شعار الموقع

الثقافة والحضارة: قراءة في نظرية علي عزت بيجوفيتش

زكي الميلاد 2004-10-29
عدد القراءات « 766 »

ـ 1 ـ

الإسلام بين الشرق والغرب

من الممكن القول بأن الذين اطلعوا على كتاب >الإسلام بين الشرق والغرب< قد نظروا نظرة جيدة لمؤلفه علي عزت بيجوفيتش، الذي ظهر في هذا الكتاب بشخصية المفكر اللامع والملم بمنظومات الأفكار والفلسفات العالمية الكبرى، والناقد لها في الوقت نفسه بدراية ومعرفة. وكيف أنه تمكن من الثقافتين الإسلامية والأوروبية، ومن الديانتين الإسلامية والمسيحية. كما أنه صاحب فكرة ونظرية تنتمي إلى الفكر الديني، وإلى الفلسفة الإسلامية تحديداً. وتتصف نظريته بنزعة إنسانية وأخلاقية أصيلة وعميقة، تولي الاهتمام بصورة أساسية إلى الجانب الذي يطلق عليه بالجانب الجُواني أو الحياة الجُوانية. التسمية التي ارتبطت في وقت ما بالدكتور عثمان أمين، وظهرت في محاضراته التي ألقاها بجامعة القاهرة في خمسينات القرن العشرين، ونشر حولها كتاباً في بداية الستينات.
وقد التفت إلى هذه الملاحظة مترجم الكتاب محمد يوسف عدس، وأشار إلى هذا التشابه في هامش الكتاب، وأشار إلى أن هناك تطابقاً في المعنى بين ما يقصده بيجوفيتش، وما يراه عثمان أمين لمفهوم الجوانية.
ويختلف هذا الكتاب >الإسلام بين الشرق والغرب< عن الكتاب السابق عليه الذي حمل عنوان >الإعلان الإسلامي< الصادر عام 1981م، في أنه ليس كتاباً ينظر إلى الإسلام من الداخل، وإنما يحاول اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي.
ولهذا فإن الكتاب الأول هو خطاب إلى الذات متوجه إلى المسلمين والعالم الإسلامي، وهذا الكتاب هو خطاب إلى الآخر متوجه إلى العالم وثقافاته. الكتاب الأول يهدف إلى نهضة المسلمين وتجديد العالم الإسلامي، والثاني يهدف إلى الحديث عن الإسلام ناظراً إلى العالم، وأنه يمثل طريقاً ثالثة بين أيديولوجيات الشرق والغرب. ولأن الكتاب الأول متوجه إلى الذات لذلك فهو يخلو من المقارنات ونظم البراهين والاستدلالات التي اتصف بها الكتاب الثاني بوصفه متوجهاً إلى الآخر. لهذا فإن كلمة الكتاب الأول تختلف عن كلمة الكتاب الثاني. ومنطق التفكير في الكتاب الأول يختلف عن منطق التفكير في الكتاب الثاني. والطور الفكري الذي ينتمي إليه الكتاب الأول يختلف عن الطور الفكري الذي ينتمي إليه الكتاب الثاني. وهكذا من حيث طبيعة الرؤية إلى العالم، واتجاهات النظر إلى الثقافات والأفكار الدينية والإنسانية. لهذه الخلفيات فإن الكتاب الثاني يعد أكثر نضجاً وعمقاً ورحابة من الكتاب الأول.
من جهة أخرى فإن هذا الكتاب في أهميته وقيمته وعمقه يمكن أن يصنف على نسق من الكتابات الهامة والمتميزة، والتي حاولت أن تبرهن بكفاءة عالية على تميز الأفكار الإسلامية مقارنة بالأفكار الأوروبية الحديثة. وقد كانت لهذا النسق من الكتابات تأثيراته الفكرية خصوصاً في تكوينات النخب الفكرية والدينية. ومن هذه الكتابات التي تنتمي إلى القرن الماضي يأتي كتاب >تجديد التفكير الديني في الإسلام< للدكتور محمد إقبال، وكتاب >فلسفتنا< للسيد محمد باقر الصدر، وكتاب >الفكر الإسلامي مواجهة حضارية< للسيد محمد تقي المدرسي إلى جانب كتابات أخرى.
والحقيقة أن كتاب بيجوفيتش لا يقل أهمية عن تلك الكتابات، لكنه لم يكتسب شهرة كبيرة، وتداولاً واسعاً حتى بين المثقفين أنفسهم. وبالتالي لم يكن له من التأثير والامتداد المفترض بالشكل الذي يقارن مع تلك المؤلفات. ومتى ما عرف هذا الكتاب سيكون له من الأهمية والتأثير الواسعين؛ لأنه له هذه الطبيعة والقابلية على التأثير بحكم نزعته الإنسانية والأخلاقية، وتنوع علومه ومعارفه، وعمقه الفكري، وتجلياته المعنوية.
كما أن هذا الكتاب شديد الشبه بالمؤلفات التي تظهر تنوعاً في العلوم والمعارف، وكثافة في الحقائق والأفكار، وهو من هذه الناحية شديد الشبه تحديداً بكتاب المفكر الألماني أزوالد إشبنغلر >تدهور الغرب< الذي يتصف بتنوع وكثافة علومه ومعارفه. ولعل بيجوفيتش كان يقتفي أثر هذا الكتاب، أو هكذا كان يظهر لي، وسجلت ملاحظة في هذا الشأن، ولاحقاً عرفتُ أن بيجوفيتش التحق بمدرسة ثانوية في سراييفو كانت تتبنى منهجاً أكاديمياً على نمط المناهج الألمانية. وما يقرب هذه الملاحظة إلى الأذهان هو أن الأفكار الألمانية شهدت حضوراً وتداولاً وتأثيراً في مجتمعات الاتحاد اليوغسلافي السابق.
ومن هذه الجهة يُعدُّ كتاب بيجوفيتش ثرياً فهو يضم معارف في الفكر والفلسفة والدين والأخلاق والاجتماع والفن وغيرها، وقليلة هي المؤلفات الإسلامية التي تتجلى فيها هذه السمة. وهذا التنوع في المعارف كان يقصد توسيع آفاق الأفكار، وإحكام البراهين وتوثيق الاستدلالات، والكشف عن خبرة المؤلف واتساع معارفه، وإظهار العمل بالكفاءة والموثوقية. ويضفي عليه من جهة أخرى متعة القراءة، ويضاعف من أهميته وقيمته.
ومعظم الذين اطلعوا على هذا الكتاب توقفوا وتساءلوا عن رؤية بيجوفيتش لفكرة ومفهوم الثقافة. ووجدوا في هذا المفهوم ما يلفت النظر لكونه غريباً بعض الشيء عما هو سائد ومتداول من تعريفات وتحديدات لمفهوم الثقافة. وقد وجد هؤلاء أو بعضهم صعوبة في تفسير ما ذهب إليه بيجوفيتش لفكرة أو مفهوم الثقافة وطبيعة ما يقصده بصورة محددة. ولعل منشأ هذه الصعوبة أن بيجوفيتش لم يشرح كيف توصل لهذه الرؤية حول الثقافة، لكنه شرح السياق العام الذي تلتقي فيه هذه الرؤية وتتناغم معه. ومن خلال هذا السياق سنحاول تكوين الفهم لفكرته عن الثقافة.

ـ 2 ـ

الثقافة والحضارة

لقد ظهر بيجوفيتش في كتابه >الإسلام بين الشرق والغرب< بأنه صاحب رؤية أو فكرة حول الثقافة التي خصص لها فصلاً في كتابه، شرح فيه هذه الفكرة مقارنة بفكرة الحضارة. وتوسع في شرحها، وجعلها متصلة بمعارف وخبرات متعددة، خرج بها عن رتابة وجمود الدراسات التي تتناول هذا الموضوع، وعن التبعية والتقليد للنظريات والتصورات الغربية التي تكاد تهيمن، وتفرض هيمنتها على هذا المجال من الدراسات. مع ذلك لم تكتسب نظرية بيجوفيتش اهتماماً لافتاً من الكتّاب والباحثين المشتغلين بحقل الثقافة والدراسات الثقافية. ونادراً ما يتم التطرق إليها والحديث عنها والاحتكاك بها بصورة من الصور، نقداً أو تحليلاً أو توصيفاً أو غير ذلك. من هنا كانت أهمية الحديث عن نظرية بيجوفيتش في العلاقة بين الثقافة والحضارة.
ومنذ البداية ودون مقدمات منهجية أو معرفية حسم بيجوفيتش فكرته في تناقض وتعارض الثقافة والحضارة. وحدد لكل منهما مساراً تاريخياً ودينياً وأخلاقياً متباعداً ومتعارضاً باضطرار، وظل يركز ويرسخ هذا المعنى الذي ينتصر فيه إلى الثقافة انتصاراً نهائياً، وينتقد في المقابل وبشدّة فكرة الحضارة. وينطلق بيجوفيتش من موقف فلسفي له علاقة بطبيعة الرؤية إلى الإنسان والدين والحياة والكون، في تحديد تصور كلي ونهائي لكل من الثقافة والحضارة؛ لكي يقطع بينهما قطعاً نهائياً وجازماً. لهذا يحاول أن يرجع بهذه القضية إلى بداية ظهور الإنسان، أو بداية تشكل النظرة إلى الإنسان التي شهدت انقساماً وصفه بيجوفيتش بثنائية الأداة والعبادة. وهكذا حاول بيجوفيتش تصويره ومقاربته والنظر إليه من خلال هذه الثنائية. وحسب قوله: >هناك حقيقتان متعارضتان ارتبطتا بظهور الإنسان، هما الأداة الأولى والعبادة الأولى<، ويرى أن العبادة والأداة يمثلان طبيعتين وتاريخين للإنسان. تاريخ هو دراما إنسانية، تبدأ من المرحلة التمهيدية لوجود الإنسان في الجنة، ثم تتطور خلال انتصار فكرة الحرية، وتنتهي بيوم الحساب في الآخرة، وهي الوازع الأخلاقي للتاريخ. أما الثاني فهو تاريخ الأدوات أو تاريخ الأشياء الذي ينتهي بالدخول في المجتمع الطبقي، وقصور الطاقة، شأنه في ذلك شان بقية العالم المادي. هذان التاريخان لهما العلاقة نفسها التي بين العبادة والأداة، وهي العلاقة نفسها التي بين الثقافة والحضارة(1).
وبقدر ما تساهم هذه الرؤية في الكشف عن منطق الفهم والتحليل عند بيجوفيتش لفكرته عن الثقافة والحضارة، بقدر ما تساهم أيضاً في إضفاء الغموض على فكرته؛ لأنه لم يحدد على وجه الدقة علاقة الثقافة والحضارة بالعبادة والأداة.
ويتمم بيجوفيتش رؤيته الميتافيزيقية للثقافة حيث يربطها بعالم السماء، والمُثل العليا، في حين يربط الحضارة بعالم الأرض أو الطبيعة والعناصر المادية. فالثقافة عنده تُعنى >بعلاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها. وكل شيء في إطار الثقافة إما تأكيد أو رفض أو شك أو تأمل في ذكريات ذلك الأصل السماوي للإنسان. فالثقافة تتميز بهذا اللغز، وتستمر هكذا خلال الزمن في نضال مستمر لحل هذا اللغز<(2).
وأما الحضارة عنده فهي >استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، والتبادل المادي بين الإنسان والطبيعة. وهذا الجانب من الحياة يختلف عن الحيوان فقط في الدرجة والمستوى والتنظيم. ووظيفة الإنسان هنا أن يتعامل مع سلع الطبيعة ويغير العالم بعمله وفقاً لاحتياجاته<(3).
ومن المرحلة التمهيدية لوجود الإنسان في الجنة، إلى علاقة الإنسان بتلك السماء التي هبط منها، يتابع بيجوفيتش نسق الأطوار التي حددها بطريقة متدرجة، ويصل إلى الدين، ومن ثم إلى الإنسان، وإلى العالم الداخلي للإنسان. وفي كل هذه الأطوار يحاول بيجوفيتش أن يظهر الفوارق الفاصلة والمتباعدة بين الثقافة والحضارة.
ومن جهة العلاقة بالدين والإنسان، يقول بيجوفيتش: >الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان، أو تأثير الإنسان على نفسه. بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. الثقافة معناها الفن الذي يكون به الإنسان إنساناً، أما الحضارة فتعني فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة. والثقافة هي الخلق المستمر للذات، أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم. وهذا هو تضاد الإنسان والشيء، الإنسانية والشيئية<(4).
ومن جهة العلاقة بالعالم الداخلي للإنسان، أو بين الحياة البرانية والحياة الجوانية للإنسان، يرى بيجوفيتش أن >الحضارة في خلقها الدائم لضرورات جديدة، وقدرتها على فرض الحاجة على من لا حاجة له، تعزز التبادل المادي بين الإنسان والطبيعة، وتغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب حياته الجوانية، هذه سمة في جبلة الحضارة. أما الثقافة وفقاً لطبيعتها الدينية فتميل إلى التقليل من احتياجات الإنسان، أو الحد من درجة إشباعها، وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الجوانية للإنسان<(5).
ومن ثنائية الأداة والعبادة يصل بيجوفيتش إلى ثنائية أخرى يستند إليها في تأكيد الفوارق بين الثقافة والحضارة، وهي ثنائية التعليم والتأمل، حيث ينسب الحضارة إلى التعليم، وينسب الثقافة إلى التأمل. ويربط التعليم بالطبيعة، ويربط التأمل بجوانبه الإنسان. وحسب رأيه أن >الحضارة تعلم أما الثقافة فتنور، تحتاج الأولى إلى تعلم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمل<(6).
وحين يفرق بيجوفيتش بين التأمل والتعلم، يرى أن التأمل هو: >جهد جُواني للتعرف على الذات، وعلى مكان الإنسان في العالم. وهو نشاط جد مختلف عن التعلم، وعن التعليم وجمع المعلومات عن الحقائق وعلاقتها بعضها ببعض. ويؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة، وإلى نوع من التطهير الجواني<(7). وأما التعليم فإنه حسب نظره يواجه >الطبيعة لمعرفتها ولتغيير ظروف الوجود. ويطبق العلم الملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار. بينما يُعنى التأمل بالفهم الخالص... ويمنح التأمل قوة على النفس، أما العلم فإنه يعطي قوة على الطبيعة. وتعليمنا في المدارس يزكي فينا الحضارة، ولا يساهم بشيء في ثقافتنا<(8)، وهذا التعارض بين التأمل والتعليم يكرر نفسه في التعارض بين الإنسان والعالم، بين الروح والذكاء، وبين الحضارة والثقافة.
وقد ظل بيجوفيتش يتابع الحديث عن الفوارق بين الثقافة والحضارة، تأكيداً لهذه الفوارق، وانتصاراً لفكرة الثقافة. ومن هذه الفوارق ما يتجلى حسب تسميته يبن ثنائية التعليم التقني والتعليم الكلاسيكي. ويرى في التعليم التقني أنه يعتمد على الفكر، بينما يعتمد التعليم الكلاسيكي على الجانب الإنساني. وأن التعليم التقني موجه لغاية محددة بإحكام، واهتمامه منصب بالسيطرة على الطبيعة أو العالم الخارجي، أما التعليم الكلاسيكي فعلى العكس من ذلك؛ حيث يبدأ وينتهي عند الإنسان. لهذا يرى بيجوفيتش أن >معضلة التعليم التقني في مقابل التعليم الكلاسيكي ليست معضلة فنية، وإنما هي مسألة أيديولوجية تكمن وراءها فلسفة معينة. ففي هذين النوعين من التعليم ينعكس التضاد بين الثقافة والحضارة بكل ما يترتب عليه من نتائج<(9). وهكذا لم يتوقف بيجوفيتش عن كشف الفوارق بين الثقافة والحضارة، بالعودة إلى ثنائيات تنتمي إلى مجالات متعددة. فقد أشار إلى هذه الفوارق من خلال ثنائية الريف والمدينة، وثنائية الدين والثورة وغيرها من ثنائيات أخرى.

ـ 3 ـ

الثقافة والدين


إن الكشف عن العلاقة بين الثقافة والدين هو الذي يرفع الالتباس والغموض في نظرية بيجوفيتش عن العلاقة بين الثقافة والحضارة. ففكرته عن الثقافة أنها تتطابق مع الدين وتتماهى معه، أو أنها تتناغم مع الدين وتتوافق معه، أو أنها تنتصر إلى الدين وتدعو إليه. أو أن بيجوفيتش يريد من الحديث عن الثقافة الحديث عن الدين، أو أنه يريد أن ينتصر إلى الدين من خلال فكرة الثقافة، أو أنه يريد أن يرسخ فكرة العلاقة أو الاندماج بين الثقافة والدين، وجميع هذه التصورات ممكنة ولها أساس في نظرية بيجوفيتش حول الثقافة.
والعلاقة بين الثقافة والدين هي التي تفسر هذا الانتصار الشديد عند بيجوفيتش لفكرة الثقافة وانحيازه المطلق لها. مع ذلك لم يكشف بيجوفيتش عن هذه العلاقة بصورة واضحة، بحيث يكون من السهولة فهمها وإدراكها، ولم يقدم تفسيراً برهانياً يحدد من خلاله بشكل مقنع ومتماسك هذا النمط من العلاقة والارتباط الشديد بينهما. خصوصاً وأن هذه العلاقة ليست بذلك التلازم والوضوح في مجال الثقافة والدراسات الثقافية، ولا يمكن فهمها بسهولة بعدما شهدت هذه العلاقة تفككاً وتراجعاً حيث أصبحت الثقافة في اتجاه، والدين في اتجاه آخر، وتوقف الاهتمام بالحديث عن هذه العلاقة.
كما أن العلاقة التي يفترضها بيجوفيتش بين الحضارة والإلحاد، وبين الحضارة والطبيعة، والحضارة والمادية، والحضارة والشيئية هي التي تفسر موقفه من فكرة الحضارة، ونقده الجذري والصارم لها.
وقد ظل بيجوفيتش يلفت النظر باستمرار إلى هذه القضية قاطعاً ومتمسكاً بها، وأنها تمثل نظريته في هذا الكتاب، إذ يقول: >والنظرية هي أنه بحكم المنطق الداخلي للأشياء يتوازى كل من التطور والحضارة والعلم والطوبيا مع الإلحاد، بينما يتوازى الخلق والثقافة والفن والأخلاق مع الدين<(10).
وفصول الكتاب الستة التي تحدث فيها عن الثقافة والحضارة في القسم الأول من الكتاب يرى أنها تناقش موقف الدين والإلحاد من قضية أصل الإنسان، والقضايا الأخرى المتصلة بها. وهذا يعني أن المفهوم المعياري والقيمي عند بيجوفيتش هو مفهوم قائم على ثنائية الدين والإلحاد، الثنائية التي يفسر على أساسها، ويصدر من خلالها أحكامه على القضايا التي عالجها في مقدمات الفصول الستة لكتابه، وهي قضايا الخلق والتطور، الثقافة والحضارة، ظاهرة الفن، الأخلاق، الثقافة والتاريخ، الدراما والطوبيا.
وعلى أساس هذا المنطق يرى بيجوفيتش أن التناقض بين الثقافة والحضارة يقوم على تعارض أساسي بين الضمير والعقل، بين الوجود والطبيعة. وعلى المستوى العملي بين الدين والعلم. ولماذا العلم لأنه يرى أن الإلحاد يقر العلم والتقدم بسبب ينطوي عليه في جوهره -كما يقول- من إنكار للإنسان.
ويصل الموقف الصارم عند بيجوفيتش حين يرى أن كل ثقافة هي مؤمنة في جوهرها، وكل حضارة هي ملحدة. وقياساً على ذلك يرى أن العلم لا يؤدي إلى -الأبعاد- الإنسانية، وليس بينه وبين الثقافة من حيث المبدأ شيء مشترك، وأن الدين في حد ذاته لا يؤدي إلى التقدم(11). والتقدم يقصد به حسب شرح المترجم: التقدم المادي والتقني، وهذا ما يقصده الماديون والعلمانيون عندما يتحدثون عن التقدم، وهو ضد الإنسان ما دام منفصلاً عن شروطه الأخلاقية والدينية.
لهذا فإن مصدر القيمة في نظرية بيجوفيتش هي للدين لأنه الأقدر على فهم الإنسان، والانسجام مع فطرته، وقد جعل منه معياراً في النظر والتقويم. فحين ينتقد مجتمع المدنية والحياة الحضرية وذلك بلحاظ الموقف من الدين، ويرى أن الاحتجاج ضد المدنية والحياة الحضرية يأتي من الدين والثقافة والفن، ونسبة التدين تقل تبعاً لحجم المدنية، ويرجع هذا حسب تحليله إلى تركيز العوامل الحضارية التي تساعد على عزلة الإنسان. وبالنسبة لحجم المدنية يرى أن هناك علاقة عكسية بالتدين وعلاقة طردية بالجريمة. وفي إطار المناخ الروحي المختلف والخبرات المختلفة يفسر بيجوفيتش تدين إنسان القرية وقلة التدين عند إنسان المدنية، وليس على أساس الظروف المعيشية المختلفة، وتفاوت المستويات التعليمية. ويختتم بيجوفيتش كلامه في هذا الجانب برؤيته الفلسفية الكلية القائمة على ثنائية الدين والإلحاد، حيث يرى أن الدين ينتمي إلى الحياة والفن والثقافة، أما الإلحاد فينتمي حسب رأيه إلى التنظيم والعلم والحضارة(12). لهذا كان قاسياً في نقده لفكرة الحضارة التي يقول عنها: إنها أبعد من أن تمنح لحياتنا معنى، إنما هي في الحقيقة جزء من الهراء في وجودنا(13). وبعد أن يتحدث عن الظواهر المرضية أخلاقياً وتربوياً واجتماعياً في الحضارة الغربية، يعقب على ذلك بقوله: من الخطأ الفادح، ومن الظلم أن نستنتج أن تلك الظواهر المرضية خاصة بالحضارة الغربية، والحقيقة أنها تعبر عن الحضارة بحكم طبيعتها(14).
وفي هذا النطاق أيضاً يأتي دفاع بيجوفيتش عن مجتمعات ما قبل قيام الحضارات، وإعادة النظر والقيمة لأزمنة العصور الوسطى في أوروبا، أي ما قبل قيام الحضارة الحديثة فيها، وهي التي وصفتها الأدبيات الأوروبية المعاصرة بالعصور المظلمة. وخصص لهذا الشأن فصلاً اختار له عنوان >الثقافة والتاريخ< تحدث فيه باهتمام عما وصفه بالإنسانية الأولى، وانتقد فيه فكرة أن التاريخ يسير في خط مستقيم، وأن تطور العالم قد بدأ من الصفر. التصور الذي يترتب عليه -كما يقول بيجوفيتش- اعتقاد أن الحاضر دائماً هو شيء أكثر من الماضي، وأقل من المستقبل. ويعزو بيجوفيتش هذا الفهم للتاريخ عند الماديين والعقلانيين لأنهم ينظرون إلى التطور المادي للحياة الإنسانية، فهم بهذا الفهم معنيون بتاريخ الأشياء أو تاريخ المجتمع، لا بتاريخ الإنسان نفسه. وليس هذا تاريخ الثقافة الإنسانية في نظره، وإنما هو تاريخ الحضارة. أما تاريخ الإنسان أو تاريخ الثقافة كما يصفه لم يبدأ من الصفر، ولا يسير في خط صاعد مستقيم. فقد دخل الإنسان التاريخ برأس مال أخلاقي مبدئي هائل، لم يرثه من آبائه الحيوانات المزعومين. وحينما واجه العلم طبيعة المجتمعات الإنسانية في بساطتها وأصالتها، وفي ظروف كانت المجتمعات الإنسانية والحيوانية ما تزال متجاورة، عجز العلم عن تفسير هذه الطبيعة. ويرى بيجوفيتش أن رفض العلم للافتراض الديني هو الذي أعاقه عن فهم هذه الظاهرة(15).
وقد جمع بيجوفيتش العديد من الشهادات التي تمتدح المجتمعات الموسومة بالبدائية تارة، وبالبربرية تارة أخرى، لكونها تحتفظ بالفضائل الإنسانية والأخلاقية السامية حسب رأيه. كشهادة لويس مورجان في وصفه للعشائر القديمة التي يبدو -كما يقول بيجوفيتش- أنها كانت بمثابة الخلايا الأولى للمجتمعات قبل التاريخية في كل العالم، وكيف أنها كانت تظهر عليها خصائص أخلاقية عالية. وشهادة انجلز على ما ذكره مورجان نفسه. وينقل عن رالف والدو إمرسون الذي كتب يقول: >لقد رأيت الطبيعة الإنسانية في جميع صورها، أنها هي نفسها في كل مكان إلا أنه كلما كانت في طبيعتها العذراء اشتملت على فضائل أكثر<، وكلاماً أيضاً لخبير الدراسات الأفريقية الألماني ليوفرد بنيوس الذي يقول: >إن الأفارقة متحضرون حتى النخاع، وإن فكرة أنهم برابرة ليست سوى خيال أوروبي<.
وهنا يتساءل بيجوفيتش عن طبيعة القيم التي وجدت بين المجتمعات القديمة، ولم تظهر في بدايات التاريخ الأولى، وتتناقص كمياً مع التطور التاريخي(16). وحينما يصل إلى العصور الوسطى في أوروبا، يتساءل مرة أخرى: هل صحيح أن العصور الوسطى كانت حقاً عصور ظلام وتعاسة عامة؟ ويرى أنه وبمقياس الحضارة يمكن القول: العصور الوسطى عصور ظلام وتعاسة، أو كما قال عنها الفيلسوف الفرنسي كلود هلفتيوس: بأنها كانت فترة تحوَّل الناس فيها إلى حيوانات، وكانت القوانين فيها نموذجاً للسخف المنافي للعقل. وفي المقابل هناك من يرى عكس ذلك تماماً حسبما يرى بيجوفيتش فرغم سيادة الفقر والشقاء وسوء الأحوال الصحية، فإن مجتمعات العصور الوسطى كانت تتمتع بصحة باطنية، وكان هذا العصر عصر قوة الروح التي من دونها ما كنا لنفهم القوى والإلهامات التي حملت الإنسان الغربي إلى عصره الحديث. فقد أبدعت العصور الوسطى أعمالاً كبرى في الفن، وتحقق فيها ائتلاف مزج بين فلسفة عظيمة هي الفلسفة اليونانية، ودين عظيم هو المسيحية، ودون العصور الوسطى لم يكن العصر الحديث ليكون على الأقل بالشكل الذي عرف به لاحقاً. ولهذا فإن جميع ممثلي الثقافة -كما يذهب بيجوفيتش- يعتقدون بفشل الإنسان وهزيمته في الحضارة(17).

ـ 4 ـ

حكمة النظرية

لقد بات من الممكن تحديد الأفكار الأساسية التي شكلت منطلقات الرؤية عند بيجوفيتش في موقفه من الثقافة والحضارة. وتتحدد هذه الأفكار في أمرين أساسيين، الأمر الأول ويتصل بالموقف من الإنسان، والأمر الثاني ويتصل بالموقف من الأيديولوجيا.
في الأمر الأول يرى بيجوفيتش أن قضية أصل الإنسان هي حجز الزاوية لكل أفكار العالم، وأي مناقشة تدور حول كيف ينبغي أن يحيا الإنسان تأخذنا للوراء إلى حيث مسألة أصل الإنسان. وفي ذلك تتناقض الإجابات التي يقدمها كل من الدين والعلم. فالعلم كما يقول: ينظر إلى أصل الإنسان نتيجةً لعملية طويلة من التطور، ابتداء من أدنى أشكال الحياة، حيث لا يوجد تمييز واضح بين الإنسان والحيوان. لهذا تتحدد النظرة العلمية حسب تصوره إلى الكائن البشري بوصفه إنساناً ببعض الحقائق المادية الخارجية كالمشي قائماً، وصناعة الأدوات، والتواصل بواسطة لغة منطوقة. والإنسان حسب هذه الرؤية هو ابن الطبيعة، ويبقى دائماً جزءاً منها.
وعلى الجانب الأخر يتحدث الدين والفن عن خلق الإنسان، والخلق ليس عملية وإنما هو فعل إلهي، ليس شيئاً مستمراً وإنما فعل مفاجئ(18).
هذا الانقسام والتباين في موقف الدين والعلم هو ما يرمز إليه بيجوفيتش بالثقافة والحضارة. فالحضارة عنده هي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، والتبادل المادي بين الإنسان والطبيعة،... وأنها تمثل تطور القوى الكامنة التي وجدت في آبائنا الأوائل الذين كانوا أقل درجة في مراحل التطور(19). وهذا هو موقف العلم الذي أشار إليه.
أما الثقافة فهي عنده على العكس من ذلك فهي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان. وهذا الرأي يطابق رؤيته عن الدين، التطابق الذي يقول عنه: أما الثقافة وفقاً لطبيعتها الدينية فتميل إلى التقليل من احتياجات الإنسان، أو الحد من درجة إشباعها، وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الجوانية للإنسان(20).
وعن التطابق بين العلم والدين، الحضارة والثقافة يقول بيجوفيتش: إن الحضارة لا يمكن دحضها من داخلها، وإنما فقط من خارجها، أعني بواسطة الثقافة، ومن وجهة نظر الحضارة لا يستطيع العلم أن يتراجع نحو الدين، أو تتراجع الحضارة إلى الأسرة التقليدية، فالدائرة محكمة الإغلاق(21).
وأما الأمر الثاني والذي يتصل بالأيديولوجيا فإن بيجوفيتش يرى أن العالم الحديث يتميز بصدام أيديولوجي، ونحن جميعاً -كما يقول- متورطون فيه سواء كنا مساهمين أو ضحايا، وفي هذا الصدام الأيديولوجي يحاول بيجوفيتش أن ينتصر لموقف الإسلام. ولهذا يتساءل عن موقف الإسلام من هذا الصدام الذي يصفه بالهائل؟ وهل للإسلام دور في تشكيل هذا العالم المعاصر؟
ويعتقد بيجوفيتش أن جميع الأيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم، هي في التحليل النهائي يمكن إرجاعها إلى واحدة من ثلاث نظرات عالمية أساسية تعبر عن ثلاث وجهات نظر متكاملة حول العالم. هي حسب تقسيمه: النظرة الدينية، والنظرة المادية، والنظرة الإسلامية. وتعكس هذه النظرات إمكانات مبدئية هي الضمير والطبيعة والإنسان، ويقصد بهذه المسميات في صورتها الحقيقية: المسيحية والمادية والإسلام. فالنظرة الدينية المسيحية تأخذ نقطة بدايتها من وجود الروح، والنظرة المادية تأخذ نقطة بدايتها من وجود المادة، والنظرة الإسلامية تأخذ نقطة بدايتها من الوجود المتزامن للروح والمادة معاً. لهذا فإن الإسلام هو الصيغة الأسمى للإنسان.
في الأمر الأول الذي يتصل بالموقف من الإنسان حاول بيجوفيتش أن ينتصر لموقف الدين بصورة عامة، في مقابل موقف العلم والفلسفات والأيديولوجيات الغربية والاشتراكية، والذي عبر عنه بموقف الثقافة في مقابل موقف الحضارة.
وفي الأمر الثاني حاول بيجوفيتش أن ينتصر لموقف الإسلام في مقابل الديانات الأخرى. فهو حين يقسم كتابه >الإسلام بين الشرق والغرب< يقول عنه: إنه يشتمل على قسمين رئيسين، يحمل القسم الأول عنوان المقدمات ويتناول موضوع الدين بصورة عامة. أما القسم الثاني من الكتاب فإنه مخصص للإسلام. ويجعل المقدمات في القسم الأول لمناقشة الإلحاد والمادية، وموقف الدين والإلحاد من قضية أصل الإنسان، وما يتصل بهذه القضية من أمور أخرى. أما القسم الثاني فهو مكرس -حسب رأيه- إلى الإسلام لا لأنه مجرد دين أو طريقة حياة فقط، وإنما لأنه بصفة أساسية مبدأ تنظيم الكون الذي ينسجم فطرياً مع الإنسان.
هذا هو الإطار المعرفي العام الذي يشرح ويفسر ويعلل موقف بيجوفيتش المختلف والغريب بعض الشيء من مسألة الثقافة والحضارة، والذي يكاد يخرج عن النسق الفكري العام في تكوين المعرفة بهذه المسألة.

ـ 5 ـ

ملاحظات ونقد

ذلك كان عن النظرية من حيث إطارها المعرفي العام وحكمتها وأبعادها، وبقي الحديث عن قيمة هذه النظرية، وما يتوجه إليها من نقد وملاحظات. وذلك في النقاط التالية:
أولاً: لقد ساهمت نظرية بيجوفيتش بقدرٍ ما في تجاوز حالة الرتابة والجمود التي هيمنت منذ زمن طويل على دراسات مجال الثقافة والحضارة. المجال الذي لم يعد يشهد تقدماً وتجديداً وإبداعاً، والدراسات التي ترتبط بهذا المجال أصبحت تكرر نفسها، وتعيد إنتاج ما هو موجود، وتراوح مكانها بطريقة دائرية، وباتت معروفة ومفهومة من كثرة تداولها واجترارها.
وأول انطباع واجهني حين فكرت في هذا الموضوع، هو الحذر من الوقوع في تلك الرتابة، وذلك الجمود اللذين يجعلان الاقتراب من هذا الموضوع لا طائل ولا جدوى منه.
وتتضاعف هذه الملاحظة في الدراسات والكتابات العربية التي تستند بصورة أساسية إلى الأفكار والنظريات الغربية في هذا المجال. وهي الأفكار والنظريات التي تكاد تستحوذ كلياً على هذا الموضوع، وتحضى بالموثوقية مع أنها أصبحت قديمة وجامدة وباتت جزءاً من التاريخ.
فالدكتور حسين مؤنس ختم كتابه >الحضارة< بفصل حول الثقافة والحضارة ظل يحوم فيه حول ما هو سائد من أفكار ونظريات خصوصاً عند الغربيين. وتبنى رؤية إشبنجلر ويرى أنها تتطابق مع رؤية ابن خلدون. ولم يقدم شيئاً خلاقاً في هذا الشأن. وفكرته الأساسية هي أن الثقافة لها طبيعة محلية وذاتية، أما الحضارة فلها طبيعة عالمية وانتشارية، وهذه ليست فكرة جديدة على الإطلاق.
وهكذا الدكتور معن زيادة في كتابه >معالم على طريق تحديث الفكر العربي< الذي خصص فيه فصلاً عن ماهية الثقافة تحدث فيه عن العلاقة بين الثقافة والحضارة، حيث تتبع وجهات نظر الغربيين المعروفة في هذا الشأن دون أن يضيف رأياً بديعاً، وخلص إلى القول بأن تاريخ البشرية قد عرف عدداً من الحضارات وكثيراً من الثقافات، وهذا لا يعني حسب رأيه الفصل بين الثقافة والحضارة، أو إقامة أي تعارض بينهما. إنهما متداخلان دون أن يصلا إلى حد التساوي، وهما متمايزان دون أن يصل بهما ذلك إلى درجة التباعد(22).
ومن الدوافع التي جعلتني اعتني بنظرية بيجوفيتش أنها تتصف بالجدل والحركة وتخرج عن حالة الرتابة والجمود ولو نسبياً، وتحرض على النظر والمناقشة.
ثانياً: لقد أهمل بيجوفيتش بصورة كلية وتامة النظريات والأفكار التي تصنف على موضوع نظريته في الثقافة والحضارة الإهمال الذي لم يشرح بيجوفيتش ما يبرره، ولأن من غير المقنع أساساً عدم الاقتراب والتطرق إلى نظريات وأفكار هي من صلب الموضوع، ومن أساسياته المعرفية. لهذا فنحن نجهل حقيقة رؤيته وموقفه نقداً وتفسيراً، تحليلاً وتركيباً، توافقاً واختلافاً، تفضيلاً وترجيحاً، من تلك الأفكار والنظريات العديدة والمختلفة، والتي عكست خبرات تاريخ الحضارات وتراكمات تاريخ الثقافات. وما توصل إليه بيجوفيتش من رؤية أو فكرة أو نظرية لا يمكن أن تكون مكتملة، ووصفها بالنظرية ليس وصفاً علمياً دقيقاً مستجمعاً لشروط بناء النظرية حسب المعايير والضوابط العلمية.
كما أن هذا الإهمال ترتب عليه صعوبة معرفة مكانة وقيمة نظرية أو فكرة بيجوفيتش يبن أفكار ونظريات هذا الحقل، لأنها لم تنتظم به. ولم يتطرق بيجوفيتش إلى من يوافقه في نظريته أو يختلف معه، وأين تشترك مع النظريات الأخرى، وأين تفترق؟ وماذا أخذت منها؟ وماذا أضافت؟
وقصارى ما أشار إليه لفتة سريعة في بداية حديثه عن هذا الموضوع حين رأى أن هناك خلطاً غريباً بين فكرة الثقافة وفكرة الحضارة. دون أن يشرح معالجات الآخرين من مفكرين ومؤرخين وباحثين اجتماعيين وتاريخيين وأنثروبولوجيين لهذه القضية التي اشتغلوا عليها باهتمام، وقدموا حولها أفكاراً ونظريات تساوي بين الثقافة والحضارة تارة، وتقطع بينهما تارة أخرى. وتبحث عن العلاقة بينها فتجعل الثقافة جزءاً من الحضارة تارة، أو تجعل الحضارة جزءاً من الثقافة تارة أخرى. وهكذا تتعدد وتتباين الأفكار والنظريات. لذلك لم يكن من المبرر لبيجوفيتش إهمال هذه الأفكار والنظريات، خصوصاً وأنه ليس أول من تحدث عن هذه المسألة، ولا آخر من يتحدث عنها، ولا هو صاحب فصل الخطاب بشأنها.
ثالثاً: لا تمثل نظرية بيجوفيتش في نطاق الدراسات الإسلامية والفكر الإسلامي موضع اتفاق بين الباحثين والمفكرين في مجالات الثقافة والاجتماع والدراسات الحضارية. فهي نظرية حديثة ولم تعرف على نطاق واسع، ونصيبها من النقد والنقاش ما زال محدوداً على مستوى الدراسات الإسلامية. مع ذلك فهي تتباين مع بعض النظريات المتداولة في هذا المجال، وأكثر ما يظهر هذا التباين مع نظرية مالك بن نبي الذي يدمج مفهوم الثقافة بمفهوم الحضارة، ويؤسس نظريته على أساس هذا الدمج. لأنه ينطلق من مشكلة التخلف في الأمة وضرورة إنجاز بناء الحضارة. في حين ينطلق بيجوفيتش من مشكلة الحضارة، ومشكلة الحضارة الغربية تحديداً، وضرورة أن يكون الدين والإسلام على وجه التحديد منهج حل وإنقاذ وخلاص لهذه الحضارة.
ومع أن فكرة ابن نبي هي أسبق، ومن أكثر الأفكار شهرة في مجالها، مع ذلك لم يتطرق إليها بيجوفيتش، مع أنها تنتمي إلى نسق الدراسات الإسلامية، وهو النسق الذي ينتظم فيه بيجوفيتش فكرياً ومرجعياً.
لهذا فإن بيجوفيتش قد حلّق منفرداً في موضوع لا يفترض فيه الانفراد والانقطاع عن أفكار وخبرات وتراكمات هي من صميم موضوعه.
رابعاً: يصدق على نظرية بيجوفيتش أنها تناولت موضوع الثقافة والحضارة من زاوية أحادية الأفق. فقد تعامل بيجوفيتش مع هذا الموضوع بمنطق القطيعة الصارمة والصدام النهائي، وأغفل الحديث عن إمكانية بناء العلاقة. وهي العلاقة التي مرت بأطوار من التحولات والتغيرات، وعبرت عن نفسها في صور وأنماط عديدة ومختلفة، وتبلورت حولها أفكار ونظريات ساهمت في تحريك وتطوير مفاهيم الثقافة تارة، ومفاهيم الحضارة تارة أخرى.
وكان المفترض من بيجوفيتش أن يقلب النظر في هذه القضية، ويتعامل معها من زوايا وأبعاد مختلفة، لكي يكون أكثر منطقية في الرأي الذي توصل إليه، والفكرة التي انتصر لها. وهذا النقص يعد فادحاً من الناحية العلمية والمنهجية، وبيجوفيتش لا تنقصه النباهة في أن يلتفت إلى هذه الملاحظة، خصوصاً وأنه توسع كثيراً في دراسته لهذه القضية. لكنه ظل محكوماً بفرضية واحدة، وكأن هذه القضية لا تحتمل إلا فرضاً واحداً، هو الفرض الذي أولاه بيجوفيتش كل اهتمامه.
ونادراً ما تجد بين الباحثين من حاول دراسة هذه القضية بنظرة أحادية، أو الاكتفاء بفرضية واحدة، بعد أن ارتبطت هذه القضية بالعلوم الاجتماعية، وأصبحت من موضوعاتها. وبتأثير هذه العلوم أصبحت قضية الثقافة والحضارة تدرس بواسطة نظريات متعددة لتؤكد على ضرورة النظر إلى هذه القضية من زوايا مختلفة وليس من زاوية واحدة.
خامساً: تنتمي نظرية بيجوفيتش من حيث وجهتها العامة إلى الاتجاه الذي ينتصر لمفهوم الثقافة وينحاز له في مقابل من ينحاز لمفهوم الحضارة. وقد ظهر هذا الانقسام في الفكر الأوروبي كما تجلى في النزاع بين الألمان والفرنسيين. حيث كانت الثقافة تُعدُّ حقاً وامتيازاً ألمانياً، في حين كانت الحضارة تُرى حقاً وامتيازاً فرنسياً. هكذا كان ينظر هؤلاء لأنفسهم. لهذا يرى الكاتب الفرنسي لويس دوللو أن الاصطدام الفرنسي الألماني ما بين عامي 1914م و 1918م، لم يتم في ساحات القتال فحسب، وإنما على أرضية الأفكار باسم الحضارة الفرنسية في مواجهة الثقافة الألمانية بشكل خاص. وعند تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني لم يكن أمام كلمة الثقافة بأحرفها الألمانية الكبيرة -كما يضيف دوللو- إلا الرفض بشكل جماعي من قبل العالم الغربي. وأن استعمالها المفرط طيلة أيام الحرب عبر صحافة مكثفة كان من نتيجته أن أدى إلى إدانة هذه الكلمة بصورة نهائية(23).
وفي تحليل الناقد الإيرلندي تيري إيجلتون، وهو يتتبع تحولات العلاقة بين الثقافة والحضارة في رؤية الفرنسيين والألمان كتب يقول: >الحضارة فكرة فرنسية إلى حد بعيد، حيث كانت تشير في آن معاً إلى كل من التهذيب الاجتماعي في سيرورته التدريجية والغاية الطوباوية التي تمتد نحوها هذه السيرورة. وفي حين كانت الحضارة الفرنسية تشتمل بصورة نمطية على الحياة السياسية والاقتصادية والتقنية، فإن الثقافة الألمانية كانت ذات مرجعية دينية وفكرية وفنية أضيق. كما كانت تشير إلى التهذيب الفكري لجماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد، وليس للمجتمع ككل. وفي حين كانت الحضارة تقلل من أهمية الفوارق القومية، فإن الثقافة كانت تسلط عليها الضوء. والحال أن التوتر بين الثقافة والحضارة قد كان أمراً وثيق الصلة بالتنافس بين ألمانياً وفرنسا<(24).
وبعد أن حدثت تبدلات عميقة في حياة الشعوب، جعلت من غير الممكن -كما يقول دوللو- الاستغناء عن إعادة القيمة إلى كلمة الثقافة عن طريق اعتراف رسمي.
لذلك فرض مؤتمر وزراء الثقافة للدول الحليفة المنعقد في ديسمبر 1944م كلمات ثقافة وثقافي لاستئصال الآثار الباقية من الدعاية النازية والفاشية، وإعطاء هذه الكلمة في الأزمنة الحديثة جنسيتها الدولية. بعد أن احتكرتها أمداً طويلاً الشعوب الجرمانية(25).
ومعظم المناقشات التي حصلت في أوروبا خلال العقود الأولى من القرن العشرين حول فكرة الثقافة والحضارة كانت متأثرة بالنزاع الفكري والسياسي بين الألمان والفرنسيين، وهو النزاع الذي كان يحدد وجهة وصورة الجدل والنقاش حول هذه الفكرة. وفي وقت لاحق استنفذ هذا النقاش طاقته وقيمته ولم يعد يثير فضول الآخرين. وحسب رأي دوللو >فإن النقاش بين الثقافة والحضارة قسم بين الأفكار في الغرب خلال السنوات الثلاثين من بداية العصر الحالي -القرن العشرين- إلا أنه توقف عن إثارة اهتمام الرأي العام في أيامنا الحاضرة. فسواء أكانت الحضارات مقدر لها أن تموت كما كان يتحسر عليها الشاعر بول فاليري، أو كانت الثقافات على النقيض قادرة على أن تحيا من جديد، كما يعتقد ذلك بعض علماء الاجتماع وهم يراقبون دولة إسرائيل الحالية أو دول أمريكا اللاتينية -الهندية، حيث يمكن أن تعود للظهور بعض العناصر من ثقافات الأزتيك أو الإنيكا. فإن هذا الموضوع يثير الانتباه بلا ريب، إلا أنه لم يعد يتعلق بالمساجلات الهامة في أيامنا الحاضرة<(26).
ولم يكن النزاع الألماني الفرنسي المؤثر الوحيد في طبيعة واتجاه النقاش حول فكرة الثقافة والحضارة، فقد كانت هناك مؤثرات أخرى بالتأكيد دفعت بالثقافة في أن تتحول إلى نقد ثقافي للحضارة، وذلك حينما انقلبت صورة الحضارة. وهذا ما أراد يشير إليه تيري إيجلتون الذي يرى أنه >كلما كان يتزايد ظهور الحضارة القائمة على أنها حضارة نهاية ومغشوشة، كان يتزايد اضطرار فكرة الثقافة لأن تكون موقفاً نقدياً. ولقد كان النقد الثقافي في حالة حرب مع الحضارة لا في حالة تطابق معها أو انسجام<(27).
لهذا يمكن القول بأن فكرة بيجوفيتش هي أقرب من حيث الروح العامة إلى الفكر الألماني في موقفه من فكرة الثقافة والحضارة. ومن جهة أخرى فإن بيجوفيتش هو أميل إلى الاتجاه الذي يدفع بالثقافة لأن تكون نقداً مستمراً للحضارة، وفي هذا الشأن يقول: إن نقد >الحضارة ليس دعوة لرفضها، فالحضارة لا يمكن رفضها حتى لو رغبنا في ذلك. إنما الشيء الوحيد الضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها. فإن تحطيم هذه الأسطورة سيؤدي إلى مزيد من أنسنة هذا العالم، وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة<(28).
سادساً: لقد بالغ بيجوفيتش كثيراً في نقد الحضارة، وكوَّن صورة قاتمة وشديدة السلبية عنها. وظل يصورها وكأنها عبثية وعدمية ولا خير فيها، ووضعها في دائرة الاتهام دائماً، انتصاراً للثقافة وتغليباً وتفضيلاً لها.
ومع أنه رأى أن الحضارة ليست في ذاتها خيراً ولا شراً، وعلى الإنسان -كما يقول- أن يبني الحضارة تماماً كما عليه أن يتنفس ويأكل، فهي تعبير عن الضرورة، وعن النقض في حياتنا(29). مع ذلك فقد غلب بيجوفيتش جانب الشر فيها على جانب الخير، فالحضارة عنده تارة هي قرينة الإلحاد، وتارة هي استمرار للحياة الحيوانية ذات البعد الواحد، وتارة هي استمرار للعناصر الآلية أي العناصر غير الواعية التي لا معنى لها في وجودنا، وأنها تغري الإنسان بالحياة البرانية على حساب حياته الجوانية، وتارة أنها أبعد من أن تمنح لحياتنا معنى، إنما هي -حسب رأيه- جزء من الهراء في وجودنا. إلى غير ذلك من الأوصاف والأحكام القاسية والسلبية. وفي المقابل راح يمجد ويكيل المدح للمجتمعات البدائية، ومجتمعات ما قبل قيام الحضارة، ويدافع عن العصور الوسطى في أوروبا. وفي هذا السياق أيضاً يمتدح الريف ومجتمع الريف وينتقد المدينة ومجتمع المدينة.
ومن هذه الجهة تقترب نظرية بيجوفيتش من نظرية ابن خلدون في نقده الجذري والصارم للحضارة، ومدحه لمرحلة ما قبل الحضارة، وهي مرحلة البداوة كما يصفها. وخصص فصلاً رأى فيه أن الحضارة هي غاية العمران ونهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده، وأنها أيضاً نهاية الشر والبعد عن الخير إلى غير ذلك من أوصاف وأحكام. وامتدح ابن خلدون في المقابل مرحلة البداوة وأهل البدو، وبالغ في مدحهم وتمجيدهم وقد تبين له -كما يقول- أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر(30)، وأنهم -أي أهل البدو- أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر، وأن البادية أصل العمران، والأمصار مدد لها.
فالمبالغة التي نراها عند ابن خلدون في تقبيح صورة الحضارة في ذلك العصر، تشابه مبالغة بيجوفيتش في تقبيح صورة الحضارة في هذا العصر. وهكذا تشابه مبالغة ابن خلدون في تحسين صورة البداوة ومجتمع ما قبل الحضارة، مبالغة بيجوفيتش في تحسين صورة المجتمعات البدائية، ومجتمعات ما قبل الحضارة. ولا أظن أن رؤية ابن خلدون كانت غائبة عن تفكير بيجوفيتش مع ذلك لم يستشهد بآرائه، ولم يأت على ذكره قط في كتابه!
سابعاً: ما هو البديل عن الحضارة إذا رفضناها وشككنا فيها؟ وهل الثقافة هي بديل عن الحضارة؟ أم أن البديل هو التحكم في ضبط العلاقة وموازنتها وترشيدها، وليس في تغليب إحداهما على الأخرى، أو في تفضيلها وترجيحها؟
فالثقافة من حيث القانون العام ينبغي أن تتحول إلى حضارة، ليس تحولاً جبرياً وحتمياً ولكنه المآل المفترض، وهذا يعني أن الثقافة هي حضارة بالقوة، وقابلة لأن تتحول إلى حضارة، بالفعل إذا توافر ما يمكن أن نسميه بقوانين الحضارة. لهذا يرى بعض أن الحضارة هي ثقافة حين تتعقد الثقافة وتتميز بخصائص معينة، أو حين تصل الثقافة إلى درجة من الرقي بحيث يمكن قياسها بمقاييس معينة. أي أن الحضارة شكل معقد من أشكال الثقافة(31). أو كما يقول الدكتور معن زيادة: إن الحضارة هي مرتبة من مراتب التطور الثقافي... وهي محطة كبرى في مقابل المحطات الصغرى التي هي الثقافات.. لذلك يرى أنه ليس كل الثقافات حضارات، في حين أن كل الحضارات ثقافات، بمعنى أن الحضارة الواحدة هي التركيب الأعلى لجميع الثقافات(32). والثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحضارة، لأنها -أي الثقافة- بحكم القانون التاريخي ينبغي أن تتحول إلى حضارة. والثقافة التي لا تتحول إلى حضارة هي ثقافة مصابة بالعجز، أو أنها ليست في مستوى قوانين حركة التاريخ.
وإذا كان الدفاع عن الثقافة هو بقصد أن تكون الثقافة مهيمنة على الحضارة وموجهة لها، وضابطة لمسارها، ومعبرة عن جوهرها وحكمتها وفلسفتها، بحيث تكون الثقافة هي الأصل والحضارة فرع لها. إذا كان هذا ما يريد أن يصل إليه بيجوفيتش، فالسؤال كيف يتحقق ذلك؟ وهذا ما لم يفصل فيه بيجوفيتش!
وإذا كان يرى أن الحضارة لها طبيعة التفلت من الثقافة، أو الاستعلاء والتمرد عليها، أو أن الثقافة لكي تحافظ على صفائها ونقائها وطهارتها عليها أن تتجنب الحضارة، وتقطع صلتها بها، وتختار مسلكاً لا يتقاطع معها، إذا كان هذا ما يقصده بيجوفيتش فإن هذا الكلام لا يحظى باتفاق بالتأكيد. وإذا كان القصد من نقد الحضارة، والتشكيك فيها تصوير أن الحضارة ليست بمنزلة الضرورة للاجتماع الإنساني، ولا تمثل غاية سامية يتطلع إليها الإنسان، إذا كان هذا ما يريد أن يدعو إليه بيجوفيتش وهو يمتدح مجتمعات ما قبل الحضارة أو المجتمعات البسيطة كمجتمعات الريف، أو مجتمعات الإنسان الأول في العصور القديمة والغابرة، لأن التاريخ ليس خطاً تصاعدياً بطريقة جبرية نحو التقدم، فهذا الرأي إذا كان يقنع البعض فإنه بالتأكيد لن يقنع الكثيرين.
وإذا كان القصد من نقد الحضارة والتشكيك فيها، إظهار أن الحضارة ليست هي الأساس، وإنما الإنسان هو الأساس. وبالتالي فإن القيمة الأساسية ليست للحياة البرانية وإنما للحياة الجوانية، وليست للذكاء والطبيعة والصناعة والعالم المادي، وإنما للأخلاق والقيم والتأمل وللثقافة والدين. وهذا القصد من هذه الجهة يُعد معقولاً. لكن لا ينبغي معه كل هذا الإفراط في نقد الحضارة. كما ينبغي التمييز بين الحضارة فعلاً وممارسةً، وبين الحضارة قيمةً ومعياراً.
ثامناً: تصنف نظرية بيجوفيتش وكتابه بصورة عامة على النظريات والاتجاهات النقدية للغرب والحضارة الغربية. ومن هذا النقد ينطلق بيجوفيتش في تكوين نظريته حول الثقافة والحضارة. كما أن هذا النقد كان جزءاً أساسياً في منهجية الكتاب، وفي غاياته.
وقد ظل بيجوفيتش يلفت النظر إليه باستمرار، ويرجع إليه في معظم فصول الكتاب ويوليه اهتماماً كبيراً، ويتوسع في الحديث عنه بالأرقام والتقارير والشهادات.
ويرجع باهتمام أيضاً إلى الكتَّاب والمفكرين الغربيين أصحاب النزعة النقدية لتجربة الغرب الحضارية، وهكذا أصحاب النزعة الأخلاقية والدينية، أمثال ألبير كامو، وأندريه مالرو، وتولستوي، وهنري برجسون، وأزوالد إشبنجلر، وهربرت ماركيوز وآخرين.
وتعددت اتجاهات النقد عند بيجوفيتش إلى مختلف المجالات الفكرية والفلسفية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، لأنه حاول أن يجعل من كتابه كما أشرت سابقاً مكثفاً في علومه ومعارفه.
وأخيراً تبقى نظرية بيجوفيتش واحدة من النظريات التي حاولت أن تقدم فكرة حول الثقافة والحضارة، وتحرك نقاشاً وجدلاً في هذا الشأن، الذي هيمن عليه قدر كبير من الجمود والسكون، وتلفت النظر إلى فكرة مغايرة بعض الشيء لما هو سائد في هذا المجال. وتنتمي هذه النظرية إلى نسق التفكير الإسلامي. النسق الذي لم يعرف عنه انخراطه الواسع والعميق في النقاشات الدائرة حول هذا الموضوع، لا أقل في الفترة المعاصرة. فقد بقي هذا الحقل لزمن طويل تهيمن عليه الأفكار والنظريات الغربية بحكم اهتمامها بدراسة تاريخ الحضارات، والتاريخ الإنساني بصورة عامة.
كما أن هذه النظرية، كأية نظرية أخرى تحتمل الموافقة والمخالفة، الجزئية أو الكلية. وتحتمل أيضاً النقاش بكافة صوره النقدية والتحليلية، والتفكيكية والتركيبية، وفي إطار المنظومة الفكرية الواحدة، أو المنظومات الفكرية المتعددة.
ومن طبيعة النقاش في هذا الموضوع أنه ليس له نهاية، ولا ينبغي النظر إليه بمنطق النهايات.

الهوامش:
?(1) انظر كتاب: الإسلام بين الشرق والغرب. علي عزت بيجوفيتش، ترجمة: محمد يوسف عدس، بيروت: مؤسسة العلم الحديث، 1994م، ص93.
(2) المصدر نفسه. ص94.
(3) المصدر نفسه. ص94.
(4) المصدر نفسه. ص94.
(5) المصدر نفسه. ص96.
(6) المصدر نفسه. ص98.
(7) المصدر نفسه. ص98.
(8) المصدر نفسه. ص99.
(9) المصدر نفسه. ص102.
(10) المصدر نفسه. ص40.
(11) المصدر نفسه. ص40.
(12) المصدر نفسه. ص111.
(13) المصدر نفسه. ص125.
(14) المصدر نفسه. ص123.
(15) المصدر نفسه. ص219.
(16) المصدر نفسه. ص222.
(17) المصدر نفسه. ص129.
(18) المصدر نفسه. ص47.
(19) المصدر نفسه. ص94 - 95.
(20) المصدر نفسه. ص96.
(21) المصدر نفسه. ص126.
(22) معالم على طريق تحديث الفكر العربي. الدكتور معن زيادة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة، 1987م، ص51.
(23) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية. لويس دوللو، ترجمة: خير الدين عبد الصمد، دمشق: وزارة الثقافة، 1993م، ص16.
(24) فكرة الثقافة. تيري إيجلتون، ترجمة: ثائر ديب، اللاذقية: دار الحوار، 2000م، ص29.
(25) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية. مصدر سابق، ص17.
(26) المصدر السابق نفسه. ص37.
(27) فكرة الثقافة. مصدر سابق، ص31.
(28) الإسلام بين الشرق والغرب. ص133.
(29) المصدر نفسه. ص95.
(30) مقدمة ابن خلدون. ضبط وتقديم: الإسكندراني، بيروت: دار الكتاب العربي، 1998م، ص124.
(31) انظر كتاب: الحضارة الإنسانية بين التصور الديني والنظريات الوضعية. مجموعة كتاب، لندن: الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، دراسة أحمد بن نعمان، الحضارة والثقافة، ص175.
(32) معالم على طريق تحديث الفكر العربي. مصدر سابق، ص55، 44.