شعار الموقع

مشكلة الثقافة والحضارة في فكر مالك بن نبي

طاهر سعود 2004-10-29
عدد القراءات « 1659 »

ـ 1ـ 

 إشكالية نقطة البداية

إن من الصعوبات الجمة التي تعترض القارئ المبتدئ عندما يريد مباشرة قراءة أحد المفكرين أو الكُتَّاب هي صعوبة تكوين فكرة أولية جامعة عن مضغة الاهتمام التي شُغل بها ذاك الكاتب أو ذلك المفكر.. بل إن هذا الأمر ليزداد تعقيداً وإحراجاً عند من يفتقد الصبر على القراءة وما تستلزمه من معاناة، إذ العلم كما قال بعض السلف: >إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً<. ولهذا نجد الكثيرين ممن حصل لهم من تجربة القراءة الباع الأوفى ينصحون المبتدئ بأن يطّلع على بعض الدراسات النقدية التي تناولت مفكراً ما بالدراسة والتحليل حتى يستطيع أن يكوّن لنفسه رصيد ارتكاز يؤهله لأن يدلف إلى عالم القراءة دونما عناء كبير(1).
وإذا أخذنا كتابات مالك بن نبي نموذجاً تطبيقياً فإن الكثيرين منا تتكوّن لهم الرغبة الجامحة -خاصة في مواقف معينة- في الاطلاع على إبداعات هذا المفكر وإسهاماته التحليلية، ويكون اندفاعهم إليه قوياً، غير أن كل ذلك سرعان ما يتكسر أمام الصفحات العشر الأُوَل من كتاب من كتبه تقع عليه أيديهم(2) خاصة إذا كان هذا الكتاب عيّنة لأحد كتبه المركزة كمشكلة الثقافة أو الصراع الفكري في البلاد المستعمرة... إلخ. وكثيراً ما حدثني البعض عن هذه المشكلة وعن المعاناة التي يجدونها في قراءة وفهم وتتبع كتابات مالك بن نبي فيقودهم ذلك في الأخير إلى الإحجام ونفض الأيدي، بل إن الأمر قد يأخذ لدى البعض الآخر منحى أكثر سلبية عندما يترسّخ في شكل اتجاه يسعى معتنقوه للتنفير من مثل هذه الكتابات بحجة أن أصحابها من هواة التعقيد والطلسمات، وهو ما سيوسّع دائرة النفور ويفوّت فرص الاستفادة من هذه الكنوز المعرفية المجهولة.
وإذا كنا نُقر بصحة بعض هذه الاحتجاجات فإننا ينبغي أن نُقر أيضاً بأن بعضاً منها نابع من سلبيتنا الثقافية التي تعودنا بسببها أن نستمرئ السهولة وأن ننبذ كل ما يدعو إلى الاجتهاد وبذل الجهد، وهي قضية صرف فيها ابن نبي جهداً كبيراً ليبرزها كأحد أهم المشكلات التي يتخبط فيها العقل المسلم منذ عصر ما بعد الموحدين، وأحسنَ التعبير عنها -فيما يخص حقلي القراءة والكتابة- عباس محمود العقاد عندما قال: >لا أريد أن تكون كتبي مروحة للكسالى<.

ـ2ـ
بين يدي الموضوع


إن القضية المركزية التي شغلت الفكر الإسلامي وحركات التجديد الحضاري منذ ما يزيد عن القرنين من الزمان ولا تزال هي قضية التخلف الذي أخنى على العالم الإسلامي منذ عصر ما بعد الموحدين، فقد اتجهت المعالجات الفكرية (كتابات، مقاربات، أبحاثاً...) والحركية (العمل الاجتماعي والسياسي والثقافي... المنظم) إلى محاولة تلمّس أبعاد هذه الظاهرة التي قذفت بالمسلمين خارج نطاق الحضارة بعد أن قبضوا على زمامها قروناً طويلة، والتخلص من وطأتها قصد العودة من جديد إلى ساحة الفعل الحضاري بعد غيبة اضطرارية. وإذا كانت هذه الجهود قد اختلفت في طريقة التشخيص، وتباينت حول كيفية العلاج وتفاوتت من حيث العمق التحليلي والتناول المنهجي وسعة مجال الدراسة(3) فإنها قد نبهت واعية الفرد المسلم بعد أن لم يكن يُدرك أن هناك قضية يُطلَق عليها المشكلة الإسلامية.
ما هي طبيعة الأزمة التي يعاني منها المسلمون؟... كيف استطعنا أن نبني حضارة عالمية في قرون سابقة بينما نعيش اليوم على هامش التاريخ؟... لماذا نحن متخلفون؟... لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟... أسئلة كبرى تقرع آذان كل مثقف مسلم حينما يقف متأملاً واقع أمته، وتحتاج إلى جواب.

ـ3ـ
التحليل البنابي للمشكلة

ولو أردنا أن نُموقع الجهود والإسهامات الفكرية لمالك بن نبي فإننا نختار لها هذا المجال؛ فهي تتمحور -كما أكد على ذلك بعض الباحثين(4)- في الإجابة على التساؤلات المركزية التالية:
1ـ حضارتنا كيف قامت؟
2ـ لماذا سقطت ؟
3ـ وكيف نعيد بناءها؟
ولو تأملنا في هذه الأسئلة الثلاثة الكبرى فإنه يمكننا أن نصنفها إلى فئتين:
الفئة الأولى: وتشمل السؤالين الأول والثاني لأنهما يعالجان قضية متجانسة(5) يصطلح عليها علماء الاجتماع بظاهرة التغير الاجتماعي Social Change.
الفئة الثانية: وتشمل السؤال الثالث لأنه يعالج قضية أخرى هي عملية التغيـير الاجتماعي.
وابن نبي يؤكد على قضية أساسية أهملها كثيرون قبله وممن عاصره بل وبعض من جاء بعده، هي أن الإجابة على طبيعة الأزمة التي يتخبط فيها العالم الإسلامي تستلزم دراسة تشخيصية تغوص في أعماق المشكلة لتقف على عللها وأسبابها، ولا تكتفي بوصف سطحي لمظاهرها وأعراضها، تماما كما يفعل الطبيب عندما يشخّص مرضاً عضوياً فلا يكتفي بمعرفة أعراضه وإنما يبحث عن أسبابه التي أوجدته، ومالك يؤكد على خطورة هذه الخطوة لأن كل خلل في التشخيص سينعكس على وصفة المعالجة، ولنا أن نتخيل مصير المريض الذي أخطأ طبيبه تشخيص مرضه وكذا وصفة دوائه.. إن الخطأ في مستوى المجتمعات غير مسموح به!!
1,3- الفكر السوسيولوجي وظاهرة التغير الاجتماعي
وحتى نضع موضوعنا في سياق منهجي ونتتبع بشكل أكثر يسراً إسهامات مالك?بن نبي في حقلي الثقافة والحضارة لا بد من إطلالة مركزة على ظاهرة التغير الاجتماعي التي يُعدّ فهم بعض جوانبها أساساً لفهم الإسهامات البنابية المبثوثة عبر مختلف كتاباته(6).
لقد حظيت ظاهرة التغير الاجتماعي في حقل السوسيولوجيا بدراسات مكثفة، وطرح الفكر السوسيولوجي رؤى ونظريات عديدة حاول من خلالها فهم آلياته وقوانينه وأسبابه ومجراه... فحاول بعضهم إرجاعه إلى عوامل غيبية ميتافيزيقية أو عرقية، وحاول بعضهم عزوه إلى عوامل اقتصادية، وذهب بعض آخر إلى ربطه بمتغيرات إيكولوجية، وأرجعت طائفة أخرى أسباب حدوثه إلى التجديدات التكنولوجية التي يستحدثها الإنسان... إلخ.
وكما تباينت الآراء حول أسبابه (التغير) فقد اختلفت الأطروحات التي حاولت تتبع مساره ومجراه(7) فمنها من أكد على الشكل الخطي ومنها من أكد على الشكل الحلقي أو الدوري...إلخ.
1,1,3 الاتجاه الخطي
 يؤكد أصحاب هذا الاتجاه على أن التغير الذي يطال المجتمعات الإنسانية يسير في خط صاعد، بحيث إن المرحلة اللاحقة التي يَخبرها المجتمع أكثر نضجاً وتقدماً من المرحلة التي سبقتها في التاريخ. وهناك نماذج نظرية كثيرة تتبنى هذه الرؤية كالوضعية الكونتية التي ترى أن مسار الفكر الإنساني مر بمراحل متتابعة تبدأ بالمرحلة اللاهوتية ثم الميتافيزيقية ثم الوضعية، والنظرية الماركسية التي ترى أن المجتمعات الإنسانية تبعت مساراً خاصاً بدأ تاريخياً بالمشاعية البدائية ثم تلتها مرحلة العبودية ثم مرحلة الإقطاع فالرأسمالية لتختم المجتمعات مسيرتها التقدمية بالوصول بالإنسان إلى مرحلة الشيوعية التي تعتبر تتويجاً لهذه السيرورة التاريخية، فيها يحقق الإنسان إنسانيته ويصل إلى مرحلة متقدمة من الرقي الحضاري(8).
?

2,1,3- الاتجاه الدوري (نظرية الدورة التاريخية أو الدورة الحضارية)
تعتبر من أقدم النظريات التي حاولت تفسير مسار حركة التغير الاجتماعي. ويذهب أنصارها إلى أن الأنساق الاجتماعية تتغير في شكل دائري عبر مراحل متعاقبة تشبه في شكلها العام دورة حياة الكائن العضوي، فالمجتمعات وفق هذه الرؤية تولد وتنمو وتتطور ثم تموت وتتلاشى وهكذا دواليك. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه العلامة ابن خلدون، أزفالد شبنغلر، أرنولد توينبي، بتريم سوروكين... الذين كان لأغلبهم تأثير على تفكير مالك بن نبي وإسهاماته الفكرية.
?

 

 


-4-
موقع نظرية مالك بن نبي في التغير الاجتماعي بين هذه النظريات


ينبغي أن نفهم أن ما قام به ابن نبي وهو يدرس قضايا العالم الإسلامي قريب مما يقوم به عالم الفيزياء عندما يريد دراسة نقطة مادية حيث يمثل لها بمعلم متعامد ومتجانس إما ثنائي أو ثلاثي الأبعاد حتى يمسك بخيوط المشكلة ويطبق عليها الدراسة الفيزيائية.
?

 

 

فالنقطة (ن) تُمثَّل بأبعادها على محوري المعلم وعلى أساس ذلك تقوم الدراسة، والفيزيائي يتخذ من النقطة وغيرها من الظواهر المادية موضوعاً لدراسته ليكتشف القوانين والسنن التي تنتظمها قصد التحكم فيها.
إن هذا التوضيح الفيزيائي يمكن سحبه في النطاق الإنساني ولكن بطريقة مغايرة، فلكي يمسك المفكر بخيوط المشكلات الاجتماعية ينبغي أن يرسم لمشكلته معالم نظرية ومنهج عملٍ يتيح له في الأخير أن يحيط بأبعادها وتجلياتها.
إننا في واقع اجتماعي كواقع المجتمع الجزائري الراهن نحار وتتشتت أفكارنا عندما نريد مقاربته ومحاولة دراسته فينطرح علينا السؤال التالي: من أين نبدأ ؟؟ لأن هذا الواقع من التعقيد والصعوبة بحيث يعسُر الفرز والتمييز فيه بين ما يمكن أن يكون نتيجة وبين ما يمكن أن يكون سبباً، فقد نتسرع في بعض الأحكام ونخطئ في بعض التقديرات والتقريرات. ولعل مما يضاعف صعوبة مهمة الباحث الاجتماعي هو طبيعة الظاهرة الاجتماعية نفسها لما تنطوي عليه من التعقيد والخصوصية.. فعلى أي المعالم les axes d’analyse يضع الباحث الاجتماعي مشكلة بحثه حتى يحيط بها علماً؟!
إذن حتى يمسك ابن نبي بخيوط المشكلة الإسلامية المعقدة دعا إلى ضرورة العودة إلى التاريخ باعتباره مستودع التجارب الإنسانية ودراسة أحداثه لا كقصة يُسرد علينا خبرها بل كظواهر يرشدنا التحليل إلى قانونها وسنة الله فيها(9)، وعلى هذا الأساس أكد أن ارتفاع وانخفاض الأمم في سلم الرقي أو التخلف ظاهرة إنسانية تتساوى فيها جميع المجتمعات، فهي تتألق في مراحل تاريخية وفي مراحل أخرى يعتريها الأفول، وتلك هي ظاهرة التغير الاجتماعي التي عبر عنها بقوله: >إن حركة التغير إما أن تقود الجماعة إلى شكل راق من أشكال الحياة الاجتماعية (حضارة) وإما أن تسوقها على العكس من ذلك أي إلى وضع متخلف<(10).
?

لقد تأثر مالك بن نبي بسلفه ابن خلدون - الذي استطاع من خلال دراسته للمجتمع الإنساني أن يصوغ قانون الدورة التاريخية، والذي يرى من خلاله أن المجتمع والدولة يمران بمراحل متعاقبة حتى يصلا إلى طور الاكتمال، هذه المراحل هي طور البداوة وطور التحضر ثم طور التدهور والأفول، وحدد لكل مرحلة منها خصائص وميزات تميزها عن سابقاتها-، في صياغته لرؤيته الخاصة حول عملية التغـير الاجتماعي، حيث تبنى في دراساته مسلك التفسير الدوري وأكد أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، لكنه تجاوزه (أي تجاوز ابن خلدون) عندما ارتفع بهذا القانون إلى مستوى أعلى هو مستوى الحضارة، فوحدة التحليل عنده هي الحضارة(11) والتاريخ الإنساني حسبه هو تعاقب لوحدات حضارية حيث تنشأ الحضارة طبقاً لظروف خاصة وتكتمل ثم تتلاشى.
إن ابن خلدون حاول دراسة ظاهرة لفتت انتباهه هي نشأة وسقوط الدول في مجتمعات المغرب العربي، حيث قرأ وعايش كيف تولد هذه الكيانات السياسية ثم كيف تكتمل وكيف تتلاشى في الأخير لتحل محلها كيانات جديدة وهكذا تستمر دورة الحياة والموت. وعبر عن ذلك في مقولته: >ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر (120سنة أو ثلاثة أجيال) بتقريب قبله أو بعده إلا إذا عرض لها عارض من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يحضرها ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً<(12)، إلا أن ابن نبي -كما بيّنا- ارتفع بدراسته إلى مستوى الحضارات، فالتداول بين الدول ضمن الحضارة الواحدة لم يكن همه النظري بل التداول بين الحضارات، أي كيف تنشأ هذه الحضارات ثم كيف تتطور وكيف تتدهور وتسقط في الأخير، واتخذ من الحضارة الإسلامية نموذجه التطبيقي مؤكدا بذلك أن >مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها<(13)، فالارتفاع من المستوى الجزئي إلى المستوى الكلي أي إلى مستوى الأحداث الإنسانية ودراسة الشروط التي تولد في ظلها الحضارات، وكذا الوقوف على الأسباب التي تقذف بالمجتمعات إلى مهاوي التخلف والانحطاط وتقود الحضارة إلى وعدها المحتوم، هي الخطوات الصحيحة التي ينبغي على كل مجتمع يوجد خارج نطاق الحضارة أن يُنقّب عنها حتى يرسم لنفسه خطة عمل تخرجه من وهدة التخلف إلى آفاق التحضر.
1,4 مراحل الدورة الحضارية
استند مالك بن نبي في تحليله لمراحل الدورة الحضارية إلى:
أ- معطيات التاريخ: أي الأخبار والحوادث التاريخية المدونة والتي تخص مجتمعاً كالمجتمع الإسلامي مثلاً.
ب- التفسير التاريخي: وهو نوع من ممارسة الدراسة العلمية والنقدية والتحليل والتفسير التاريخي لتلك الحوادث.
ج- وإلى مقاييس التحليل النفسي وعلم الاجتماع: واستعان بعلمي النفس والاجتماع Psychologie و Sociologie لدراسة وتتبع التغييرات التي تطرأ على الطاقة الحيوية للإنسان وما يطاله من عمليات التكييف adaptation والتغيير النفسي في تفاعله مع مقتضيات الفكرة الدينية وأثر ذلك على منحنى التطور الاجتماعي والحضاري للمجتمع.
كل هذا لأجل أن يتعمق في تتبع وفهم التغيرات التي تطرأ على المجتمع وهو يخط طريقه نحو الحضارة.
ويرى مالك أن الحركة التاريخية تبتدئ في نطاق مجتمع من المجتمعات عندما تدخل فكرة دينية فتطبع على الفرد والمجتمع دفعة تدخلهما إلى حيّز الفعل التاريخي، وهو يؤكد على أن الدارس كلما أوغل في الماضي التاريخي للإنسان سواء في الأحقاب الزاهرة لحضارته أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي فإنه سيجد سطوراً من الفكرة الدينية(14). ولو تمعنا في الانبثاقات الحضارية لمختلف الحضارات الإنسانية (المسيحية، الإسلامية، الشيوعية...) فإننا نجدها قد اقترنت في ولادتها ونموها... بفكرة دينية تربط الإنسان بمعبود غيبي كما هو دأب الديانات السماوية، أو بغيب من نوع زمني في صورة مشروع اجتماعي يضع أساسه الأول جيل وتواصل بناءه أجيال أخرى (روسيا الشيوعية).
إن تتبعنا للتدرج الحضاري الذي يسلكه منحنى الحضارة عبر مختلف مراحله سيكشف لنا في نهاية المطاف أن كل مرحلة منه هي تعبير عن الترجمة الواقعية للعلاقة العضوية بين:
 أ - الفكرة الدينية: فالفكرة الدينية هي الحدث الاستثنائي والمتغير الوحيد الذي يغير الوضع الحضاري للمجتمع.
ب- والإنسان: الذي يعتبر السند المحسوس للفكرة الدينية من حيث إنه المتفاعل مع مقتضياتها.
وعلى هذا الأساس قسم ابن نبي الأطوار التي تمر بها الحضارة إلى مراحل ثلاث هي:
1,1,4 مرحلة الروح
تبتدئ هذه المرحلة بدخول فكرة دينية تطبع الفرد بطابع خاص وتوجهه نحو غايات سامية من خلال تهذيب غرائزه الحيوانية وتنظيمها لتتوافق مع مقتضيات الإيمان بالفكرة الجديدة، وهنا يجد الفرد نفسه متخلياً عن عدد من أنماط التفكير والسلوك والتعامل.. ليخضع إلى مثيرات أكثر سمواً توجه طاقته الحيوية نحو غايات البناء والإنشاء الحضاري، فالخضوع إلى مقتضيات الدين الجديد يحول الفرد Individu المرتبط بالنوع الإنساني إلى شخص Personne مرتبط بالأهداف السامية للمجتمع، وذلك عن طريق إخضاع غرائزه لعملية شرطية ليس من شأنها إلغاء هذه الغرائز ولكن تنظيمها بما يتوافق مع مقتضى الفكرة وبما يخدم وظيفة المجتمع، وفي هذه المرحلة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في جسده ويخضع وجوده إلى المقتضيات الروحية، أي أن الإنسان يتعرض لعملية تغيير نفسي ينبثق عنها تدريجياً تغير يمس جميع مجالات المجتمع الثقافية والأخلاقية والمادية(15). وتتوافق هذه المرحلة في نطاق الدورة الإسلامية بنزول الوحي الذي صنع تلك النماذج الإنسانية المثالية الرائعة في وقت قياسي وتمتد حتى واقعة صفين عام 38هـ.
2,1,4 مرحلة العقل
تشكل نقطة الأوج التي يسجل فيها المجتمع توسعه وتطوره الفكري والعلمي والحضاري حيث تزدهر العلوم والفنون والصنائع، فتنشأ نتيجة ذلك المشاكل المحسوسة وتتولد ضرورات جديدة يكون لها تأثيرها الخاص على الفرد والمجتمع، وحتى تستطيع الحضارة تلبية هذه المستجدات تسلك منعطف العقل، وهنا تبدأ الغرائز المكبوتة التي هذبها الاندفاع الإيماني والسمو الروحي في التحرر من قيودها تدريجياً لأن سلطة العقل على الغريزة لا تعدل سلطة الروح، وهكذا بالقدر الذي يضعف به سلطان الروح تتحرر الغرائز فيتأثر البناء النفسي للفرد والبناء الأخلاقي للمجتمع(16). ولو أردنا التعبير عن المتغيرات الجديدة في هذه المرحلة بلغة أخرى لقلنا: إن هناك انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع ونقصاً في الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية. ويؤرخ ابن نبي لهذه المرحلة في دورة الحضارة الإسلامية بما بعد صفين.
3,1,4 مرحلة الغريزة
لعل مالك بن نبي كان متأثراً بابن خلدون الذي قرر في >فصل أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده< أن >غاية العمران هي الحضارة والترف وأنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات، بل نقول: إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد<(17).
ففي هذه المرحلة تنكمش تأثيرات الروح وتستعيد الغريزة غلبتها على الفرد، فالفكرة الدينية التي هذبت الطاقة الحيوية للإنسان وحددت أمامه طريق الحضارة لم يعد لها سلطانها على الأنفس كما كان إذ تفلّتت من رقابتها شيئاً فشيئاً. إذن عندما يبلغ التحرر منتهاه تبدأ مرحلة الغريزة وحينئذ يدلف المجتمع إلى طور الانحطاط فتتوقف حركته الحضارية كما يتوقف محرك استنفد آخر قطرة من وقوده. إن هذا الطور يتطابق في الدورة الإسلامية مع ما سماه ابن نبي بمرحلة مجتمع ما بعد الموحدين الذي أعقب سقوط آخر الإمارات الإسلامية (دولة الموحدين) التي وحدت المغرب العربي لأكثر من قرن من الزمان.
وقبل أن يدخل مجتمع ما إلى مرحلة الحضارة يكون في وضع سابق على الحضارة يطلق عليه ابن نبي طور ما قبل الحضارة، فالمجتمعات الإنسانية وفق هذه الرؤية تسير على مُتَّصَلٍ مُجتَمَعي يتبع التسلسل الآتي:
1ـ مرحلة مجتمع ما قبل الحضارة
من أهم خصائصه:
- عالم أشيائه وأفكاره فقير وبدائي وبسيط.
- رأسماله الاجتماعي (الإنسان، التراب، الوقت) راكد وخامد ومكدس لا يؤدي دوراً في التاريخ، ومثال هذا المجتمع القبيلة العربية في العصر الجاهلي، والقبيلة الإفريقية في مرحلة ما قبل الاستعمار.
- يكون الإنسان في هذا الطور على حالته الطبيعية l’Homonatura وغرائزه لم تتكيف بعد لكنه ينطوي على طاقة كامنة قابلة لأن تؤدي عملاً نافعاً Oeuvre Civilisatrice.
2ـ مرحلة المجتمع المتحضر
من أهم خصائصه:
- يدخل ظرف استثنائي (الفكرة الدينية) يمد المجتمع بقوة دافعة للإقلاع الحضاري.
- الإنسان في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة بعد أن كُيّفت طاقته الحيوية.
- الطور الأول من هذه المرحلة يكون صاعداً (مرحلة الروح) يسجل فيه المجتمع أعلى درجات التوتر بما تمنحه الفكرة الدينية من مسوغات، أما الطور الثاني (مرحلة العقل) فيحصل فيه التوازن بين الأفكار والأشياء ثم تستحوذ الأشياء أخيراً لتقود المجتمع نحو مرحلة الغريزة.
- في هذا الطور يحقق المجتمع امتداداً حضارياً في شتى الميادين العلمية والتقنية فيتضخم نتيجة ذلك عالم أشيائه وأفكاره.
3ـ مرحلة مجتمع ما بعد الحضارة
من أهم خصائصه:
- يفقد الإنسان مسوّغاته وتصبح دوافع الحياة فاترة، شعارها >نأكل القوت وننتظر الموت< أو >أحيني اليوم واقتلني غداً<.
- يصبح المجتمع عاجزاً عن أي نشاط مشترك لأن شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزقت نتيجة تفلّت الطاقة الحيوية للفرد من سلطة الفكرة الدينية.
- تخفت فاعلية الأفكار وتصبح عبارة عن زينة وزخرف وتغرق في الخيال وتبتعد عن المشكلات الواقعية التي يعيشها المجتمع (كالمناقشة حول جنس الملائكة أو التوضؤ من وطء البهيمة...).
- يتحول الرأسمال الاجتماعي للمجتمع (الإنسان، التراب، الوقت) إلى عناصر معطّلة وخامدة ومكدسة لا تؤدي دوراً في التاريخ، فيغدو الإنسان جزيئاً محروماً من كل قوة دافعة بعد أن كان عنصراً حضارياً فعالاً يستخدم ما بين يديه من وقت وتراب، ويصبح الوقت مدة زمنية تائهة مبعثرة تمر عبر نهر الزمن الدافق دون أن يسمع خريره أحد بعد أن كان وقتاً اجتماعياً مقدراً بساعات عمل، أما التراب فيتحول إلى عنصر بكر لا قيمة له بعد أن كان مجالاً مجهزاً ومكيفاً يسد الحاجات الاجتماعية للمجتمع.
وبهذه الرؤية توصل مالك بن نبي إلى أن مشكلة التخلف التي تَخبرُها المجتمعات الإسلامية (بل وكل المجتمعات المتخلفة) ليست مشكلة اقتصادية أو سياسية أو مشكلة أمية أو جهل أو فقر أو غنى... كما حاولت فهمها ومقاربتها كثير من الدراسات(18)، إذ هذه الأخيرة (الدراسات) كانت في طابعها العام دراسات جزئية تعالج المرض والجهل هنا والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد في مناسبة أخرى ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، وبقي كل واحد ينظر إليها من منظار اختصاصه، فالسياسي ينظر إليها على أنها مشكلة سياسية والاقتصادي يعالجها من حيث كونها مشكلة اقتصادية... وقد نتج عن هذا التعامل التذريري أن المرض يطّرد يوماً بعد يوم دون أن يجد له علاجاً.
لقد كانت هذه المظاهر أعراضاً لمرض التخلف، شبه مالك بن نبي تعاملنا معها كطبيب يواجه حالة مريض بالسل الجرثومي فلا يهتم بمكافحة الجراثيم وإنما بهيجان الحمى لديه، فالمريض (العالم الإسلامي) يتعاطى هنا حبة ضد الجهل وقرصاً هناك ضد الاستعمار وعقاراً للفقر في مكان آخر وينشئ في بقعة قاصية مصنعاً؛ لكنه لم يشف من مرضه. وهنا يتكرر علينا بإلحاح السؤال الذي طرحناه سابقاً ما طبيعة المشكلة إذن؟
ويجيب ابن نبي عن ذلك من خلال الانطلاق مما يمكن أن نسميه >فرضية عامة General Hypothesis< سعى إلى البرهنة عليها من خلال:
-1 استقرائه للواقع التاريخي ودراسته لمسار حركة التحول الحضاري التي تمس المجتمعات الإنسانية وهو ما حاولنا إبراز جانب منه في حديثنا عن نظريته حول مراحل الدورة الحضارية.
-2 استقرائه للواقع النهضوي للعالم الإسلامي الذي بدأ يخط طريقه نحو الخروج من وضعية التخلف من خلال مشاريع التحديث Modernisation والعصرنة والتي تأثرت بالأنموذج الحضاري الأوربي.
هذه الفرضية العامة هي أن >مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها<(19).
فالمشاكل التي نطلق على مجموعها مصطلح التخلف Le Sous-développement هي في الواقع تعبيرات عن مشكلة واحدة تواجه كل البلاد الإسلامية (أو المتخلفة) أي أنها مشكلة حضارة بشرط ألا نفهم عبارة حضارة Civilisation كما يفهمها أخصائيو علم الأنثروبولوجيا Les Anthropologues الذين يعتبرون كل شكل من أشكال الحياة البشرية نوعاً معيناً من الحضارة، وإنما أن نضيّق المفهوم في الحدود التي تتعرف فيها على أنها ذلك الشكل النوعي الخاص بالمجتمعات المتقدمة، أي على أنها >مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه، فالمدرسة والمعمل والمستشفى ونظام المواصلات والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعاً أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه<(20)(21). فمصير الإنسان مرهون ومقيد بهذا الشكل الراقي للحياة الإنسانية >فالشروط التي تحقق للإنسان حظه في الحياة(22) هي شروط الحضارة فمصيره مقيد بها، يرزق غداً إن تحققت ويحرم إن اختلت أو انهدمت<(23) وعليه فكل تفكير في مشكلة الإنسان بالنسبة لحظه في الحياة هو في أساسه تفكير في مشكلة الحضارة والمشكلة القائمة من طنجة إلى جاكرتا هي في جوهرها مشكلة حضارة(24).

ـ5ـ
من فهم آليات عملية التغير إلى تحديد أسس عملية التغيير

(إمكانية التغيير الاجتماعي)
لم يقف مالك بن نبي في تحليله لظاهرة الانحطاط والتخلف الحضاري عند مستوى معرفة أسبابه ومظاهره... بل كان في جهوده الفكرية يرمي إلى أبعد من ذلك، فتحليله لعملية التغير الاجتماعي التي لخصتها نظريته حول دورة الحضارة إنما كانت أساساً لمحاولة فهم السنن الضابطة لهذه العملية والآليات التي تتحكم في سيرها، وبالتالي معرفة إمكانية وفرص التغيير والانتقال نحو الهدف الأساسي للحياة الإنسانية والمتمثل في بناء شكل راق من التنظيم الإنساني هو الحضارة، بحيث يحقق فيه الإنسان سعادته وإنسانيته.
فمن خلال قانونه الدوري حول تغيّر المجتمعات ونشأة الحضارة وانهيارها، استطاع أن يرسم منهجية ومخططاً لكيفية استئناف البناء الحضاري، والتدخّل في نطاق التاريخ قصد تعديل مساره ووجهته، ذلك أنّ كلّ سيرورة تاريخية محددة بشروط نفسية زمنية، ومعرفتنا بهذه الشروط تتيح لنا التعامل معها في النطاق الذي يحقق أهداف الإنسان. لقد كسر ابن نبي تلك الحتمية التي وقع فيها الكثير من فلاسفة التاريخ عندما تناولوا بالتحليل مراحل الحضارة، فابن خلدون يؤكد أنه >إذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني، والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها، إنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل<(25).
هذه الحتمية التي طالما قيدت الفكر الإنساني، فحدّت من فعالية الإنسان حينما كان ينظر لأحداث التاريخ على أنها حوادث تتعاقب وهي من قبيل حكم القضاء والقدر الذي لا يد للإنسان في رفعه أو تحوير مساره.
إنّ ابن نبي يقف عند هذه المسألة مؤكّداً في نوع من المقارنة على إمكانية التغيـير الإرادي للوضع الحضاري عبر مراحل الدورة الحضارية فيقول: >فالجاذبية قانون طالما قيّد العقل بحتمية التنقل براً وبحراً، ولم يتخلّص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات و الفضاء كما يفعل اليوم، فإذا أفادتنا هذه التجربة فإنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لا ينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلّص من سببية ضيقة النطاق<(26)، فالأحداث الإنسانية تسير في التاريخ طبقاً لسببية مرحلية إنما تغييرها ممكن من خلال التدخل الإنساني. فمالك يرتّب عملية التغيير الاجتماعي انطلاقاً من عملية التغيير النفسي التي تنطلق من ذات الإنسان، وهو يؤسس نظرته هذه على مدلول الآية الكريمة {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(27) فتصبح مراحل التاريخ بهذا >قابلة كلها للتغيير لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس<(28). فالتغيير الاجتماعي مبني أساساً على فهم هذه السببية التي تقود -إن هي تركت لشأنها- الحضارة لتتدرج عبر المسار ثلاثي المراحل كما حدده ابن نبي.
وهنا تتأكد أهمية النظر لموقع المجتمعات من دورة الحضارة حتى إذا تدخّل الإنسان لأجل إعادة البناء والتخلص من وطأة التخلف يكون تدخله ناجعاً، فهذه النظرة تتيح له الوقوف على عوامل التقهقر وقوى الجمود وكذا شرائط النمو والتقدم، أي أن يجمع بين وجهي المشكلة، مشكلة التخلف والانحطاط وآفاق النمو والحضارة(29). وابن نبي يوجه نقداً شديداً لأولئك الذين يفصلون بين ظاهرتي الانحطاط والحضارة؛ لأنه يعتبر التعارض الحاصل في النطاق الاجتماعي والحضاري
-والذي يقود المجتمع إلى قمة تحضره ثم إلى نهاية تحلله- خاضع لعوامل نفسية-زمنية(30) يمكن لمن تسنى له تحديدها وفهمها تعديل مساره الحضاري.

ـ6ـ
أسس عملية البناء الحضاري أو حل مشكلة الحضارة

لقد بينا فيما سبق كيف شكّل استقراء الواقع التاريخي والحضاري المخبر الأساسي الذي استقى منه مالك بن نبي الكثير من أطروحاته حول مشكلات الحضارة، كما كان تتبعه لمسيرة النهضة وعملية البناء التي عرفتها الدول الإسلامية(31) منطلقاً لبلورة جملة من الآراء النقدية والبنائية أسّس من خلالها لنظرية جديدة في البناء الحضاري.
لقد انتقد ابن نبي عمليات التجميع والتكديس لمنتجات الحضارة الغربية، وأكّد زيف هذه الطريق التي تمّ تبنّيها على أنها الطريق الصحيحة للخروج من وضعية التخلف الحضاري، كما انتقد أيضاً -كما بيّنا- عقلية التجزيء عند الدراسة والعلاج لهذه المشكلة (التخلف)، فبدل أن تتجه الجهود وتتكتل الوسائل والإمكانات نحو بناء حضارة اتجهت نحو تكديس منتجاتها لتنحل المشكلة من تلقاء نفسها بقوة الأشياء لا بحكم الفكر. وعلى هذا لم يملّ -كما بيّنا أيضاً- من التأكيد على أن مشكلة كل شعب هي مشكلة حضارة ولن يتأتى لهذا الشعب أن يحل مشكلته إلا بالوقوف على العوامل التي تبني الحضارات، أي الوعي بشروط بناء الحضارة وكيفية تركيبها، فلكي تستطيع المجتمعات المتخلفة أن تقدم لإنسانها المساعدة الضرورية في مختلف أطوار نموه وتحقق لنفسها حياة اليسر والرفاه وتقضي على ضروب الجهل والأمية والفقر والمرض... ينبغي أن تكتّل جهودها لتبني حضارتها من جديد، يقول ابن نبي: >فحينما نريد أن نُكوّن مجتمعاً يقدم الضمانات الاجتماعية للفرد، ويؤيّد الأمن في العالم، أو أننا نريد أن ندرس قضايا مجتمعنا اقتصادية كانت أم اجتماعية، فإنّ شروط وصولنا إلى تحقيق هذا كله هي شروط الحضارة، بل إنّه لا يمكن أن تنبع هذه الشروط إلا من الحضارة، ولا يمكن أن تتحقق إلا في إطارها<(32).
ويقول أيضاً: >فإذا أردنا أن نبني مجتمعاً أفضل فهذا يعني أننا نبني مجتمعاً متحضراً، وهو بدوره أيضاً يعني أنه لا بد أن نعمل لتكوين حضارة<(33). وحتى يتأتى لها ذلك ينبغي أن تعي شروطها (الحضارة) وكيفية تركيبها، فلكي نبني حضارة فإن شرط البدء في هذا البناء هو أن نعي قانون الحضارة أي أن نعرف من أين نبدأ فنفكر في عناصرها تفكير الكيميائي الذي يحلل المنتجات الكيميائية عندما يريد أن يجري عليها عمليات التركيب، فإذا سلكنا هذا المسلك -يقرر ابن نبي- فإن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التالية: ناتج حضاري= إنسان + تراب + وقت.
فكل منتج حضاري هو حصيلة تفاعل هذا الثالوث. وباستخدام طريقة الجمع المعروفة في علم الحساب فستنتهي المعادلة إلى الشكل التالي:
?


فالحضارة وفق هذا المنظور التحليلي هي حاصل التفاعل التكاملي بين الإنسان والتراب والوقت، إلا أن هذا التفاعل لا يتم إلا في وجود مركِّب Catalyseur هو الفكرة الدينية أو العامل الأخلاقي الذي رافق دائماً تركيب الحضارة في التاريخ، تماماً كما هو حاصل في علم الكيمياء إذ الحصول على الماء غير ممكن بدمج O2 و H2 إلا بوجود مركِّب يقوم بعملية الدمج والتفاعل.
ومادامت الحضارة هي خلاصة التفاعل التكاملي بين عناصرها الثلاثة الإنسان والتراب والوقت، فالواجب هو أن نحل هذه المشكلات من أساسها(34):
-1 مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ.
-2 مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية.
-3 مشكلة الوقت وبث معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد.
وسنحاول هنا أن نبرز دور كل من هذه العوامل.
1,6 الإنســان
أَولى مالك بن نبي عناية بالغة بالإنسان في معالجاته لمشكلات الحضارة، انطلاقاً من قيمته ودوره في التاريخ وباعتباره الأساس الذي من خلاله ترتقي الحضارة مراحلها الثلاث، حيث يكون في البداية ساكناً خامداً، ثم عنصراً حضارياً فعّالاً، وجزيئاً محروماً من كل قوة دافعة عندما تبلغ هذه الأخيرة وعدها المحتوم. وهل هذه المراحل -المتدرجة- في مضمونها العام إلاّ تعبير عن حركة الإنسان حينما يستغل ما بين يديه من سلطان اجتماعي (تراب، وقت)، أو تعبير عن سكونه عندما تغدو هذه العناصر خامدة ليس بينها صلة مبدعة، فلو تأملنا سيرورته عبر هذه المراحل فإنّنا سنلاحظ أنّ الإنسان لم يتغير في صفة من صفاته الخَلْقية، و إنّما الذي تغير هو فعاليته.
وعلى هذا الأساس نجد مالك بن نبي يميز بين قيمتين للفرد بوصفه عاملاً أوليًّا للحضارة، الأولى منهما خام أو طبيعية، والثانية صناعية أو اجتماعية(35). وبصياغة أخرى هناك معادلتان تميزان حقيقته:
?

 

 

 

شكل تخطيطي يوضح تغير فعالية الإنسان حسب المرحلة الحضارية
معادلته بوصفه إنساناً أي كائناً طبيعياً كرّمه الله، وهذه المعادلة لا تمسّها يد التاريخ بتغيير، ويتساوى فيها الأفراد جميعاً، وتتشكل من جملة الخصائص والصفات الفيزيقية (الطول، الجنس...).
ومعادلته بوصفه كائناً اجتماعياً وهي التي يكتسبها من محيطه الاجتماعي والثقافي وتكوّن فيه ميزة الفعالية وتُعلي من قيمته الاجتماعية في ظروف معيّنة، وهذه المعادلة عرضة لطوارئ التاريخ ونوائب الزمن(36).
معادلة بيولوجية يرثها الإنسان من والديه باعتباره ينتمي للنوع الإنساني.
الإنسان
معادلة اجتماعية يرثها الإنسان من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها وهي التي تميز فرداً من مجتمع عن فرد من مجتمع آخر، بل تميز فرداً من مجتمع واحد عن فرد آخر من نفس المجتمع في فترتين تاريخيتين متمايزتين (مثلاً فرد من المجتمع الجزائري في 1830 وفرد آخر في 2002).
وهذا الجانب هو الذي حظي باهتمام كبير من طرف ابن نبي لأنّه الجانب الذي يتفاعل من خلاله مع معطيات التاريخ فيوجّهها أو تؤثّر فيه، وهو البعد الذي يلفت الانتباه إليه لأنّه على أساس منه يمكن تعديل وجهة المجتمع، فالقضية كما يؤكّد ابن نبي >ليست قضية أدوات ولا إمكانيات، إنّ القضيّة كانت في أنفسنا، إنّ علينا أن ندرس أولاً الجهاز الاجتماعي الأوّل وهو الإنسان.. فإذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ<(37). ولو تتبعنا دورة الحضارة فإنّنا سندرك كيف يصعد المجتمع أحياناً وكيف يغدو راكداً ومتخلفاً أحياناً أخرى. فالمعادلة التي تحدد الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً هي التي تعطي له كل قيمته بوصفه صانعاً للتاريخ، وهي التي ينبغي أن يتصحح معناها في أذهاننا، وهذه المعادلة هي التي تحدد سلبية الإنسان ولا فعاليّته أو إيجابيّته وفعاليّته، وهي التي يكتسبها -كما ذكرنا- من البيئة الاجتماعية والثقافية التي تحيط به عبر عمليّات التمثّل النفساني وعمليّات الاستدماج والامتصاص للقيم الثقافية.
إنّ ابن نبي في معالجته لمشكلة الإنسان إنما يتناولها أساساً من هذه الزاوية، أي من زاوية الفعالية، بحيث ينصبّ اهتمامه حول نقطة مركزيّة هي >كيف نصنع رجالاً يمشون في التاريخ مستخدمين التراب والوقت<(38)، فحالة التخلّف التي تَخبرُها المجتمعات الإسلامية إنّما هي الترجمة الواقعية لقعود الإنسان وخموده. فلا غرابة إذن أن نراه يختصر الحديث عن التراب والوقت ويفيض الحديث عن الإنسان، فهو يؤكّد أنّ الإنسان هو الذي يحدّد في النهاية القيمة الاجتماعية لمعادلة الحضارة >لأنّ التراب والوقت لا يقومان إذا اقتُصر عليهما فحسب بأي تحويل اجتماعي<(39).
فالإنسان هو صانع التقدم حين يستخدم ما بين يديه من إمكانات بعد أن تشرطه الفكرة الدينية ويتفاعل مع مقتضياتها، فتحوّل خموده وسكونه إلى حركة بنائية فاعلة بما تقدمه له من مبررات ومحفزات دافعة، وهو مصدر التخلف حين تفقد الفكرة سلطانها عليه فتصير هذه العناصر بين يديه خامدة.
لذلك فالمجتمعات في حاجة -عندما تريد بناء أو إعادة بناء نفسها- إلى الإنسان الجديد الذي يعود إلى التاريخ مستغلاً كل طاقاته وإمكاناته مهما كانت بسيطة، ولكي تعود (المجتمعات) من جديد إلى ساحة الفعل الحضاري لابد من أن تعيد صياغة هذا الإنسان وتوجيهه عبر:
- توجيه الثقافة.
- توجيه العمل.
- توجيه رأس المال.
وهي الأمور التي يمكن من خلالها للإنسان أن يؤثّر في واقعه (أي أنه يؤثر بفكره وعمله وماله).
1,1,6 مفهوم التوجيه
التوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت وتركيز الطاقات والإمكانات، واستغلال ما هو متاح من أجل تحقيق الغايات والأهداف المرجوّة، فالكثير من الطاقات لا تستخدم لأنّنا لا نعرف كيف نستخدمها وكثير من الأعمال والمشاريع مآلها الإخفاق لأنّها تتصادم مع أعمال أخرى متوجهة نحو هدف واحد.
>فالعمل الصالح والعمل الصالح لا ينضافان إلى بعضهما البعض بالضرورة، بل ويمكنهما في بعض الحالات المعيّنة حتّى أن يلغيا بعضهما البعض<(40) إذا لم يتم تنظيمهما وتنسيقهما في عمل مشترك. وتكمن فكرة توجيه الإنسان في استخدام السواعد العاملة والعقول المفكرة في أحسن الظروف الزمنية و الإنتاجية(41).
2,1,6 توجيه الثقافة
ينطلق ابن نبي في هذا الإطار من قاعدة أنّ كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة، وكل تفكير في مشكلة الحضارة هو في الأساس تفكير في مشكلة الثقافة باعتبار الحضارة في جوهرها مجموعة من القيم الثقافية المحقّقة(42)، وإنّه إذا ما أريد للنهضة أن تبرز إلى عالم الوجود فإنّ علينا أن نواجه مشكلة الثقافة في أصولها(43). فالإنسان كما تبين لنا هو العنصر الأساسي الذي يحدد مضمون المعادلة الحضارية من خلال حركيته وفعاليته، وهذه الأخيرة هي خلاصة ثقافة يتشربها الإنسان في محيطه الاجتماعي الذي يكتنف وجوده.
لقد عالج ابن نبي الثقافة وانطلق في تحليلها من إطار المشكلة لا بدافع التشاؤم والسلبية، وإنما بدافع التغيير والنهضة(44) إدراكاً منه أنّها المدخل الأساسي لعمليات البناء الحضاري.
إنّ كيان الإنسان والمجتمع مرتبط دوماً بالحضارة، فهي التي تصنع تألقه في التاريخ وتتيح له القدرة والإرادة على النمو والتقدم، وعندما تصل هذه الحضارة إلى نقطة الانتكاس يفقد المجتمع مسوِّغاته وتتمزّق شبكة علاقاته الاجتماعية فيتوقف عطاؤه الحضاري، ويغدو عالمه الثّقافي محمّلاً بكل رواسب التخلف، ويصبح الإنسان جزيئاً محروماً من كل طاقة إشعاعية، وسلبياً وقابلاً للاستعمار، وبكلمة دقيقة يصبح الإنسان والمجتمع متخلّفين.
من هذا الإطار ينطلق مالك بن نبي في تحديده لمفهوم توجيه الإنسان من خلال توجيه ثقافته، حيث يؤكّد على:
1ـ ضرورة الهدم (التحديد السلبي)
إذ لا يمكن أن يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة والتي يستعيد من خلالها المجتمع توازنه الحضاري وقدرته على تجاوز أزمته إلا بهدم الإرث الثقافي السالب وتحطيم الوضع الموروث عن عصور الانحطاط، وتصفية عادات المجتمع وتقاليده وإطاره الخلقي ممّا فيه من عوامل فتّاكة أو ركام سالب، >لأنّ تصفية الأفكار الميّتة وتنقية الأفكار المميتة يعدان الأساس الأول لأية نهضة حقة<(45).
2ـ ضرورة البناء (التحديد الإيجابي)
ويقصد به تحديد محتوى الثقافة وعناصرها الجوهرية التي توصل المجتمع المتطلّع إلى التقدم بمقتضيات المستقبل، وهو عموماً يدور حول الإجابة عن السؤال التالي: كيف يتم إعداد ثقافة تساهم في إخراجنا من وضعية التخلف؟
ويرى مالك أنّه لكي تؤتي عملية التوجيه الثقافي نتائجها المرجوّة، ينبغي أن نصفّي ذلك الخلط الخطير بين ما يفيده مفهوم الثقافة ومفهوم العلم، فالتحديد المزدوج (السلبي والإيجابي) للثقافة لن يكون له تأثيره الحقيقي إلا بإزالة هذا الخلط، وعلى هذا فالثقافة في منظوره هي نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وهي تتعرف لديه على أنّها >مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أوَّلي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكّل فيه الفرد طباعه وشخصيّته<(46)، فإذا كان الوجود المادي للإنسان ينمو في نطاق مجال حيوي ويتزود عبره بالعناصر الطبيعية الضرورية لنموه البيولوجي تلك التي تنحل في بنيته من خلال عملية الهضم ودوران الدم... وكل العمليّات الأخرى التي تعبّر عن الحياة الماديّة، فإنّ وجوده النفسي أو المعنوي ينمو في نطاق ما نسميه الثقافة بكل ما تحتويه من ألوان وأنغام وعادات وتقاليد وأشكال وحركات، هذه العناصر التي تتجمّع في نفسيته ثمّ تذوب وتهضم في صورة عناصر ثقافية.
3ـ الثقافة والتخلّف
ما دامت الثقافة هي ذلك المحيط الذي يشكّل فيه الفرد طباعه وشخصيته وسلوكه، فإنّ أنماط الشخصية والسلوك الإنساني هي تجسيد واقعي لما يلقاه الفرد في بيئته الاجتماعية. ولنقرّب الصورة أكثر ونحوّر المثال الذي دلّل به ابن نبي على وظيفة الثقافة عندما شبهها بوظيفة الدم الذي يغذي جسم الإنسان، نتصور من الناحية البيولوجية أنّ هذا الدم يحمل في تركيبته جراثيم قاتلة، ونتصور أنّ مناعة هذا الإنسان تتناقص بتقدمه في العمر فإنّ هذه الجراثيم تزداد خطورتها على حياته، فهي إن لم تقتله جعلته عرضة للمرض والوهن، فكذلك الثقافة في مراحل تخلف المجتمعات تتولّد في نطاقها السلبيات وتتراكم مع الزمن لتحمل في طياتها أفكاراً قاتلة أو ميتة يمتصها جسم المجتمع، فتقضي على فعاليته وعلى تحضّره وتقوده عند نهاية دورة حضارته إلى التخلف والانحطاط. فعندما يبدأ المجتمع مسيرته الحضارية تكون كل قواه حية ومتحركة، تلك التي تنعكس أيضاً في نفسية الإنسان المتحضّر من خلال ما يلقاه في بيئته من مسوّغات دافعة وأفكار حية وطاقات محرّكة وضمانات تتيح له أن ينمّي قدراته الذاتية، فتشكّل فيه قيمة الفعالية التي تمكّنه من أن يستغلّ ما بين يديه من وقت وتراب. وعندما تدخل المجتمعات إلى مراحل تخلفها تخمد حركتها الدافعة، وتفقد مسوغاتها ويصبح الفرد كَلاًّ فاقداً لفعاليته لأنّ ثقافته التي ورثها من عصور الانحطاط عبر وراثته الاجتماعية، لم تستطع أن تمنحه الفعالية التي يؤثّر بها في محيطه، فأحكامه وسلوكاته ولا فعاليته هي الترجمة الواقعية لما انطبع في نفسيته من قيم وعادات سالبة امتصها من محيطه الثقافي.
وعلى هذا الأساس تبرز عناية مالك بن نبي بالمسألة الثقافية عندما اعتبرها المدخل الضروري لعملية البناء الحضاري(47). فلكي يحقق المجتمع تألّقه في التاريخ، ويقضي على ضروب التخلف واللافعالية، ينبغي أن نغيّر عالمه الثقافي، وأن نضع الإنسان أمام ضرورات جديدة تفضي إلى تغيير معادلته الشخصية التي زيّفتها عهود الكساد، وهذا هو رهان الثقافة الأساسي، أي أن تعيد الإنسان -الخارج من دورة حضارية بعد أزمة تاريخية- إلى الحضارة، وأن تدخل الإنسان السابق على الحضارة إلى دورة حضارية جديدة(48). وهو التحدي الذي يقف أمام المجتمع الإسلامي فيستدعيه إلى ضرورة التفكير في الإنسان الذي ينبغي إعادة صياغته ثقافياً حتى يتواءم مع ضرورات التحضر لأنه >من أجل أن نغيّر الإنسان ينبغي أن نغير وسطه الثقافي بإنشاء وسط جديد<(49) يمنحه المسوّغات الدافعة والفعالية القصوى حتى ينطلق في عملية البناء الحضاري.
لكنّ ابن نبي لم يكتف بهذه الدعوة فحسب بل سعى إلى تقديم ما يمكن أن نسمّيه برنامج عمل يمكن من خلاله أن نغيّر الفرد ونصوغه ثقافياً ليتحمل مسؤولياته البنائية، ويقضي على ضروب العطالة والتخلّف. وقد تجسّد هذا الجهد في محاولة إجابته عن السؤال التالي: كيف يتم إعداد ثقافة متلائمة مع السلوك الفعّال؟ أو ما هي الثقافة التي تخلق الفرد الفعّال؟ باعتبار أنّ الإنقاص من عدم فعالية الفرد يعني الإنقاص من تخلف المجتمع، فخلق السلوك الفعّال هو التحدي الذي ينبغي على مشروع الثقافة المخطَّط أن يضطلع بإيجاده.
4ـ عناصر الثقافة
يرى ابن نبي أنّ مشكلة الثقافة يمكن أن تطرح علينا في صيغ عدّة تتطلب كل منها إجابة خاصّة فهي يمكن:
-1 أن تشكّل أحد اهتمامات السوسيولوجيا عندما تطرح في صيغة: ما هي الكيفية التي تتكوّن بها ثقافة معينة؟
-2 ويمكن أن تشغل بال الناقد الأدبي، أو المهتم بالفلكلور عندما تطرح في صيغة استفهاميّة حول الصورة التي يمكن أن تبرز فيها ثقافة ما؟
لكنّ هذه الأوضاع كلها وإن كان البحث فيها يكتسي أهمية وقيمة نظرية عالية إلا أنّ أوضاع التخلف تفرض علينا أن نطرح مشكلة الثقافة لا في نطاق المجردات كالمسرح والفنون الجميلة... ولكن في نطاق نشاطاتنا اليومية حيث تدور حياة الأفراد، أي في نطاق الحقائق المحسوسة للتخلف كالبطالة والأمية(50)... وعلى هذا فإنّ المسألة تفرض نفسها وفق مقتضيات خاصة، فتصبح المشكلة هي:
كيف نُعدّ ثقافة نخلق من خلالها السلوك الفعّال لنحل بها أزمة المجتمع الحضارية ونقضي عبرها على تخلفه؟؟
وهنا يدعو ابن نبي إلى ضرورة ألا نكتفي بتعريف الثقافة من زاويتها التاريخية التي تتعرف فيها بالنسبة إلينا على أنها ذلك الجو الذي يطبع أسلوب الحياة في المجتمع وسلوك أفراده والذي يتكون من العادات والتقاليد.. بل ينبغي أن نعرّفها من زاوية تربوية فنصنف هذه العناصر(القيم، العادات والتقاليد..إلخ) تصنيفاً ينتهي إلى تطبيقها في شكل برنامج تربوي يكون الأساس الذي يتولد عنه الإنسان الفعّال(51) أو الشخصية الإيجابية التي تسهم بفعالية في بناء الحضارة.
وعلى هذا تتحدد عناصر الثقافة في:
- المبدأ الأخلاقي.
- الذوق الجمالي.
- المنطق العملي.
- الصناعة (الفن الصناعي أو العلم).
أ- المبدأ الأخلاقي
لم تكن عناية مالك بالأخلاق من زاويتها الفلسفية وإنما من منظورها الاجتماعي، فالحياة الاجتماعية مبنية أساساً على الروابط التي توحّد الأفراد وتجمع بينهم، إذ لا يمكن تصوّر اجتماع إنساني يقود إلى عمران بشري متحضر من غير شبكة من العلاقات تتيح لأفراده الاتصال والتفاعل؛ >فالمبدأ الأخلاقي هو الذي يقوم ببناء عالم الأشخاص الذي لا يتصور بدونه عالم الأشياء ولا عالم الأفكار<(52)، والذي بدونه لا يمكن أن يرتقي المجتمع سلّم الحضارة. ومالك بن نبي يميز عموماً في هذا النطاق بين ما هو عائد إلى الغريزة التي تدعو الإنسان إلى الاجتماع فتتكوّن بنتيجته العشيرة والقبيلة والأمة، وما هو عائد إلى الروح الخلقية (الدين) التي تهذب الغريزة وتحدد وجهتها، هذه الروح التي تأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضارات ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض(53). لذا فإن فاعلية المجتمعات متوقفة أساساً على القوة الدافعة التي يمنحها المبدأ الأخلاقي(54)، فإذا وجدنا في التاريخ مجتمعاً متخلفاً، فهذا يعني أن شبكة علاقاته قد ارتخت مما يعني أنّ الصلات الشخصية بين أفراده قد اختلّت وتهدمت، وهو يعني في النهاية أنّ قوة المبدأ الأخلاقي قد فترت. فالمجتمع الذي تهدمت شبكة علاقاته فأخرجته إلى عصر ما بعد الحضارة أو المجتمع الذي لم تتكون فيه بعد هذه الشبكة، ليس أمامه إلا أن يولي -في مشروع توجيه الثقافة- أهمية بالغة للمبدأ الأخلاقي حتى يستعيد قدرته على العمل والبناء.
ب- الذوق الجمالي
 إنّ الإطار الحضاري بكل محتوياته -كما يؤكد على ذلك ابن نبي- متصل بذوق الجمال، فالجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أي حضارة(55)، لذلك ينبغي أن يتجه المشروع التربوي للثقافة إلى تنمية هذا الذوق في روح الفرد والمجتمع وتصفية الإطار الاجتماعي من كل ما يشيع فيه الفوضى أو يسيء لذوق الجمال؛ لأنّ >كل جزئية تافهة أو غير مألوفة -تشيع داخل البيئة التي يتطور ضمنها الراعي والعالم سواء- من شأنها أن تدعو الطفل الناشئ إليها وتقيم معه منذ ميلاده حواراً يظل مستمراً حتى شيخوخته، بحيث ينطبع في كل حد من حدوده على ذاتيته وشخصيته...(56)، وعندما تكون البيئة نظيفة وجميلة فإنها تبث في الفرد الذي ينشأ ضمنها معاني الجمال والذوق الرفيع فينعكس هذا في سلوكاته وأفكاره. بل إنه حتى الأفكار -بصفتها روح الأعمال- إنما تتولد من الصور المحسوسة الموجودة في الإطار الاجتماعي بما يحويه من روائح وأصوات وأوزان وحركات ومناظر... والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره(57). وحتى يخرج المجتمع من فوضاه وركوده يجب أن يولي أهمية بالغة لشعيرة الجمال ويبث معناها في سائر وجوه النشاط الإنساني، في الملابس والعادات وأساليب المشي.. بل حتى في طريقة زراعة محصول ما في تربة أحد الحقول(58)، لأنّ ذوق الجمال يحرك الهمم ويخلق في النفس ديناميكية محركة. ولو تمعنا في واقعنا الاجتماعي المأزوم سندرك إلى أي حد وصل تفريطنا في هذه الشعيرة المهمة التي أوصى بها الإسلام عندما اعتبر الطهور شطر الإيمان والتي كان نبي الإسلام أكثر الناس حرصاً عليها حتى في غزواته عندما كان يحمل معه مشطه وسواكه، ويهتم بتسوية مظهره ويربي غيره على أن يجسدوا شعيرة الجمال في الباطن والظاهر.
ج- المنطق العملي
 في عصرنا الحالي الذي أصبح يسيطر فيه على وجوه النشاط مفهوم سرعة الإنتاج، ويطبق المنهج التايلوري (نسبة إلى Frederick Taylor) في تنظيم الأعمال؛ ليس أمام المجتمعات الإسلامية حتى تقضي على أزمتها الحضارية إلا أن توليه عبر مشروعها الثقافي أهمية قصوى، فالعقل المجرد والطاقات العلمية متوفرة فيها غير أنّ الذي ينقصها هو العقل التطبيقي الذي يتكون من الإرادة والانتباه. والمنطق العملي في مفهومه هو ارتباط العمل بوسائله حتى لا تُستسهل أو تُستصعب الأشياء دون مقياس. وهو في أحد أبعاده استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من الوسائل المتاحة مهما كانت بسيطة(59)، ولو تأملنا الحياة العامة -يؤكد ابن نبي- للاحظنا ضروب اللافعالية التي تميز أعمالنا حيث يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة، لأننا نفتقد الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، وبين سياسته ووسائلها، وبين ثقافة ومثلها، وبين فكرة وتحقيقها(60). وهكذا تهتلك الإمكانات ويضيع الوقت، ويستنفد المجتمع طاقاته في مشاريع فاشلة فتتضاعف مديونيته الحضارية وتتفاقم أزمته.
د- الفن الصياغي (أو العلم أو الصناعة بتعبير ابن خلدون(61))
إنّ أهم ما يميز مجتمعاً ما في مرحلة تخلفه الحضاري بالإضافة إلى تهدم شبكة علاقاته وفوضى عالمه الثقافي وخمود إنسانه... هو تخلفه العلمي والتقني والصناعي، وهنا تبرز ضرورة التوجيه التربوي للقدرات والمهن والتكنولوجيا في المجتمع المسلم الذي يرغب في التقدم(62). من هذا المنطلق نجد ابن نبي يلح على هذا العنصر المهم من عناصر التوجيه الثقافي، وهو عندما يتكلم عن الصناعة فلا يقصرها على مفهومها الضيق وإنما يوسعها لتشمل كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم والتي ينبغي أن يتوفر عليها المجتمع ليحافظ على كيانه ونموه(63).
هذه هي إذن فصول الثقافة كما يتصورها ابن نبي، والتي ينبغي أن تتحول إلى برنامج تربوي لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية وفي مستوى أهداف الإنسانية(64)، والتي عندما تتحد مع توجيه العناصر الأخرى (المال، العمل) تكون الأزمة الحضارية قد تهيأت للحل.
3,1,6 توجيه العمل
هو الحلقة الثانية من مشكلة الإنسان، ورغم أنه ليس عنصراً أساسياً كالإنسان والتراب والوقت، إلا أنه يتولد من هذه العناصر. وتوجيه العمل هو تكتيل الجهود الجماعية لتصب في اتجاه واحد يحقق أهداف المجتمع. وابن نبي عندما يتحدث عن العمل فإنما يبسّط مفهومه ليشمل ما يمكن أن نعده في نظرنا تافهاً لا قيمة له، ولكنه في حقيقة الأمر يكتسي أهمية بالغة لأن صناعة التاريخ تبدأ من هذه الأمور البسيطة، >إنّ التاريخ يبدأ من مرحلة الواجبات المتواضعة الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل دقيقة، لا في معناها المعقد كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة، يعطلون بها التاريخ بدعوى أنهم ينتظرون الساعات الخطيرة والمعجزات الكبيرة<(65)، فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل وتقبل هذه الحروف عمل وإسداء نصح وتقبله عمل...(66). والأعمال الكبيرة هي في النهاية خلاصة مقدمات وجهود بسيطة، فعندما تتجمع هذه الجهود فإنها لاشك ستغير وضع الإنسان، وتقضي على ضروب العطالة التي تقيد حركته وتسد أمامه آفاق التحضر.
4,1,6 توجيه رأس المال
ينظر ابن نبي إلى رأس المال بوصفه آلة اجتماعية تنهض بالتقدم المادي، لا آلة سياسية في يد طبقة رأسمالية تضطهد من خلالها جموع الشعب كما تذهب إليه النظرية الماركسية. وهو يفرّق بين الثروة ورأس المال، فالأولى متعلقة بالمركز الاجتماعي لمن يمتلكها، وهي أموال مكدسة تفتقد إلى الحركة وليس لها من قيمة اجتماعية لأنها لا تدخل في الدورة الاقتصادية كقوة استثمارية يمكن أن تولّد العمل، فهي من الناحية الاقتصادية والأدبية شيء بدائي بسيط لا يرقى لمستوى رأس المال الذي يتسع نطاق استخدامه ليتجاوز المجال الاجتماعي الضيق إلى مجال أوسع من محيط الفرد وأقصى من المقدار الذي تحدده حاجاته، فينجم عن حركته النشاط ويوظف الأيدي والعقول(67).
أما توجيه رأس المال فمعناه أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط. إن القضية ليست في تكديس الثروة ولكن في تحريك المال وتنشيطه بتوجيه أموال الأمة مهما كانت بسيطة وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأسمال متحرك ينشّط الفكر والعمل والحياة(68).
ويدخل في نطاق التوجيه أيضاً أن تستخدم هذه الأموال فيما يحقق الأهداف الكبرى للمجتمع مهما كانت هذه الأموال قليلة وبسيطة. وليست المشكلة في البلاد الإسلامية -كما يؤكد ابن نبي- في الفقر الذي تعانيه على نطاق واسع، بل في ضعف توجيه هذه الأموال أو انعدامه إما على صعيد المتمولين (البرجوازيين) الذين تتوسع ثرواتهم دون أن يكون لها أي صدى اجتماعي، أو على صعيد الفقراء الذين تتوجه الأموال (البسيطة التي بين أيديهم) في نشاطات غير منتجة(69). وما أكثر الأموال التي تكدسها الأمة الإسلامية اليوم في البنوك الغربية دون أن تجد طريقها إلى الاستثمار أو تُستثمر في مجالات لا تُغيّر من وضع الأمة الحضاري شيئاً على خلاف ما نجده لدى الأمم الأخرى، فاليهود بامتلاكهم لرأس المال استطاعوا السيطرة على السياسات العالمية بما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم، إذ غالباً ما يتم توجيهها إلى قطاعات حساسة كالإعلام والاستثمارات الكبرى على نطاق دولي واسع يتم عبرها رهن اقتصاديات تلك الدول والتأثير في قررها السياسي...إلخ(70).
2,6 التراب
يعتبر التراب أحد العناصر الحضارية الهامة في معادلة مالك بن نبي، وهو عندما يتطرق لعنصر التراب يؤكد على دور الإنسان في استغلاله وتحويله لما لذلك من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية >فالأرض هي مسرح التحضر وعليها يكون استقرار الإنسان، ومن مرافقها السطحية والباطنية يرتفق لاستيفاء حاجاته وتنمية أساليب حياته<(71).
كما يدعو إلى ضرورة استخدام الوسائل العلمية المتاحة لحل مشكلاته كمشكلة التصحر ومشكلة الجفاف والانجراف... لكونها من المشكلات المركزية التي تهدد البلدان الإسلامية. وينبه إلى ضرورة الاستفادة من الخبرة العالمية في هذا المجال سواء في إطارها الفني حين تضع أمام الإنسان الخبرة العلمية أو في إطارها النفسي حين تضع أمام الشعوب نماذج رائدة تستدعي الاقتداء، كنموذج المجتمع الفرنسي عندما تصدى لرمال المحيط الأطلسي التي كانت تهدّد صحته ومصلحته - طيلة عشرين سنة فحوّل تلك المنطقة الفقيرة والخطيرة على الصحة، فأصبحت بما تمتّعت به من الأشجار الكثيرة ذات حركة اقتصادية ممتازة، وأصبحت ملجأً صحياً للمرضى من جميع أنحاء العالم(72). أو نموذج الاتحاد السوفيتي الذي واجه أزمة الجفاف بأنّ عيّن حوالي عام 1892 العالم دوكتشايف لدراسته فأسّس معهداً علمياً وُلد فيه علم جديد هو علم التربة Pédologieع(73).
ومن المشكلات المتعلّقة بهذا العنصر مشكلة الترحّل التي وإن كانت لصيقة بمشكلة الإنسان إلاّ أنّ لها صلة بمشكلة التراب وشروط استغلاله في العمليّة الاجتماعية(74).
ومشكلة التراب في البلاد الإسلامية التي يعاني جزء كبير من سكانها من نزعة الترحّل لا يمكن أن تحلّ إلا من خلال استقرار الإنسان لأنّ استقراره هو الشرط الأول الذي يتيح له استثمار هذا الإمكان الحضاري الهام. وقد دلل ابن نبي على هذا عندما أشار إلى أن النواة الأولى للحضارة الأوروبية ارتبطت منذ بدايتها بالأرض عندما تفاعل معها الإنسان الأوروبي بجهده، ففرضت عليه نزعة الاستقرار نمطاً خاصاً من الحياة الاجتماعية طوّر مفهوم الملكية، فأصبح يعيش في مجال حيوي مكيف طبقاً لضروب نشاط موسمية منتظمة، فتكوّن لديه مفهوم العمل اليومي وفكرة الزمن الاجتماعية، ونتج عن تطور هذه الحياة الروح القروية(75)... وتقدم أسلوب حياته شيئاً فشيئاً ليصل اليوم إلى ما يسمى الحضارة الصناعية.
3,6 الوقت
في العصر الذي أصبح يعرّف بعصر السرعة لابد أن ترجع للوقت قيمته في البلاد التي تريد الخروج من التخلف، ومالك يشير في الكثير من كتاباته إلى أهمية هذا العنصر الحضاري عندما يتحدث عن التجارب التنموية التي عرفها العالم الحديث، كالتجربة السوفيتية التي اختصرت الزمن ونقلت الإنسان الروسي من عصر الموجيك إلى عصر الذرة والفضاء، أو التجربة الصينية التي برهنت على أن الواقع الاجتماعي قابل للتسريع... فالتاريخ إذا ترك لحاله فإنّه يسير وفق سببية مرحلية وإلى حتمية معينة، إلاّ أن الإنسان يمكن أن يتدخل في نطاقه ووفق قوانينه ليغير مساره ويختصر طريق الحضارة، فالحياة المادية تبين مثلاً أن عملية التحلل الطبيعي لليورانيوم تتم في فترة تقارب الأربعة مليارات وأربعمائة مليون سنة، بيد أن الاكتشافات العلمية مكّنت الإنسان من أن يسرّع هذه العملية لتتم في بضع ثوان(76) فاستطاع بذلك أن يختصر الزمن. وعوامل التعجيل هذه ممكنة كما ذكرنا في النطاق الإنساني، وعلى البلاد الإسلامية أن تأخذ هذا المعطى المهم في اعتباراتها، ولا يكفي أن تقارن البلدان الإسلامية وضعيتها الحالية (درجة تطورها في سنة 2000 مثلاً) بوضعيتها السابقة (سنة 1962 مثلاً) فترى أنها قطعت أشواطاً هامة نحو التقدم، بل عليها أولاً أن تقارن وضعيتها بالوضعية العامة التي تنتظم العالم اليوم(77) لأن العالم يتطور بخُطاً سريعة، وحتى تضيق الفجوة ينبغي أن تتسارع حركة البلاد الإسلامية لتختصر خطوات التاريخ.
وعلى هذا الأساس دعا ابن نبي إلى ضرورة إدخال مفهوم الزمن وقيمته الاجتماعية في وعي الأفراد من خلال عملية التربية حتّى >يتعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يومياً لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمّة منتظمة وفعّالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل<(78). وعندما يتحدد معنى الزمن في نفس الإنسان والمجتمع، يتحدد معنى التأثير والإنتاج وتصبح للوقت قيمته ودوره في تنمية حصاد المجتمع العقلي واليدوي والروحي.
لكن ابن نبي يشير إلى ملاحظة مهمة هي أنّه إذا كان على البلاد الإسلامية أن تعرف كيف تقدّر الآثار السلبية للتفريط في قيمة الوقت في نشاطها فإنّ عليها بالمقابل ألاّ تغلو في الإفراط في تقديره، حيث يمكنها أن ترى بسهولة نتائجه السلبية في البلاد المتقدمة التي اتجهت نحو المادية الصرفة، وجعلت الإنسان يغترب عن ذاته (l’Aliénation) وتُهدر إنسانيته عندما أصبح تُرسًا في عجلة آلة لا تتوقف أبداً هي عجلة الحضارة الغربية.
? خاتمة
إن العرض السابق الذي حاولنا من خلاله تتبع جهود مالك بن نبي التنظيرية في حقلي الثقافة والحضارة قد كشف لنا عن نظرة متميزة لجوانب الأزمة -التي تنتهب الأمة الإسلامية منذ عصر ما بعد الموحدين- من حيث طبيعتها وأسبابها ومظاهرها وأبعادها المختلفة، فقد انطلق في معالجتها على أساس أنها مشكلة حضارة أولاً وأخيراً، ولم يكن في كل ذلك مقلّداً أو مغرماً بالتجريدات النظرية وإنما سعى إلى تحويل تلك المعاناة التي عاشها كابن للمستعمرات إلى فعل معرفي يغوص في أعماق ظاهرة التخلف باحثاً عن أسبابها ومنقباً عن أصولها وكيفيات الخروج منها، وقدّم حلولاً وخطة عمل وتصوراً نظرياً يشكل لبنة أساسية لكيفيات استئناف البناء الحضاري.
هذا البناء لن يتم في الأخير إلا بحل مشكلة الحضارة تلك التي هي في جوهرها مشكلة الإنسان. فكل جهد لا يعمل على تغيير الإنسان وتعديل معادلته الاجتماعية حتى تتواءم مع ضرورات التحضر وتنسجم مع متطلبات البناء هو جهد فاشل من البداية حيث يقول: >فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة... وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت إلا أن التغييرات هذه جميعاً تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه<(79). فليكن هدفنا دائماً هو بناء الإنسان!
الهوامش:
?* أستاذ مساعد لقسم علم الاجتماع في جامعة فرحات عباس - الجزائر.
(1) قد يكون لهذه الخطوة جانب سلبي من حيث إنها قد تلعب دور الوسيط السلبي الذي يصرف القارئ عن متابعة مشروعه في القراءة لما تشعه حوله من إشعاعات الحرمان وتشويه للأفكار مثال ذلك كتاب غازي توبة عن فكر مالك بن نبي.
(2) طبعاً لا ينسحب هذا الحكم على الجميع.
(3) انظر على سبيل المثال: وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي كإحدى الدراسات النقدية التي عرضت لهذه القضية، وأيضاً: كتاب الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات لمنير شفيق كدراسة مسحية لهذه الجهود.
(4) الطيب برغوث، موقع المسألة الثقافية من استراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، ط1 (الجزائر: دار الينابيع للطباعة والنشر، 1993).
(5) تتمثل هذه القضية في نشأة الحضارة وتطورها وأفولها.
(6) بلغت هذه المؤلفات ما يربو على الثلاثين (30) مؤلفاً بين مطبوع ومخطوط.
(7) نقصد بمسار التغير الاتجاه الذي يسلكه، ففي الفيزياء مثلاً تدرس طبيعة حركة جسم ما (سيارة) والمسار الذي يتبعه سواء كان مستقيماً أو متعرجاً أو دائرياً إلى غير ذلك.
(8) لمزيد من الاطلاع انظر: نيقولا تيماشيف، نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها، ترجمة محمود عودة وآخرين، (مصر: دار المعرفة الجامعية، 1998).
(9) وهو نفس ما دعا إليه ابن خلدون عندما ميز بين التاريخ النقلي والتاريخ العلمي حيث يقول: >إذ هو في ظاهره (التاريخ) لا يعدو عن إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأُوَل، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق<.
(10) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع. شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة عبد الصبور شاهين، إشراف ندوة مالك بن نبي (دمشق: دار الفكر، 1989).
(11) ركز ابن خلدون على أحد نواتج الحضارة وهي الدولة كوحدة للتحليل والدراسة.
(12) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ط3 (بيروت: دار القلم، 1989).
(13) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي (دمشق: دار الفكر، د.ت).
(14) نورة خالد السعد، التغيير الاجتماعي في فكر مالك بن نبي دراسة في بناء النظرية الاجتماعية، ط1(السعودية: الدار السعودية لنشر والتوزيع، 1997)، ص 178.
(15) انظر على سبيل المثال: المجتمع العربي في الجاهلية والدور التغييري للفكرة القرآنية أو الدين الإسلامي.
(16) لعل هذا هو ما عبر عنه أحد الصحابة في تلك الفترة عندما خاطب أحد التابعين بقوله: إنكم لتعملون أعمالاً كنا نعدها على عهد رسول الله ? من الكبائر. ولعل نشأة التصوف فيما بعد كان ردة فعل على هذه الوضعية المجتمعية.
(17) عبد المجيد النجار، فقه التحضر الإسلامي الشهود الحضاري للأمة الإسلامية، ط1(بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1999).
(18) لا زالت كثير من الدراسات التنموية تعتمد هذا المنحى في دراستها لمشكلة التخلف أي منهج التذرير والتجزيء.
(19) مالك بن نبي، شروط النهضة.
(20) هذا التعريف وظيفي لأنه يركز على وظيفة الحضارة وقد قدم ابن نبي تحديدات أخرى لمفهوم الحضارة باعتبار جوهرها وعلاقتها بمنتوجاتها... ولمزيد من التعمق انظر: نورة خالد السعد، مرجع سابق، ص ص107-108.
(21) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط1 (الجزائر: دار الفكر، 1991)، ص43.
(22) يعبر عنه الآن في المصطلحات الاقتصادية بمتوسط الدخل فكلما كان مرتفعاً استطاع الفرد أن يحقق رغباته.
(23) مالك بن نبي، تأملات، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط5 (الجزائر: دار الفكر، 1991)، ص191.
(24) مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، ترجمة عبد الصبور شاهين، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط3 (الجزائر: دار الفكر، 1992)، ص110.
(25) عبد الرحمن بن خلدون، مرجع سابق، ص 294 (فصل أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع).
(26) مالك بن نبي، ص20، من تقديمه لكتاب جودت سعيد، حتى يغيروا ما بأنفسهم، ط7 (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1993).
(27) قرآن كريم، سورة الرعد، الآية11.
(28) المرجع نفسه، ص22.
(29) يؤكد ابن نبي على أن معرفتنا بأسباب الانحطاط هي المعيار الأساس لتعديل المسار والتوجه نحو غايات التحضر.
(30) عرضنا لذلك عندما تحدثنا عن مراحل الدورة الحضارية.
(31) لم يقصر ابن نبي دراسته على هذه الدول فقط بل وسّعها في بعض الأحيان لتشمل ما كان يسميه دول نصف الكرة الجنوبي أي الدول المتخلفة.
(32) مالك بن نبي، تأملات، ص 29.
(33) المرجع نفسه، ص 164.
(34) مالك بن نبي، تأملات، ص 201.
(35) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 145.
(36) مالك بن نبي، تأملات، ص27.
(37) مالك بن نبي، تأملات، ص129.
(38) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 75.
(39) مالك بن نبي، فكرة كمنولث إسلامي، ص 53.
(40) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص100.
(41) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 78.
(42) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص ص100-101.
(43) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 62، وأيضاً: فكرة الأفريقية الآسيوية، ص 245.
(44) زكي ميلاد، مالك بن نبي ومشكلات الحضارة دراسة تحليلية ونقدية، تقديم جودت سعيد، ط1(بيروت: دار الفكر المعاصر، 1998) ص 96.
(45) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 83.
(46) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 83.
(47) الطيب برغوث، مرجع سابق، ص13.
(48) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص101.
(49) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 103، وأيضا: فكرة الأفريقية الآسيوية، ص146.
(50) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص69.
(51) مالك بن نبي، تأملات، ص147.
(52) مالك بن نبي، تأملات، ص148.
(53) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص88.
(54) مالك بن نبي، تأملات، ص148.
(55) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص94.
(56) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص82.
(57) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص91.
(58) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص86.
(59) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص85.
(60) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص96.
(61) عقد ابن خلدون في مقدمته فصولاً كثيرة للصنائع وصنفها إلى ما هو ضروري في العمران كالفلاحة والبناء والخياطة والتجارة... وما هو شريف في الموضع كصناعة التوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب... انظر: مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ص405 وما بعدها.
(62) علي القريشي، التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي منظور تربوي لقضايا التغيير في المجتمع المسلم المعاصر، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1989 )، ص204.
(63) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص97.
(64) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص100.
(65) مالك بن نبي، في مهب المعركة، ص88.
(66) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص107.
(67) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص ص 110-111.
(68) المرجع نفسه، ص113.
(69) انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص ص90-92.
(70) بين يدي الآن أرقام نشرتها جريدة الشروق الجزائرية العدد 482 (4 جوان 2002) نقلاً عن دراسة اجتماعية متخصصة تؤكد أن أموال العرب المودعة في الخارج تتجاوز التريليون و300 مليار دولار، بينما يعيش 83% من تعداد سكان العالم العربي البالغ عددهم 284 مليون حسب إحصائية 2000 في حالة فقر ومستوى دخل متدن جداً. وذكرت الدراسة التي أعدها المجلس العربي للطفولة والتنمية أن الهوة تزداد اتساعاً بين فئة الفقراء الأكبر عدداً وفئة الميسورين الأقل، وطالبت الدراسة باستثمار جزء من هذه الأموال وليكن 1% منها في البلاد العربية لإيجاد خدمات البنية الأساسية قصد مواجهة شبح العولمة القادم.
(71) عبد المجيد النجار، مرجع سابق، ص29.
(72) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 135.
(73) مالك بن نبي، في مهب المعركة، ص 105.
(74) مالك بن نبي، فكرة كمنولث إسلامي، ص 80.
(75) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص39 وما بعدها.
(76) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص44.
(77) مالك بن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، ص33.
(78) مالك بن نبي، شروط النهضة، ص141.
(79) مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، إشراف ندوة مالك بن نبي، ط2(الجزائر: دار الفكر، 1988)، ص51.