شعار الموقع

الثقافة والدين قراءة في نظرية توماس إليوت

زكي الميلاد 2004-10-30
عدد القراءات « 2390 »
ـ 1 ـ إليوت ونظرية الثقافة والدين

المشتغلون في الدراسات الثقافية حينما يقتربون من الحديث عن العلاقة بين الثقافة والدين، غالباً ما يلتفتون إلى أفكار الشاعر والناقد الإنجليزي المعروف توماس إليوت (1888 - 1965م)، الذي قدم نظرية في هذا المجال شرحها في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة) الصادر عام 1948م، وأظهر الاهتمام بها، والدفاع عنها.
والدارسون لفكرة الثقافة أو نظرية الثقافة، أو الباحثون عن تعريف أو تعريفات للثقافة يرجعون باستمرار لهذا الكتاب، أي كتاب إليوت، نظراً لقيمته الفكرية، وأهمية مؤلفه وشهرته، حيث حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1948م، وهناك من يرى أن أشعاره وأعماله النقدية ساعدت على إعادة تشكيل الأدب الأوروبي المعاصر.
وقد اكتسبت نظرية إليوت قدراً من الاهتمام في السابق حينما كان الجدل محتدماً بعض الشيء حول العلاقة بين الثقافة والدين. ومازالت هذه النظرية تلفت الانتباه اليوم لكن بقدر أقل من السابق نتيجة تراجع ذلك الجدل حول العلاقة بين الثقافة وانحساره داخل الثقافة الأوروبية، وفي نطاق الديانة المسيحية.
وهذا التراجع والانحسار لا يعني تفكك العلاقة بين الثقافة والدين، ولا حتى سقوطها ونهايتها. فالحديث عنها ظل يتجدد وينبعث من وقت لآخر، كالذي ظهر في كتاب الناقد الأيرلندي تيري إيجلتون (فكرة الثقافة) الصادر عام 2000م، حيث كشف فيه عن تجدد النقاش بين المثقفين والمفكرين والنقاد الأوروبيين حول تلك العلاقة أو الجدلية بين الثقافة والدين.
وما يميز معالجة إليوت لهذه القضية هو أنه حاول بناء نظرية في هذا الشأن، وأعطى معالجته وصف النظرية. الوصف الذي يراد منه الكشف عن مستوى العمل من الناحيتين المعرفية والمنهجية. كما يراد منه أيضاً تصوير أن هذا العمل يأتي في سياق بناء نظرية حول العلاقة بين الثقافة والدين. أو التعامل مع هذه القضية لأنها تمثل نظرية، وبالتالي العمل على تكوين الفهم لهذه النظرية، وتحليل شبكة المفاهيم المكوِّنة لهذه النظرية، وضبط العلاقة بين أبعادها وعناصرها، ومن ثم البناء والإضافة عليها.
والأقرب أن إليوت كان يحاول بناء نظرية في هذا الشأن، بقصد تعميق العلاقة بين الثقافة والدين؛ ليكون الدين حاضراً باستمرار بروحانيته وتراثه وتاريخه وقيمته في كل محاولة لتعريف الثقافة، أو تكوين فكرة حولها.
ومن يطلع على الطريقة التي عالج بها إليوت تلك القضية، وطبيعة الأفكار والتصورات التي قدمها يكتشف كم أنها مختلفة ومتميزة عن طريقة معالجة الآخرين لهذه القضية، وهكذا على مستوى الأفكار والتصورات، بحيث يمكن القول بأن إليوت من أكثر المفكرين في عصره، وما بعد عصره، الذي أعاد ترسيخ العلاقة بين الثقافة والدين، وكوّن نظرية حول هذه العلاقة، دفع بها إلى حقل الثقافة والدراسات الثقافية، وأسس لها وجوداً بات من الصعب تغافله أو عدم الاكتراث به، وأصبح من الممكن القول بأن هناك نظرية في العلاقة بين الثقافة والدين.
هناك من لا تعنيهم هذه النظرية، ولا يرغبون في التطرق إليها أو الاقتراب منها، إلا أنهم، أو بعضهم يجدون الحافز في النظر إلى الثقافة من بعد علاقتها بالدين. والفضل في ذلك، أو القسط الكبير من ذلك يرجع إلى الجهد الذي قام به إليوت.


ـ 2 ـ مكونات النظرية وأبعادها

مع أن إليوت كان بصدد بناء نظرية حول العلاقة بين الثقافة والدين، إلا أنه لم يفرد لهذه القضية فصلاً مستقلاً في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة).
وبإمكان هذه الملاحظة أن تُثير شكاً فيما إذا كان إليوت كان عازماً بالفعل على بناء نظرية في هذا الشأن. وما يبدد هذا الشك ما أعلنه إليوت نفسه وبشكل صريح عن نظرية حول هذه القضية ينسبها إلى نفسه.
وما يدعونا إلى هذه الملاحظة أن إليوت لم يتحدث عن نظريته بطريقة منهجية وبنائية، بحيث تتحدد ملامحها وأبعادها ومكوناتها بصورة واضحة ومتجلية ومتماسكة. وإنما تحدث عنها بطريقة متفرقة ومتناثرة، وفي كل مرة يلفت النظر إلى بعد أو فكرة أو ملاحظة تتصل بهذه العلاقة بين الثقافة والدين. إلى جانب ما يظهره أحياناً من التردد والحيرة، وكيف أنه يقدم على مهمة تنطوي على خطر الوقوع في الخطأ. وحسب قوله: >إن ما حاولت التلويح به من نظرة إلى الثقافة والدين لجد عسير، بحيث لا أحسبني أدركه أنا بنفسي إلا لمحاً، ولا أحسبني واقفاً على جميع دلالاته. وهي أيضاً نظرة تنطوي على خطر الوقوع في الخطأ في كل لحظة، لعدم التنبه إلى تغير في المعنى الذي يكون لكلتا الكلمتين حين تقترنان على هذا النحو، بصيرورتهما إلى معنى قد يكون لإحداهما بمفردها<(1).
في حين كان بإمكان إليوت أن يخصص فصلاً كاملاً لهذه النظرية لكي يكسبها قوة التحديد والتماسك، وهما من الشروط الأساسية لبناء النظرية بحسب المنطق العلمي.
وما سوف أقوم به عبارة عن عملية استنباط لهذه النظرية من جهة المحددات والأبعاد والمكونات الأساسية، في إطار محاولة تكوين فهمٍ لهذه النظرية، وذلك في النقاط التالية:
أولاً: إن كل ثقافة ظهرت كانت إلى جانب دين
هذه هي الدعوى التي يقررها إليوت ابتداءً إطاراً عاماً، أو فرضيةً كليةً لنظريته في بناء علاقة ثابتة بين الثقافة والدين.
وقد ظل إليوت يؤكد على هذه الدعوى، ويلفت النظر إليها بصور ومنطلقات عديدة. فتارة يلفت النظر إليها من جهة تلازم ظهور الثقافة إلى جانب الدين، وفي هذا الشأن يقول: >لم تظهر ثقافة ولا نمت إلا بجانب دين. ومن هنا تبدو الثقافة نتيجة من نتائج الدين، أو الدين نتيجة من نتائج الثقافة، طبقاً لوجهة نظر الناظر<(2).
وتارة يلفت النظر إليها من جهة المحافظة على الثقافة وجوداً وبقاء، فمن الخطأ -كما يقول- تصور أن الثقافة يمكن حفظها وبسطها وتنميتها بغير دين، وهكذا من الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن المحافظة على الدين ورعايته لا شأن لهما بالمحافظة على الثقافة ورعايتها(3).
وتارة من جهة نمو الثقافة ونمو الدين، حيث يرى أن نمو الثقافة ونمو الدين في مجتمع لا تؤثر فيه عوامل خارجية أمران لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وهذا يتوقف على ميل الناظر إلى أن يحكم بأن رقي الثقافة سبب لتقدم الدين، أو بأن تقدم الدين سبب لرقي الثقافة(4).
ثانياً: خطأ الانفصال وخطأ المطابقة بين الثقافة والدين
هذه الفكرة هي التي تشكل جوهر النظرية عند إليوت، ونعتها بوصف النظرية ونسبها إلى ذاته. وقال عنها: >لكي نفهم نظرية الدين والثقافة التي حاولت أن أعرضها في هذا الفصل، يجب أن نعمل على تجنب الخطأين المتعاقبين: خطأ جعل الدين والثقافة شيئين منفصلين بينهما علاقة، وخطأ المطابقة بين الدين والثقافة<(5).
وهذه الفكرة هي أكثر أفكار إليوت وضوحاً من حيث الضبط والتحديد، ومن أكثرها إثارةً للجدل أيضاً.
ثالثاً: المجتمعات البدائية والتطابق الكلي بين الثقافة والدين
يرى إليوت أن التطابق الكلي والتام بين الثقافة والدين إنما يحصل في المجتمعات التي يمكن وصفها بالبدائية. ويبقى هذا التطابق حسب رأيه في مستوى اللاوعي، وهو المستوى الذي يميل إليه الناس عادة، حيث يجدون في الوعي كما يقول:  حملاً ثقيلاً. وأن التطابق بين الدين والثقافة يسبب جهداً، ويتم التخلص من هذا الجهد بمحاولة الارتداد إلى تطابق الدين والثقافة بالذي غلب على مرحلة المجتمعات البدائية.
رابعاً: وحدة الدين وتعدد الثقافات بين الشعوب المختلفةفالوحدة الدينية حسب رأي إليوت كالانقسام الديني يمكن أن يتفق كل منهما مع ازدهار الثقافة أو انحلالها. فالدين الواحد قد يساعد على تبادل التأثير بين الثقافات المتعددة بما يفيد كلاً منها، ويساهم في تنميتها والمحافظة عليها أيضاً.
ومن الناحية المعاكسة يرى إليوت أن كثيراً من المكاسب التي يصفها بالكبرى للثقافة قد حققت منذ القرن السادس عشر في ظروف انعدام الوحدة الدينية، بل إن بعضها يظهر بعد تداعي الأسس الدينية للثقافة، كما هي حال فرنسا في القرن التاسع عشر. ولا نستطيع -والكلام لإليوت- تأكيد أن هذه المكاسب أو مثلها روعة كان يمكن تحقيقها لو بقيت وحدة أوروبا الدينية(6).
خامساً: إن تكوين دين هو تكوين ثقافة أيضاً
ويبرهن إليوت على ذلك أنه حين ينقسم الدين فرقاً، وتنمو هذه الفرق من جيل إلى جيل تنتشر بذلك ثقافات متنوعة. وبسبب العلاقة التي يصفها إليوت بالوثيقة بين الدين والثقافة، فهذه العلاقة تجعل ما يحدث في أحد الاتجاهين يحدث في الاتجاه الآخر.
لهذا فحري -كما يقول إليوت- أن نجد الانقسام بين الثقافات المسيحية مثيراً لمزيد من فواصل العقيدة والنحلة. وانفصال شمال أوروبا ولا سيما إنجلترا عن كنيسة روما يعد تحولاً في نظر إليوت عن التيار الرئيس للثقافة. وإذا كان من المحتمل أن تخسر هذه الثقافة لانفصالها عن أصل الجسم حسب وصف إليوت، فإن أصل الجسم أيضاً قد يشوّه بفقدان عضو من أعضائه(7).
سادساً: إن الدين هو القوة الرئيسة في خلق ثقافة مشتركة بين شعوبٍ لكل منها ثقافته المتميزة
هنا يظهر إليوت في موقف المدافع بشدّة عن الدين، وعن المسيحية تحديداً، كما لو أنه ينتمي إلى طبقة رجال الدين المسيحيين الذين يرون أنفسهم مصدر حماية الدين.
فالمسيحية حسب رأيه هي التي جعلت أوربا على ما هي عليه، وهي التي جلبت لأوربا العناصر الثقافية المشتركة. وفي المسيحية نمت الفنون، وتأصلت قوانين أوروبا. وليس لتفكيرنا -كما يقول إليوت- عن أوروبا معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي. ويتمم إليوت كلامه في هذا الشأن بقوله: قد لا يؤمن فرد أوروبي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة.
ويظهر الاندفاع والحماس في كلام إليوت حين يقول: ما كان يمكن أن تخرِّج فولتير أو نيتشه إلا ثقافة مسيحية، وما يظن أن ثقافة أوروبا تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاءً تاماً، وإذا ذهبت المسيحية فستذهب كل الثقافة الأوروبية، ولو بددنا -كما يضيف- أو طرحنا تراث أجدادنا من الثقافة المشتركة فلن يغنينا، ولن يقرب بيننا كل ما عند أبرع العقول من تنظيم وتخطيط(8).
سابعاً: نقد فكرة أن الثقافة أشمل من الدين
لقد اعتقد إليوت أن أهم نقاط الضعف في كتاب ماثيو آرنولد (1822 - 1888م) (الثقافة والفوضى) الصادر عام 1869م، ذلك الافتراض غير المحقق على حد وصفه لعلاقة ما بين الثقافة والدين، حيث يوحي إلينا آرنولد -كما يقول إليوت- أن الثقافة أشمل من الدين، والدين ليس إلا عنصراً ضرورياً يعطي تكويناً أخلاقياً، وشيئاً من تلوين انفعالي للثقافة، وهي القيمة النهائية(9).
فقد حاول آرنولد حسب تقدير البعض شجب ما استشعر أنه نزعة إلى الفوضى واللاشرعية في الثقافة الفكتورية، وكان يأمل الحفاظ على معايير عالية للحكم تساعد على العودة إلى أدب أفضل ومجتمع أفضل، وهذا ما حاول أن يدعو إليه في كتابه (الثقافة والفوضى). وقيل عنه أيضاً: إنه كان يعاني من شكوك دينية تجلت في بعض قصائده الشعرية(10).
وفي الوقت الذي وجد فيه آرنولد نفسه في موقف الدفاع عن الثقافة، وجد إليوت نفسه في موقف الدفاع عن الدين. من هنا اختلفت منظورات الرؤية بين آرنولد وإليوت. ونظرية إليوت في جوهرها قائمة أساساً على التشكيك في فكرة آرنولد ورفضها وإزاحتها عن مجال العلاقة بين الثقافة والدين.
هذه لعلها أبرز الأبعاد والمكونات الكلية والعامة لنظرية إليوت حول العلاقة بين الثقافة والدين.


ـ 3 ـ أرضيات النظرية، الفكرية والموضوعية

هل هناك أرضيات فكرية وموضوعية ساهمت في بلورة وتحديد الأفكار التي انتهى إليها إليوت. وهي الأفكار التي أعطيناها وصف النظرية في محاولة منا لتحديدها وتنظيمها؟ وما هي هذه الأرضيات؟
لا شك أن الكشف عن مثل هذه الأرضيات يجعلنا نتوغل في فهم تلك الأفكار، وتكوين المعرفة بخلفياتها، وبطبيعة العناصر المؤثرة في تكوينها.
وسوف أكتفي هنا بالإشارة إلى أمرين أساسين: الأول له طبيعة فكرية، والثاني له طبيعة موضوعية.
الأمر الأول: وله علاقة بطبيعة النزعة الدينية المحافظة في شخصية إليوت، والمؤثرة في أفكاره ويذكر في سيرته أنه اعتنق المذهب الكاثوليكي عام 1927م، بعد أن توطن في لندن عام 1914م، وأعلن أنه من الرعية الإنجليزية. أما أصله وولادته فقد كانت في سانت لويس بالولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تجلت هذه النزعة في جميع أعماله الشعرية والمسرحية والفكرية. وهي الأعمال التي اشتهر وعرف بها. ومن أعماله الشعرية التي تجلت فيها هذه النزعة الدينية قصيدته >أربعاء الرماد< نُشرت عام 1930م، ووصفت بأنها محاولة ناجحة بوصفها قصيدة دينية. وهكذا في قصيدته >الأرباع الأربعة< وهي آخر قصيدة له، وكانت تحوي الكثير من المعاني الدينية.
ومن أعماله المسرحية التي تجلت فيها هذه النزعة أيضاً، مسرحية >اغتيال في الكاتدرائية< نشرها عام 1935م. وهي تتحدث عن موت أسقف كانتربري، توماس بيكيت (1118 - 1170م)، الذي دافع عن استقلالية الكنيسة الإنجليزية من التدخل الملكي، وقُتل بطريقة مثيرة. كما تجلت هذه النزعة في مسرحية >حفلة الكوكتيل< نشرها عام 1950م، ووصفت بأنها أشبه ما تكون بعمل ديني وصوفي بحت(11).
وفي أعماله الفكرية تجلت هذه النزعة بوضوح كبير في كتابه >ملاحظات نحو تعريف الثقافة< فقد أكّدَ في تصدير الكتاب أنه مدين في هذه الدراسة كلها لكتابات رجل دين مسيحي هو القس ف. أ. ديمانت، بالإضافة إلى اثنين من المدنيين هما كرستوفر دوسن وكارل مانهايم.
ومن شدّة حضور الدين ووجهة النظر الدينية في الكتاب، وجد إليوت أنه بحاجة إلى أن يقدم استدراكاً لكيلا يفهم أنه يلتزم وجهة النظر الدينية والمسيحية خصوصاً في تحليله للأفكار والمعاني، وفي تأمله للقضايا والمشكلات، وأنه يلتزم ويقدم وجهة نظر عالم الاجتماع، وحسب قوله: >إنني أحاول ما أمكن تأمل مشكلاتي من وجهة نظر عالم الاجتماع، لا من وجهة نظر المدافع عن الدين المسيحي... وحين أتناول أمور المسيحية فما ذاك إلا لأني مهتم اهتماماً خاصاً بالثقافة المسيحية وبالعالم الغربي وبأوروبا وإنجلترا<(12).
وهذا الاستدراك يكون هزيلاً وباهتاً حين يرى إليوت أن من الصعوبة التخلص التام من وجهة النظر الدينية؛ لأنه حسب قوله: >لا يوجد إنسان يمكنه أن يتخلص تخلصاً تاماً من وجهة النظر الدينية؛ لأن المرء آخر الأمر إما مؤمن أو غير مؤمن. وإذن لا يمكن لأحد أن يكون مبرأ من الميل تماماً كما ينبغي للاجتماعي المثالي أن يكون. وبناءً على ذلك يجب على القارئ أن يحسب حساباً لأفكار المؤلف الدينية<(13).
وكأن هذا الكلام استدراك على الاستدراك، وهذه الطريقة التزام بها إليوت مرات عديدة عن قصد وإدراك، وتلون به موقفه الفكري بصورة عامة، وهي تعبر عن الطابع الجدلي في تفكيره، حيث يوحي في كثير من الأحيان بالفكرة ونقيضها.
هذا عن الأمر الأول، والذي يتعلق بالطابع الفكري والمتمثل في النزعة الدينية المحافظة.
أما الأمر الثاني المتعلق بالطابع الموضوعي فهو يتصل بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وضخامة التأثيرات والتداعيات العنيفة والشاملة التي تركتها هذه الحرب على المجتمع الأوروبي والفكر الأوروبي، اللذين تعرضا إلى تمزقات وانقسامات وتصادمات على مستوى المواقف والأفكار والاتجاهات. وفي ظل هذه الأوضاع المتقلبة والمرعبة تجدد نقاش واسع حول مصير الحضارة الغربية، ومستقبل هذه ا لحضارة في العالم.
وفي هذا السياق حاول إليوت أن يربط مصير الثقافة الأوروبية بالدين، ويؤكد هذا الارتباط ويرسخه في سبيل غايتين أساسيتين، هما من أكثر ما تحتاج إليهما أوروبا بعد خروجها من كارثة الحرب العالمية الثانية.
الغاية الأولى: اعتقاد أن الدين هو الضمان الوحيد لوحدة وتماسك الثقافة الأوروبية، خوفاً من أن تتفرق أوروبا وتنقسم على نفسها ثقافياً وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً.
وقد تحدث إليوت باهتمام عن وحدة الثقافة الأوروبية، في القسم الأخير من كتابه >ملاحظات نحو تعريف الثقافة< وذهب إلى أن الدين هو الذي جلب العناصر الثقافية المشتركة لأوروبا، وحذر من تدخل السياسة في الثقافة حين يكون لها ذلك التأثير الذي يفرق بين المجتمعات الأوروبية، وفي هذا الشأن يقول: >قد نختلف اختلافاً شديداً في آرائنا السياسية، ولكن مسؤوليتنا المشتركة هي أن نحافظ على ثقافتنا المشتركة، وتسليمها إلى الخلف غير ملوثة بالمؤثرات السياسية<(14).
الغاية الثانية: وترتبط بدور الدين في تهذيب الحضارة الأوروبية، وانتشالها من الانحطاط الروحي والإفلاس القيمي التي وصلت إليه. وسبق وأن عبر إليوت عن مثل هذا الموقف في قصيدة شهيرة له بعنوان >الأرض اليباب< التي يُقال إنها أحدثت ضجة كبيرة عند صدورها عام 1922م، ونظر إليها بعض النقاد على أنها عمل رائع، تعكس ما شاهده إليوت في أوروبا المعاصرة من إفلاس في القيم الروحية، ومقارنتها بما كان عليه الماضي من قيم ووحدة(15).
ويتناغم مع هذا الموقف ما ختم به إليوت وفي الأسطر الأخيرة من كتابه >ملاحظات نحو تعريف الثقافة< بقوله: >نستطيع على الأقل أن نحاول انقاذ شيء من تلك الخبرات التي نشترك في الأمانة عليها -تراث اليونان والرومان والعبرانيين، وتراث أوروبا خلال ألفي سنة الأخيرة- ففي عالم رأى من الدمار المادي مثل ما رآها عالمنا، تتعرض هذه المقتنيات الروحية لخطر محيق<(16).
وهذا يعني أن تمسك إليوت بالدين يعبر أيضاً عن موقف نقدي في رؤيته للحضارة الأوروبية. ومن هنا ندرك حكمة إليوت في تعزيز العلاقة بين الثقافة والدين.


ـ 4 ـ ما بعد النظرية.. تقدم أم تراجع

لا أعلم فيما إذا كانت نظرية إليوت حول العلاقة بين الثقافة والدين، قد أثارت جدلاً في وقتها، أو في عصر إليوت نفسه، أو فتحت قدراً واسعاً أو محدوداً من النقاش النقدي الذي تتعدد فيه وجهات النظر وتختلف. لكنها أي تلك النظرية بطبيعتها تحتمل إثارة للجدل، وتستدعي قدراً من النقاش.
فقد جاءت في عصر ضعفت فيه الحماسة إلى الدين عند الأوروبيين، وبات من النادر أن يظهر هذا المستوى من الاهتمام عند المفكرين والنقاد الأوروبيين بالدفاع عن الدين، كالذي أظهره إليوت، وزج به في حقل الثقافة والدراسات الثقافية بزخم وبطاقة قوية. وذلك بعد أن تأثرت مكانة الدين في هذا الحقل من الدراسات وأصبح الاتجاه العام يميل إلى إعطاء الثقافة قدراً أكبر من الاهتمام يفوق ما كان يُعطى للدين.
وفي القدر المحدود الذي اطلعت عليه من الكتابات والمؤلفات، وجدت أن مستوى الاهتمام بنظرية إليوت في العلاقة بين الثقافة والدين يعد ضئيلاً للغاية، مع أن اسم إليوت يتكرر في جميع أو معظم هذه الكتابات والمؤلفات، لكنه يتكرر في الغالب بصورة محدودة، ولا ينم عن درجة عالية من العناية والاهتمام بأفكاره ومقولاته.
فالكاتب الفرنسي لويس دوللو الذي تتبع في كتابه >الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية< الصادر عام 1978م، فكرة الثقافة بالعودة إلى التاريخ القديم، وصولاً إلى الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وبعلاقة الثقافة بالمجالات والأبعاد التي اتصلت بها، وحين يقترب من المجال الذي يتصل بالحديث عن العلاقة بين الثقافة والدين، فإنه لا يأتي على ذكر إليوت مطلقاً. وقد لا يكون من المبرر له هذا التجاهل، لكني لم أفهم حقيقة هذا التجاهل وطبيعة مبرراته.
والهامش الذي تحدث عنه دوللو في العلاقة بين الثقافة والدين يعد ضئيلاً من ناحية كمية، وعابراً من ناحية تاريخية، ومتواضعاً من ناحية معرفية. فقط تطرق إلى هذه العلاقة مرتين: مرة حين تحدث عنها بالعودة إلى التاريخ القديم وكيف تطورت وتبلورت وتحددت فكرة الثقافة، ابتداءً من عصر اليونان القديم، مروراً بالعصر الروماني، ويتوقف عند هذه العلاقة حين يصل إلى العصور الوسطى في أوروبا. حيث رأى دوللو أن ازدهار الحياة المسيحية وتفتحها في العصور الوسطى فرض تداخلاً بارزاً بين الثقافة والدين، لكن من دون أن يكون لهذا التداخل تأثير مهم في تطور مفهوم الثقافة. فقد ظلت الثقافة حسب رأي دوللو احتكارية وفئوية في الأديرة وشعبية في مجال المعجزات وبناء الكاتدرائيات(17).
وفي المرة الثانية التي تحدث فيها دوللو عن العلاقة بين الثقافة والدين، كانت في سياق الحديث عن مناخ الثقافة، وتطرق إلى هذه العلاقة حينما تحدث عن فكرة الوارثة الاجتماعية، كونها تأسس لعلاقة الإنسان بوسطه الاجتماعي الذي يشكل مناخاً للثقافة.
ولأن الدين -كما يقول دوللو- بوصفه النمط الوحيد للعيش الذي يقود الإنسانية ويساعدها منذ ولادة الأشخاص حتى وفاتهم، لذا فإنه له أهمية خاصة.
ومن جهة الروابط بين الثقافة والدين فإنها تعود في نظر دوللو إلى أصول الحضارة، فاليونان لم يفصلوا بين المفهومين، وكذلك الحال بالنسبة للرومان الذين سبق الدين عندهم الثقافة. وإلى يومنا الحاضر كما يضيف دوللو ما تزال هناك وزارات لشؤون الدين في كثير من بلدان العالم، ومنها بلاد اللاندر الألمانية مكلفة في الوقت ذاته بالشؤون الثقافية.
وما ينتهي إليه دوللو هو أن هناك علاقة وثيقة بين الدين والثقافة؛ لأن من الصعب حسب رأيه أن تستغني الثقافة الحقة عن بعض الأخلاقية(18).
أما الناقد الأيرلندي تيري إيجلتون مع أنه كشف عن تجدد الحديث في هذا العصر حول العلاقة بين الثقافة والدين في كتابه >فكرة الثقافة< الصادر عام 2000م، إلا أنه لم يرجع كثيراً وباهتمام إلى أفكار إليوت حول هذه العلاقة.
وطبيعة الوصف الذي حدده إيجلتون عن إليوت لعله يصور عدم التقدير العالمي لأفكاره ومقولاته، فقد وصفه مرة بأنه صاحب نزعة دينية محافظة، ومرة عَدَّه مناهضاً للبرجوازية ويرفض نظرية المجتمع الليبرالي.
والهامش الذي أعطاه إيجلتون عن العلاقة بين الثقافة والدين، مع أنه لا يعد واسعاً، إلا أن أهميته تتحدد في الكشف عن المقالات التي وصلت إليها تلك العلاقة اليوم. بعد أن مرت هذه العلاقة بتجاذبات وجدليات شديدة ومتباينة، صعدت فيها -من حيث المنحى العام- مكانة الثقافة على حساب مكانة الدين في الفكر الأوروبي. وما يطرحه إيجلتون هو أشبه ما يكون بمراجعة لتلك العلاقة، والتأكيد على أن الثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن الدين.
ومنذ أن كان النظر إلى الثقافة بوصفها بديلاً عن الدين، الأمر الذي مثل -كما يقول إيجلتون- نقطة تحول تاريخية تشكل أعمال ماثيو آرنولد علامة عليها، وذلك على خلفية أن الثقافة توقر ما يوقره الدين من طريقة دينية، ورمزية محسوسة، ووحدة اجتماعية، وهوية جمعية، وجمع للأخلاق العملية والمثالية الروحية، وصلة وصل بين المثقفين والعامة.
هذا الاعتقاد أصبح موضع شك عند إيجلتوت الذي يرى أن الثقافة تبقى بديلاً بائساً للدين لسببين عنده على الأقل، فالثقافة بمعناها الفني الضيق تظل مقصورة على نسبة زهيدة من السكان، وبمعناها الاجتماعي الواسع تقوم على وجه الدقة حيث يكون البشر أقل انسجاماً ووحدة(19).
هذا عن إشكالية الماضي، أما عن الحاضر فإن إيجلتون يربط الحديث عن العلاقة بين الثقافة والدين على أساس ضرورات ومصالح توظيفية وإيديولوجية، لها علاقة بحاجة الغرب إلى أن يكون متوحداً من جهة، وأكثر قدرة على مواجهة أعدائه من جهة أخرى، خاصة حين يكون الأعداء من المسلمين، كما يصور ذلك إيجلتون نفسه.
ولاشك أن هذا تصوير حساس، ويثير الكراهية والعداء. فالثقافة حسب قوله لكي توجد غرباً مرقعاً ومتنازعاً بعض الشيء، في مواجهة ما يبدو لها على أنه ثقافة بكل المعاني السيئة لهذا الكلمة، لهذا فإن إحياء التراث الكلاسيكي المسيحي الإنسانوي الليبرالي المشترك قد يثبت أنه طريقة ناجعة -كما يقول إيجلتون- في صد البرابرة الغازين القادمين من بعيد...
فأحلاف مثل الناتو والاتحاد الأوروبي تحتاج في العادة إلى تدعيم روابطها بشيء أقل غلظة من البيروقراطية، أو الأهداف السياسية المشتركة، أو المصالح الاقتصادية المشتركة، خاصة حين تواجه أعداء مسلمين تمثل الثقافة بمعناها الروحي أمراً بالغ الأهمية والحيوية بالنسبة لهم.. والدين في النهاية -والكلام لإيجلتون- هو القوة الإيديولوجية التي لم يعرف التاريخ البشري أبداً أية قوة أخرى أشد منها فاعلية وأثراً.. والثقافة عنده تضعف على نحو قاتل إذا ما انفصلت عن جذورها الممتدة في الدين، ولذا فهي تتمسك بهذه الجذور ولو أدى ذلك إلى الخروج عن الموضوع(20).
لكن هذا الإحياء للدين -كما يعبر عنه إيجلتون- مُعرض إلى الإخفاق من جهة، ومُعرض إلى خطر الأصولية من جهة أخرى. حيث يحمل إيجلتون الرأسمالية أو الأساس الدنيوي للرأسمالية في أن تقوم بإخفاق أي جهد لإحياء الدين، ويبرئ اليسار الملحد حسب وصفه من مسؤولية هذا الإخفاق. ونص كلامه: >فأي جهد لإحياء الدين مقدر له أن تحبطه علمانية الرأسمالية وتخربه، فما يثلم سمعة الدين هو النشاطات الدنيوية التي تمارسها الرأسمالية، وليس اليسار الملحد. ذلك أن الأساس الدنيوي للرأسمالية يقوض البنية الفوقية الروحية التي يحتاج إليها لتأمين استقراره<(21).
وأما خطر الأصولية، فإن أي محاولة لإحياء الدين سوف تصطدم -حسب رؤية إيجلتون- بأصولية الآخرين الدينية، الصدام الذي يتولد منه انبعاث أصولية مضادة، وحسب قوله: >لابد أن تخاطر الآن بمواجهة أصولية الآخرين الدينية التي تنتج الصنف ذاته، الأمر الذي يؤدي بهذه المحاولة إلى التخلي عن قاعدتها الإنسانوية الليبرالية الرفيعة والانتهاء إلى حالة يصعب تمييزها عن حالة خصومها<(22).
ويصف إيجلتون الأصولية بأنها عقيدة من تخلت الحداثة عنهم.
وما نفهمه من تحليل إيجلتون أن العلاقة بين الثقافة والدين في هذه المرحلة معرضة للتوتر وليس للوئام.
هذه بعض وجهات النظر الأوروبية حول العلاقة بين الثقافة والدين، وهي تعبر عن صور التحول والتغير في هذه العلاقة بين أزمنة متفرقة. من زمن إليوت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى زمن دوللو في سبعينات القرن العشرين، إلى زمن إيجلتون مع بداية القرن الحادي والعشرين.
وطبيعة هذا السياق الفكري والتاريخي تكشف عن أن جدلية العلاقة بين الثقافة والدين ستظل في حالة تقلب وتغير، وهي اليوم أميل -من جديد- إلى توثيق هذه العلاقة، لكن ليس من المؤكد أن تظل العلاقة بهذا النحو مستقبلاً.
ويمكن إجمال الأفكار الأساسية حول هذه العلاقة، في النقاط التالية:
1ـ النظر إلى الثقافة بوصفها بديلاً أو أشمل من الدين. وهذه هي فكرة ماثيو آرنولد.
2ـ النظر إلى الثقافة بوصفها هي الدين الأكمل. وهذه هي فكرة رونان.
3ـ تخطئة النظر إلى الثقافة بوصفها منفصلة عن الدين، أو مطابقة له. وهذه هي فكرة إليوت.
4ـ النظر إلى الثقافة في حاجتها إلى الدين في ضوء أن الثقافة الحقة لا تستغني عن بعض الأخلاقية. وهذه هي فكرة دوللو.


ـ 5 ـ نقد النظرية، ملاحظات في المنهج

بعد أن حددنا طبيعة النظرية وملامحها وأبعادها عند إليوت في مجال العلاقة بين الثقافة والدين، إلى جانب بعض الأفكار الأخرى المطروحة في هذا الشأن، بقي أن نشير إلى بعض الملاحظات النقدية حول هذه النظرية من جهة الإطار المعرفي والمنهجي العام.
ومن هذه الملاحظات:
أولاً: إن إليوت بلور فكرته عن العلاقة بين الثقافة والدين في إطار المسيحية والفكر المسيحي. فهي تعكس خبرة ومعارف الديانة المسيحية بصورة عامة، ولا تعكس خبرة ومعارف الديانات الأخرى، بخلاف ما تذرع به إليوت نفسه حين رأى أن تعميماته مقصود بها أن تكون صالحة للتطبيق إلى حد ما -كما يقول- على جميع الأديان، لا على المسيحية فحسب.
وما يعارض هذا الكلام، ويضفي عليه شكاً أن جميع النماذج والتطبيقات التي تطرق إليها، وربط بها أفكاره، وحدد على أساسها وجهات نظره كانت على علاقة بالمسيحية وبمذاهبها ونحلها. والديانات الأخرى أشار إليها في حدود ذكر الاسم فقط دون العودة إلى معارفها وخبراتها ونماذجها. مع ذلك لم يأتِ على ذكر الإسلام مطلقاً في كتابه مع أنه أشار إلى اليهودية والبوذية والهندوسية. وبالتالي فإن نظرية إليوت بصورة عامة يمكن النظر إليها بوصفها نظرية تصنف على الفكر المسيحي.
ثانياً: لم يبلور إليوت نظريته بطريقة منظمة، وبمنهجية واضحة، بحيث يكون من السهولة فهمها وتكوين المعرفة بها وبأبعادها ومكوناتها. كما ويكون بالإمكان مقاربتها ومقارنتها بالأفكار والنظريات الأخرى التي تصنف على مجالها، بما يحقق معرفة قيمتها ومنزلتها بين تلك الأفكار والنظريات.
ويتصل بهذه الملاحظة ما أشار إليه الدكتور عياد في نقده أو وصفه لأسلوب إليوت في عرضه لأفكاره حيث رأى أن أسلوبه مليء بالاستدراك والاحتراس والجمل المعترضة، بحيث يوحي إلى القارئ بالفكرة وضدها في وقت واحد، ويعديه بموقف المفكر الذي يفكر في تفكيره، وهو الموقف المعقد الذي يتخذه في هذا الكتاب، ويجعل له صعوبة خاصة، وجاذبية خاصة أيضاً(23).
والطابع الجدلي هو الذي غلب على نظرية إليوت، وجعلها تفتقد قوة التحديد والتماسك.
ثالثاً: لقد اكتفى إليوت بالمعالجة العامة والفوقية في بناء العلاقة بين الثقافة والدين، ولم يتوغل في المكونات والأبعاد الداخلية والتفصيلة في محاولة لتحديد هذه المكونات والأبعاد، والكشف عن صور التلاقي بينها أخذاً وعطاء. وما كان يسعى إليه إليوت في ترسيخ الارتباط بين الثقافة والدين ليس بالإمكان أن يتحقق من خلال المعالجة العامة والفوقية، وإنما من خلال توثيق الروابط بين العناصر والمكونات الداخلية والتفصيلية.
رابعاً: لم تواكب نظرية إليوت بما تحتاج إليه من تراكمات معرفية ومنهجية، تعكس الاهتمام بهذه النظرية والتواصل والتفاعل معها، وتساهم في إنمائها وتحديثها وتجديدها من أجل المزيد لبلورتها وتنضيجها، وإخراجها من الطابع الجدلي الذي هي عليه، وإعطائها قوة التحديد والتماسك، لا أن تظل كما هي عليه دون تحريك أو تحديث.
والملاحظ أن الأفكار الأخرى التي تحدث عنها إليوت في ملاحظاته حول الثقافة اكتسبت اهتماماً من الآخرين يفوق بكثير مستوى الاهتمام بنظريته حول العلاقة بين الثقافة والدين.
والأفدح من ذلك أن الكتابات التي كانت من حيث المستوى العام أقل قيمة وتميزاً من الناحية المعرفية، كالذي ظهر مثلاً على معالجة لويس دوللو، وهكذا أيضاً معالجة تيري إيجلتون وآخرين.
هذه بعض الملاحظات المنهجية العامة حول نظرية إليوت.


ـ 6 ـ الثقافة والدين في المنظور الإسلامي

لاشك أن الإسلام له حكمته وفلسفته في العلاقة بين الثقافة والدين، وله تجربة في الحضارة والتمدن تبلورت فيها مثل هذه العلاقة وتنامت.
والحديث عن هذه العلاقة لا يكتمل أو يكون ناقصاً إذا لم تدرس في إطار الإسلام ومعارفه وخبراته، وتجربته في الحضارة. فالإسلام صنع ثقافة جديدة عُدت من الثقافات الإنسانية العالمية الكبرى التي رفدت الحضارات البشرية والعقل الإنساني بالمعارف والعلوم والقيم والأخلاق، واعترف لها العالم بهذا العطاء العلمي والقيمي والحضاري، وكان لهذه الثقافة حكمتها وفلسفتها وعبقريتها وجمالياتها وفتوحاتها.
وفي الإسلام الدين هو الذي صنع الثقافة، واتحدت العلاقة بين الثقافة والدين مع أول آية نزلت من القرآن الكريم، وهي آية {اقْرَأْ}. وهذه الملاحظة ثرية من حيث مجالها الدلالي، وتحتاج إلى تأملات غير متناهية، فالدين الذي يبدأ بآية {اقْرَأْ} هو دين قادر على أن يصنع ثقافة، ويكوّن أمة، ويبني حضارة. ومن دلالات هذه الآية أيضاً أن الدين ليس بديلاً عن الثقافة، والدعوة إلى القراءة هي دعوة موجهة إلى الإنسان في أن ينهض بجهده البشري نحو اكتساب العلوم والمعارف والخبرات، وكل ما يتصل بعلاقته بالكون، فالآية حددت مجال القراءة على مستوى الكون بكل ما فيه من موجودات مخلوقة.
قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(24) مع تأكيد الاهتمام في النظر إلى الإنسان وما يتصل به من علوم ومعارف، وهذا نوع من التخصيص {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}(25) ولا ينبغي أن تنفصل الثقافة عن الدين {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}(26).
وبعد مرحلة الخلق التي عبرت عنها الآيات الأول في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}، تبدأ مرحلة العلم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ولعل في هذه الملاحظة ما يوافق أولى المفاهيم المرتبطة بفكرة الثقافة، والتي تربط الثقافة بالطبيعة الإنسانية. بمعنى أن الحكمة الأولى للثقافة، هي أن تتعهد الطبيعة الإنسانية بالتهذيب والتكوين والتخليق لإظهار إنسانية الإنسان. فالثقافة بهذا المعنى تعني -كما يقول إيجلتون- تعهد النمو الطبيعي بالعناية والرعاية تعهداً فاعلاً ونشطاً... أي إن الحاجة إلى الثقافة تشير إلى وجود ضرب من النقص والافتقار في الطبيعة(27).
والثقافة تأتي لكي تكمل ذلك النقص والافتقار لينتقل الإنسان من الوضع الطبيعي، البيولوجي والغريزي، الناقص والساكن، والذي ينتسب إلى عالم الطبيعة والمادة والغريزة، إلى الوضع الإنساني، الروحي والأخلاقي، الفاعل والمتحرك، والذي ينتسب إلى عالم الفكر والروح، العالم المتعالي على عالم الطبيعة والمادة.
وإذا أردنا أن نحدد طبيعة عطاء الدين إلى الثقافة، أو تأثير الدين على الثقافة في المنظور الإسلامي، فذلك يمكن أن يتحدد في الأبعاد التالية:
أولاً: الثقافة والإيمان
الثقافة في المنظور الإسلامي هي ثقافة تؤمن بالغيب، وترتبط به بصورة دائمة ومستمرة، ولا تنقطع عنه أو تتصادم معه. والإيمان بالغيب هو الإيمان بوجود خالق لهذا الكون ومدبر له، والاعتقاد بالكتاب والنبوة والمعاد. وهذا الإيمان يفيض على الثقافة سمواً وعلواً ونبلاً، وفيضاً من القيم والفضائل والمكارم، ويعمق فيها الإحساس بالمسؤولية والتكليف والواجب، ويرسخ فيها الشعور بالإرادة والعزيمة والصبر، ويجعل منها ثقافة تتمسك بالحق وتجاهر به، وتدافع عن العدل ولا تتخلى عنه. فهي ثقافة لعالم الشهادة وعالم الغيب، لعالم الدنيا وعالم الآخرة، لعالم المادة وعالم النفس، لعالم الروح وعالم العقل، لعالم الإنسان وعالم الله سبحانه وتعالى.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالغيب في أولى الآيات التي افتتح بها سورة البقرة، في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(28).
فهذا هو طريق الإنسان نحو الهدى والفلاح، الهدى هو الطريق، والفلاح هو نهاية الطريق.
وجماع القول: أن الدين يربط الثقافة بمرجعية الوحي من جهة، ويجعلها مرتبطة بعقيدة من جهة أخرى. فالوحي هو الذي يزود الثقافة بالحقائق والمعارف الموثوقة واليقينية المتصلة بعالم الغيب، والتي لا يستطيع العقل الوصول إليها بموثوقية ويقين، ولا يمتلك الإنسان وسيلة أخرى غير وسيلة الوحي للتعرف عليها. والوحي هو مصدر العقيدة، والعقيدة تجعل الثقافة ترتبط بأصول ثابتة، وبشعائر وأعمال عبادية تزكي النفس، وتهذب الثقافة وتسمو بحكمتها وفلسفتها، وتحافظ على فاعليتها وتماسكها، وترسم لها طريق الهدى والفلاح.
ثانياً: الثقافة والأخلاق
إذا كانت الثقافة هي التي تقوم بدور تهذيب الطبيعة الإنسانية، فإن الدين هو الذي يقوم بدور تهذيب الثقافة، من خلال ربطها بمنظومة من القيم والمثل والأخلاق، والمحافظة على هذه الرابطة، والتأكيد عليها، والتبصير بها.
والثقافة من حيث الأصل هي تهذيب لكنها قد تتغلب عليها نزعات أخرى فتحرفها عن مسارها، وتنقلب على أصلها، وتتحول إلى ثقافة بلا تهذيب أو مضادة للتهذيب. ويتجلى ذلك حين تصبح هذه الثقافة سبباً في انتهاك حقوق الإنسان، أو حين تطغى عليها نزعة الاستبداد، أو نزعة العنصرية، أو حين تهيمن عليها المصالح السياسية.
والثقافة التي تنفصل عن الدين تكون معرضة أكثر من غيرها للوقوع في مثل هذه الحالات.
والأخلاق مصدرها الدين، فهو الذي يدعو إليها، ويحافظ عليها، ويعمقها في النفوس. وقد أكد النبي الأكرم K أن بعثته بالوحي كانت لإتمام مكارم الأخلاق، كما جاء في الحديث الشريف: >إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق<. ويكشف هذا الحديث عن منزلة الأخلاق في الدين، وأن ليس هناك ما هو أعظم من الدين في الدعوة إلى الأخلاق.
وبعد أن يناقش الدكتور طه عبدالرحمن في كتابه >سؤال الأخلاق< النظريات المطروحة حول العلاقة بين الأخلاق والدين، ينتهي إلى القول: إن الدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين(29). ولهذا أصبح في الإسلام الدين المعاملة كما جاء في الحديث الشريف، وأن الأخلاق كمال الإيمان، فعن الإمام الباقر C قال: >إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً<.
والثقافة التي تنفصل عن الأخلاق تتحول إلى ثقافة تنتج استعماراً وإمبريالية وتدميراً واحتلالاً، على طريقة ما شرحه وفصله أدوارد سعيد في كتابه >الثقافة والإمبريالية<.
ثالثاً: الثقافة واللغة العربية
الثقافة لا تنفصل عن اللغة، واللغة لا تنفصل عن الثقافة. هذه حقيقة مسلم بها، وتنطبق على جميع الثقافات واللغات. اللغة بمنزلة الجسد، والثقافة بمنزلة الروح في ذلك الجسد، لهذا ينبغي ألَّا ينفصلا. واللغة هي النظام البياني والبلاغي للثقافة، والثقافة هي النظام المعرفي والأخلاقي للغة. وهذا يعني أن كل ما تتأثر به الثقافة تتأثر به اللغة أيضاً، وما تتأثر به اللغة تتأثر به الثقافة كذلك. وما يُضاف إلى الثقافة يُضاف إلى اللغة أيضاً، وما يُضاف إلى اللغة يُضاف إلى الثقافة كذلك.
والدين كرم اللغة التي نزل بها، وأكسبها شرفاً وعظمة، وجعل لها شأناً وقداسة، ووثق ارتباط الناس بها تعلماً وتعليماً. وهي اللغة العربية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة الكتاب والعبادات، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(30)، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(31).
وقد ربط الدين هذه اللغة بحضارة عظيمة هي الحضارة الإسلامية، وبعلوم ومعارف خلاقة هي العلوم والمعارف الإسلامية، وبمنظومة من القيم والأخلاق، وبنظام من الشعائر والعبادات. لهذا فقد مثَّل الدين أعظم إحياء لهذه اللغة، وهو الذي عرفها على العالم، وجعل العالم يتعرف عليها منذ ذلك الوقت وإلى اليوم.
ولا شك أن الثقافة قد تأثرت بكل هذه المزايا التي حصلت عليها اللغة العربية، وكل هذا التكريم والتعظيم. وبهذه اللغة جعل الدين الناس يتوحدون ويرتبطون بثقافة مشتركة.
رابعاً: الثقافة والعالمية
لقد فتح الدين أمام الثقافة آفاق العالمية، ودفع بها لأن تخاطب الناس كافة في جميع الأزمنة والعصور، وعلى اختلاف وتعدد لغاتهم وقومياتهم، ومجتمعاتهم وأوطانهم؛ لأن الدين جاء إلى الناس كافة، واستعمل خطاب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وصبغ الثقافة بهذه الصبغة، وجعلها تتحرر من العصبيات بكافة أشكالها، وتتعامل مع الناس على قاعدة الكرامة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(32) فهذه العصبيات هي من أشد ما يعترض عليه الدين.
وتجلت هذه النزعة العالمية في الثقافة الإسلامية حين ساهم في صنعها وتقدمها مسلمون من قوميات مختلفة، منهم العربي والفارسي والتركي والهندي والإفريقي. وقد أظهر هؤلاء جميعاً ارتباطهم الوثيق بهذه الثقافة واعتزازهم بها.
والثقافة من طبيعتها يفترض أن تكون لها هذه النزعة العالمية، ولكن هذه النزعة تنتكس في الثقافات بسبب عوامل أخرى متشابكة معها، وهي عوامل تارة تكون سياسية، أو اقتصادية أو دينية.
وعالمية الثقافة في الإسلام هي من عالمية الدين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(33) فالدين الذي يكون عالمياً ينتج ثقافة عالمية.
هذه بعض العطاءات التي يقدمها الدين إلى الثقافة في الإطار الإسلامي. ومن هنا ندرك حاجة الثقافة إلى الدين، الحاجة التي توحي بالنقص والضعف في الثقافة لأنها تنتسب إلى عالم الإنسان الذي يعتريه الضعف والنقص والعجز {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}(34)، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}(35)، {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}(36)، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}(37)، {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}(38).
وكما تبين فإن حاجة الثقافة إلى الدين هي حاجة مستمرة مهما ارتقت هذه الثقافة إلى مستويات عالية، ومهما كانت طبيعة هذه الثقافة وخصوصيتها، فهي ليست حاجة خاصة للثقافة التي يمكن وصفها بالبدائية، وإنما هي حاجة الثقافة بما هي ثقافة. ولذلك فإن الثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن الدين.


الهوامش:

?(1) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، توماس إليوت، ترجمة: شكري محمد عياد، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، ص43.
(2) المصدر السابق، ص21.
(3) المصدر السابق، ص42 - 43.
(4) المصدر السابق، ص40.
(5) المصدر السابق، ص40.
(6) المصدر السابق، ص99.
(7) المصدر السابق، ص103.
(8) المصدر السابق، ص 173 - 174.
(9) المصدر السابق، ص40.
(10) انظر: الموسوعة العربية العالمية. إعداد: مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض: ط1، ج1، ص528.
(11) المصدر السابق، ج2، ص633.
(12) ملاحظات نحو تعريف الثقافة. ص96.
(13) المصدر السابق، ص97.
(14) المصدر السابق، ص175.
(15) انظر: الموسوعة العربية العالمية، مصدر سابق، ج2، ص633.
(16) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ص176.
(17) انظر: الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية. لويس دوللو، ترجمة: خير الدين عبد الصمد، دمشق: وزارة الثقافة، 1993م، ص26.
(18) المصدر السابق، ص80 - 82.
(19) انظر كتاب: فكرة الثقافة، تيري إيجلتون، ترجمة: ثائر ديب، اللاذقية: دار الحوار، 2000م، ص92.
(20) المصدر السابق، ص143 - 144.
(21) المصدر السابق، ص148.
(22) المصدر السابق، ص148.
(23) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ص10.
(24) سورة العلق، آية 1.
(25) سورة العلق، آية 2.
(26) سورة العلق، آية 3 - 6.
(27) فكرة الثقافة، ص16 - 23.
(28) سورة البقرة، آية 1 - 5.
(29) سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، الدكتور طه عبدالرحمن، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000م، ص52.
(30) سورة يوسف، آية 2.
(31) سورة الشعراء، آية 193 - 195.
(32) سورة الإسراء، آية 70.
(33) سورة الأنبياء، آية 107.
(34) سورة النساء، آية 28.
(35) سورة الإسراء، آية 11.
(36) سورة الكهف، آية 54.
(37) سورة ق، آية 16.
(38) سورة المعارج، آية 19.