يطمح هذا البحث إلى معالجة إحدى الإشكاليات التي ميزت أدبيات الاقتصاد الإسلامي خلال العقود الخمس الماضية التي رافقت تأسيسه وانتشاره كاختصاص ينتمي للعلوم الإنسانية ويتحرك من خلال مرجعية الإسلام. ويحاول البحث التركيز على منهجية بناء الاقتصاد الإسلامي باعتبارها حجر الزاوية التي تستند عليه أدبياته وذلك من خلال إبراز الدور الذي لعبته عملية مقاربة الفكر الاقتصادي الغربي والحداثي عموماً من ناحية, والعقلية التشطيرية المفرقة بين الكتاب والسنة كمصادر للتشريع من ناحية أخرى في فهم الاقتصاديين الإسلاميين للنشاط الاقتصادي. ويخلص البحث إلى الأهمية القصوى لأن تكون إعادة النظر في منهجية إنتاج ما اصطلح عليه بالفكر الاقتصادي الإسلامي الأولوية الفكرية للمختصين في هذا الباب خلال السنوات القادمة حتى نصل إلى تصور متفرد للنشاط الاقتصادي والطبيعة الإنسانية ويقترب من القيم القرآنية.
يمكننا القول بأن الاقتصاد الإسلامي تصدر الجهود المبذولة منذ الخمسين سنة الماضية في إطار التوجه العام نحو «أسلمة المعارف» (1) حيث اهتمت الأدبيات الإسلامية منذ عصر النهضة بالعلوم الاجتماعية في محاولات متعددة لإعطائها توجهاً ذاتياً وقراءتها بعيون إسلامية. وليس غريباً إذاً أن يكون الاقتصاد (2) من أكثر هذه العلوم التي حظيت باهتمام الكتاب المسلمين حيث حاول العديد منهم ولوج هذا الباب انطلاقاً من حجمه الطاغي والبارز في الاجتماع الحديث وما أصبح يمثله من تحد لكل شعوب المعمورة. فالحديث عن الإسلام كحل رافقه تفكير في الامكانيات النظرية لقيام اقتصاد على الأسس النظرية والعقائدية التي يوفرها ويتميز بها هذا الدين. في هذا الإطار وبعد البدايات المحتشمة التي مثلتها الأربعينيات (3) أخذت الكتابة في الاقتصاد الإسلامي تتخذ بعداً تخصصياً تثبّت مع صعود ظاهرة الصحوة الإسلامية, وما نتج عنها من اهتمام متزايد داخل الاجتماع العربي بالإطار الثقافي والمعرفي الإسلامي.
ولأن ليس هناك مجال للمقارنة مع ما ينتجه الفكر الاقتصادي الغربي كمياً, فإن نمو المكتبة الإسلامية الحديثة ـ التي أصبحت تضم خلال فترة نصف قرن مئات المؤلفات في الاقتصاد الإسلامي ـ. يمكّن الباحث من القيام بتحليل الأطر والضوابط المعرفية التي تتحكم في هذه الانتاجية وبالتالي رصد الاتجاهات والأطروحات التي تتمخض عنها.
تاريخياً يمكن رد انتشار المصطلح إلى محطتين مهمتين. أولاهما صدور الطبعة الأولى لكتاب السيد محمد باقر الصدر «اقتصادنا» سنة 1959. أما الثانية فهي نتائج المؤتمر العالمي الأول حول الاقتصاد الإسلامي المنعقد سنة 1979 بجامعة الملك عبد العزيز في جدة حيث نوقشت مجموعة من البحوث كوّنت الجيل الأول من الأدبيات المختصة (4) . ثم تتالت الكتابات وعقدت العديد من الندوات والمؤتمرات وأصبح الاقتصاد الإسلامي اختصاصاً لايكتفي أصحابه بالبحث فيه بل وكذلك بتدريسه في عديد الجامعات الإسلامية كما يلاقي الاقتصاد الإسلامي اهتماماًمتزايداً من الدوائر الغربية ـخاصة المصرفية منها ـالتي تحاول الاستفادة مما يمكن أن ينجز عن بعض تطبيقاته.
غير أنّ التوجه العام لهذا الانتاج لم يخرج من بوتقة الاشارات الكلية والتزم بالتالي بما أملته من ناحية الحصيلة الأولى للأدبيات من توجهات, وما تواجهه من ناحية أخرى التجربة المصرفية الإسلامية من عراقيل موضوعية وتعقيدات إجرائية. ويحاول هذا البحث الإشارة بشكل أساس إلى قضية المنهج التي لاتزال تعيق حسب نظرنا المتواضع نمو الاقتصاد الإسلامي, أو على الأقل تحد من طموحاته كبديل للنماذج الاقتصادية الضاغطة لتحيله في أحسن الأحوال إلى حالة رياضية من حالات الاقتصاد الكلاسيكي. في هذا الإطار لايقف نقدنا للإقتصاد الإسلامي عند تتبع القضايا التي تتعلق بعلاقة الفتوى الشرعية للمعاملات بالواقع المتحرك, أو التعرض إلى العقبات التي خلصت إليها التجربة المصرفية, إلا من باب ما تمثله هذه الإشكاليات من خلفيات منهجية تعطينا صوراً عن الكيفية التي يُنتَّج بها الاقتصاد الإسلامي. كما لايندرج هذا النقد خلف ستار الإيديولوجيات (5) النافية للإمكانيات الاجتماعية للأديان (6) , بل ينطلق من طرح مغاير يري في الإسلام مرجعية كبرى تتجاوز الثنائية المفتعلة بين المادة والروح, لتؤسس لقيام حراك اجتماعي متكامل. وعليه فإن النقد الذي نتوجه به للاقتصاد الإسلامي هو جزء من السياق الطبيعي لبناء النظم الفكرية الذي يمر عبر التنبيه إلى أوجه القصور في النسق الفكري والخلل المصاحب للتجارب الميدانية.
لقد بات من المؤكد بعد سنوات عديدة أن التنظير الذي حصل تحت اسم الاقتصاد الإسلامي لم يتم بشكل متوازن حيث تطور تفكير الإسلاميين في النشاط الاقتصادي عبر خطوتي الترويج والمواضيع الاقتصادية المتفرقة, مع شبه إهمال للمنهجية الضابطة للكل (علم الاقتصاد). تكمن الخطوة الأولى في الترويج لإمكانية قيام علم يرتبط بالنشاط الاقتصادي على أسس إسلامية (7) . أما الثانية فهي تبحث في مواضيع اقتصادية متفرقة من منظور إسلامي (8) . ولئن أثمرت هاتان الخطوتان في تطور كمي للمكتبة الإسلامية, وفي اهتمام متزايد بالاقتصاد الإسلامي, فإنّ الخطوة الخاصة بتنظيم هذا «العلم» عبر تجميع منهجي ومتناسق للموضوعات التي ترتبط مباشرة أو بشكل غير مباشر بالنشاط الاقتصادي ـ والتي استهلكتها الأدبيات الإسلامية متخصصة أم لا ـ لم تتم بالشكل المرضي والكافي. مما خلق اختلالاً كبيراًبين القضايا المطروحة, وأدى بالتالي إلى جملة من المشاكل الجوهرية لعل أهمها قضية منهجية البحث ـأي الآليات التي تسمح بانتاج فكر متفرد ما ـ لتصبح المشكلة المشتركة بين أدبيات الاقتصاد الإسلامي. فجملة الكتابات تنطلق من الإطار العام لعلم الاقتصاد وتحديداً الكلاسيكي منه لتتدرج إلى تحليل الاقتصاد الإسلامي مصطلحاًومفهوماً (9) .
1ـ هاجس العلمية
تحمل التسمية دلالات واضحة ومباشرة من حيث الغاية المنشودة. فالاقتصاد الإسلامي يعني تنزيل النشاط الاقتصادي ـ من ناحية نظرية وواقعية ـ على أسس إسلامية. غير إن إشكالية المدخل يتم تجاوزها من خلال طرح الاقتصاد الإسلامي ايبستيمولوجيا عبر خطوة أولية تتم فيها مقاربته بالاقتصاد الغربي على مستوى الموضوع من ناحية, والحقل السلوكي الذي يختص به ناحية أخرى. هذه الخطوة المنهجية الأولى تفترض أن علم الاقتصاد له حدود خاصة يمكن رسمها بوضوح في مستوى السلوك الإنساني. وفي هذا الزعم خلط واضح بين النشاط الاقتصادي الإنساني من جهة, وعلم الاقتصاد كرؤية معرفية غربية من جهة أخرى.
لقد صاحب النشاط الاقتصادي الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض, وعليه فهو يدخل في طبيعته الاجتماعية التي تفترض حلولاً لمشاكل الجوع والعطش والعراء, الخ. في المقابل يرتبط «علم الاقتصاد» بمشروع مجتمعي وبالتالي بنسق معرفي محدد. إن خصوصية الدائرة الاقتصادية عبر سياقها التاريخي داخل الاجتماع الغربي تجعل من تحجيم دور الاقتصاد إلى دوائر ذات حدود سلوكية ونفسية منفصلة عن بقية مكونات الاجتماع الإنساني (إنتاج, استهلاك, توزيع) أمراً نسبياً يخلو من أي قدرة منهجية تعميمية. فالاقتصاد الغربي طوّع منذ نشأة المنظومة الغربية باقي الدوائر الاجتماعية, وأعطى في نهاية المطاف الركيزة الفلسفية للمجتمع الحداثي. وعليه فإن «الإنسان الاقتصادي» لايتمثل فقط في لحظة زمنية (اقتصادية) فيظهر في الاستهلاك أو الانتاج أو التوزيع ثم يختفي في باقي الدوائر ليتحول إلى كائن اجتماعي متخل عن نفعيته وماديته ورؤيته الوسائلية للعلاقات والأفراد. ولئن يتميز الاقتصاد الغربي بوحدة منهجية ثابتة(عبر النفعية والتصور المادي للإنسان) فإنّ الاقتصاد الإسلامي يتجادل بين أسلوب الجمع بين «المادة والروح»ـ على اعتبار أنه التصور الإسلامي للإنسان ـ والارتماء في أحضان التصور الاقتصادي الغربي في العديد من القضايا الاقتصادية بحجة تقسيم الاقتصاد إلى قسم قيمي وقسم وصفي «محايد» (10) .
أدى ربط تناول الاقتصاد الإسلامي عبر الاقتصاد الغربي إلى تحديد موضوعات البحث. فالنقاش حول العملية أصبحت من أولويات المنهجية الإسلامية في تناول النشاط الاقتصادي. حيث دأب أغلب الاقتصاديين الإسلاميين على نقد صفة العلمية, وإبراز عدم توفرها في الاقتصاد الغربي. من ناحية المنهج التحليلي يختزن هذا التوجه مفارقة واضحة, حيث يتجه من ناحية إلى الإقرار الضمني بأن العلمية بمفهومها الغربي توفر عنصر الصحة أو الحقيقة, وان المنهج التجريبي (محور هذا العلم) ضمانة قوية لصحة النتائج المعرفية وقبولها ولهذا السبب يقع التشديد على أن الاقتصاد الغربي حمال قيم بطبعه وليس له الحق في أن يوصف بالعلمي. ومن ناحية أخرى يقع التركيز على أن قيمية الاقتصاد الإسلامي هي التي تفرده عن الاقتصاديات الأخرى. تنتهي هذه المفارقات إلى جملة من النتائج المحيّرة ولعل أهمها حصر شرعية الحديث عن الاقتصاد الإسلامي في نطاق ضيق تحدده لاعلمية الفكر الاقتصادي الغربي. لهذا تمثل عملية رفع العلمية عن الاقتصاد المدخل الرئيسي الغالب في أدبيات الاقتصاد الإسلامي. فالحديث عن انتماء الاقتصاد الإسلامي إلى التخصصات الإنسانية يمر عن طريق نفي الصفة العلمية عنه (أو على الأقل عن جانبه المنهجي) عبر إثبات جانبه القيمي. وتتم هذه الخطوة على مستويين:
الأول: يخص ما ذكرناه حول إخراج الاقتصاد كما تشكل في التجربة الاقتصادية الغربية ووضعه في بوتقة واضحة المعالم لاتتأثر ولاتؤثر ويمكن بالتالي عزلها عن باقي المنظومة الرأسمالية والتعامل معها على أساس تنقيتها من الشوائب (أي ما يتعارض مع الشرع). المستوى الثاني يطال مفهوم العلم. فعلمية الاقتصاد (أو عدمها) تنطلق ضمنياً عند العديد من اخصائي الاقتصاد الإسلامي من المفهوم المستقى من التجربة الإسلامية من حيث أنه «الإدراك الجازم الثابت المطابق للواقع عن دليل» (11) . لتصل في نهاية المطاف إلى استعماله بالمفهوم الذي درج عليه علم الاقتصاد الغربي. وإن كان مفهوم العلم داخل النموذج التاريخي الإسلامي يحتضن التجربة كإحدى أدوات المعرفة, فإن العلم كما نشأ وتطور في الفلسفة الغربية ينفي كل حقيقة لاتتأتى من التجربة الحسية بحكم أن الحقائق العلمية هي في التفكير الغربي حقائق موضوعية وليست مسائل نظرية. نحن إذاً أمام مفهومين مختلفين للعلم حيث أدى الخلط بينهما إلى إعطاء صورة مغايرة لما هو الاقتصاد الغربي من حيث اجتثاثه من بنائه المعرفي, ومن تاريخانيته وتقديمه في صورة أجزاء يمكن فصلها والتعامل معها بشكل منفرد. لهذا لجأ أخصائيو الاقتصاد الإسلامي إلى تقسيم الاقتصاد الغربي بين قسم علمي يمتاز بالحيادية والموضوعية, وقسم قيمي تتأكد فيه الذاتية. ومن خلال هذا التقسيم تحديداً تنتج الصلة بين الاقتصاد الغربي والاقتصاد الإسلامي والتي تقوم على أساس استبعاد المقولات والمسلمات القيمية التي يتفرد بها الاقتصاد الحديث, والتي ليس لها أساس إسلامي في اتجاه تعديلها وتصحيحها وذلك بإبدال مقولات قيمية تتناسب والشرع (12) .
يطمح التقسيم السالف إلى تأكيد وجود اقتصاد إسلامي على أنقاض اللاعلمية. لهذا تنسحب إسلامية الاقتصاد أساساً على مجموع القيم التي تتضمنها النصوص الشرعية في القرآن والسنة. ويبقي «علم الاقتصاد الحيادي» منطقة مشتركة بين الاقتصاد الإسلامي والغربي. سوف نجد أصداء هذا التقسيم بشكل مبكر عند السيد محمد باقر الصدر الذي يحدد كجزء من مكونات الاقتصاد الإسلامي الذي يهتم بدراسة الأحداث الاقتصادية في مجتمع ما لاكتشاف القوانين العامة التي تتحكم فيه (13) . وطبقاًلهذا التعريف يعنى علم الاقتصاد الإسلامي بدراسة الأحداث في مجتمع يطبِّق النظام الإسلامي, وعلم الاقتصاد الغربي بدراسة الأحداث في مجتمع تسوده السلوكيات الغربية. ان العلم هنا يعني مجموعة وسائل موضوعية (طرق الاقتصاد القياسي مثلاً) في مقابل النظام (أو المذهب) الذي يضم الفلسفة الاقتصادية التي لاتعنى بتفسير الحياة الاقتصادية, بل بالدعوة إلى تفسيرها وفقاً للإسلام. وإن كان التقسيم الذي أورده السيد الصدر منذ الخمسينيات يمثل شكلاً متطوراً اتبعه معظم الاقتصاديين الإسلاميين للخروج بمفهوم الاقتصاد الإسلامي من بوتقة فقه المعاملات إلى التخصص الاجتماعي, إلا أنه انتهى مع المحاولات التي تلته إلى سحب غير مقنع لأساسيات مرجعية تابعة للاقتصاد الغربي.
الاقتصاد الإسلامي حسب تعريف الزرقاء (14) قسم يغلب عليه الطابع القيمي, ويعنى بما يجب أن تكون عليه الحياة الاقتصادية وفق الإسلام. ويختزل آخرون المفهوم في تعريفات أكثر غموضاً عبر ضم القسمين ليعرف الاقتصاد الإسلامي «بالعلم الذي يبحث في الظواهر الاقتصادية في مجتمع إسلامي» (15) . هذا النوع من التعريف يستعمل العلم في المعنيين المشار إليهما آنفاً.فلفظة العلم تتوجه من ناحية إلى «علم الوسائل» (الاقتصادية التقنية)«إنه [الاقتصاد] علم وسائل استخدام الإنسان لما استخلف فيه لسد حاجيات الفرد والمجتمع الدنيوية طبقاً لمنهج شرعي محدد» (16) . ومن ناحية أخرى يشمل «الإدراك والتعرف على الأصول والقواعد الحاكمة» كما عرفه الأزميري في حاشيته.
إن عملية الضم والجمع بين مفهومين مغايرين للعلم تتم بشكل سلمي يوحي بسلامة التركيبة ووضوحها غير أن المتفحص في التجربتين الإسلامية والغربية يلاحظ أنهما قدمتا نموذجين مختلفين للعلاقة بالعالم الحسي. فإن كانت الأولى قد احتضنت التجربة كإحدى عناصر الإدراك ثم تعثرت بعد ذلك فإن الثانية سحبت العلوم التجريبية على الحياة البشرية وسوت المادة بالإنسان, وأخرجت كل بعد لاكمي من اعتبارات العلم. إن ضمن هذه إلى تلك ينطوي على صمت لامبرر له وانتقاء منهجي غير واضح. فقضية المنطق العلمي (فلسفة البحث العلمي), ومكانتها في البناء المعرفي تمثل حجر الزاوية في النقاش الدائر ليس فقط داخل النسق الحداثي بل وفي كل طرح مضاد أو مغاير. حيث لايزال التصور السائد للعلم التحليلي التفسيري تجريبياً بالأساس ومرتبطاًفي معناه هذا بتطوير التقنيات والوسائل التجريبية, والسعي إلى إعطاء التجربة المادية الأسبقية على أي عنصر قيمي ذاتي. وإن كان هذا العلم يقر بأنه لايستطيع النفاذ إلى كل الواقع في لحظة تاريخية معينة, فإنه يقر في نفس الوقت بأن هذا العجز مسألة وقت وان التراكم التاريخي للعلم (حتى بالتقسيم البراديمي لـ Kuhn) قادر على سبر أغوار واسرار الإنسان وإعطاء كل الإجابات الشافية لكل التساؤلات. إن عملية الإقصاء للأبعاد اللامادية للإنسان التي يمارسها العلم التحليلي التفسيري ليست ظرفية تتم فقط في حدود المخبر لتنزوي خارجها تاركة المجال لعناصر ذات طبيعة مخالفة. إن الجانب المذهبي للاقتصاد الشامل «للإدراك والتعرف على الأصول والقواعد الحاكمة» لايستطيع الإفلات من هيمنة التجربة لأن الصياغة الحالية للمعرفة تتحرك من خلال سقف له حدوده المنهجية وضوابطه التحليلية, وعليه يكون التحرك داخل هذا السقف ـ حتى وإن تم بشكل يظهر المغايرة ـ فإنه سرعان مايبطن التقليد والمقاربة في أحسن الأحوال.
2ـ العقلية التشطيرية
لعل الإجابة الوحيدة المقنعة التي تقدمها التعريفات الخاصة بالاقتصاد الإسلامي تخص الاستعدادات الكامنة في الأسس الفكرية الإسلامية لقيام نظرية اقتصادية متفردة. أما في ما يخص النظرية في حد ذاتها وتميزها وعلاقتها بباقي دوائر الاجتماع ونوع التركيبة المعرفية التي يفهم فيها مستوي وحجم النشاط ومن ثم السلوك الاقتصادي فهذه أسئلة لاتزال بحادة إلى تفسير وتمحيص.
إن عدم التصديق لهذه التساؤلات أوجد حالة من التفتت في معالجة موضوعات الاقتصاد الإسلامي ويبدو هذا واضحاً من خلال تعريفات الاقتصاد الإسلامي في حد ذاتها. ففي ظل غياب الناظم المعرفي الموحد يصبح الاقتصاد الإسلامي, المعرف «بالعلم الذي يبحث في الظواهر الاقتصادية في مجتمع مسلم», جملة من موضوعات اقتصادية متناثرة لاتجمعها فلسفة متكاملة ولا تنتمي إلى رؤية اقتصادية كلية, وإن كان لها علاقة ما مع النشاط الاقتصادي. ويمكننا القول بالتالي بأن محصلة أدبيات الاقتصاد الإسلامي لاتزال, وباعتراف أخصائييه (17) , منحصرة في قضايا تجزيئية تتناول بشكل مستقل مواضيع تنتمي إلى النشاط الاقتصادي.
نتيجه لهذا الخلل المنهجي يصبح الاقتصاد الإسلامي (كنموذج تحليلي) مجموعة نظريات تستقي كل واحدة منها منطقها وتماسكها الذاتي من خلال تعريضها بشكل فتوى لنصوص شرعية. فنظريات التوزيع, والدولة, والعمل, والعدالة الاجتماعية, والاستهلاك, والانتاج, الخ. تمثل في ذهنية عارضيها أجزاء من نظرية كبرى يطلق عليها «الاقتصاد الإسلامي» غير أن التركيبة المعرفية للنظرية الأم في حد ذاتها لاتزال غامضة المعالم. لهذا تقفز «النظريات» الواحدة تلو الأخرى دون كثير من التشابك والتجانس إلى حد أنه يمكن التعامل مع بعض الأجزاء كل على حدة دون عناء كبير. افتتحت بعض البنوك الغربية أقساماً لاربوية من جملة معاملاتها المادية, وبقطع النظر عن الأسباب النفعية وراء إدخال هذه العمليات في بنوك ربوية (18) , فإن لهذا المثال أهمية قصوى في إبراز نتائج المنهجية التجزيئية التي تجعل من الاقتصاد الإسلامي مجرد مواضيع يمكن التعامل معها بشكل منفرد دون الإخلال بنسقها العام.
في هذا الاتجاه يقع تناول قضية الربا. فيقدَّمُ الاقتصاد الإسلامي على أنه اقتصاد لا ربوي حيث يعطي المفهوم الإصطلاحي (الزيادة والنماء) فالشرعي (كل زيادة مرتبطة بدين) ثم نوعيه (ربا الفضل وربا النسيئة) وأخيراًيقع شرح آثاره السلبية على الاقتصاد القومي (يقلص الاستثمار, يساهم في زيادة التضخم, يزيد من الحيف الاجتماعي, الخ).
يبرز مثال تناول الربا عبر تسلسله قضية منهجية في غاية الأهمية والخطورة تخص منهجية التعامل مع القرآن والسنة التي تتعدى الاقتصاديين لتشمل تعامل العقل المسلم مع مصادر التشريع. ترتكز السمة العامة لهذه القضية الخطيرة على تصور انفصال القرآن عن السنة وغياب البعد التبييني لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فالسنة مبينة لكتاب الله تدور معه حيث دار. وعليه فإن الأساس المنهجي يقتضي عدم انفصال البيان عن المبين. إلا أن التجربة التاريخية لتعامل العقل المسلم مع المصدرين طورت تقنيات هائلة للانفصال وتساوت إطلاقية القرآن مع صحة الحديث إلى حد تصور أن السنة يمكن أن تضيف على الكتاب خارج دائرة البيان. لقد انفك ارتباط السنة بالقرآن وولّد في نهاية المطاف قراءة مجزئة مستقلة لكلا المصدرين, وعليه وقع التعامل مع السنة بنفس الأسلوب التجزيئي الذي وقع التعامل به مع القرآن الذي غابت وحدته البنائية لصالح قراءة منشطرة. لقد تولد عن هذا قضية منهجية ثانية تخص مستوى اتباع السنة النبوية المطهرة على شاكلة أجزاء متفرقة, باباً باباً وحديثاًحديثاً.
على هذه الأرضية المنهجية يقف الاقتصاد الإسلامي. ففي مثال الربا لايستطيع الاقتصاديون الإسلاميون إلا تبيين الفروق النوعية بين ربا الفضل وربا النسيئة عارضين الأحاديث المتعددة التي تخص النوعين دون استشعار بحد كاف لنوع العملية الذهنية المؤسسة لمنهج ونظام اقتصادي مستجيب لاحتياجات الزمان والمكان. إن التعامل مع القرآن بشكل مجزء أدى إلى غياب هذا الهاجس وهذا الاستشعار. فرغم معارضة الاقتصاديين الإسلاميين لمساواة اختصاصهم بفقه المعاملات فإن العقلية المفرقة بين الكتاب والسنة ما تزال مؤثرة وفاعلة في عملية بناء النموذج (الاقتصاد الإسلامي) وتفسر إلى حد كبير غياب استشعار وحدة بنائية ترد الجزئي للكل والقلة للكثرة.
إن التركيز على ربا الفضل عند الاقتصاديين الإسلاميين بشكل عام ينخرط في هذا التوجه التجزيئي ويحمل في طياته طغيان العقلية التشطيرية التي تنتهي عند حد التأكيد بوجود ربا قرآن وربا سنة (19) , رغم أن مهمة الاقتصادي الإسلامي تتعدى مستوى التشريع لربا الفضل لتبحث عن الأساس القرآني الإطلاقي لتحريم الربا. ولايمكن هذا إلا بقراءة قرآنية للأحاديث تسمح برد هذه الأخيرة إلى السياق الإطلاقي القرآني مع استحضار تام لحدودها المعرفية المتعلقة بالوضع الثقافي والاجتماعي لعصر الرسول «ص». يصبح التقسيم بين ربا الفضل وربا النسيئة(على سبيل المثال) غير ذي بال مقارنة بالجهد العقلي لفهم أحاديث الربا عبر منهجية تجرد ما يتم التأسي به لاستنباط حجم وموقع ودور الربا في بناء اقتصادي متكامل مع وحدة معرفية متصلة بالاجتماع الإسلامي في كليته.
تعد الحركة الاقتصادية في المجتمعات الحديثة من أبلغ الأمثلة المدللة على السنة الإلهية المتمثلة في تغيير الواقع. فالأحداث الاقتصادية كثيرة ومتجددة والوقائع اليومية تطرح سيلاً من المعاملات لاتتناسب البتة والواقع القديم. وليس غريباً على الحركة الفكرية التي انطلقت من التعامل مع كتاب الله وسنة نبيه أن تجعل مكاناً لتغيير الواقع. فالأصوليون لم ينكروا تغير الأحكام المبنية على العرف والمصلحة بتغيير الأماكن والأزمنة والظروف, ونشأ علم مقاصد الشريعة في هذا الاتجاه.
إن ما أحدثته المنظومة الرأسمالية من تغيير في الاجتماع البشري يجعل من مقارنة مجتمعات ما قبل الرأسمالية بالحقبة الحداثية أمراً غير منطقي. لقد تفككت هياكل مجتمعات ما قبل الرأسمالية, وتباعدت الشقة بين الرؤية الأساسية للعالم الشاملة للوحي والنبوات من جهة, والرؤية المادية المنطلقة من النموذج الكمي التقني للإنسان من جهة أخرى. إن هيمنة هذه الأخيرة ولد هيمنة هياكلها وتحلل كل الكيانات الأخرى. إن التغيير الذي أحدثته هيمنة النموذج الاجتماعي الغربي تجاوز الجزئيات لينفذ خلال فترة زمنية قصيرة إلى عمق الاجتماعيات البشرية عبر طاقة هائلة من التذويب لكل المقومات الحضارية المخالفة لتركيبته.
ما هو تأثير الواقع في عملية بناء نموذج الاقتصاد الإسلامي؟
من البديهي القول بأن الواقع الذي نتعايش معه تهيمن عليه الآليات الرأسمالية ويقع بالتالي تحت ضغط المنظومة الحداثية كما نشأت وتشكلت في الغرب. وواقع شعوبنا الإسلامية لايخرج عن هذا السياق مع اختلافات في الأشكال لا في المضامين. غير أن المتتبع للأدبيات الاقتصادية الإسلامية يلاحظ هيمنة التعامل التشطيري مع الأسس الفكرية والواقعية للمنظومة الحداثية مما ولّد توجهاً يحاكيها في العديد من نواحيها, وأسّس في الأخير نموذجاً يعمل داخل حدودها. ويأتي التنظير للبنك كمثال حي على هذا التوجه.
تعتبر موازاة التطبيق للبحث الفكري من الجوانب الإيجابية في ظاهرة البنوك الإسلامية حيث أن المحاولات التطبيقية أدت إلى تبيان عيوب عملية ولدت بدورها الحاجة لحلها فكرياً. غير أن هذا المنحى الإيجابي حمل معه وجهاًسلبياًتمثل في حصر التحليل الاقتصادي في الجانب المصرفي رغم أن الاقتصاديين الإسلاميين يتفقون على أن النظام المصرفي لايمثل كل المنظومة الاقتصادية, ولايستطيع مهما كانت أهميته أن يكون نموذجاً اقتصادياً كلياً (20) . من الناحية الخلافية تنبع مشكلة البنوك الغربية حسب أدبيات الاقتصاد الإسلامي من تعاملها بالربا, والحل المنتهج يتمثل في بنك لايتعامل بالربا (لاربوي) أو ما اصطلح عليه بالبنك الإسلامي.
إن غياب التحليل الاقتصادي في الأدبيات الاقتصادية الإسلامية ـ بشقيه الكلي والجزئي ـ يبرر دائماً بعدم وجود أرضية واقعية تطبق من خلالها الأحكام الشرعية وتوفر الأرضية الخصبة لبروز سلوك متميز يعطي الاقتصادي الإسلامي فرصة «رصد الحوادث والسلوكيات في مجتمع مسلم». تأتي التجربة البنكية لترفع على الأقل جزءاًمن الحرج وتوفر حدوداً دنيا من التحليل الاقتصادي المنطلق من متغيرات واقعية. غير أن الموقف السياسي العربي والإسلامي لايتفاعل إيجابياً بشكل مطلق. فقليل جداً من الحكومات تجيز أسلمة جهازها المصرفي أما البقية الغالبة فإنها تتفاعل بدرجات مختلفة تغلب عليها سمة الجواز المقيد.
لذا كان على البنك الإسلامي أن يتفاعل شرعياً وواقعياً منذ البداية مع محيط اقتصادي معادٍ على الأقل لللاربوية حيث انعكس الصراع المتنامي بين الحكومات والحركات السياسية ذات الميول الإسلامية على علاقة البنوك الإسلامية بالواقع الاقتصادي, وذلك كنتيجة للحرج المتزايد للحكومات من الآثار السياسية للتجربة في حد ذاتها (21) . الشيء الذي انتهى إلى زيادة التضييق السياسي الرسمي لهامش الحرية المتاح سابقاً للبنوك الإسلامية. ففي أغلب الحالات وقع تقليص الامتيازات التي تحصلت عليها بعض هذه البنوك وتضاعفت بذلك جملة المصاعب القانونية, إضافة إلى التعقيدات الواقعية التي جعلت في نهاية المطاف فكرة تطوير البنك الإسلامي في حدودها الخاصة عملية محفوفة بالمخاطر. في ظل هذا التوتر تحولت العملية الفكرية في معظمها إلى سباق ولهاث لحل كل التعقيدات العملية التي يتعارض فيها الحكم الشرعي المجرد مع الواقع الرأسمالي الضاغط.
ليس غريباً أن تتقلص في هذه الحدود الفكرة الأساسية للبنوك الإسلامية من وسيط بين مستثمر ومودع, ومن فكرة المساهمة في عملية التنمية والعمران إلى مشروع يقترب في أغلب حالاته من قانون الشركات التجارية (22) . وحينما يتوجه نقد بعض الاقتصاديين لفكرة البنوك الإسلامية من ناحية أهمية عنصر المخاطرة في تقوية حذر المُدخرين وبالتالي في تقليل نسبة الادخار في هذه البنوك ينتهي تطبيق الحلول النظرية المقترحة عبر تنويع حافظة الاستثمارات ـسواء من ناحية آجال الاستحقاق أو من ناحية الممولين وقطاعات الأعمال ـإلى واقع مصرفي يتجه في أغلب عملياته إلى المرابحة (الوكالة بالشراء بأجر). وعليه يبتعد البنك الإسلامي عملياً عن دائرة الانتاج واهتمامات التنمية ليرتبط من ناحية بدائرة الاستهلاك فيعزز ورغم شرعية معاملاته, توجهاً استهلاكياً في مجتمع يدعو كل مافيه إلى التمتع المادي. ومن ناحية ثانية ينضم الجهاز المصرفي الإسلامي إلى تمويل التجارة الخارجية من خلال علاقات اقتصادية تتحكم فيها قوانين المنظمات الاقتصادية الدولية, مكرساً بذلك بشكل لا واعي التبعية بين بلدان المركز الرأسمالي ومحيطه العالم ثالثي. والنتيجة هي أن البنوك الإسلامية نشأت كمشروع في إطار تحكمه منظومة اقتصادية كبرى رأسمالية ربوية, وكفكرة في ظل منهجية تجزيئية ترى في معالجة موضوعات متفرقة ـ لاتتفق إلا في كونها تمت بصلة إلى تصنيفات الاقتصاد ـ مرحلة أولية للوصول إلى تكوين نظام اقتصادي إسلامي.
لقد ولّد التفاعل بين فهم البنك كإطار مؤسسي محايد (أجهزة مصرفية) من جهة والمنهجية التجزيئية المقسمة للنموذج إلى جملة موضوعات من جهة ثانية, أزمة ذات طابع عملي ومنهجي. فقد زاد من ناحية في ضغط الواقع على تجربة البنوك الإسلامية, وتباعدت من ناحية أخرى الشقة بين مختلف القضايا الاقتصادية المثارة, الشيء الذي ولد بدوره تشبثاً عفوياً بطريقة الموضوعات التي ما لبثت أن تثبتت كمنهجة غالبة.
في نفس النسق المنهجي تأتي مقاربة نظرية المنتج والمستهلك الخاصة بالتحليل الجزيئي (microeconomic analysis). فحسب رواد الاقتصاد الكلاسيكي يعظم المنتج ربحه ويعظم المستهلك منفعته عبر التقائهما في فضاء السوق. إنها أصداء فلسفة اللذة والألم التي ينطلق منها البناء الفلسفي للإنسان الاقتصادي الذي يتحرك من خلال دوائر محدودة ومضبوطة رياضياً. يتطرق العديد من الاقتصاديين الإسلاميين في كنف نفس التصور الرياضي بإضافة أحكام قيمية من شأنها أن تدلل على حضور «قيم الإسلام» وعليه فعوض أن يعظم المستهلك ربحه أو منفعته يعظم فلاحه. الإشكالية المنهجية هنا تخص استعمال الدوال التي وإن تبدو في صيغها الرياضية محايدة إلا أنها تحمل على مستوي بنائها وتشكلها تصوراً محدداً لمسلكية الإنسان, لاتستطيع المصطلحات حتى المستقاة من القرآن الكريم (الفلاح, الطيبات, الخ) إلا أن تكون في نهاية المطاف دخيلة على دوال خاصة بنظام اقتصادي له حدوده وخصوصياته التاريخية والمنهجية.
لقد انسحب هذا الانتقاء في التعامل مع النظام الرأسمالي على مستويات متعددة. ابتداء بتحديد مفهوم الاقتصاد الإسلامي في حد ذاته (من خلال فهم المشكلة الاقتصادية) ومروراً بنقد التصور الغربي للاقتصاد, ووصولاً إلى تحديد الموضوعات والإطار العام للنظرية الاقتصادية الإسلامية. لذا سوف نجد أصداء هذا التشطير في تناول مفهوم الاقتصاد الإسلامي.
فإذا تجاوزنا الحقل الذي تتلاقى حوله كل النظم والنظريات الاقتصادية من حيث اهتمامها بالنشاط الاقتصادي, واتجهنا إلى تحديد المهمة التي قام من أجلها علم الاقتصاد, سنجد إجابة موحدة لدى رواد الاقتصاد الغربي, الذين يقرون استناداًإلى الفلسفة النفعية بـ «وجود حاجات بشرية لامتناهية مقابل موارد محدودة» (23) , وعليه فإن مهمة علم الاقتصاد هي التصدي لمثل هذا الاختلال وإيجاد الحلول العملية الملائمة بين الحاجيات والموارد.
في المقابل نجد أن أدبيات الاقتصاد الإسلامي لاتمتلك تعريفاً موحداً للمشكلة الاقتصادية التي تبدو حيناً «حالة الفقر» (24) (رغم أن الفقر نتيجة وليس سبباً) وبالتالي يتصدى الاقتصاد الإسلامي لمعالجة مشكلة الفقر, وهي حيناً آخر ملتصقة تماماً بالتشخيص الكلاسيكي (25) (حاجات لامتناهية/ موارد نادرة) أو مقاربة له عبر معارضة بعض الأسس (كالحديث عن ندرة نسبية مقابل الندرة المطلقة للموارد) (26) .
ينعكس هذا الاختلاف في تحديد المشكلة الاقتصادي في مستوى بناء مفهوم الاقتصاد الإسلامي كاختصاص ـ علم ـ مذهب ـ نظام. لهذا تنتهج التعاريف انتقائية فكرية تخلط بين مرجعيات مختلفة تنتقل من خلالها بين التعريفات الاصطلاحية والتحديدات اللغوية للمصباح أو القاموس المحيط, وتحليلات من الاقتصاد الغربي, لتصل في الأخير إلى اسقاطات مجزئة في أغلبها للآيات القرآنية والأحاديث النبوية داخل أطر فكرية تتسم إما بالعمومية أو بمقاربة صريحة للبناء الاقتصادي الكلاسيكي.
لقد أدى الفهم (أو النقد) المجزأ للاقتصاد الغربي ـ عبر تقسيمه إلى جملة مسائل ـ إلى غياب حضور رؤية معرفية للفكر الغربي الشيء الذي انعكس على مستوى التعامل معه ليتحول في الأخير لا إلى منتج معرفة بل لمولد أدوات تماماًمثل أي مكنة نستطيع ان نأسلمها بمجرد كتابة آية على جنباتها (27) .
لتعريف «النظام الاقتصادي في الإسلام» يستعمل محمود الخالدي (28) أدوات منهجية مختلفة. فيقرن مصطلح النظام كما حدده جلال الدين السيوطي ومحمد عاطف البنا بمفهوم الاقتصاد كما جاء به الإغريق والفراد مارشال وبعض الأعلام الآخرين من الاقتصاديين الغربيين, ليضيف في الأخير مسحة قيمية عبر إدراج لفظة الإسلام.
تبين هذه العملية التركيبية بوضوح غياب مرجعية منهجية موحدة تعطي الأفكار تناسقها وتجعلها حلقات متكاملة في بناء فكري متفرد. لقد ولد التعامل الانتقائي مع الغرب تصوراً معيناً له. فهو يبدو وكأنه أجزاء متناثرة لاوحدة وتناسق واقعي وعملي يستند إلى قانون يضبط حركة الفكر فيه. من خلال هذا التصور تعاملت الأدبيات الإسلامية مع الاقتصاد الغربي كمرجعية «مختفية» قد لانراها ولكن نلحظ آثارها. لقد أدى هذا التوجه في أغلب الأحيان إلى مقاربة المنهجية الغربية في ما تنتجه من تصورات عبر إعادة إخراج أجزاء من مكونات الحضارة الإسلامية في اتجاه التأكيد على الاستعداد الكامنة فيها لإعطائها الحق في ولوج عالم العلم والحداثة.
في هذا السياق أيضاً دأب الاقتصاديون الإسلاميون عند استعراض الفكر الاقتصادي التراثي إلى إبراز السبق الذي أحرزه مفكرو الإسلام في التعرض إلى قضايا اقتصادية كشف عنها الاقتصاد الحديث. فتقارن على سبيل المثال نصوص أبي حامد الغزالي حول النقود بنظرية John Maynard Keynes, ويقع استجواب بقية الأعلام التراثيين (الشيباني, المقريزي, ابن سلام, يحيى ابن آدم القرشي, الخلال أبو بكر هارون, ابن خلدون.. الخ) من خلال ما يطرحه الاقتصاد الغربي من قضايا وأطروحات لتفضي في أغلبها إلى موافقات ومقاربات على شاكلة «اشتراكية الإسلام» و«ديمقراطية عمر».
تتلاقى هذه المنهجية في التعامل مع الغرب مع تفاعل الاقتصاد الإسلامي مع مصادر التشريع. فالتعامل مع القرآن الكريم والسنة النبوية يتم عادة عبر تحديد أبواب أو مسائل يتم من خلالها توزيع الآيات والأحاديث على موضوعات الاقتصاد المختلفة (الانتاج, الإستهلاك, التوزيع, الإسراف, الربا.. الخ) كل موضوع على حدة, لتصاغ في قالب الدوال الاقتصادية المختلفة على اعتبار أن الآيات والأحاديث تضيف بعداً قيمياً يفتقده أو يختلف معه الاقتصاد الغربي. كمثال على هذا تعوض الزكاة الضريبية عبر إدراجها في إطار نموذج تحليلي لتصبح إحدى متغيرات الدالة الاقتصادية بنسبة رياضية تراوح الـ 2.5% من الدخل الفردي. تهدف هذه العملية إلى انتزاع متغير اقتصادي «محايد» (الضريبة) بآخر يحمل سمات نوعية في اتجاه اضفاء صبغة قيمية للدالة. غير أن هذه العملية لاتغير من اتجاه الدالة أو النموذج التحليلي بل تبقي في نهاية المطاف على الدلالات المعرفية المصيغة لهيكل التحليل وتجعل من المتغيرات المضافة جملة أرقام وكميات حتى وإن حملت تسمية الزكاة.
بعد الإشارات السابقة يمكننا رد العناصر المكونة لما أسميناه بالإشكالية المنهجية للفكر الاقتصادي الإسلامي إلى ثلاث مستويات:
أـ أزمة على مستوى المنهج وذلك بتثبيت المنحى التشطيري عبر هيمنة تناول الاقتصاد الإسلامي بشكل مفتت, وغياب التوجه الفعلي لبناء نظرية كلية تسمح بلم عناصر النشاط الاقتصادي من خلال وحدة منهجية. ولقد فسر العديد من المهتمين هذا العائق عبر مسيرة الفكرة نفسها بحكم حداثة الاقتصاد الإسلامي «كاختصاص فكري» (29) من ناحية, وافتقاده إلى جزء هام من جانب تجريبي ميداني يمكن أن يعطيه دفعاً تنظيرياً قوياً من ناحية ثانية. غير أن هذه القضية تتجاوز «وجود واقع إسلامي» بمفهومه الفقهي لتصل إلى مستوى فهم التحديات على مستوى تحليلي أكبر. إن غياب البحث عن المنهجية الكلية أدى إلى غياب أفق متناسق مع المنحى العالمي للقرآن مما جعل الاقتصاد الإسلامي مشروعاً محلياً لايتقدم للعالم بل لجزء منه (واقع إسلامي تسوده أحكام الشريعة والقيم الإسلامية). وحتى في الإطار النظري لهذا الواقع يتعرض الاقتصاد الإسلامي إلى مجموعة ضغوط تحت تأثير حركة الجذب التي تمارسها الجوانب السياسية المحلية من جهة, وتمدد المنظومة الغربية من جهة أخرى, مما أدخل الاقتصاديين الإسلاميين في دوامة معقدة حول مطابقة سيل التحديات الواقعية للأحكام الشرعية. نتيجة لهذا انقلب المختص في العديد من الأحيان إلى «فقيه اقتصادي» تتمحور مهمته حول إيجاد حلول لقضايا تقنية معقدة يتشابك فيها ضغط الواقع مع إرادة التطهير الشرعي (30) .
ب ـ لم يبتعد الاقتصاديون الإسلاميون عن التحليل المعتمد في الأدبيات الإسلامية الأخرى, في بحث علاقة مصادر التشريع بالواقع المعاش والكون الأكبر. لقد تمت قراءة القرآن والكون على حساب وحدتهما. لذا لاتعني الشرعية في الاقتصاد الإسلامي رؤية كتاب الله من خلال وحدة نصه ولكن عبر التعامل معه كآيات متفرقة تهتم بالاستهلاك والإنتاج والتوزيع. أما في حالة المقاربات الواضحة فإن وحدة الآيات تستخلص من مرجعية خارجة عن النص ومتصلة بتناسق نظام معرفي آخر. في نفس السياق تجانب قراءة الكون في الأدبيات الاقتصادية الإسلامية البحث عن العلاقة التي تربط النشاط الاقتصادي بباقي النشاطات والسلوكيات البشرية ونوعية تداخلاتها من خلال رؤية معرفية متفردة, لتنتهي في غالبية تحاليلها إلى جملة من النشاطات المستقلة تتعايش بشكل غير متجانس مع سلوكيات سياسية واجتماعية أخرى.
ج ـ تتسم الأدبيات الاقتصادية الإسلامية بالعمومية المنهجية ونعني بها الاختزال الشديد لبعض القضايا الحاملة لخلفيات معرفية, وراء ستار الشعارات الكبيرة. فرغم إن الرؤية القرآنية تؤسس لإنسان متعدد الأبعاد ومتجاوز للمادة دون نفي لها, فإن التطرق لهذه المكونات (والنشاط الاقتصادي أحدها) يتسم بعمومية كبيرة مقابل التعمق والاختصاص اللامتناهي الذي يميز الفكر الاقتصادي الغربي. إننا نقف أمام نتيجة عكسية تحيل فكر البعد الواحد إلى حقل معرفي معمق إلى حد كبير ـ الشيء الذي يجعل من الصعب جداً على غير المختص التطرق إليه ـ بينما يتوجه الاقتصاد الإسلامي في صيغه الحالية إلى تثبيت العموميات والمقاربات ليقترن برفض الربا مثلاً ويصبح حالة من الحالات الرياضية للاقتصاد الغربي. لقد خلف تذويب الاقتصاد الإسلامي كلية داخل بوتقة تحريم الربا مثلاً إلى تعامل المؤسسات الغربية بشكل انتقائي ونفعي مع التصور الإسلامي الكلي حيث تعمد بعض المصارف الأوروبية إلى إحداث «أقسام لاربوية» لاستدرار عوائد مالية من زبائنها المسلمين الذين يتحاشون الربا, أفضت هذه العملياتýإلى اختزال التصور الإسلامي للاقتصاد وحصره في أحسن الأحوال في جزء من التصور الكلي.
لقد وقف التطرق للإشكال المنهجي في معالجة الاقتصاد عند الجيل الأول من أدبيات الاقتصاد الإسلامي. فأول الذين كتبوا من بعيد أو قريب في الاقتصاد الإسلامي تناولوا قضية المنهجية عبر محاولة تحديد الفوارق الجوهرية بين الاقتصاد الكلاسيكي والإسلامي وكثير منهم أدركوا بشكل مبكر بعض الفواصل الأساسية للتعامل مع الاقتصاد (31) إلا أن الاتجاه الذي ساد ـ ومازال ـ غلب عليه التعميم واستحثته الأحداث الاقتصادية وتتابعها الجنوني لينزوي في اتجاه حل جملة التعقيدات التي تطرح يومياً على المسلم في حياته العملية دون كثير من الاهتمام بالخلفيات المعرفية للنظرية في حد ذاتها تاركاً بذلك مجال التفكير في الاقتصاد الإسلامي كنظرية/ علم ليصبح أقرب إلى الفقيه الاقتصادي منه إلى المنظر (أو الأصول) الباحث في الأسس والقواعد. في هذا الاتجاه صعدت النماذج التطبيقية ممثلة أساساً في البنوك الإسلامية وكل المعاملات المصرفية التابعة (تأمين, اقتراض, عقود,..) لتستقطب جزءاً هاماًمن كتابات الاقتصاديين ولتزيد من فقر المكتبة الإسلامية ـ على الأقل في بابها الاقتصاديـ في التصور المنهجي والإمكانات النظرية للتعامل مع النشاط الاقتصادي.
إن المتتبع للأدبيات الإسلامية الاقتصادية يلاحظ الخلل العددي والكيفي في التطرق للباب المنهجي مما يشكل تهديداً جدياً لتطور الاقتصاد الإسلامي. فبرغم الدعوت للإهتمام بهذا الباب (32) , ورغم التفطن للنقص الحاصل فيه (33) , فإن ما تمتلكه المكتبة الإسلامية الحالية يؤكد على أن المسألة المنهجية تشكل إحدى أهم الأبعاد الغائبة في كتابة الاقتصاد الإسلامي.
أما من ناحية المهتمين القلائل بهذا الجانب فلعل النقد المنهجي الأساسي الذي يوجّهونه إلى الاقتصاد الغربي يتناول كما أسلفنا إشكالية العلمية الموضوعية التي ينادي بها الفكر الاقتصادي الغربي, والتي تعتبر أن جوهر نظرية الاقتصاد كما تشكلت من خلال التجربة التاريخية الأوروبية هي علمية موضوعية تتعامل مع القانون والتجربة بالشكل الذي تتعامل به المخابر مع الأجسام إلى حد نفي كل تدخل للقيم أو ما لايمكن قياسه كمياً. ورغم أهمية هذه الثغرة فإن التطرق الإسلامي لها يقترب من المقاربات أكثر منه إلى التفرد والإبداع. فمن جهة لاينفرد الاقتصاديون الإسلاميون بهذا النقد بل لم يكونوا وللحقيقة السباقين فيه بحكم أن الفكر الغربي منشغل في حد ذاته منذ خمسينات القرن العشرين بما يطلق عليه علماؤه بالأزمة المعرفية لهوية العلوم الاجتماعية والإنسانية (34) .
من ناحية ثانية, يتمسك أغلب الاقتصاديين المسلمين عادة بالنقد الموجه من طرف بعض الاقتصاديين الغربيين للاقتصاد. فمثلاً يشير النقوي حيدر إلى تنامي ظاهرة نقد «الاقتصاد الخالص من كل قيمة» (wertfrei) بين الاقتصاديين الغربيين أنفسهم (35) . ويستند آخرون إلى بعض مقولات اقتصاديين غربيين (36) المدافعين عن فكرة اشتمال الاقتصاد على جوانب قيمية. منهجياً لانرى مبرراً لتمسك الاقتصاديين الإسلاميين بهذا النقد خاصة وأن التدقيق في تطوراته (بين الاقتصاديين الغربيين) يفضي إلى أنه لم يسفر, باعتراف العديد منهم (37) , على تغييرات أساسية داخل الفكر الاقتصادي الغربي. وعليه فقد تكون التوجهات النقدية من خارج دوائر الاقتصاديين الواجهات الواعدة ـ نظريا ـ لمحاولات نقدية أكثر جرأة في اتجاه إعادة تفعيل العلاقات المتشابكة للعلوم بكافة أنواعها وإنهاء المنحى التشطيري في تصور هوية العلوم الإنسانية.
ومن المفيد الإشارة إلى أن نشأة هذه التيارات النقدية انطلقت أساساً من بين علماء الاجتماع الذين التحق بهم لفيف من الاقتصاديين وآخرون من اختصاصات مختلفة, مناهضة للتوجه العلمي البحت للاقتصاد ومؤكدة على أهمية إعادة الاعتبار إلى المستويات الاجتماعية والنفسية الأخرى في اتجاه تصور جديد لعلاقة متكاملة بين الاقتصاد والاختصاصات الإنسانية والاجتماعية (38) . حيث يرتكز هذا التوجه على نقد أهم المحاور التي تؤسس الخطاب النفعي (39) . وبقطع النظر عن التطورات التي قد تتيحها هذه الاتجاهات النقدية في مسيرة العلوم الإنسانية عامة والاقتصاد بصفة خاصة فإنها ساهمت على الأقل ولو بشكل محدود في إلقاء الضوء على إحدى أهم الأزمات التي تعصف بالفكر الغربي: السيطرة الكلية لفرضيات علم الاقتصاد في تشكيل العلوم الإنسانية عبر هيمنة البعد النفي الأناني (40) . من جهة أولى يمكن فهم الحاجة إلى القيم التي يدعو لها بعض الاقتصاديين الغربيين في إطار الفشل الذريع الذي منيت به النظريات الاقتصادية خاصة خارج العالم الأوروبي وليس غريباًأن يكون أهم رواد هذا المنحى النقدي الداخلي من المتخصصين في القضايا التنموية والمرتبطين بنماذج التنمية للعالم الثالث أو المهتمين بالشعوب والثقافات اللاغربية من علماء الأناسة والأعراق.
غير أنه لابد من التنبيه إلى أن رواد هذه الاتجاهات لم يمسوا القضية الأم التي لاتزال تشكل القسم الثابت في الفكر الغربي وهي اعتبار الدين مجردýأيديولوجيا مرتبطة بالقسم الميتافيزيقي واعتبار الإنسان المادي السلطة المطلقة في انتاج المعرفة والتاريخ في ضوء هذا يتحدد نقد النفعية من طرف الاتجاهات الداعية للتكاملية بين العلوم الاجتماعية في إطار رد الاعتبار إلى سلطة الإنسان الذي حولته الهيمنة الاقتصادية إلى بعد واحد (41) , والتي حبسته المنظومة الحداثية في قفص حديدي (42) , حارمة إياه من الحرية ـ حجر الزاوية في فلسفة الأنوار ـ ومتجهة بالمشروع الحداثي إلى تيه العدمية والنزعات التفكيكية لما بعد الحداثة. ومن الواضح أن النقد الغربي للاقتصاد بحاجة هو الآخر إلى عملية فرز أو إلى ما يمكن تسميته بعملية «نقد النقد» حتى لانسقط في سهولة المقاربات والانتقائية.
في ضوء ما تقدم يمكن إدراج رصد المستوى المنهجي الذي يتحرك من خلاله الفكر الاقتصادي الإسلامي المعاصر كإحدى أولويات بنائه. ولقد حاولنا في هذاالبحث أن نشير إلى بعض الثغرات المنهجية في هذا البناء الفكري. ونعتبر أن سد هذه الثغرات أمر أساسي لقيام نموذج اقتصادي يمكن أن يفتح أمام شعوبنا الإسلامية طرقاً جديدة لكسر طوق التبعية ولإعادة تصور النشاط الاقتصادي بعيداً عن ضغط النموذج الحداثي, واقتراباً أكثر بالفطرة البشرية التي أودعها الله في خلقه. ولن يتم هذا في نظرنا المتواضع إلا بالإجابة على جملة من التساؤلات لعل أهمها: كيف يتعامل الاقتصاديون المسلمون مع هذا التخصص؟ ماهي حدود المدخل القيمي في تفرد الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي؟ ما هي الفوارق المنهجية التي تفصل الاقتصاد الإسلامي عن باقي الاختصاصات الإنسانية؟.
* خبير لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالكويت
(1) يمكن إطلاق هذه التسمية على جملة المحاولات التاريخية التي وإن تمت تحت شعارات مختلفة فإنها اتجهت في جوهرها إلى التعامل مع التطور الهائل للعلوم والمعارف الغربية انطلاقاً من زوايا الإسلام بداية من مشروع النهضة ومروراً بالسنوات الخمسين التي شهدت تحولات سياسية واجتماعية في كل الأقطار الإسلامية ثم وصولاً إلى الفترة الممتدة من السبعينات إلى حد الآن.
(2) نستعمل لفظة اقتصاد للإشارة إلى الدائرة الاقتصادية كما تشكلت في أوروبا القرن السابع عشر وما بعده وتطورت إلى ما سمته الأدبيات الاقتصادية بعلم الاقتصاد أو الاقتصاد الرأسمالي أو الكلاسيكي.. الخ. وسنجد تاريخية هذا المصطلح عبر التقسيم الذي أورده Michel Foucault والربط الذي حدده بين تاريخية الاقتصاد الكلاسيكي Economie classique ونشأة الأزمنة المعاصرة (Les temps modernes).
أنظر Les mots et les choses, une archeologie des sciences humaines, Paris, 1966.
(3) يمكن القول بأن أول المحاولات كانت تلك التي قام بها بعض الطلبة المسلمين في الهند الذين تلقوا تعليماً جامعياً في الجامعات البريطانية المحدثة بداية من السنوات الأربعين من القرن العشرين.
(4) صدرت المجموعة باللغة الانجليزية في طبعة أولى سنة 1981 بتقديم الأستاذ أحمد خورشيد.
Studies in Islamic Economics. Editions The Islamic Foundation, Leister. UK, 1981.
(5) توجه بعض الكتاب بالنقد لإسلامية الاقتصاد وانصبت محاولاتهم بالتالي على الجانب الايديولوجي بما يعنيه من نقد للدين في حد ذاته وللنظرة الميتافيزيقية عامة. وتناقش هذه الأطروحات إمكانية قيام نموذج اقتصادي «ديني» بحجة التصورات المثالية واللامادية للأديان. على سبيل المثال أنظر ما كتبه سمير أمين في La deconnexion (فك الترابط) في ما أسماه Leconomie fondamentaliste (الاقتصاد الأصولي). (Editions La Decouverte, Paris, 1986). كذلك يمكن إدراك ما كتبه T.Kuran في نفس الاتجاه حيث يركز الكاتب التركي من منطلق سياسوي بحت على الصلة القوية بين نشوء الاقتصاد الإسلامي وبروز الإسلام السياسي الحديث ويخلص إلى أن الاقتصاد الإسلامي سياسي بطبعه ويفتقر للتدليل النظري. أنظر (Kuran).
(6) إن ما فتحته كتابات Max Weber من آفاق في علم اجتماع الأديان يمثل منطلقاً أساسياً في هذا الباب ويعد «الاقتصاد والمجتمع» (Economie Et societe) الكتاب الشامل لأساسيات الفكر الفيبري وقد أفرد فيه كاتبه قسماً كبيراً من تحليل علاقة الأديان بالاقتصاد. ورغم عديد الاحترازات على التفكير الفيبري (تحديداً قضية محورية الرشدية الاقتصادية في تقسم الحضارات) فإنه يبقى من العلامات الفارقة في تفسير صيرورة النموذج الحداثي الغربي وإحدى المحطات الأساسية في علم الاجتماع الحديث.
(7) يعتمد نموذج هذه الكتابات على التأكيد بأصالة التفكير الإسلامي وقدرته على مسايرة العصر والتذكير بالفترات الذهبية للحضارة الإسلامية.
(8) لعبت التقسيمات الفقهية الدور الأساسي في تحديد هذه المواضيع فأبواب الزكاة والربا والعقود والتبذير والصدقة الخ, أصبحت هي نفسها مواضيع متفرقة للاقتصاد الإسلامي. كما تفرعت التجربة المصرفية عن مئات المواضيع الأخرى تتعلق أغلبها بالمعاملات الربوية وسبل إيجاد المخارج الشرعية لها.
(9) مثلاً يفسر عيسى عبده الأسباب المحيطة بكتابه «الاقتصاد الإسلامي, مدخل ومنهاج» فيقول: إنها مجموعة من دراسات هادفة إلى وضع الاقتصاد السياسي في الميزان. تمهيداً للدخول في المنهج العلمي المناسب لدراسة الاقتصاد الإسلامي.. ومن ثم كان الوزن القسط الاقتصاد السياسي جزءاً لاينفصل عن المدخل إلى دراسة الحضارة الإسلامية وبخاصة في فرعها المختص بما يكون به تماسك البدن والجنس.. أي في شؤون السلعة والطيبات والخدمة على ما هو مشهور في الدراسات الاقتصادية المعاصرة. (الكتاب الأول في المدخل, دار الاعتصام,القاهرة, 1974, صفحة 9).
(10) انظر: الزرقاء (محمد أنس): «تحقيق إسلامية علم الاقتصاد: المفهوم والمنهج», في Toward Islamization of Disciplines, International Institute for Islamic Thought, Herndon, Virginia, USA, 1989.
(11) لقد ورد العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة (انظر طه جابر العلواني تقديمه لكتاب العلم للإمام النسائي, دراسة وتحقيق الدكتور فاروق حمادة, المعهد العالمي للفكر الإسلامي, 1994, ص17).
(12) انظر مثلاً: الزرقاء (محمد أنس): «تحقيق إسلامية علم الاقتصاد: المفهوم والمنهج» مصدر سابق, صفحة 328
انظر كذلك: أحمد دنيا (شوقي): النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي, الطبعة الأولى, 1984.
(13) الصدر (السيد محمد باقر): اقتصادنا, الطبعة العشرون, دار التعارف للمطبوعات, بيروت, لبنان, صفحة 357.
(14) الزرقاء (محمد أنس): «تحقيق إسلامية علم الاقتصاد: المفهوم والمنهج», مصدر سبق ذكره, ص333ـ332.
(15) أحمد دنيا (شوقي): النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي...., مصدر سبق ذكره, ص16.
(16) الأمير (محمد فيصل): التعريف الإصطلاحي لعلم الاقتصاد الإسلامي, مطبوعات الاتحاد الدولي للبنوك, ص27.
انظر كذلك: محمد عبد المنان: الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق, المكتب المصري الحديث للطباعة.
أحمد صفي الدين عوض: أصول الاقتصاد الإسلامي, الرياض, دار الإرشاد.
(17) يكتب أنس الزرقاء قبل أكثر من عشر سنوات «لقد كان هناك كم هائل من الكتابات في الخمسة وعشرين سنة الماضية بالنسبة للأوجه الاقتصادية الواسعة للنظام الاقتصادي الإسلامي [..] وإن ما كتب في هذه الجوانب يعتبر كافياً, وأنه حان الوقت للتعمق في النظام الاقتصادي الإسلامي», «صياغة إسلامية لجوانب من عدالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك», في مجلة المسلم المعاصر, العدد 16, 1987.
(18) تعتبر العديد من الأصوات الإسلامية بأن هذه النتيجة مثال واضح على تطور الاقتصاد الإسلامي وتبيان لقوته النظرية. غير أنه يمكن تفسير نفس الأمر في الاتجاه المعاكس. فعبر هذا الأساس تحديداًاستطاعت آليات النظام الرأسمالي إيجاد مناطق إحتواء داخل هيكلتها العامة لكل المواضيع ذات الخصوصيات وأحالتها في العديد من الأحياء إلى مظاهر فلكلورية ينتفع منها تحت أشكال متعددة.
(19) على سبيل المثال يكتب الحسن داودي «واصل تحريم هذا النوع من الربا ورد في الحديث لا في القرآن والعبرة هنا في الحكم لا في المصدر» (المبررات الاقتصادية لتحريم الربا الجاهلي), في الاقتصاد الإسلامي, منشورات كلية الآداب, الرباط, سلسلة رقم 5, 1989, ص174.
(20) لعل تطور الاقتصاد الغربي نحو إعطاء الدور الريادي للقطاع المصرفي ـ وتحديداً رأس المال النقدي ـ في ما اصطلح عليه بالاقتصاد الرمزي virtual economy مع ما يمثله ذلك من تصور للعملية الاقتصادية المؤسسة على فلسفة الربح ودور الأموال في تحقيق ذلك.
(21) لعل أول الأمثلة هي التي تمت بشكل مبكر مع تجربة أحمد النجار في مصر الستينات وما لقيته من نجاح أولي مما حدا بالجهاز السياسي الناصري إلى احتوائها بشكل نهائي عبر إحداث بنك مصر.
(22) يعد صالح كامل الحائز على جائزة البنك الإسلامي للتنمية لسنة 1997, أحد أبرز العاملين في مجال المصارف الإسلامية, ولعل النقد الذي توجه به لتجربة البنوك الإسلامية يبين المشاكل الواقعية التي تواجهها وتحدد من نتائجها إلى حد كبير. «أقولها لكم بكل الصدق والتجرد إنني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أيدت اختيار نموذج البنك كإطار لتطبيق تعاليم الإسلام في مجال الاقتصاد والاستثمار [..] والسبب في ذلك يرجع إلى أننا لم نكتف باختيار اسم البنك فقط ولكن اخترنا كذلك مفهومه الأساسي وهو أنه وسيط مالي, وبالتالي لم نستطع أن نوجد لمؤسساتنا المالية مفهوماً ونمطاً يتجاوز مسألة الوساطة المالية, والذي حصل أن الصيغ المفضلة لدى البنوك الإسلامية أصبحت هجيناً بين القرض والاستثمار وهو هجين يحمل معظم سمات القرض الربوي وعيوب النظام الرأسمالي الغربي ويعجز عن إبراز معالم الاستثمار الإسلامي المبني على المخاطرة وعلى الاستثمار الحقيقي ولا يعترف بضمان رأس المال أو عائده». (من المحاضرة التي ألقاها البنك الإسلامي للتنمية يوم تكريمه, المنشور بجريدة المسلمون 21 نوفمبر 1997).
(23) يبقى تعريف Lord Robbinson محافظاً على شرعيته داخل الأدبيات الغربية رغم مرور أكثر من نصف قرن عليه.
(24) أنظر: القرضاوي, يوسف: الإسلام والمشكلة الاقتصادية, دار وهبة للنشر, القاهرة, 1957.
ـ عجوة, عاطف: «مفهوم التنمية الاقتصادية في الإسلام», في مجلة الإدارة والاقتصاد, عدد 12, جامعة الملك عبد العزيز, جدة, 1980.
ـ الفنجري شوقي: مشكلة الفقر وعلاجها في الإسلام,الانجلو مصرية,1987.
(25) على سبيل المثال أنظر: صخر, محمد: «الاقتصاد الإسلامي, المفهوم والمرتكزات», في, بحوث المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي, جدة, العربية السعودية, 1980.
(26) على سبيل المثال انظر: قحف, منذر: الاقتصاد الإسلامي, دار القلم, الكويت, 1979.
(27) لقد أدى التعامل الساذج للتجارب الإصلاحية التي في العالم العربي والإسلامي مع موضوعي العلم والتقنية إلى انزلاق خطير نحو تصور تبسيطي للخلفيات المعرفية الغربية أدت في نهاية المطاف إلى تسهيل إلحاق الهياكل الاجتماعية المحلية بنسق الرأسمالية العالمية.
(28) الخالدي, محمود: مفهوم الاقتصاد في الإسلام, مكتبة الرسالة الحديثة, عمان, 1986.
انظر كذلك: الهمشري, مصطفى: النظام الاقتصادي في الإسلام, دار العلوم للطباعة والنشر, الرياض, العربية السعودية, 1985.
(29) انعقد أول مؤتمر مختص سنة 1976.
(30) ينتقد صالح كامل المتفائلين جداًبتجربة البنوك الإسلامية المحتجين بعدم ربويتها فيقول: «والنتيجة التي وصلنا إليها.. أننا لم نتقدم في إبراز الخصائص الأساسية للعمل المصرفي والاستثماري الإسلامي والمعالم المتميزة له, واكتفينا بتطهير أعمالنا من الربا ولكن لم نتجاوز واقع وتأثيرات النظام المصرفي الربوي.. إن النقيض للربا ليس مجرد تجنبه, فالطهر من الربا هو إبطال الباطل.. وأعتقد جازماً أننا لو استمررنا في هذا الاتجاه فستفقد البنوك الإسلامية الأساس النظري والعملي لقيامها واستمرارها» (من المحاضرة التي ألقاها في البنك الإسلامي للتنمية يوم تكريمه, المنشور بجريدة المسلمون 21 نوفمبر 1997).
(31) على سبيل المثال نجد السيد باقر الصدر (اقتصادنا, مصدر سابق, صفحات 25ـ33, 357ـ405 وعيسى عبده: الاقتصاد الإسلامي, مدخل ومنهاج, الكتاب الأول في المدخل, مصدر سابق صفحات 21ـ27).
(32) أنظر مثلاً شوقي دنيا: النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي, مكتبة الخريجي, الرياض, 1404 هجري, ص49.
(33) يكتب زيد بن محمد الرماني «من أكبر الأخطاء التي تظهر من خلال مناهجنا في البحث والدراسة والتفكير أننا نحاول أن نضع نظاماً اقتصادياً لأنفسنا من خلال الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها الاقتصاد المعاصر الذي نشأ في ظل ظروف اجتماعية ونفسية واقتصادية أدت إليه, وقد نسمح لأنفسنا بإدخال تعديلات طفيفة على هذا النظام أو ترقيعه ظاهراً بما يقنعنا بشخصيته المستقلة, ولو تعمقنا قليلاً فيما طرحناه من بديل لوجدنا أننا قد أدخلنا تعديلاً على الشكل, واحتفظنا بالأسس التي يقوم عليها النظام, وتكون النتيجة هي عملية ترقيع لاتسمن ولاتغني من جوع» (خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام, دعوة الحق, كتاب شهري يصدر عن رابطة العالم الإسلامي, 1417هجري, السنة 15, العدد 175, ص14).
(34) Caille', Alain, Splendeurs et miseres des sciences socials, Libairie Dalloz, Pris, 1986.
(35) sayed Nawab Haider Naqvi, Ethics and Economics, an Islamic Synthesis, The Islamic Foundation, UK, 1981, p.40.
(36) من هؤلاء الكتاب على سبيل المثال: Ward Benjamin (1972), Myrdal Gunnar (1970)
(37) Frydman, George,«Le territoire de l'economie, marche et societe marchande» Revue Economique, France, no 1, 1992, pp.5-30.
(38) من أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه تأتي محاولات «جمعية دفع الاقتصاد الاجتماعي» (society for Advancement of Socio-Economics (MAUSS)) في أمريكا و«الحركة المناهضة للنفعية في العلوم الاجتماعية» (Mouvement Anti Utilitaire dans les Sciences Sociales) في فرنسا.
(39) تظل إعادة انتاج الخطاب الثقافي الغربي من الأهداف الأساسية لهذا التوجه. فهو كما يعبر عنه Caille مطلب مشترك بين كل العلوم الاجتماعية بما في ذلك العلوم الصحيحة (Caille, Alain, Splendeurs et miseres, op. cit, p.24). ويمكن حصر محاور النقد في 1ـ القطيعة بين الكفاءة العلمية والكفاءة الاجتماعية التي يتحول بمقتضاها الخطاب الشخصي إلى وهم إيديولوجي. 2ـ المنفعة كمحدود وحيد للحركة. 3ـ استهجان واستبعاد العناصر الوصفية في خطاب للشرائح الاجتماعية.
(40) نفس المصدر.
(41) Marcuse, Herbert: L'Homme Unidimentaionnel, Les Editions de Minuit, 1968.
(42) Weber, Max, Le savant et le politique, collection 10-18, Christian Bourgeois Editeur, Paris, 1990.