاءات مفتوحة, أو ندوات تُحشد لها الطاقات الفكرية العربية من كل مكان لتناقش المفاصل المهمة في مسيرة الفكر العربي والإسلامي بدءاً‏من التراث وانتهاءً بالحداثة وما بعدها, وحتى لايضيع القارئ العربي بين التناقضات الكثيرة التي تطرحها هذه المنتديات الثقافية وما تطالعه به المطبوعات والدوريات العربية بين فترة وأخرى, عمد الباحث (إدريس)ýإلى هذا التحشيد الهائل للتيارات الفكرية ومتبنياتها وسجالاتها بشكل شمولي ـ كما أراه ـ حتى أنه لم يترك شيئاً إلا وذكره في عمله هذا, لذلك يستحق الكتاب أن نقول عنه أنه كتاب (شامل ووافٍ) بامتياز.. غير أنَّ ثمة ملاحظات جوهرية سُجّلت على الباحث وكتابه هذا أربكت قيمته ـ كما أرى ـ وأخلّت بتوازنه, وهذه الملاحظات هي:
أولاً: ما كان للباحث أنْ يختار ما اختاره عنواناً‏لكتابه مادامت نيته ـ كما بدا ذلك واضحاً في متن الكتاب ـ الدخول في صميم الصراع الثقافي بين الإسلام والغرب بشكل عام, فالمسألة تتعدى الحدود العربية (شاء الباحث أم أبى) لتدخل ضمن الدائرة الإسلامية الواسعة مادام (الآخر) بالنسبة للغرب هو (الإسلام)..
وفي هذا الإطار, كان على الباحث أنْ يستنطق التيارات الفكرية غير العربية ويوضح موقفها من المركزية الأوروبية, لكننا لم نقرأ إسماً‏واحداً من قائمة أسماء المفكرين من غير العرب, ولا حتى فكرة واحدة من أفكارهم في هذا الكتاب, لا أقل تلك الأسماء والأفكار التي أصبحت تاريخية رغم تجددها المتوهج إلى الآن من أمثال (أبو الأعلى المودودي ومحمد إقبال وغيرهم)..فإنْ كان الباحث يقصد من العنوان المدون على غلاف الكتاب تحديد الموضوع وحسب, فإني أرى هذا التحديد تحجيم للموضوع وتقليل لأهميته, والواقع يخالف ذلك قطعاً.
ثانياً: رغم تأكيد الباحث على أهمية وضوح المنهج وضرورته وتشهيره بالمفكرين الذين لايمتلكون منهجاً‏محدداً‏وواضحاً, فإني أرى الكتاب متناثر الأفكار وهناك قفزات واضحة في فقرات ومفاصل المواضيع التي طرحها الباحث على مائدة البحث, وثمة تقديم وتأخير غير مبرر في سلسلة الأفكار التي ساقها الكاتب في كتابه الذي أستطيع أن أقول عنه‏ـ رغم غناه ـ يشبه إلى حدّما مجموعة مقالات مبعثرة ملؤها خواطر وإيحاءات متناثرة.
ثالثاً: رغم الجهد المبذول من قبل الباحث في ردّ أهم الأفكار المطروحة في الساحة الثقافية العربية (التغريبية خصوصاً) إلى مضانها الأصلية في التيارات والمناهج الغربية, إلاّ أنّ الكثير من النتائج التي توصلýإليها الكاتب في هذا الإطار تبقى تدور في مساحةٍ قوامها الإفتراض القابل للخطأ, خصوصاً‏فيما يتعلق بالتفسيرات التي ساقها لتعبّر عن صميم الأفكار التي طرحها بعض فلاسفة الغرب أمثال (ليفي شتروس وجاك دريدا وغيرهم).
رابعاً: لقد عمّم الباحث نقده للمشاريع الفكرية العربية في مواجهة الغرب حتى طال مشروع (الإستغراب) لـ (حسن حنفي) أيضاً, ورغم تأييدي للباحث في بعض سطوره النقدية لهذا المشروع,‏إلاّ أنني أرى الباحث ركّز على ما هو غير ضروري في المشروع وجعله أساساً لنقده دون أن يلتفت إلى ذلك.
خامساً: لم يقدم الباحث المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي كما يجب, بل ـ كما أراه ـ قدّمه ناقصاً ودون أن يرسم ملامح ثابتة له في إطار منهجي رصين, رغم أنه ـ أي المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي‏ـ هو ثمرة الكتاب وهدية الكاتب لقرائه, وهو بيت القصيد من تأليف هذا العمل دون أدنى شك في ذلك.
سادساً: وهذه هي الملاحظة الأخيرة..‏لم يقدم الباحث نموذجاً تطبيقياً ناجحاً لمسألة الإنماء في المشروع الإسلامي التي تحدث عنها ملياً‏في آخر كتابه, رغم قرب النموذج الإسلامي منه والمتمثل في مشاريع إسلامية معاصرة كالإقتصاد وبيوت المال والمصارف الإسلامية وغيرها.
يبقى أن نعترف للباحث بسعة ثقافته وشموليتها, فهو ـ كما بدا لي ـ مستوعباً‏جيداً لأهم المفاهيم التي تحملها التيارات الفكرية العربية منها والغربية على حدّ سواء, وهذا ما جعله متمكناً ‏من طرح الأفكار الواردة في الكتاب ومناقشتها.