قراءة القرآن المجيد ليست قراءة عادية تشبه قراءة أي نصّ منظوم أو منثور، بل هي قراءة خاصة تقتضي من القارئ أن يكون قد هيأ نفسه وعقله وذهنه وقلبه تهيئة تامة تلائم مقام القرآن وتناسبه بحيث يكون القارئ مدركاً تماماً أنه يقرأ كلمات الله ووحيه إلى الإنسان الرسول النبي الذي قام بدوره بنقل هذا الوحي - القرآن إلينا، وصرنا حين نقرؤه إنما نقرؤه مباشرة بوصفه خطاباً إلهياً موجهاً إلينا بشكل مباشر. فلكي نرقى إلى مستواه، ونعرج إلى عليائه فإن علينا أن نتدبر آياته، ونتلوها تلاوة، ونرتلها ترتيلاً، ونفكر فيها، ونتعقّلها، فإنه لولا تيسير الله له لما أمكن للبشر المخلوق أن يمسّه، ويدرك آفاقه. من هنا أمرنا أن نعطي تلاوته (حق التلاوة). وحق التلاوة أمر عظيم لا يتيسر إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى، والتواضع لجنابه، والاطراح على أعتابه.
وقد حذّر القرآن المجيد من كثير من أنواع القراءة التي تكون حجة على القارئ، لا حجة له. ومن أبرز أنواع القراءات التي شدد النكير على أصحابها (القراءة الحمارية) وهي التي جاء التنبيه إليها والتحذير منها في الآية الخامسة من سورة الجمعة: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، وليس هناك شيء أبلغ في نفي حقيقة القراءة وعدم الاستفادة بها من هذا المثل. فالحمار لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولا يتعظ ولا يتذكر. جوهر العلاقة بين الحمار والكتاب أن يوضع الكتاب على ظهره، ويسيّره صاحبه يمنة أو يسرة كما يشاء، بل الحمار لا يدرك ما الذي يحمل، إنما يدرك منه ثقله أو خفته على ظهره. ولذلك فإن هذا النوع من حمل الأمانة - أمانة الكتاب، لم يؤد بهم إلى فقه في الدين، اللهم إلا ذلك (الفقه البقري) إن صح تسمية ما بدا منهم في تعاملهم مع الأمر بذبح >بقرة< فقهاً.
ومن المؤسف أن الأمة المسلمة قد سقطت -رغم النذر كلها- بعد الصدر الأول فيما سقطت فيه أمم من قبل؛ فقد حمّلوا القرآن ثم لم يحملوه إلا بتلك الطريقة >الحمارية<، فلم يحسنوا قراءته، ولم يرتّلوه ترتيلاً كما أمروا، ولم يتلوه حق التلاوة، ولم يدبروا آياته، بل هجروه {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} فأهلكوا أنفسهم. فأصاب فقههم للدين عامّة، وللقرآن خاصة ما أصاب فقه أصحاب البقرة في تنفيذ واجب ذبح البقرة، وتناسوا خصائص شريعتهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحل الطيبات، وتحريم الخبائث، ووضع الإصر والأغلال، والقيود والأثقال التي حفلت بها شرائع من قبلهم، وتجاهلوا المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، والمستويات الأخرى من المقاصد ليتشبث بعضهم بشرائع من قبلنا، وتبنّى كثير مما فيها من إصر وأغلال. بل قد حدث منا ما هو أخطر من ذلك حين شابهنا {المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:90،91] فـ>المقتسمون< وإن تعددت أقوال المفسرين فيهم(1) فإننا نرجح أن يكون المراد أولئك الذين جعلوا القرآن مقسّماً، فما وافق ما لديهم قالوا بصحته مع دعوى اقتباسهم منه، وما خالف ما عندهم من تراث قالوا فيه ما يشاؤون (أساطير الأولين أو سحر أو كهانة أو شعر). فقسّموه وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ليخدعوا البسطاء بموضوعيّتهم أو علميّة مواقفهم المضطربة التي لا دليل عليها. وليسهل عليهم ذلك الاقتسام جعلوه أعضاءً: من >التعضية< بمعنى التفريق والتجزئة، يقال: عضّيتُ الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاءً وقسمتها. ومثل ما نهينا عن حمل القرآن بطريقة (حمارية) نهينا عن مشابهة سائر أولئك الذين عضّوه تعضية، وفرقوه، واتخذوا آياته شواهد لما يذهبون إليه بدلاً من أن ينطلقوا منه كله في كل ما يأخذون ويدعون، ويقرؤونه بوصفه قرآناً واحداً لا يقبل التعضية ولا التفريق ولا التجزئة.
إن المسلمين حين قرؤوا القرآن بطريقة التجزئة متشبهين بأولئك المقتسمين بوجه من الوجوه قد فقدوا الكثير من أنوار القرآن وآثار آياته الموحدة التي أحكمت فصار كالكلمة الواحدة - كما قال أبو علي الفارسي. وقراءة التعضية هي التي أورثتنا كثيراً من المقولات الغثة التي لا يتقبلها الإحكام القرآني، لا بل يترفع عنها؛ مثل القول بالنسخ لبعض الآيات والتعارض والاشتباه وما إلى ذلك مما سوف نبحثه تفصيلاً إن شاء الله في دراساتنا في علوم القرآن. من هنا يصبح تناول (الوحدة البنائية للقرآن المجيد) أمراً في غاية الأهمية سوف يساعد القارئ المسلم على حسن القراءة والترتيل ودقة التلاوة ثم استقامة الفهم إن شاء الله. فهي ركن منهاجي، وليست مجرد فضيلة تضاف إلى فضائل الأسلوب القرآني. فإن وجد قراؤنا في ذلك خيراً فنرجو ألَّا نحرم من صالح دعائهم، وإن وجدوا غير ذلك فليبحثوا لنا عن عذر، ونستغفر الله لنا ولهم.
بيان المراد بها
أما (الوحدة) فهي مقابلة للكثرة والتعدّد أياً كان نوع الكثرة، وأياً كان إطار التعدّد. فكون الشيء واحداً أي: أنه ليس متعدداً، ولا قابلًا للكثرة أو التكرار. وفي (الوحدة) معنى الثناء، فإن قيل: فلان واحد الدنيا، أو وحيد عصره. أريد به ذاك، فكأنه رغم انتمائه إلى البشر وكونه واحداً منهم فإن له من الخصال والمزايا الحسنة ما يجعله كأنه انفصل عن جنسه الذي لا يتمتع بتلك الخصال منه غيره، فصار واحداً. وقد قال الشاعر مادحاً:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإنّ المسك بعض دم الغزال
والقرآن المجيد منفصل عن سائر الكتب المنزلة وغير المنزلة متفوق عليها -جميعاً- بخصائصه ومزاياه، ونظمه وبلاغته وفصاحته، وهو في الوقت ذاته واحد في داخله بهذه المزايا والخصائص، ينتظم حروفه وكلماته وآياته وسوره سلك واحد. والقرآن واحد في كونه متفرداً من تلك الحيثية، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات والآثار حتى ليبدو في ذلك -كله- كما لو كان كلمة واحدة، أو جملة واحدة. لأن الواحد -في الحقيقة- ما لا جزء له البتة؛ فلا يقبل (التعضية) أي: التقسيم إلى أعضاء، ولا يقبل التحويل والتغيير والتبديل فيما يتألف منه.
والواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه:
فيستعمل لما كان واحداً في الجنس أو النوع مثل أن يقال: (الإنسان أفضل من الحيوان). أو فيما هو أهم بحيث يراد به جنس الإنسان وجنس الحيوان، فإذا قلت: زيد وعمرو واحد، أردت بذلك وحدتهما من حيث الانتماء إلى نوع واحد هو (الإنسان).
ويطلق على ما كان واحداً من حيث الخلقة، كأن تقول: (شخص واحد) أو من حيث الصناعة، كأن تقول: (حزمة واحدة).
ويطلق على ما كان واحداً لعدم نظيره، إما في الخلقة، كأن يقال: (الشمس واحدة). وإما في نسبة الفضائل إليه، كأن يقال: (فلان وحيد دهره، ونسيج وحده). ويقال لما كان واحداً لامتناع تجزئه، أو امتناع تعضيته لصغره، أو لصلابته، أو لأنه غير قابل للتجزئة بطبيعة تكوينه.
ويقال لبداية العدد (واحد) وهو ما فوق الصفر ودون الاثنين.
وإذا وصف الله -تبارك وتعالى- به أريد أنه لا يصح عليه التعدّد والتجزؤ والتكثُّر؛ فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي ألوهيَّته وربوبيَّته.
والقرآن واحد في جنسه ونوعه ونظمه وتحديه، وفرادته وإعجازه. لا يقبل التكثُّر ولا التعدّد ولا التعضية ولا التجزؤ. لا يشاركه في خصائصه وصفاته ومنهجه كتاب آخر؛ لا منزل ولا موضوع. وذلك هو مرادنا بـ(وحدته) من هذه الحيثية. أما (وحدته البنائية) فقد أردنا بها أنه بكل سوره وآياته وأجزائه وأحزابه وكلماته يُعَدُّ كأنه جملة واحدة.
وأما وصفنا لهذه (الوحدة) بـ(البنائية) أو إضافة هذه (الوحدة) إلى (البنائية) فقد أردنا به الإشارة إلى ما يدل عليه قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فالإحكام -هنا- من إحكام البناء بحيث يمتنع أي اختراق لمتانته وقوته، ويدل عليه أو يدل له قوله تعالى: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] بحيث يمتنع على الشيطان أن يبلغ شيئاً منها، فهي لتطمين البشرية أن هذا القرآن محفوظ ومغلق بإحكام أمام كل محاولات الاختراق. ومنها محاولات الشياطين الذين وَهَمَ الجاهليّون أنهم قادرون على اختراق أي مجال فزعموا أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين على رسول الله K فقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ...} [الشعراء:121] ويعضد ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران:4] أي ما لا يمكن أن تعرض فيه شبهة أو يتطرق إليها عارض يتيح لأهل الفتنة والذين في قلوبهم مرض استثمار ذلك على وجه الحقيقة، لأن كل ما قيل أو يقال منهم ضد هذا القرآن إنَّما هو من قبيل الشغب واللغو، وعلى هذا يكون المراد بهذا المركب (الوحدة البنائية) للقرآن: أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزئة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله. فلم يكن في مقدور الإنسان أن يستوعب قرآنا يتصف بكل صفات القرآن ويأخذه الإنسان أو يتبناه بوصفه ذا وحدة بنائية لا تختلف عن وحدة الكلمة في حروفها(2)، ووحدة الجملة في كلماتها وأركانها، ووحدة الإنسان في أعضائه. ولذلك فهو حين تعرض له بعض آفات الخطاب ترتد عنه خاسئة حسيرة حتى لكأن أياته تنكمش حتى تصبح كالكلمة الواحدة في بنائه. فإذا مارس دوره في الهداية تفتّح واتسع ليستوعب كل ما لا تتحقق أهدافه دون استيعابه، ثم يتجاوزها. وهكذا يستوعب فضاؤه كل الحادثات وسائر المستجدات وجميع الثقافات والحضارات وبنى الإنسان كافة. وليس هناك أي كتاب أو خطاب عربي أو وارد بغير العربية وعلى أي مستوى كان يتمتع بهذه الصفة عدا القرآن الكريم. إذ يستحيل على كتاب حتى لو بني بشكل موسوعة تبلغ عشرات، بل مئات المجلدات أن يستوعب (نبأ من قبلنا)، وما نبأ من قبلنا إلا تاريخ البشرية -كلها- وكل تفاصيل ذلك التاريخ؛ بشراً وأشياء وأحداثاً وعبراً ودروساً.
ولولا هذه >الوحدة البنائية< لما استوعب القرآن (خبر ما بعدنا) حيث استوعب مستقبل البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ببيان السنن والقوانين التي تقود هذا المستقبل وتصوغه وتبنيه، فهو لا يحقق ذلك عليها بطريق التكهّن والنبوءات والرؤى والمنامات كما زعمت أمم سابقة. ولا بطريق قياس المستقبل على الحاضر وقياسهما بعد ذلك على الماضي كما يتخيل الماضويّون، بل بالكشف عن السنن والقوانين الحاكمة على البشرية وحركتها، والتاريخ وحركته، والغاية التي يتجه الخلق -كله- إليها وفقاً لتلك السنن والقوانين الصارمة. فهي قراءة علمية دقيقة للمستقبل لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يتطرق إليها الشك، فالله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي بهم. والظلم لا يختص بالطغاة بحيث يقضي المنطق أن يختص أولئك الطغاة بالعذاب، بل هو شامل عام في الحياة الدنيا، ونتائجه لا تستثني أحداً {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59] ولا تختص بمن مارسوا الظلم الفعلي من الطغاة، بل تشمل أعوانهم ومؤيديهم، والمستسلمين لطغيانهم {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال:25]. ولا يختص الظلم بعدم العدل في الحكم، بل يتجاوز ذلك بحيث يكون دركات - أعلاه الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. ولذلك أمر الله الجميع بالتزوّد بالتقوى والتحصن بها، فذلك يمكن أن يوقف الظلم ويردعه. يضاف إلى ذلك أن القرآن يحمل القيم الحاكمة والقواعد الدستورية والقانونية التي تقدم للبشرية مصدراً واحداً موحداً يشتمل على (حكم ما بينكم) بحيث يقضي على جذور وأسباب قيام النزاعات والاختلافات ليصبح >العدل< قاعدة والانحراف عنه شذوذاً. ولا ينتظر إلى أن تقع المظالم والانحرافات ليتقدم لمعاقبة أولئك الظالمين طمعاً في ردع سواهم -كما تفعل الأمم المعاصرة- فليست العبرة بذلك، بل بتزكية وتطهير الإنسان والأسرة والمجتمع والبيئة ونظم الحياة كلها، بحيث يتضافر الجميع على محاصرة الشر ومصادره والتخلص منها.
وذلك -كله- يجري بقول (فصل ليس بهزل) وما ينبغي أن يتطرق ذلك إليه. فهو ليس >حمّال أوجه< بحيث يستطيع كل المتنازعين أن يضموه إلى صفوفهم فيفسره المدعي ومحاموه على هواهم ليحققوا بذلك مصالحهم، ويفسره المدّعى عليه ومحاموه كما يريدون، وتحمله النيابة على أن يستجيب لدعواها، ويفسره القضاة بما يرون، ثم تتسلسل جهات التفسير والتأويل من استئناف ونقض وإبرام وفي كل ذلك تبدّد الجهود والأموال والأعمار، ويضيع العدل أو جزؤ منه في تلك المتاهات، وتدمّر الطاقات لعدم وجود (القول الفصل) ولذلك كان هذا القرآن مثابة المتقين، ومرجع الأبرار، ومنبع الهداية ومصدر النور، (لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة) ولا تتشعب به الآراء (ولا تنقضي عجائبه) وهو العدل كله والحق كله والهدى الكامل والنور الشامل والمنهج الواضح.
إنه قرآن أراد قائله ومنزله -تبارك وتعالى- له أن يُقرأ ويُتدبر، ويتفكر فيه، ويعقله العالمون، ويرتّله المرتلون، ويتلوه التالون، ويتبعه المهتدون؛ فأودع الله -تبارك وتعالى- فيه كل ما يجعله جاذباً لأصناف الخلق كافة، مستدعياً لهم لقراءته، قادراً على صنع الدوافع والدواعي والإرادات لترتيله وتلاوته.
ووحدته تمثّل الركن الأساس في هذا -كله- ولذلك فإنه مهما اتخذنا من الأساليب في الرجوع إليه فلن نستطيع أن نهتم بجانب من جوانبه، ونهمل الأخرى. فإذا قلت: أنا قاض أو فقيه تهمني آيات الأحكام -وحدها- فاجمعوا لي كل ما بدئ بأمر أو نهي من الآيات لأتدبره وأستخرج القوانين والأحكام منه، فإنك لن تلبث إلا يسيراً لتدرك أن ذلك -وحده- لن يلبي حاجتك ولن تكشف لك آيات الأحكام عن دقائقها وقد فصلت الغصن عن الشجرة، فمعاني الآيات لن تسفر لك عن وجهها حتى تقرأها في سياقها وموقعها وبيئتها، تقلب طرفك وعقلك ولبك وفؤادك، وتصيخ السمع إلى نبضات الحياة في قلبك في ذلك -كله- ولن تبلغ الغاية، ولن تدرك المراد حتى تلاحظ سائر العلاقات بين الآية وبين القرآن كله - يقودك توفيق الله -تعالى- ويصاحبك اسمه في الرحلة التي حين تتذوقها فلن تستطيع التوقف عن مداومتها، لأن القرآن بناء محكم واحد، ونظام متفرد واحد، تسري فيه
-كله- روح واحدة تحوله إلى كائن حيّ يخاطبك كفاحاً، ويشتبك معك في جدل شامل يجيب به عن تساؤلاتك، ويسقط عنك إصر شبهاتك، يعيد تصميم تصوراتك وبناء قواعد ومنطلقات أفكارك، وتصحيح معتقداتك حتى يضعك على الصراط المستقيم لتستقيم على الطريقة، وتبلغ شاطئ الحقيقة. ولذلك قال الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو ينبه إلى خطأ من تصوّر أن آيات الأحكام هي ما صدّر بأمر ونهي- قال: (ألا وإن في الأمثال لأحكاماً كثيرة).
وهذا -كله- من الكلام أو الخطاب الذي لا يصعب فهم أبعاده وعلاقاته بين أطرافه وبيئتهم، وأساليب التخاطب المتعارف عليها بينهم، ولكن حين يتعلق الأمر بالأمور التجريدية كالأفكار والنظريات والمفاهيم التي يراد صياغة خطاب يوصلها إلى الآخرين لتغيير أفكارهم وقناعاتهم، وإعادة صياغة رؤاهم ومعتقداتهم، واستبدال مفاهيم مستقرة لديهم بمفاهيم أخرى، فإن الشأن مختلف تماماً. إذ إن الخطاب هنا يتحول إلى شيء يتوجّه إلى وعي المخاطَب لتغيير شأنه وحاله، فيشتبك خطاب المخاطِب مع وعي المخاطَب في حوار وجدل يشتد ويهدأ بحسب قوة وفاعليّة الخطاب واستقرار وعي المخاطَب وقناعاته وعاداته ومألوفاته السابقة على تلقيه للخطاب التغييريّ. وإذا كانت الآذان -آذان المخاطبين- تشتكي من طرقات ذبذبات الصوت على طبلة الأذن فتصف الصوت بالارتفاع أو الانخفاض، فإذا بلغ حد الاعتدال انتهت المشكلة الحسيّة. فإن معركة الخطاب في جانب المعنى والمغزى والهدف تكون قد بدأت آنذاك لتستمر حتى يصل المعنى الذي اشتمل عليه الخطاب إلى وعي المخاطَب، ويأخذ موقعه فيه لتبدأ مرحلة أخرى داخل وعي المخاطَب يتدافع فيها القبول والرفض، والإيجاب والسلب، والسؤال والجواب. فإذا كان الخطاب قد وضع في حسبانه حالة المخاطَب، وتضمن ما يجيب عن تساؤلاته، ويحسم تردّده، ويتصل بواقعه، ويثير كوامنه، وينبه دوافعه - وجد معناه ومضمونه موقعيهما في وعي المخاطَب، وإلا فإن الخطاب قد يعود إلى منتجه ومرسله ليُعيد النظر فيه، ويستكمل نواقصه، ويعيد إرساله. فهناك يكون الخطاب عبارة عن وسيط يتردّد بين طرفين بكل ما يحيط بهما في حركة دائبة حتى يحسم ما بينهما، وفي ذلك اختبار مستمر ومتدرج لقدرة كل منهما: المخاطِب في قدرته على تضمين خطابه معاني وتأثيراً ومنطقاً مقنعاً يهيئ وجدان المخاطَب ونفسه وسائر قوى وعيه الكامنة لقبول الخطاب وعدم إغلاق الأبواب دونه، ثم ملاحظة أهم الاعتراضات التي ثارت في نفس السامع -سواء صرّح بها أم لم يصرّح- عندما تلقى الخطاب في لحظة اتصاله الأولى به لتضمين الإصدارة الثانية للخطاب الجواب عنها. وأكثر ما تكون الأسئلة حول الحجية لتحقيق القناعة بالمضمون الجديد، والشرعية لتجاوز عقبة شرعيّة الموروث واستقراره، والبدائل التي يقدمها الخطاب الجديد لتجاوز فكرة الخوف من الفراغ أو المجهول أو...، ثم التفوّق في ذلك -كله- على المستقر، فإذا استوفى الخطاب ذلك -كله- فقد استوفى مكوّناته ومقوّماته لخوض معركة يمكن كسبها على مستوى الوعي، وعلى مستوى الواقع. هذا الذي نقوله -كله- يمكن أن ينطبق على خطاب من بشر إلى بشر مثله.
أما حين يكون الخطاب من إله الكون والإنسان والحياة، وخالق العالمين، ومرسل المرسلين فإن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً. فالخطاب هنا يصبح شيئاً آخر، ويصبح مجرد اتّفاقه مع أشكال الخطاب البشري وصوره، وصيغه التعبيرية وجهاً من وجوه تعاليه وإعجازه وتجاوزه، ويصير تنزّله وإنزاله إلى البشر، وتنزيله إليهم شأناً ربانياً ووحياً من أمره. فاللفظ آنذاك يصير قدسياً يتعبّد به حتى لو كان حرفاً منفرداً، نحو (ا، ل، م) فإنها تصير ألفاً ولاماً وميماً، يثاب على تلاوة كل منها. والخطاب آنذاك لا يعبّر عن حاجات للمخاطِب عند المخاطَب يريدها منه {أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57،58]. ولذلك قالها أبو الأنبياء إبراهيم بوضوح: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:70-83]
فأنت أيها المخاطَب -هنا- إنما تخاطَب لتعطى وترزق ولتهدى، ولتلبّى احتياجاتك كلها لا في حياتك الدنيا -وحدها- بل على امتداد حياتك كلها. ذلك الامتداد الذي لا تستطيع من دوننا أن تحيط بمجالاته، وكل المطلوب منك في هذا الخطاب -كله- عائد لك ولأمّك الأرض ولمجالاتك الاجتماعية. هو لك في حياتك الممتدة ما بين عالم الأمر، وعالم الإرادة، وعالم المشيئة، وعالم الذر، وعالم الطين - والحمأ المسنون والبشر المستخلَف المؤتمن على الخلق -كله- حتى عالم المآل والمصير والخلود الذي تتطلع إليه بكل أشواقك، والذي كان أهم نقاط ضعف أبيك حين نسي فاستجاب لغواية عدوّي وعدوّه وعدوّك - الشيطان.
هذا الخطاب الذي يطوي كل هذه العوالم ويحيط بها ويهمن عليها وجه من أهم وجوه عظمته وتعاليه وإمكاناته المطلقة أن يتنزّل بأحرف وكلمات وعبارات تشبه في بعض جوانبها ما تتخاطبون به. إنه يتنزّل إليك تنزّلاً من رفيع الدرجات ذي العرش الذي يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لنذر يوم التلاق - تلاقي ابن التراب مع ربّ الأرباب تنزلاً متعالياً يتجاوز حتى سماواتك الدنيا، يتنزّل فقط ليكون في تتناول فهمك ووعيك، يمكّنك من القيام بحق أمانتك، والنجاح في مرحلة ابتلائك، وعلى ثقله الشديد ظل يتنزّل إليك حتى اصطفينا له رسولاً من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم رؤوف رحيم بكم ليتلقّاه في مرحلة تنزّله الأخيرة ويجعله بين أيديكم فينفعل قبلكم حتى يصير مرآة تعكس سائر قيمه، ويمثله في سلوكه وتعامله أمامكم، ويتلوه عليكم فتسمعه آذانكم على محدوديّتها، وتفقهه قلوبكم على ضعفها، وتدركه أبصاركم على كلالها، وتخطّه أيمانكم على سذاجتها. فغركم منه هذا فتوهّم من توهم منكم أنه من جنس خطابكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، فحاولتم الهيمنة عليه بقوانين خطابكم، وقواعد لغتكم، وما تعارفتم عليه في اشتقاقات ألفاظكم وتصاريف كلامكم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:89،90] لقد غرّكم منه تنزّله فلم تدركوا حكمتنا في ذلك، وحال ذلك بينكم وبين الاحساس بعظمته وتعاليه وتجاوزه وهيمنته وإحاطته، فشددتموه إلى مناسباتكم، وظننتم أنه لم يتنزّل إلا إليكم، ثم جعلتم منه ناسخاً ومنسوخاً، وعاملاً فاعلاً ومعطّلاً، ومجملاً ومبيّناً، ومطلقاً ومقيّداً، ومتشابهاً ومؤوّلاً، ومتواطئاً ومشتركاً، وخاصّاً وعامّاً، وحقيقة ومجازاً، وأطلقتم ذلك في سوره وآياته دون تحفظ أو تردد، أو توكيد منكم على أن ذلك إنما هو بالنسبة لكم ولقدراتكم وأزمانكم ومحدودياتكم، وأنه لا يمثّل حقيقة القرآن في ذاته بقدر ما يمثّل زوايا النظر منكم إليه.
لقد قطعتموه أعضاءً وأجزاءً، ولم تنظروا إليه بوصفه يمثّل نجوماً في سماء واحدة، فهي نجوم بها تهتدون، وليست نجوماً بها تتحكمون.
لقد كانت أكبر الأزمات الإنسانية مع ما أنزل الله من كتاب إلى البشر ليست في رفض تلك الكتب أو عدم الإيمان بأنها من عند الله، فذلك أمر لا تصعب معالجته. ولكنها تكمن في تعامل من أنزلت إليهم معها تعاملاً بشرياً محكوماً بما تعارفوا عليه فيما بينهم من مألوف لسانهم، وأنه ليس شيئاً سوى ذلك، وتجاهلهم للفرق الكبير بين اللغة حين يستعملها الإنسان للتعبير عن مكنوناته، واللغة حين يستعملها خالقه ليضمّنا نوره وهداياته لخلقه.
إن الجمل والعبارات في هذه الحالة لا تكون مجرد جمل وعبارات، بل تصبح آيات كالشمس والقمر وسائر الآيات الإلهية الأخرى. وتطوي هذه الآيات في جوانحها ما تطويه من الهداية والنور والمعاني والإجابات التي تتكشف عبر العصور بتكشف وظهور حاجات الأمم والعصور وأسئلة ومسائل الحياة وأزماتها، فكأن المعاني تتنزّل مع بروز الأزمات والمشاكل والأسئلة. فإذا كانت الجاهلية العربية قد استحالت إلى إسلام خلال ثلاثة وعشرين عاماً، فإن أي عصر تالٍ وأية بيئة أخرى يمكن أن تجعل من أسئلتها أسباب نزول للمعاني الجديدة التي تنطوي الآيات عليها، ولا تبخل بتقديمها لمن يحتاجها. كل ما في الأمر أن الجاهلية العربية كانت نجوم القرآن تنزل عليها لمعالجة أزماتها وتحويلها إلى الإسلام. فالنزول القرآني يأتي بعد أن تقوم الأزمة في البيئة، وتصوغ البيئة السؤال وتنتظر الوحي. أما في العصور التالية لعصر التنزيل -على المتلقى الأول عليه الصلاة والسلام- فإن القرآن كله موجود، وعلى البيئة ذات الأزمة - أية بيئة أن تصوغ أزماتها في شكل أسئلة محدّدة وتتجه إلى القرآن المجيد بها صاغرة مفتقرة وتطّرح بين يديه وتثوّره -كما يقول ابن عباس- مرّة بعد مرّة لتحصل منه على الجواب الشافي. فقد يقودها القرآن إلى الكامن فيه والمضمر، وقد يقودها باتجاه التاريخ تستنطقه، وإلى نماذج الأمم السابقة تسألها عن أخبارها، والأشباه والنظائر لتحلّلها وتستخرج دلالاتها، ويظل آخذاً بزمامها بهدى واستناره في رحاب الكون كله، طاوياً المسافات -كلّها- حتى يمنحها حلولها، وينهي مشاكلها، هو رائد لا يكذب أهله، وقائد لا يخذل جنده، وهاد لا تلتبس عليه السبل.
كيف اكتشف العلماء (الوحدة البنائية)؟
حين ننظر في تصنيف أجيال هذه الأمة فمن الممكن أن نعدّ الجيل الأول الذي عاصر رسول الله K وتتلمذ على يديه (جيل التلقي - المباشر). فرسول الله K كان يتلقى القرآن من لدن حكيم خبير، وعنه K يتلقى الصحابة الكرام، ومنهم كتّاب الوحي وآل البيت وأمهات المؤمنين وسائر المؤمنين.
أما الجيل الثاني فقد كان (جيل الرواية) حيث انتهى عصر النصّ بوفاته K وتوقف الوحي وختمت النبوة، فكانت الروايات تنقل عن الجيل الأول للبناء عليها. واستمرت كذلك ليتسلم الراية (جيل الفقه) من التابعين وأتباع التابعين والأجيال التالية لهم.
وفي هذا الجيل الثالث - جيل الفقه انتشر تصوّر بأن أهم مقاصد القرآن وأغراضه هو بيان الأحكام الشرعية. ومع صحة ذلك من بعض الوجوه لكن الأحكام -وحدها- لا تمثّل إلا واحداً من مقاصد القرآن وأهدافه، ولكن هناك مقاصد وأهدافاً أخرى خفتت عنها الأضواء لأنها سلّطت -بجملتها- على الأحكام. فبرز جانب من الدراسات القرآنيّة عرف بـ(أحكام القرآن) حيث كتب الإمام الشافعي في ذلك، وجمع البيهقي ما كتب في كتاب مطبوع عرف بـ(أحكام القرآن) للشافعي. ونحا نحوه الرازي الجصّاص وابن العربي وابن فورك والقرطبي وغيرهم. وهؤلاء حصروا آيات الأحكام بعدد محدد تراوح بين أربعين ومائتين آية إلى خمسمائة آية تم توزيعها بين العقيدة والشريعة من المعاملات والعبادات والعقوبات وأحكام النكاح والطلاق وما إليها. فذكروا أن آيات الأحكام تقرب من خمسمائة لا تتجاوزها، وبعضهم جعلها أقل من ذلك؛ ففي العبادات بأنواعها ذكروا أربعين ومائة آية، وفي قضايا الأسرة من نكاح وطلاق وإرث ووصية وحجر ذكروا سبعين آية، وفيما يتعلق بالقضايا المدنيّة من بيع وإجارة ورهن وشراكة وتجارة ومداينة ذكروا سبعين آية، وفي الجنايات والعقوبات والحدود ذكروا ثلاثين آية، وفي القضاء والشهادة وما يتعلق بما يسمى -اليوم- بأصول المرافعات حصروا نحواً من عشرين آية(3). وقد اتبعوا طرقاً ومناهج مختلفة في عدّ الآية من آيات الأحكام أو ليست كذلك، ولذلك اختلفت أرقام هذه الآيات قلة وكثرة -عندهم- لكن الجامع المشترك بينهم جميعاً هو النظر في الآيات التي يعدّونها من آيات الآحكام نظراً جزئياً ومباشراً، فهي آية منفردة، وأحياناً جزء من آية قد يقتطع من سياقه ليؤخذ أو يستنبط منه الحكم وفقاً لقواعد ذلك القائم بالتفسير، أو قواعد إمامه إن كان من المقلدين.
ولذلك فإنه من الصعب أن نجد مفهوم (الوحدة البنائية) في الإطار الذي نقدمه دائراً على ألسنة المتقدمين؛ فـ>جيل التلقي< من أصحاب رسول الله K شغل بالتلقي والتطبيق، وهيمن ذلك على مجمل نشاط ذلك الجيل. كما إن إيمانهم بتحدي القرآن المجيد، وظهور استحالة الإتيان بمثله، أو بمثل عشر سور مفتريات، أو بسورة من مثله - كان من المسلمات البَدَهيَّة، فلم تبرز الحاجة في ذلك الجيل إلى النظر العقلي والفلسفي الذي لم يكن قد ولد -بعد- في الساحة الفكرية الإسلامية في قضية >التحدي< وحقيقته وعلام ينعكس، ولم يظهر البحث الفلسفي والبلاغي في الأوجه التي لم تعط للبشر فرصة الاستجابة لذلك التحدي أو أوجدت فيهم العجز عن الاستجابة، فتلك أمور قد تأخر ظهورها والبحث فيها إلى القرن الثالث الهجري.
أما (جيل الرواية) الذي تسلّم الراية من (جيل التلقي) فقد استغرقه البحث عن الروايات وتتبُّعها وجمعها، فذلك هو التحدي الأكبر الذي واجه ذلك الجيل وهو تحدّ لم يكن أقل خطورة من تحدي جمع الأمة -كلها- على مصحف واحد إمام. ذلك لأن القرآن المجيد كان مدوّناً محفوظاً في الصدور والسطور وسائر الوسائل المتاحة التي سخرها منزّل القرآن الذي تكفّل بحفظه من بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته. كما تكفل بإقرائه لرسول الله وإقراره في صدره فلا ينسى ولا يضيع ولا يخترق. كما تكفّل بجمعه وقرآنه. وليس كذلك المرويات والسنن والآثار التي لم يدون منها في العهد النبوي إلا القليل النادر، وكان تدويناً فردياً لم يخضع لمثل القواعد المنهجية التي خضع تدوين القرآن وجمعه لها، ذلك لأن المفروض فيها أن تدور حول القرآن دوران العلة والمعلول، والبيان والمبين، فيحفظ ما اتصل بالقرآن منها به، ويهيمن القرآن عليها، فلا تستقل عنه، ولا تنفصل عن مداره. ومع ذلك فقد استغرقت العمليات المشار إليها ذلك الجيل >جيل الرواية< بحيث انصرفت جهوده إلى جمع الروايات وتدوينها وتمحيصها وتصنيفها وجعلها ميّسرة لجيل الفقه وجيل النقد والميز والتحليل بعد ذلك.
أما >جيل الفقه< فقد انشغل بإنتاج الفقه، وتقعيد أصوله للاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة، وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل والوقائع لئلا تبقى واقعة من الوقائع دون حكم فقهي مكتسب ومستفاد من الأدلة الشرعية التفصيلية.
كما إن -هناك- من انشغل فيما عرف -آنذاك- بـ(الفقه الأكبر) الشامل لأصول الدين (علم الكلام) و (أصول الفقه) إضافة إلى (الفقه) ذاته.
لأن الفكر الفلسفي والمستجدات بدأت تفرض نفسها وتستدعي البحث والدراسة والتحديد، وجلّ تلك البحوث كانت تستدعي النظر في الدليل الجزئي التفصيلي، لا في القرآن -كله- بوصفه مصدراً منشئاً بكليّته ودليلاً كلياً، وأن أهم طرائق ووسائل النظر فيه تلك التي ترد الجزئي إلى الكلي، وتنظر في الكليّ نظراً مفاهيمياً وتحليلياً لتحقيق الاستفادة القصوى منه. ثم تربط ذلك ببيان السنة وتطبيقاتها، وبالكون وسننه انطلاقاً من منهاجية (الجمع بين القراءتين)(4). ثم تنبه العقل المسلم -بعد ذلك- إلى أنها أساس لا يستغنى عنه في فهم القرآن وحسن تفسيره، ودقة تأويله، ويتاول الجمع بين القراءتين الجمع بين القرآن والسنة من ناحية، ثم بينهما وبين الكون من ناحية أخرى. وأن هذه الوحدة البنائية خطوة منهجية وحلقة من سلسلة من المحدّدات والقواعد المنهاجية التي لو أهملت أو أهمل بعضها فليس من الممكن أن نتلو القرآن حق تلاوته، أو نرتله ترتيله.
وعن (النظر الفقهي) شاع وانتشر النظر الجزئي في آيات الكتاب الكريم. و(النظر الجزئي) لا يمكن أن يؤدي إلى إدراك المناسبات والروابط وشبكات العلاقات بين الكلمات في إطار الآية، ولا بين الآيات في إطار السورة، ولا بين السور في إطار القرآن كله. كما لا يساعد ذلك النوع من النظر على الكشف عن العلاقات بين السور في المحيط القرآني -كله- وبالتالي فقد غاب التفكير في (الوحدة البنائية) أو لم تسلط عليه أضواء كافية يمكن أن تلفت الأنظار إليه بمثل القوة التي تلتفت بها إلى الدليل الجزئي. ويمكن أن يضاف إلى ما تقدم من دوافع (النظر الجزئي) عجلة المفتي ورغبته في الإفتاء فيما يعرض عليه من أسئلة دون تأخير تجعله يسرع إلى الدليل الجزئي، أي الآية التي يراها كافية في تمكينه من الإجابة على السؤال. فإذا فعل فإنه لا يلتفت إلى ما لا علاقة مباشرة له بموضوع السؤال. لذلك فإنه حين جاء لبحث (الدلالات) فإنه لم يضع شيئاً يشير إلى ضرورة النظر في سائر آيات الكتاب الكريم، بل حصر ذلك في أحوال (النص المفرد) فبحث الخاص والعام، والمطلق والمقيد، واللفظ الموضوع لمعنى واحد أو متعدد، والأمر والنهي، وصيغ العموم وصيغ الخصوص، ومقتضى اللفظ والمفهوم، والمشترك والمؤول، والنص والظاهر والمفسر، والدال بالعبارة والدال بالإشارة، والدال باقتضاء النص، وكذلك المفاهيم - مفاهيم الموافقة والمخالفة، والشرط والغاية وكل هذه مباحث تتعلق بالألفاظ المنفردة، أو دلالاتها وسائر العوارض الذاتية المتعلقة بها، وهي لا تنبه إلى ضرورة قراءة القرآن
-كله- ثم جاءت الحدود والتعريفات، ودخل المنطق الأرسطي سائر العلوم والمعارف الإسلامية، بل هيمن عليها إلى أن صار في نظر إمام مثل أبي حامد الغزالي (505هـ.) (معيار العلم) و (القسطاس المستقيم) وبذلك صار من يريد تصور شيء فإنه يكفيه (الحد المنطقي) المؤلف من جنس وفصل. ومن أعياه الوصول إلى ذلك الحد فيكفيه (الرسم) أي أن يعرّف بالفصول أو بالجنس والفصل البعيد أو الخاصة. وقد عدّت الحدود المنطقية مفسّرات للماهيات والأجناس، خصوصاً الأجناس العالية التي عرفت بـ(المقولات). أما من أراد التصديق وإقامة الدليل على صحة مدّعاه فيكفيه (البرهان)، وما البرهان في نظرهم إلا قياس اقتراني، أو قياس تلازم، وحتى (قياس العكس) عند بعضهم كافٍ. والقياس الاقتراني له أشكال أربعة كل منها منتج. ولقياس التلازم شكلان أو أكثر. وبذلك بدأ الأصوليون والفقهاء يتسابقون لتوظيف هذه الحدود والتعاريف والأقيسة لإثبات أو نفي ما يذهبون إليه، أو يذهب إليه أئمتهم من قضايا فقهية. فتكفي أن تبنى مقدمة شرعية واحدة وتضع بجانبها مقدمة أخرى عقلية أو لغوية أو غيرها لتصل إلى نتيجة تكون (نسبة خبرية) تامة - أي حكماً فقهياً ملزماً. فإذا أردت التدليل على تحريم شراب ما -مثلاً- فلك أن تقول: هذا شراب يخامر العقل - فهو خمر. وكل ما يخامر العقل فهو حرام - أي لأنه خمر. فهذا الشراب حرام.
فالعبارة الأولى مقدمة صغرى، والثانية مقدمة كبرى، والثالثة هي النتيجة، وهذه النتيجة (حكم فقهي) يلتزم به المجتهد ومقلدوه.
ولو عكست فقلت: هذا شراب لا يخامر العقل (مقدمة صغرى)، وكل شراب لا يخامر العقل فهو حلال (مقدمه كبرى)، فهذا الشراب حلال (النتيجة).وهنا تدخل عمليات عقلية أخرى كالاستقراء والسبر والتقسيم أو الحذف والإضافة.
وحين شاع القول بـ(القياس) وبقية الأدلة المختلف فيها كان الأخذ بهذا المنطق من أهم أسباب الاختلاف الفقهي وتكريسه. فأنت تجد في كل قضية فقهية اجتهادية (وهي تزيد على 90 بالمئة) من القضايا الفقهية مجتهداً مستدلاً وآخر معترضاً، مهمة المعترض أن يهدم أدلة المستدل، وعلى المستدل أن يدافع عن أدلته، فإذا لم يتمكن من هدم اعتراضات المعترض وفقاً للقواعد المنطقية وآداب البحث والمناظرة فعليه أن يبحث عن أدلة أخرى يستدل بها على مدعاه. وهكذا، فأين ومتى يمكن الالتفات إلى (الوحدة البنائية) للقرآن المجيد، والناس مستغرقون في التصورات الجزئية، وهذه التصورات هي التي تتحكم في مناهجهم في قراءة القرآن؟!
فإذا تجاوزنا هذا الفريق من العلماء إلى المفسرين الذين كان شغلهم الشاغل هو تفسير القرآن المجيد، فمع أن معظمهم يقولون بأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وكان من الممكن أن يقود هذا الخيط الرفيع إلى الكشف عن (الوحدة البنائية) لو جرى الإمساك به، وتتبّعه، وتعميق النظر فيه. لكن ما حدث جاوز ذلك، وصار الحديث فيه حديثاً يضاف إلى فضائل القرآن، لا إلى محدّداته المنهاجية.
والتفسير في اللغة مصدر (فسّر) مضعّف (فَسَرَ) من باب نصر وضرب، ومصدره (الفسر) بمعنى الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ لكلام آخر - هو أوضح عند السامع. أما في الاصطلاح فقد عرّفوا (التفسير) بأنه اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها باختصار أو توسع. ولذلك فقد جعلوا موضوع التفسير (ألفاظ القرآن) من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه. وذلك -كله- تكريس للتصورات الجزئية لأن الأمر يدور على تفسير ألفاظ القرآن، وذلك يعد من قبيل (دلالة الالتزام) المنطقية العقلية. ولذلك اختلف العلماء في عدّ التفسير علماً، ورأوا أن وضعه بين العلوم خاصة (علوم المقاصد) تساهلاً. ليس هذا مما يهمنا هنا؛ لكن ما نودّ بيانه أنه وإن كان الانشغال بالتفسير قد يؤدي إلى تكوين ملكة لدى المفسر يدرك صاحبها بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، لكنه رغم ذلك لم يؤد إلى الكشف عن (الوحدة البنائية) للقرآن المجيد لتحديد موضوعه في تفسير الألفاظ، والبحث عن الأحكام.
علماً بأن التفسير يعد أول العلوم الإسلامية ظهوراً؛ إذ ظهر الخوض فيه في عصر النبي K إذ كان بعض الصحابة يسألون عن بعض معاني القرآن فيجيبهم عليه الصلاة والسلام. واشتهر من قراء الصحاية في تناول التفسير علي بن أبي طالب وابن عباس H وهما من المكثرين من التفسير، يليهم زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص G. وحين دخل في الإسلام أقوام من غير العرب، ومن الذين لم تكن العربية لسانهم الأصلي اشتدت الحاجة إلى التفسير لبيان معاني القرآن لهؤلاء. ومع انتشار التفسير وكثرة المفسرين، وتنوّع التفسير بعد ذلك إلى أنواع ليكون تفسيراً بالأثر، وتفسيراً عقلياً، ثم ظهر التفسير الإشاري. إلا أننا لا نجد حديثاً يذكر عن (الوحدة البنائية) أو يتداول في مدارس التفسير. ومنها مدارس (التفسير الموضوعي) حيث عني الفقهاء بجمع وتحديد آيات الأحكام المتعلقة بقضية محددة أو موضوع واحد، لكن لم يلفت الأنظار إلى الروابط المتينة بين ذلك الموضوع وآيات وسور الكتاب الكريم الأخرى. كما إن تفسير القرآن بالقرآن لم يؤد إلى بروز (نظرية الوحدة البنائية) مع أنه منهج في التفسير الذي بدأه رسول الله K في نحو ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود F قال: >لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ...} [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله K وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم! فقال: ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]<(5). وأخرج البخاري >أن رسول الله K فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ...} [الأنعام:59] فقال K: >مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]<(6). ولو أن هذا المنهج النبوي ساد وانتشر، وتبناه جيل الرواية وجيل الفقه لبرزت الوحدة البنائية منذ تلك العصور.
كما إننا لا نستطيع أن نغفل دور بعض أهل الكتاب في ذلك حيث تواصوا على إظهار الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر ليقيموا الدليل على موضوعيتهم وعدم تحيّزهم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ...} [المائدة:41]، وقد تجاوب معهم تلامذتهم المشركون الذين قال تعالى فيهم: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:91] فالمقتسمون هم الذين تقاسموا وتحالفوا على الصد عن سبيل الله، والصد عن تمكين الناس من الاستماع إلى القرآن واللغو فيه، وتقاسموا شعب مكة ليصدوا من يريد لقاء رسول الله K من الوفود، وتحالفوا على الكيد لرسول الله، وجعلوا القرآن >عضين< أي مفرّقاً، فقالوا عن بعضه: كهانة، وعن بعض آخر أساطير الأولين. إلى غير ذلك مما وصفوه به. وقيل: معنى >عضين< ما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] خلافَ من قال فيه {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]. قال الراغب: وعِضون: جمع عضة، كقولهم: ثِبُون وظبون في جمع ثُبَة وظُبَة. ومن هذا الأصل العُضو العِضو. والتعضية: تجزئة الأعضاء. وقد عضّيته قال الكسائي: هو من العضو أو من العضَةِ، وهي شجر. قال: وأصل عِضَة في لغة عِضَهة لقولهم: عُضيهة، وعِضوة في لغة: لقولهم: عضوان، وروى: >لا تعضيه في الميراث< أي لا يفرق ما كان من تفريقه ضرر على الورثة: كسيف يكسر بنصفين، ونحو ذلك(7). فهذا الذم الشديد للتعضية وعدّها سلوكاً لبعض أهل الكتاب وللمشركين، أو منهجاً من مناهجهم في التعامل مع القرآن كان كافياً في الدفع إلى اكتشاف منهج لقراءته واحداً غير معضّى، واكتشاف أنه يتمتع بـ>وحدة بنائية< تشكّل منهجاً أساساً لقراءته وفهمه، لكن طريقة المفسرين جعلت أنظار القارئين تتجه إلى فهم التعضية بتلك الصورة التي لم تسمح بالكشف عن >الوحدة البنائية< للقرآن المجيد.
? البلاغيون وأصحاب التفسير البياني
من الواضح أننا لم نجد ضالتنا في الكشف عن >الوحدة البنائية< لدى الفقهاء، ولا عند الأصوليين وعلماء الكلام، كما لم نجد شيئاً من ذلك عند جمهرة المفسرين بالرغم من وجود مؤشرات قرآنية، وموجهات نبوية إليها. ولكننا سنجد بذورها وبراعمها الأولى لدى البلاغيين، وأصحاب البيان الذين التقطوا تلك الموجهات القرآنية، والأضواء النبوية، وإشارات وأفهام بعض الصحابة ليبنوا عليها >نظرية النظم< و >فلسفة التحدي< والعجز عن الاستجابة إليه. وسنتتبع تلك الولادة العسرة >لنظرية الوحدة البنائية< والنشأة البطيئة المتثاقلة لها في كنف >نظرية النظم< و?>فلسفة التحدي< والعجز عن الاستجابة إليه، و?>النظر الموضوعي< و?>فقه اللغة< و?>فلسفة النحو< و >دلائل الإعجاز< وخواص القرآن ومزاياه. فتلك التخصّصات أو الأقسام هي التي تحتضن بذور >الوحدة البنائية< وتأخذ بيد الباحث إليها.
أما كتب التفسير فهي ذات مشارب مختلفة -كما تقدّم-، فمنها ما يشبع القول في مسائل الأحكام والقضايا الفقهية، ومنها ما ينشغل في الدقائق الكلامية، ومنها ما يفيض القول في شؤون البلاغة والبيان والبديع وقضايا النحو واللغات، ومنها الصوفي المنحى في فهم الدقائق وفهم الإشارات، ومنها التفاسير العقلية والتفاسير المذهبية... إلى غير ذلك من ألوان وأنواع. لكنها -جميعاً- لا يجد الباحث -فيما اطلعنا عليه منها- ضالّته في بيان >الوحدة البنائية< نظرية ومحدِّداً منهاجياً أو يساعده على انعكاسات هذه الوحدة على الجوانب المعرفية المختلفة. لذلك وجدتني مضطراً للتركيز على تفسير القرآن بالقرآن ألتمسها فيه، ثم تفسير القرآن بالسنة -وهو قليل- لعلني أجد بعض بذورها فيه، ثم التفسير البياني والتفسير الموضوعي بحثاً عن أصول لنظرية >الوحدة البنائية<.
لقد بحثت عن جذور هذه النظرية عند ابن عباس وأمير المؤمنين علي وغيرهما من قرّاء الصحابة فكنت أحس بها وأشعر بوجودها في العقول والقلوب، ولكن لم تجر بها الألسنة، ولم تتحرك بها الأقلام. ثم تخلّيت عن المصطلح وقلت في نفسي: إن جيل التلقي جيل فطري مطبوع، كان يعرب سليقة قبل أن يُخلق النحاة ويؤسسوا قواعد النحو، وأدركوا حجم التحدي الذي قام القرآن به، ولا بد أنهم فكروا في كل ما يمكن افتراضه وقوله في تفرّد القرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور أو بسورة واحدة، وتحديه للإنس والجن معاً في أن يفعلوا فلم يفعلوا ولن يفعلوا، أفلا تصلح >الوحدة البنائية< أن تكون وجهاً من هذه الوجوه التي في القرآن، تنبئ عن تفرده، وتندرج تحت ما جرى التحدي فيه؟! فلم لم تُذكر، ولِمَ لم يتحدثوا عنها؟ لكن ذلك شأن المطبوعين الذين تنشأ القواعد والقوانين والنظريات بعد أجيالهم. فهم لا يشعرون بالحاجة إلى ذلك لوجود السليقة التي يغلب أن تجعل إدراك ذلك أقرب إلى الإدراك الوجداني تتذوقه، ولا تشعر بالدافع إلى شرحه لسواك، وإلا فإننا حين نحلل ما قاله الوليد بن المغيرة المخزومي في القرآن -وكان مشركاً- نستطيع أن ندرك دون كبير جهد حسّه البلاغي بالقرآن، لكنه لم يستخدم أي مصطلح من تلك المصطلحات التي أنشأها البلاغيون فيما بعد.
قال المغيرة في القرآن وقد أراده أبو جهل أن يقول فيه قولاً يبلغ قومه أنه منكر له، وأنه كاره له، بعد أن علم أنه تحرى استماعه من محمد K وأعجب به، قال له الوليد: >وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر، لا برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى<. وفي رواية: >وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق< وقال لأبي جهل: دعني حتى أفكر. فلما فكر قال: >هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره<. فنزلت فيه الآيات: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ...} [المدثر:11-30](8) والتي لم يهنأ الوليد بعد نزولها بشيء حتى مات.
فالوليد -هنا- كان ناقداً أدبياً وهو يقارن بين أسلوب القرآن وسائر أساليب الكلام الأخرى بما في ذلك >شعر الجن< كما قال، لكنه حين قال: >إن هذا إلا سحر يؤثر< بعد ضغط أبي جهل ووثنيته وتقاليده عليه كان إيديولوجياً -كما نقول اليوم- متطرفاً، وكان يدرك أنه غير صادق بما قال. فالعرب قد عرفت الكثير من أوصاف الكلام؛ نثراً ونظماً وشعراً وسجعاً، وهو دليل على إدراكها لمزايا الكلام وعيوبه، و?>الوحدة البنائية< من أهم محاسن الكلام ومزاياه، فلا تغلق على وجدانهم ولا تغيب، وهي إن غابت عن البعض فلن تغيب عن الكل.
يقول الجاحظ: >وكلام الناس في طبقات، كما إن الناس أنفسهم في طبقات، فمن الكلام الجزل والسخيف، والمليح والحسن، والقبيح والسمج، والخفيف والثقيل، وكلّه عربي، وبكل قد تكلموا وبكل قد تمادحوا وتعايبوا. فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلِمَ ذكروا العيي والبكيء، والحَصِر والمفحَم، والخطل والمسهب، والمتشدق والمتفيهق، والمهماز والثرثار، والمكثار والهماء، ولِمَ ذكروا الهجر والهذر، والهذيان والتخليط، وقالوا: رجل تلفاعة وتلهاعة، وفلان يتلهيع في خطبه، وقالوا: يخطئ في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره، ولولا أن هذه الأمور قد تكون في بعضهم دون بعض لما سمى ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء<(9).
ورسول الله K أفصح من نطق بالضاد نهى عن بعض أنواع الكلام، وحذّر من بعض أساليبه، فروي عنه قوله: >وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون<(10) وروي عنه K قوله لمن خاطبه بسجع: >أسجع كسجع الجاهلية<(11). وفي الوقت نفسه نرى عديّ بن حاتم يظن أنه تعالى عنى بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] أنها الخيوط المعروفة في صناعة الثياب وما إليها حتى بيّن له رسول الله K أن المراد سواد الليل وبياض النهار(12). ولقد كانت وحدة المبنى أو >الوحدة البنائية< للكلام مع تعدد الأغرض وتنوع المخاطبين واختلاف أزمنتهم وأماكنهم قمة مطمح البلغاء، وميدان تنافس الفصحاء. ولذلك كان تأكيد نحو ابن عباس وابن الخطاب وعلي G وغيرهم على اللجوء إلى لسان العرب ولغاتهم وشعرهم لفهم ألفاظ القرآن طلباً له ووجاهته. لكنهم كانوا يدركون أن لسان العرب يقف عند تفسير اللفظ -وحده- أما المعاني والفوائد الجمّة التي تستفاد من تراكيب الألفاظ وسياقها فيه الفهم الذي عناه أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه وأرضاه- بقوله: >أو فهماً<(13) ولذلك فإن من جاء بعد جيل التلقي من أهل جيل الرواية سرعان ما اكتشفوا قواعد >البيان< وما يتحلى القرآن المجيد به منها، وأدركوا البذور الأولى لـ>نظرية النظم< و?>التفسير الموضوعي< الذي برز حين بدأ النظر فيه على أيدي الفقهاء الذين حدّدوا أعداد آيات الأحكام بخمسمائة أو نحوها وبأحاديث الأحكام نحو ذلك(14)، فقال بعضهم: هي بعدد آيات الأحكام. وقال عبد الله بن المبارك: هي تسعمائة. وقال بعضهم: هي ألف ومائة حديث(15). ومهما يكن فإننا لا نستهدف هنا تحديد العدد الدقيق، ولا مناقشة الفكرة ذاتها -وإن كان لنا عليها ملاحظات- لأن همّنا -هنا- منصرف إلى التدليل على ولادة فكرة >البحث الموضوعي< في القرآن تفسيراً أو أحكاماً. ولنا أن نتوقع ما يمكن أن يؤدي إليه ظهور هذه الفكرة من تداعيات. فإن كثيراً من الأفكار الهامة تبرز -في بعض الأحيان- في إطار أفكار أخرى وبذورها، وبذورها قد تنبت في غراس تلك الأفكار.
وأما >النظم< الذي تبلور حتى صار >نظرية< هامة فيما بعد فإن بذوره الأولى تبدو في إطار البحث في تأثير القرآن في الذين آمنوا به، أو أولئك الذين صدّهم عن الإيمان به ما كانوا يدعون من دون الله. فقول الوليد بن المغيرة المخزومي الآنف الذكر، وقصة إسلام عمر بعد استماعه وقراءته لبعض الآيات، وقصة أبي سفيان والأخنس بن شريق وأبي جهل وكيف كانوا يتسللون تحت جنح الظلام، وكل منهم يحسب أنه وحده ليستمعوا إلى قراءة أبي بكر للقرآن. واتفاق قريش على الحيلولة بين الناس وبين الاستماع لآي القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] وتأثيره فيمن استمع إليه من الجن. كل تلك الأمور المستفيضة يمكن أن تملأ مجلدات حيث لم يخل عصر من العصور أو جيل من الأجيال من وقائع وأحداث ترتبط بتأثير القرآن في سامعيه وقارئيه تأثيراً لم تعرف البشرية ما يقاربه منذ بدء الخليقة. ولا شك أن هذا التأثير لم يحدث عن حروف مقطعة، أو كلمات مفردة منفصلة(16)، بل عن آيات منتظمة كانت تنزل نجوماً بحيث يُضَمّ النجم إلى النجم لتتشكل السورة. فالتأثير الحاصل يتأتى من ذلك التناسق والنظام الرابط للآيات الكريمة، فتبدو -آنذاك- فصاحة الكلمات، وبلاغة الآيات، ودقة المناسبات، وروعة النظم التي تبهر البلغاء وتتحدى الفصحاء. لكن ذلك التأثير لم يعبر عنه جيل التلقي بما عرف -بعد ذلك- من أوصاف تتحدث عن النظم والتناسب ووحدة الموضوع أو وحدة السورة وما إليها بحيث تشكل نظريات علمية في فهم القرآن، وحسن إدراك مقاصده ومغازيه أو تنتج على الفور علوماً بلاغية مثل المعاني والبيان والبديع ونحوها.
? وحدة السورة
يقول ابن العربي: >ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متّسقة المعاني، منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه، فلمّا لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البَطَلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه<(17).
ويقول الإمام الرازي: >... من تأمل في لطائف نظم السور وبديع ترتيبها علم أن القرآن كما إنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو -أيضاً- معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته...<(18) ويقول الإمام -أيضاً-: >... أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط...<.
ومع ذلك فإن العقول تتفاوت في مواقفها واستنتاجاتها، وبعض الناس أشد إحساساً بهذه الأمور الدقيقة من البعض الآخر، وأسرع في التفطن لها، والكشف عنها. كما إن الإنسان مخلوق تؤثر في حركته >الدواعي والصوارف< فحملات الطعن على القرآن والاعتراض عليه التي واجهه بعض أهل الشرك بها كانت من الدوافع للبحث الدقيق في دفاعات القرآن عن نفسه، والكشف عن سائر مطاعن أهل الشرك فيه ودحضها وتفنيدها لإثبات سلامة النظم القرآني وتنزّهه عن الاختلاف والتناقض والخلل. ليثمر البحث في سلامة النظم، ودقة التناسب، ووحدة الموضوعات، واتجاهات الأفكار نحو >الوحدة البنائية< بحيث يقول ابن العربي في القرن الخامس: >...ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني، منتظمة المباني علم عظيم...< كما ذكرنا آنفاً.
في الوقت نفسه نجد نماذج أخرى من العلماء تكونت لديهم الصوراف عن النظر في >وحدة القرآن< بل وحدة السورة الواحدة فنفوها عقلاً ووقوعاً... فالعز?بن عبد السلام يتطرق لذلك ويتبنّى موقف النافين فيقول: >...علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد، مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث فضلاً عن أحسنه. فإن القرآن قد نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض<(19).
ويأتي الدكتور محمد عبد الله درّاز بعد العز بقرون كالمعتذر عنه ليبين أن هناك ما قد يسوغ ما ذهب إليه نحو العز من النفي، فيعرض -رحمه الله- الأسباب التي اجتمعت على القرآن بحيث كان يمكن أن تجعل نظم السورة القرآنية مفككاً أو غير مترابط بشكل يسمح بالقول بوحدة السورة، فضلاً عن القول بالوحدة البنائية على مستوى القرآن، فذكر ثلاثة أسباب هي:
1ـ أن القرآن بما امتاز به أسلوبه من اجتناب سبل الإطالة، والتزام جانب الإيجاز صار أسرع الكلام تنقلاً بين شؤون القول؛ فهو ينتقل من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى من فنون الكلام، وهذا أمر يجعل الحفاظ على تناسب المعاني وتلازمها أمراً عسيراً.
2ـ أن القرآن لم يكن ينزل بهذه المعاني جملة واحدة، بل كان ينزل بها آحاداً متفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة المتنوعة، وهذا الانفصال الزماني بينها، والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعاً لانفصال الحديث عنها على ضروب من الاستقلال لا يدع منزعاً للترابط والوحدة.
3ـ هو تلك الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السورة من تلك النجوم.
ومع ذكره -رحمه الله- لهذه الأسباب الثلاثة المنافية للوحدة، أو المانعة من القول بها فإنه قد عقّب عليه بقوله: >... لو عمدنا إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد -وما أكثرها- وتتبعناها مرحلة مرحلة، وتدبرناها كيف بدئت وكيف ختمت، كيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت... لو تدبرنا ذلك لوجدنا ائتلافاً وتناسباً بين المعاني والمباني، ولبدت لنا السورة وكأنها نزلت في نجم واحد<(20). فأنت تراه مع ملاحظته لما يصلح اعتراضاً مستدلاً عليه من النافين إلا أن النتيجة التي بلغها كانت مغايرة. ثم بيّن لنا التناسب والترابط والائتلاف في أطول سور القرآن وأكثرها نجوماً، وأغناها تنوعاً في الموضوعات - وهي سورة البقرة.
ثم يعزز ما قرّره في ذلك الفصل القيم من كتابه بما نقله عن الأئمة أبي بكر النيسابوري، وفخر الدين الرازي، وأبي بكر بن العربي، وأبي إسحاق الشاطبي، وبرهان الدين البقاعي بقوله: >إن السورة وإن تعدّدت قضاياها في كلام واحد يتعلّق آخره بأوله وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنما لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية< - يريد القضيّة المنطقية، وهي عبارة عن جملة واحدة.
ولنعد للتدليل على ما بدأناه من التوكيد على أن >الوحدة البنائية< ليست مزيّة تتحلى بها كل سورة لوحدها وبحسبها فقط، بل هي قضية قائمة بالقرآن كله. فالقرآن -كله- كالكلمة الواحدة، والجملة الواحدة. كل سوره وأجزائه يتسع حتى يصبح كوناً يشمل الكون -كله- ويضمّه تحت جناحيه، ويَدِق حتى تراه كأنه كلمة واحدة لكنها عين جارية لا تتوقف ولا تغيض ولا تغور ولا تنضب في المعاني التي تشتمل عليها، والصور الرائعة المثيرة التي ترسمها في ذهن السامع، والآثار الهامة التي تتركها في نفسه.
لقد كان السلف الذين نزل فيهم القرآن الكريم عربَ الألسن، يعرفون حق المعرفة الطاقات اللغويّة للسانهم، ويعرفون حدودها معرفة سحرة فرعون لحدود سحرهم وطاقاتهم فيه، والمدى الذي يمكن أن يبلغوه، ولذلك كان السحرة أول المؤمنين لأنهم أدركوا أن ما تحداهم موسى C به يتجاوز كل مستويات السحر التي عرفوها، وبالتالي فليس هو بسحر وما ينبغي أن يكون سحراً. وكذلك الحال بالنسبة للقرآن الكريم وبلاغته وفصاحته وسلامة نظمه.
لقد كان أبناء الجيل الأول - جيل التلقي كثيراً ما يرجعون إلى شعر العرب ونثرهم في الجاهلية وفي صدر الإسلام فيستأنسون به في فهم بعض الكلمات والأساليب القرآنية، ولكنهم كانوا يدركون في الوقت نفسه الفروق الشاسعة بين لسان القرآن واللسان العربي، وهناك العديد من الشواهد البيانية التي أُثِرَتْ عن أمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين علي وابن عباس G وغيرهم حفلت بها كتب كثيرة، منها (الكتاب) لسيبويه (180هـ)، و (الخصائص) لابن جنّي (392هـ)، و?(دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) للجرجاني (471هـ) ونحوها، وكلها تدلّ على مدى إدراكهم للبون الشاسع بين أرقى ما في اللسان العربي من مستويات البلاغة والفصاحة والنظم من جهة ولسان القرآن من جهة أخرى.
? عصر التدوين و نظرية النظم
حتى إذا جاء عصر التدوين وبدأت المعارف والعلوم تتمايز إذا بنا نجد همماً عالية كثيرة قد انصرفت إلى القرآن المجيد متجاوزة فنون التفسير، وضروب التأويل، وقضايا الأحكام، ومسائل القراءات إلى بيان القضايا البيانية، والمحسنات البديعية، وضروب المعاني، والقواعد اللغوية، والمسائل النحوية، فكانت هذه المعارف والعلوم من القرآن الكريم تصدر، وإليه تعود. وقد كتب أبو عبيدة معمر بن المثنى (209هـ) كتابه الشهير (مجاز القرآن) في مجموعة مؤلفات أخرى هامة، لكن (المجاز) بقي أهمها وأشهرها. وأبو عبيدة لم يعن بالمجاز قسيم الحقيقة، بل عنى به الآية التي يجتاز أو يتجاوز ما دلت عليه بصريح لفظها فيغيره إلى معنى لم يدل اللفظ عليه مباشرة ولأول وهلة، بل جرى العبور به أو منه إلى سواه بعد التأمل في العبارة، وربما دراستها وتحليلها -كما نقول اليوم- وبذلك وضع أبو عبيدة اللبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغية القرآنية(21). وإذا كان مجاز أبي عبيدة لم يكن كافياً لولادة نظرية >الوحدة البنائية< فإن ما قدمه قد أثار قضايا بقيت تتطور حتى جاء عبد القاهر الجرجاني ليبلور >نظرية النظم<.
صحيح أن الكاتبين في تاريخ العلوم القرآنية عدُّوا الجاحظ مؤسساً للدراسات الخاصة بنظم القرآن، لكن من بلورها وبنى عليها كان عبد القاهر الجرجاني. فالجاحظ (255هـ) قد خص القرآن المجيد بمؤلفات هامة أهمها كتاباه (نظم القرآن) و (آي القرآن) وكلا الكتابين مفقودان، لم يعثر عليهما، لكنه لحفاوته بهما قد أورد كثيراً من نصوصهما المقتبسة في كتبه الباقية.
وقد عظّم ابن الخياط في (الانتصار) للمعتزلة شأن كتب الجاحظ، وفي مقدمتها ذكر (نظم القرآن) فقال: >... ومن قرأ كتاب عمرو الجاحظ في... نظم القرآن علم أن له في الإسلام غناء عظيماً لم يكن الله -عز وجل- ليضيعه عليه، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن، وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد على نبوّته غير كتاب الجاحظ<. وإشارات ابن الخياط تنبه إلى أن الكتاب في الإعجاز القرآني، أو أن الإعجاز بعض متناولاته، وجزء من قضاياه. ولعل الجاحظ في هذا الكتاب قد ربط الإعجاز بالنظم وبخصائص بيانية أخرى يقف النظم في مقدمتها. وفي كتب الجاحظ المتداولة المطبوعة (البيان والتبيين) و (الحيوان) و (الرسائل) الكثير من النصوص المنقولة عن كتبه المفقودة أو المنبهة لبعض ما فيها من حديث عن نظم القرآن، وآي القرآن، وألفاظ القرآن، وفصاحة كلمات القرآن، وبلاغة الكلام، وأسرار أساليب التعبير القرآني من الحذف والذكر، والإيجاز والإطناب، وجمال التصوير، وحسن التشبيه، والكنايات، والاستعارات. وقد تحدث عن ألفاظ القرآن وثراء معانيها ومناسبتها لتلك المعاني حديثاً يجعلك تتصور الكلمة كائناً حيًّا ذا نفس سائلة بحيث يمكن أن يوصف بالخفة والثقل، والسمو والهبوط، والرقي والنزول، فيقول: >...?وقد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها؛ ألا ترى أن الله -تبارك وتعالى- لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب، أو في موقع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة. وكذلك المطر؛ لأنك لا تجد القرآن يلفظ الغيث في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث. ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين، ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين، ولا السمع أسماعاً، والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال...<(22).
? الألفاظ والمعاني
وإذا كانت الكلمة تصلح في مكان فقد تفسد في مكان آخر. وقد تدل على معان مشتركة في موقع لتدل على معنى واحد في موقع آخر. وقد تكون في أصل الوضع اللغوي لا تدل على معنى مفرد، فيراد لها أن تدل على معان عديدة. والكلمة في تعبير ما تساعد في رسم صورة بيانية معيّنة، وهي في تعبير آخر تشارك في رسم لوحة مغايرة، وهي في موضع تبدو غنيّة بالمعاني، وفي موضع آخر تبدو فقيرة متواضعة تعطي المعنى الواحد والمعنيين. ولذلك كانت العرب تتبارى في التعبير عن المعاني الكثيرة بالألفاظ المحدودة المعدودة، فكثرة معاني اللفظ وتنوع دلالاته في الميدان الواحد ميدان بلاغة وفصاحة تشرئب إليه أعناق البلغاء وعقول الفصحاء. فاختيار الخطيب أو الشاعر لألفاظ ذات دلالات واسعة بحيث تكون بمثابة دار عامرة فيها غرف مبنيّة وفضاء وفناء ومرافق ومنافع يتفيأ القارئ ظلالها، ويستمتع بكل جوانبها - هو أمر في غاية الأهمية لوصف الكلام بالبليغ المحكم. وقابلية الألفاظ لذلك تكون أحياناً بطبيعة الوضع اللغوي كما في الألفاظ التي عرفت بـ(المشتركة)، وأحياناً بطبيعة النظم والتركيب والسياق، أو الهيئة التي ركب الكلام عليها. فالمعاني أعم من أن تكون الدلالة عليها بالبناء اللفظي وحده، أو أن تكون مفهومة بالفحوى، والمفهوم بأنواعه، أو مما يستلزمه اللفظ ويستدعيه بطريقة عقلية، أو يرمز إليه رمزاً، ويشير إليه إشارة بلحن الخطاب وإشارته انطلاقاً من المفردات أو من التركيب أو السياق أو الأسلوب.
وأيًّا ما يكون الأمر فإن قدرة المتكلم على إثراء معاني أقواله يتوقف على قدرة فائقة على اختيار الألفاظ، ومهارة في تركيب الجمل، وبناء الأساليب، ودربة كبيرة على صياغة التراكيب، وحسّ شفاف بالتناسب، وملكة في حسن التنسيق بين الجمل ونظمها، وعلم بما يريد إيصاله إلى المخاطب، ووعي بالأفكار التي يهدف إقرارها في نفسه، والصور التي يريد رسمها في ذهنه، والدواعي والدوافع التي يريد غرسها في عقله ووجدانه. فلا غرابة أن يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1-2].
وقد خصّ ابن قتيبة في كتابه القيم (تأويل مشكل القرآن) بجملة فصول كرّسها لبيان مزايا مفردات القرآن؛ ففي (باب اللفظ الواحد للمعاني المختلفة) تناول ألفاظ: الأمة، والدين، والعهد، والهدى، والضلال، والظلم... ومفاهيم قرآنية كثيرة أخرى تناولها فيما يزيد عن خمس وأربعين صفحة كانت بمثابة مشروع معجم لمفاهيم القرآن أو مصطلحاته أو مفرداته. وقد يكون الراغب الأصفهاني الذي جاء بعده بما يزيد عن قرنين من الزمن قد استفاد فكرة كتابه الفريد (المفردات) من فعل ابن قتيبة ذلك. ولكن ابن قتيبة وأستاذه الجاحظ، وأستاذ الجاحظ النظّام كان قصارى جهودهم أن يثبتوا أن القرآن المجيد نزل بأساليب العرب، وحاكى أوجه كلامهم وإعرابهم عما يريدونه، وتفوّق عليها وجاوزها بمراحل. ويمكننا القول بأننا إذ نسلم بأن القرآن جاء بأساليب العرب في كلامها، لكنه قد استوعب تلك الأساليب وتجاوزها فالمموّه من المعادن بالذهب، أو بماء الذهب قد يبدو للجاهل بالصنعة ذهباً، لكنه لدى الفحص يتبيّن ما هو ذهب حقيقي، وما هو معدن آخر مموّه بالذهب.
>ولقد كتب الجاحظ عن نظم القرآن ما جعله موضوعاً لقضية الإعجاز. واقتفاه أبو بكر بن أبي داود السجستاني، وأبو زيد المبلجي (322هـ) وأبو بكر بن الإخشيد (326هـ) وكل هؤلاء قد تحدثوا عن هذه القضية - قضية الإعجاز في كتب حملت عنوان >نظم القرآن<، وهو العنوان الذي أسّس له الجاحظ. حتى جاء أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي (306هـ) فعالج هذه المسألة تحت عنوان: >إعجاز القرآن< ومنذ ذلك الحين وأكثر المؤلفين في هذا الموضوع جعلوا عنوانهم المفضّل >إعجاز القرآن< فقد ارتضاه الرماني (386هـ) والخطّابي (388هـ) والباقلّاني (403هـ) وكثير غيرهم(23).
? الوحدة البنائية ونظرية النظم عند الجرجاني
عبد القاهر الجرجاني يعدّ المتربع على القمة في الدراسات البلاغية من غير منازع. ومنذ بدأنا دراساتنا النقليّة في مدارس المساجد واسما عبد القاهر الجرجاني والبلاغة يستدعي كل منهما الآخر، كما يستدعي المنطق اسم أرسطو، واسم أرسطو المنطق، وكما يستدعي اسم الإمام الشافعي أصول الفقه، واسم الأصول اسم الشافعي. ودراسات الجرجاني دراسات عالم متكلّم فيلسوف نحوي، وبتلك العقليّة اكتشف أن >علم النحو< قد انحرف المشتغلون به حين قصروا دوره على أواخر الكَلِم، وجعلوا موضوعه ذلك -وحده. في حين أن عبد القاهر كان يرى أن مهمة >علم النحو< الأولى أن يؤدي بمن يمهر فيه إلى المعرفة الصحيحة بتركيب الجمل، وبناء أساليب الكلام، وترابط المعاني. وأن فائدته الأساس تبرز في تمكين الكاتب من الإتيان بالتعبير المحكم المتماسك من غير ضعف أو تفكّك، وأن العناية بأواخر الكلم وضبطها بالإعراب والبناء بأنواعهما هي وسيلة من الوسائل الهامة لتحقيق ذلك(24).
لكن الأصل هو أن يكون النحو وسيلة للكشف عن إعجاز النظم القرآني، ذلك أن عبد القاهر قد قام باستقراء لكل ما كان معروفاً في عصره من وجوه أو دلائل -كما سماها- تصلح أن تكون موضع >الإعجاز< في القرآن، فذكر كل وجه يحتمل أن يكون له دور في الإعجاز، وناقشه وعقّب عليه ليمارس عملية >سبر وتقسيم< في تلك الدلائل، >فبدأ يتساءل عن الكلمات المفردة في القرآن - هل يكمن فيها سر الإعجاز؟<(25) ثم حذف ذلك بعد أن قرّر أن الكلمات ملك مشاع للناس كافّة، لا يعجز أحد عن أن يأتي بمثلها، فمن المحال أن تكون هذه الكلمات المفردات موضع السرّ لهذا الإعجاز(26).
ثم انتقل إلى تركيب الحركات والسكنات في الجمل القرآنية، ونفى أن يكون لذلك أثر كبير في هذا الإعجاز(27). وقد سخر الجرجاني سخرية مرّة ممن قال ذلك. وإذ قال فيمن جعل المفردات مجال الإعجاز: >فلو كان هناك شيء أبعد من المحال لكانت هذه الكلمات بمعانيها موضع السر لهذا الإعجاز...<. وقد كانت سخريته أكبر وأمرّ فيمن رأى أن سرّ الإعجاز يكمن في الحركات والسكنات، فقد قال فيمن جعل سرّ الإعجاز في الحركات والسكنات في الجمل القرآنية: >إن مسيلمة وغيره قد تعاطوا ذلك في بعض ما عارضوا به القرآن فما انتهوا إلى شيء...<(28).
ثم تناول المقاطع والفواصل في الآيات، فبيّن أن الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد قدر العرب على روائع القصيد دون أن يستطيعوا الإتيان بسورة من مثل القرآن. فإذا لم تكن الفواصل والمقاطع سرّ الإعجاز فلن تكون أيضا الاستعارة والمجاز؛ لأن الاستعارة لا تشمل جميع الآيات، والقرآن معجز جميعه. ثم بلغ غايته حين بلغ مرحلة القول بـ>النظم< وكاد يحصر سرّ الإعجاز فيه، قال: >وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها... وجدت المعوّل على أن هاهنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً وصياغة وتصوّراً، ونسجاً وتحبيراً...<(29).
والرجل لا يترك الأمر عائماً، بل يبيّن لنا مراده بـ>النظم< بشكل دقيق: >ثبت الآن ألَّا شك ولا مزيّة في أن ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم. ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه، وموضعه ومكانه، وأنه لا مستنبط له سواها، وألَّا وجه لطلبه فيما عداها - غارّ نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه، ولزمه أن يثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به، وأن يلحق بأصحاب الصّرفة، فيدفع الإعجاز من أصله...<(30).
لقد حمل الجرجاني -بشدة- على أولئك الذين اهتموا بالألفاظ ونسبوا الإعجاز إليها في مواضع كثيرة من كتابه. فـ>الألفاظ عنده خدم المعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق<(31). فالألفاظ لا تتفاضل - من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلمات مفردة... لأن التفاضل من حيّز المعاني، دون الألفاظ. وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويّتك، وتراجع عقلك، وتستجد في الجملة فهمك...<(32).
ويزيد في بيان مراده بـ>النظم< فيقول: >لما كانت المعاني إنما تتبيّن بالألفاظ وكان لا سبيل للمرتِّب لها، الجامع شملَها إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره إلا بترتيب الألفاظ في نطقه - تجوّزوا فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف الترتيب، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض، وكشف عن المراد، كقولهم: (لفظ متمكّن) يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه [صار] كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن إليه. و(لفظ قلق ناب) يريدون أن معناه غير موافق لما يليه [فصار] كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه، إلى سائر ما يجيء صفة في صفة اللفظ< وساق هناك أمثلة ونماذج كثيرة، وتحليلاً وافياً لدقائق بلاغية رائعة(33).
? مسيرة النظم والوحدة البنائية
لقد كان المفهوم العام لدلالة >النظم القرآني< على الإعجاز في الأجيال الأولى التي منّ الله -تعالى- عليها بأن تكون في جيل التلقي، ثم جيل الرواية معنى قائماً في العقول والقلوب والنفوس - لم يتداول بحيث يتم إنضاجه، ووضعه في إطار المصطلحات والمفاهيم الفنيّة -شأنه شأن سائر الأمور المعرفيّة الكبرى- حتى جاء الجاحظ ليقع على مفهوم >النظم< ويكتب رسالة في >النظم القرآني< لم تصل إلينا، ولكن ضمّن بعض كتبه الأخرى المتداولة شذرات منها، وبعض الإشارات إليها، وتتابعت بعد ذلك الجهود لتبدو ناضجة سويّة على عهد عبد القاهر في كتابيه التأسيسيين: الدلائل والأسرار. وإذا كان عبد القاهر لم ينص على مفهوم >الوحدة البنائية< فإن جهوده في بناء >نظرية النظم< قد شقت الطريق إليها، وأعطى كثيراً من الدلائل الدالة عليها، وقدم المعالم الموصلة إليها، ولحكمة الرجل وبُعد نظره أطلق على كتابه المفصِّل لنظرية النظم اسم (دلائل الإعجاز) - فهي في نظره >دلائل< على أوجه الإعجاز - كما أكّد الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور(34).
فإذا تابعنا المسيرة نجد أن أبا علي الفارسي (377هـ) من بعد الجرجاني يعبر عن ذلك المعنى -الوحدة- بشكل صريح كما عبر ابن العربي في قوله الآنف الذكر. ففي (مغني اللبيب) لابن هشام (761هـ) في مباحث (لا) أورد قول الشاعر:
أبى جوده لا البخلَ واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قائله
شاهداً، وذكر أقوال العلماء في تفسير البيت، وأقوالهم في كلمة (لا) فيه، فنقل فيما نقل قول أبي علي الفارسي في كتابه (الحجّة في القرأات) نقلاً عن أبي الحسن الأخفش قوله: فسّرته العرب (أي البيت): أبى جوده البخل، وجعلوا >لا< حشواً. نقله عن الأخفش. ثم قال الشارح: وكما اختلف في >لا< في هذا البيت: أنافية أم زائدة، كذلك اختلف فيها في مواضع التنزيل، أحدها قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] فقيل: هي نافية، واختلف في منفيِّها على قولين: أحدهما أنه شيء تقدم - وهو ما حكى عنهم كثيراً من إنكار البعث، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم؛ قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن -كله- كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وجوابه: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]. وبعد أن فرغ من ذلك عاد لتوكيد ما نقله عن أبي علي الفارسي من أن القرآن كالسورة الواحدة(35).
والذي يهمنا من هذا النقل المطوّل نسبياً أن >وحدة القرآن البنائية< وأنه -كله- كالسورة الواحدة كانت أمراً معروفاً ومتداولاً في القرن الخامس الهجري، وأنها كانت بحيث يستفاد بها في التفسير والتأويل، وتوجيه بعض النصوص. وأن الحديث عنها لا ينحصر في دائرة بيان فضائل القرآن فحسب. بل هي مدخل منهاجي في التفسير والتأويل، وتوجيه النصوص التي تثار حولها إشكالات لغوية ونحوية. علماً بأن هذا المنهج القائم على النظر إلى القرآن في وحدته هو ما علمنا إياه رسول الله K من كل ما أثير من أسئلة واستشكالات في عهده، والتي عرفت بعد ذلك بـ>تفسير القرآن بالقرآن<.
وعلوم القرآن -مثل غيرها من علومنا ومعارفنا الإسلامية- أصابها التّوقف بعد تلك المرحلة. فلم تأخذ مدياتها واستمراريتها التي كان من الممكن أن تمنحها الامتداد والتوسع، واستيعاب العصور اللاحقة كما استوعبت ما سبقها. و>الوحدة البنائية< للقرآن المجيد لو أتيح لها من يبلورها في تلك المرحلة، وما يمكن أن تنعكس عليه من أمور لفتحت من العلم الإسلامي أبواباً كثيرة، وعادت عليه وعلى علوم القرآن -خاصّة- بفوائد منهاجية جليلة، ولحسمت كثيراً من الغبش الذي دار حول التنزيل، وأصلحت كثيراً من الخلل. فما يستقيم بأي نوع من أنواع النسخ المدّعاة مع الإيمان بالوحدة البنائية. ولا يقبل القول بوجود أو جواز تعارض عقليّ أو واقعي بين نصوص الوحي التي تستدعي استخدام أسلحة الترجيح، ولما كانت علوم التفسير واتجاهاته أخذت الأشكال التي ورثناها، ولما أصاب العقل المسلم الكسل عن التّدبّر والتّعقّل والتّفكّر والترتيل والتلاوة - حق التلاوة، ولما سقط في دركات الهجر للقرآن ليشابه أولئك الذين حُمّلوا التوراة فلم يحملوها حقّ حملها، ولأدرك أنه قد حمل القرآن، وأنه مسؤول عن حسن حمله، والتمسّك به. وقدّر الله وما شاء فعل، والعلم أرزاق للأجيال مقدّرة كالأقوات ينزّلها الله -تعالى- للبشر بقدر. وإذا لم يلتفت إلى فعل من أنزل القرآن عليه، ويتشبث به بحيث يسود سائر المناهج فما بالنا بالعصور التالية؟!
إن نهاية القرن الخامس الهجري قد آذنت بانحدار العلوم العربية والدراسات الإسلامية إلى درك التقليد والترديد. فاختفت لوامع الابتكار، وتوقفت بوارق الإبداع، وأفلت شمس الاجتهاد، وصار قصارى جهد الخالف أن يعيد ويردد ما تركه السالف.
وبعد: فإنني لا أرى أن هذه الدراسة قد أعطت >الوحدة البنائية للقرآن المجيد< حقها، لكنها مقدمة وفاتحة أثارت الموضوع، وفتحت أبواب الحديث فيه، راجين أن ينسج الباحثون في هذا الميدان على هذا المنوال، ورحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
?* عضو الهيئة الاستشارية.
(1) انظر اختلافهم الشديد في تحديد المراد بهم في التفسر الكبير للفخر الرازي 19/211، والتحرير والتنوير لابن عاشور 14/84.
(2) يرجى ألَّا يفهم من هذا أننا ندعي إعجازاً في الألفاظ المفردة، وهو ما سنأتي إلى توضيحه فيما سيأتي، بل نريد أن نؤكد أن تلاحم الكلمات في الآيات وتناسبها، وتلاحم الآيات مع نظيراتها، ثم السور مع أمثالها شبيه بتوافق الأحرف داخل الكلمة الواحدة، ولا فرق من حيث التناسب والتوافق والانسجام.
(3) راجع: علم أصول الفقه وخلاصة التشريع الإسلامي، عبد الوهاب خلاف، ص293-294. تاريخ الفقه الإسلامي، محمد يوسف موسى، ص11. وقارن: تاريخ التشريع، محمد الخضري، ص27 وما بعدها. ويمكن مراجعة كتب (أحكام القرآن) وكتب (أحاديث الأحكام) نحو: منتقى الأخبار، ابن تيمية الجد. بلوغ المرام، ابن حجر العسقلاني ونحوها. وهدفنا هنا الإشارة إلى بروز ذلك الاتجاه.
(4) أفردنا لقضية >الجمع بين القراءتين< دراسة خاصة مطبوعة.
(5) رواه البخاري في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين، رقم: 6538، ومسلم في الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، رقم: 124.
(6) رواه البخاري في تفسير القرآن، باب {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، رقم: 4351.
(7) انظر المفردات، مادة (عضة). راجع أيضاً: لسان العرب وتهذيب اللغة (عضو). والحديث وارد في: النهاية، ابن الأثير الجزري 3/256. غريب الحديث، 2/7. رواه عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم مرسلاً. وورد في: كنز العمال، التقي الهندي 11/9. وقارن: تفسير ابن كثير 2/558. بيروت، دار المعرفة، ط. أوفست، 1969.
(8) من حديث ابن عباس، أخرجه الحاكم عنه بإسناد صحيح على شرط البخاري. وانظر: الوحي المحمدي، رشيد رضا، ص108.
(9) راجع: البيان والتبيين، الجاحظ 1/133، القاهرة، ط2.
(10) رواه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، رقم: 2018، وأحمد في مسند الشاميين من حديث أبي ثعلبة الخشني، رقم: 17278.
(11) رواه النسائي في القسامة، باب صفة شبه العمد وعلى من دية الأجنّة وشبهه، رقم: 4823، وبلفظ >شجع كسجع الأعراب< رواه مسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين ووجوب الدية في القتل الخطأ، رقم: 1682، وأحمد في مسند الكوفيين من حديث المغيرة بن شعبة، رقم: 17712.
(12) رواه البخاري في تفسير القرآن، باب قوله {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ}، رقم: 4240.
(13) في إشارة إلى الحديث الوارد عند البخاري في الجهاد والسير، باب فكاك الأسير، رقم: 2882، ونصه: >عن أبي جحيفة F قال: قلت لعلي F: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر<.
(14) ينظر -مثلاً- كتاب عمدة الأحكام في أحاديث خير الأنام للإمام المقدسي حيث بلغ تعداد الأحاديث الواردة فيه أربعمائة وثلاثين حديثاً اقتصر فيها على الوارد في الصحيحين.
(15) بلغ تعداد أحاديث كتاب منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار لابن تيمية الجد 3955 حديثاً، وقد شرح الإمام الشوكاني هذه المجموعة من الأحاديث في كتابه المشهور نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار.
(16) يقول عبد القاهر الجرجاني: >... فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ، ولا من حيث هي كلم مفرد...< دلائل الإعجاز، ص50. ولم يوضح لنا ابن العربي من أراد بذلك العالم ولم نطلع على ما كتبه حول سورة البقرة لنقارن بينه وبين جهد درّاز.
(17) عن: أسرار ترتيب القرآن، ص39-40. وراجع: إعجاز النظم القرآني، القاهرة، مكتبة غريب، ط1، 1980. التناسب البياني، أحمد أبو زيد، ص6، منشورات كلية الآداب في الرباط، 1992. والإتقان، السيوطي 2/108.
(18) للإمام الرازي كتاب >نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز< تبنّى فيه >نظرية النظم< ومع ذلك فإنه سار فيه على نهجه في كتبه الأخرى التي ألف أن يستعين فيها بالمنطق والطرق الفلسفية والتفريع على أصول المسائل والاستطراد الكثير. فلم يلتفت بقدر كاف إلى ما يتعلق بجمال النص وروعة النظم، وإعجاز أساليب التعبير، وهو جوهر قضية النظم. وكذلك فعل في تفسيره حيث رأيناه يتجه الوجهة ذاتها.
(19) الإتقان، السيوطي، 2/108.
(20) راجع: النبأ العظيم، عبد الله دراز، فصل: القرآن في سورة سورة منه -الكثرة والوحدة، ص142-163. الكويت، دار القلم، ط7، 1993. وقد قدم -رحمه الله- في هذا الفصل منهجاً للكشف عن وحدة السورة قدم به لدراسته للوحدة البنائية في السورة التي اختارها نموذجاً تطبيقياً كشف به عن الوحدة في سورة البقرة. وراجع مقارناً: التناسب البياني في القرآن، د. أحمد أبو زيد، ص49-51 لتجد قراءة د. أبو زيد لجهود د. دراز وتلخيصه لمنهجه التطبيقي كما برز في سورة البقرة.
(21) انظر: خطوات التفسير البياني، د. محمد رجب البيومي، القاهرة، مجمع البحوث، الكتاب الثاني والأربعون، 1971.
(22) راجع: البيان والتبيين، الجاحظ، 1/33.
(23) خطوات التفسير اليياني، مصدر سابق، ص124.
(24) راجع مقدمة: دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، القاهرة، طبعة: المحمودية التجارية، ط1، 1950. وقد أكد على أن >النظم< ليس سوى تعليق الكلم ببعضها، ثم شرح ذلك بإسهاب ودلّل عليه. فنظرية النظم عنده قائمة على النحو، منبثقة عنه.
(25) خطوات التفسر البياني، مصدر سابق، ص206.
(26) انظر مناقشته لشبهات من جعلوا الفصاحة للألفاظ: دلائل الإعجاز، مصدر سابق، ص299 وما بعدها. وقارن بتحليله الدقيق لدور المفردات في ص 33 و في ص341.
(27) المرجع نفسه: ص21 وما بعدها.
(28) المرجع نفسه: ص39-44.
(29) المرجع نفسه: ص25.
(30) المرجع نفسه: ص333.
(31) المرجع نفسه: ص38.
(32) المرجع نفسه: ص43.
(33) المصدر نفسه: ص43.
(34) انظر: التفسير ورجاله، محمد الطاهر بن عاشور، ص49.
(35) راجع: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، وحاشيته للشيخ الأمير، 1/185. المطبعة الأزهرية المصرية، ط1، 1899. وقد مرّ كيف علمهم رسول الله K هذا المنهج في القراءة، فتأمل!!!