يحتضن وطننا ومجتمعنا العديد من المدارس الفقهية والمذهبية الإسلامية، وإن العمل على بناء الوحدة الوطنية وتعزيز هذا الخيار، يتطلب بشكل مباشر إعادة صوغ العلاقة بين مختلف المدارس الفقهية ـ المذهبية في الوطن. بحيث لا تكون العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية في الدائرة الوطنية، قائمة على التهميش والمماحكات الطائفية، وذلك لأن الواقع الوطني الذي نعيشه اليوم، يشهد العديد من الظواهر المرضية والخطيرة في طبيعة العلاقة بين واقع التعدد المذهبي.
حيث تبرز في فضائنا ثقافة لا تعترف بالتعدد المذهبي، وتتعامل معه بعقلية الإقصاء والإبعاد وتوصيفه بأقذع وأبشع الصفات. كما إن المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية، لا تتعامل بعدالة مع هذا التعدد والتنوع المذهبي ومقتضياته الثقافية والمنهجية.
إذ تحتوي العديد من المناهج الدراسية على نصوص ومفردات تطعن في بعض المذاهب الإسلامية، وتدعو وتشجع أبناء الوطن على مقاطعتهم أو التعامل معهم بوصفهم من الضالين أو المبتدعين، وتصفهم هذه المناهج بأوصاف أقل ما يقال عنها أنها تشوه مواقف وعقائد هذه المذاهب وتشحن نفوس الطلبة ضد أهل وأتباع هذه المذاهب.
كما إن المنابر الإعلامية لا تنفتح على التفسيرات الإسلامية الأخرى، بل هي محتكرة من قبل رأي وتفسير مذهبي واحد. والأنكى من ذلك حينما تمارس وسائل الإعلام الوطنية دوراً تحريضياً ضد بعض فئات المجتمع والوطن. وذلك حينما تحتضن أو تسمح ببث خطاب طائفي يمقت التعدد المذهبي، ويشحن النفوس ضد أبناء الوطن المتمذهبين بغير المذهب السائد.. إضافة إلى ذلك، فإن المؤسسات الإسلامية الوطنية مغلقة ولا تسمح لعلماء وأبناء الوطن الذين ينتمون إلى مذهب إسلامي آخر بالاشتراك في أنشطة هذه المؤسسات والهيئات.
ولم تكتف هذه المؤسسات بذلك، بل انخرطت بشكل أو بآخر في الحروب الطائفية التي تشن ضد أبناء الوطن من مختلف المناطق. لهذا كله نحن بحاجة اليوم، إلى إعادة بناء وصوغ العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية في الدائرة الوطنية، حتى يصاغ من التعدد المذهبي واقع للإثراء وتعزيز الوحدة والاندماج، ولكيلا يكون سبباً في الفرقة أو الانخراط في حروب طائفية لا رابح منها إلا أعداء الوطن والإسلام.
فالفضاء الوطني اليوم، مشحون بثقافة طائفية، تدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية تجاه الآخر المذهبي، ولا يمكن أن نحقق السلم الأهلي والوحدة الوطنية الصلبة، إلا بإعادة بناء العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية على أسس المساواة والحرية والعدالة.
لعلنا لا نأتي بجديد حين نقول ابتداءً: إن التعدد المذهبي لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى ممارسة الطائفية ضد بعضنا بعضاً، بحيث يكون الانتماء المذهبي، هو الذي يحدد مستقبل المواطن. فإذا كان منتمياً إلى المذهب الرسمي فإن أبواب الوظائف والمناصب في كل الحقول والميادين تكون مفتوحة أمامه.
أما إذا كان المواطن ينتمي إلى مذهب آخر، فإن العديد من دوائر الحياة تغلق في وجهه ولا يسمح له بأن يقوم بخدمة الوطن في بعض المواقع والحقول. لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع إعادة صوغ العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الفضاء الوطني، هو رفض الطائفية بكل مسوغاتها وتبريراتها، التي تساهم في المحصلة النهائية في تمزيق المجتمع وتفتيت الوطن. فدون محاربة الطائفية ونقد أسسها الثقافية والسياسية ومرتكزاتها العقدية والفكرية، لن نتمكن من بناء العلاقة بين مكونات الوطن المذهبية والسياسية على أسس العدالة والاعتراف والاحترام المتبادلين.
وإن تقسيم أبناء الوطن على أسس طائفية لا يضر حاضر الوطن فقط بل يهدد مستقبله. وذلك لأن هذا التقسيم هو مقدمة التفتيت والانهيار.
لذلك فإننا جميعاً ومن مختلف مواقعنا، ينبغي أن نقف ضد كل مظاهر التمييز الطائفي، وذلك لأن هذا التمييز لا يضر فقط الطرف الموجه ضده، بل يضر وحدة الوطن والمواطنين، ويزيد من فرص الاحتراب الداخلي. فنقد الطائفية وفضح ورفض كل مظاهرها ووقائعها، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة الوطنية الصلبة وتطوير مستوى الانسجام والاندماج الاجتماعي.
إن الممارسات الطائفية البغيضة، هي التي تدق إسفيناً عميقاً في مشروع البناء الوطني، حيث إنها تساهم مساهمة كبرى في تفتيت المجتمع وخلق الإحن والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد.
لذلك فإن فريضة الوحدة الاجتماعية والوطنية، بحاجة ماسة وملحة اليوم، إلى الوقوف بحزم ضد كل أشكال التمييز وبث الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.
فالكراهية لا تفضي إلى الاستقرار، بل إلى التفتت والتشظي. والتمييز الطائفي لا يؤدي إلى الوحدة، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث إنه يُهيّئ المناخ لبروز كل العوامل المضادة لها.
ولا يمكن أن نبني علاقة سوية بين أبناء الوطن الواحد، إلا بنقد ومنع كل أشكال التمييز بين أبناء هذا الوطن. وبصرف النظر عن عوامل التمييز وموضوعاته، لا يصح أن نمارس التمييز المقيت ضد بعضنا بعضاً، لأن هذا التمييز هو الذي يدخلنا في أتون الضياع والصراع المفتوح على كل الاحتمالات والمخاطر.
إننا مع التعايش والوحدة بكل مستوياتها.. الوحدة التي لا تبنى بتهميش مكونات المجتمع، وإنما بالاعتراف بها وتهيئة كل موجبات الاحتضان والاحترام.
والتعايش لا ينجز بدحر التعدد المذهبي، بل بإعداد الفضاء السياسي والحضاري المناسب، لكي يمارس هذا التعدد دوره في بناء الوطن وتعزيز جبهته الداخلية.
إن الوقوف بحزم ضد كل حالات وأشكال التمييز الطائفي، يقتضي الالتزام بالآتي:
- الاعتراف القانوني والسياسي بالمذاهب الإسلامية الموجودة في الوطن، وإعطاؤها المجال والفرصة لكي تمارس بحرية كل أعمالها وأنشطتها الثقافية والدينية والاجتماعية.
- سن القوانين التي تُجرِّم وتعاقب كل مواطن يمارس التمييز الطائفي. فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني، إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة، تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي بوصفها جرماً يعاقب عليه القانون.
- تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية، من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية. فلا يمكننا أن ننهي المشكلة الطائفية من واقعنا، إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذي هذه المشكلة وتمدها بالأسباب والمبررات. لذلك نحن بحاجة إلى جهد وطني حقيقي لتنقية كل المناهج الدراسية من كل المفردات التي تطعن في المذاهب الإسلامية الأخرى، أو تطعن في عقائدها ورموزها التاريخية. فتنقية مناهجنا التربوية ووسائل إعلامنا من كل المفردات الطائفية، هي خطوة ضرورية لإنهاء المشكلة الطائفية من فضائنا الاجتماعي والوطني.
فالوفاق الوطني يتطلب دائماً العمل على إنهاء كل العناصر والمفردات الثقافية والدينية والإعلامية، التي تؤسس للكراهية، وتشجع على عملية التمييز والتهميش على قاعدة طائفية ومذهبية.
فلا يمكن أن يسود الأمن فضاءنا الوطني، ونحن نبث أو نسمح ببث ثقافة تدعو وتشجع على المفاصلة العملية والاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد.
- بناء ثقافة وطنية جديدة، قوامها الوحدة واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان. إذ إنه لا يمكن إنهاء المشكل الطائفي من فضائنا ومحيطنا، دون إرساء ثقافة اجتماعية ووطنية جديدة، تعيد المكانة إلى الوحدة على أساس احترام التنوع، وتتعامل مع تعدد الاجتهادات الفقهية والفكرية على أساس أنها من الحقائق التي تثري المجتمع والوطن.
فنقد الطائفية بكل مستوياتها، يقتضي العمل على تطوير ثقافة الوحدة والحوار والتعدد في الفضاء الاجتماعي. فلا يمكننا أن ننهي الواقع الطائفي بالشعارات المجردة والمقولات الجاهزة، بل بالبناء الثقافي الجديد، الذي يرفض العقلية الأحادية والثقافة الإقصائية والمناهج الاستبدادية. وذلك لأن المشكل الطائفي يستمد حيويته وفعاليته، من تلك العقلية الإقصائية والمناهج التي لا ترى إلا ذاتها وتلغي ماعداها. لذلك فإن مواجهة المسألة الطائفية في وطننا، تقتضي العمل على تفتيت جذور الثقافة الإقصائية والعقلية الأحادية المتخشبة التي لا تقبل التعدد وتحارب مقتضيات الحوار الحر والموضوعي.
على المستوى التاريخي لم يكن التعدد الفقهي والمذهبي في التجربة التاريخية الإسلامية مظهراً من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الإسلامية، بل دليل حيوية عقلية وفكرية ومناخ اجتماعي حر ومنفتح أدى إلى تطوير عملية الاجتهاد ونشوء الاتجاهات الفكرية والسياسية في الدائرة الإسلامية..
و>علماء المسلمين يدركون بعمق وهم يسعون للتقريب بين المذاهب، أن المذهب في الإسلام لم يكن في نشأته الأولى مظهراً لانقسام المسلمين وتوزعهم، وإنما كان تعبيراً عن حيوية عقلية وعملية، أدت إلى تشعب الآراء ونشوء التيارات المنهجية في استنباط الأحكام الشرعية ودلالات النصوص، على النحو الذي أغنى الإسلام عقيدة وشريعة، وأتاح للمسلمين أن يمارسوا أعمق أشكال الحوار المستند إلى المنطق والعلم. فسجلوا في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره مأثرة الاستماع للرأي الآخر واحترامه<(1).
لذلك فإن احترام هذا التعدد المذهبي يعني فيما يعني حمايته. لأنه نتاج الحوار والبحث المضني والمتواصل عن الحقيقة. وحينما نطالب بحماية التعدد المذهبي في الدائرة الوطنية، فإننا نقصد حماية تلك القيم والمبادئ التي أنتجت ثراءً فقهياً وفكرياً وعلمياً في التجربة التاريخية الإسلامية. فلا يمكن أن نفصل ظاهرة تعدد المدارس الاجتهادية والفقهية في تجربتنا التاريخية عن قيم الحوار والاعتراف بالآخر وجوداً ورأياً، ووجود المناخ الاجتماعي المؤاتي للاجتهاد بعيداً عن ضغوطات السياسة أو مسبقات التاريخ.
وإن دعوتنا الراهنة إلى حماية هذا المنجز التاريخي، يستدعي إحياء هذه القيم والمبادئ وإطلاقها على مستوى حياتنا كلها، حتى نتمكن من إنجاز فرادتنا التاريخية والحضارية. وهذا بطبيعة الحال، يقتضي انفتاح المذاهب الإسلامية على بعضها في مختلف المستويات، وإزالة كل الحواجز والعوامل التي تحول دون التواصل الفعال بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية.
والدولة هنا تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية، لإيجاد البيئة المناسبة للتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع والوطن.
وبالتالي تتضافر جهود جميع الأطراف لإزالة كل الاحتقانات، وتطوير مستوى التفاهم والتواصل وبناء الراهن الوطني على أساس مشاركة جميع المذاهب والاتجاهات، دون ممارسة تهميش لأحد أو إقصاء لأية فئة من فئات الوطن.
فالتعدد المذهبي إذا توافرت له الإدارة السليمة والحضارية، يتحول إلى عنصر لإثراء الوطن وتعزيز بنائه الداخلي. أما إذا غابت هذه الإدارة، وتشكلت سياقات ثقافية وسياسية مضادة للتعدد ومحاربة للتنوع، فإن هذه السياقات ومآلات أفعالها وسلوكها، سيقود الوطن كله إلى نتائج خطيرة، ليس على مستوى الحاضر فحسب، بل على مستوى المستقبل كله.
من هنا فإن الدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها، تتحمل مسؤولية قانونية وسياسية وأخلاقية للدفاع عن التعدد المذهبي والفكري والسياسي المتوافر في وطنها، وحماية كل الأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية التي يقتضيها واقع التعدد وحال التنوع في المجتمع.
فالاستقرار الوطني الراهن، مرهون إلى حد بعيد بقدرة الدولة والمجتمع معاً على تحرير هذا الواقع من النزعة الطائفية التي تساهم في تأزيم الواقع وتسد كل آفاق التعايش الأهلي ـ السلمي.
من البدهي القول: إنه لا يمكن أن تبنى المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بدحر خصوصيات المواطنين أو محاربة عقائدهم وأفكارهم ومقدساتهم. لأن هذا السلوك التعسفي بتأثيراته النفسية والواقعية، ينهي الإمكانية الفعلية للتعايش والاندماج الوطني.
فالمواطنة لا تقتضي بأي حال من الأحوال أن تندثر خصوصيات الأفراد، بل إنها تقتضي صياغة منظومة قانونية وسياسية لجميع المواطنين على قاعدة الاعتراف بتلك الخصوصيات، والتعامل الإيجابي والحضاري مع متطلبات التعدد والتنوع بمختلف أشكاله ومستوياته.
فالتعدد المذهبي ليس حالة مضادة للمواطنة، بل هو الجذر الثقافي والاجتماعي لبناء مواطنة حقيقية بعيداً عن الشعارات الشوفينية واليافطات الشعبوية والعدمية. فاحترام التعدد المذهبي وحمايته القانونية والسياسية، هو الذي يُوجد الشروط المجتمعية الحقيقية لبناء مواطنة متساوية في مجتمع متعدد مذهبياً وسياسياً.
فالتعدد المذهبي والتنوع الاجتماعي، ينبغي ألَّا يقودا إلى بناء كانتونات اجتماعية متحاجزة وبعيدة عن بعضها بعضاً، وإنما لا بد أن يقودنا هذا التنوع إلى بناء وطني جديد على أسس لا تحارب التعدد ومقتضياته، ولا ترذل التنوع وحاجاته، بل تتعاطى بوعي وحكمة مع هذا التنوع.. الوعي الذي يؤسس لحالة حضارية من التعايش السلمي على أسس الفهم والتفاهم والحوار والتلاقي وتنمية الجوامع المشتركة وصيانة حقوق الإنسان، والحكمة التي تمنع اندفاع أي طرف للقيام بأي تصرف يضر بمفهوم المواطنة أو يؤسس لخيارات اجتماعية لا تنسجم ومقتضيات الوحدة.
إننا نتطلع إلى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على أنقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وإنما تبنى على أساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر..
إن التجارب الديموقراطية الكبرى في التاريخ الإنساني، لم تُبْنَ بدحر الخصوصيات والتعدديات الموجودة في المجتمع، بل بخلق ميثاق وطني حضاري يأخذ في الحسبان حاجات التنوع ومتطلبات التعدد. مما أوجد الأرضية القانونية والسياسية المناسبة، لانخراط كل القوى والتعدديات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف الصعد والمستويات.
فالخطر الذي يتهدد الأوطان واستقرارها، ليس من جراء التعددية المذهبية والفكرية، بل هو من جراء سياسة التمييز الطائفي التي تعمل على تفتيت المجتمع على أسس طائفية مقيتة.
لذلك فإننا مع الاعتراف التام القانوني والسياسي بالتعدديات المذهبية والفكرية والسياسية، ولكننا في الوقت نفسه ضد كل السياسات الطائفية التي تحوّل حقيقة التعدد من نعمة إلى نقمة، ومن عامل إثراء للسياسة والثقافة والاجتماع، إلى مدخل للصراعات الطاحنة التي تدمر كل المكاسب والمنجزات.
والآخر المذهبي أو الفكري أو السياسي، ليس مشروعاً للنفي والإقصاء المتبادل، وإنما هو مجال مفتوح وحيوي للتعارف والتفاعل والاغتناء.
إننا بحاجة إلى مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك.
فالحرية المذهبية والفكرية والسياسية هي شرط المواطنة المتساوية. ولا يمكن أن ننجز هذا المفهوم في فضائنا الاجتماعي بعيداً عن شرط الحرية لكل التعدديات والتنوعات الموجودة في المجتمع والوطن.
والتنوع بكل مستوياته، لا يقود إلى الانقسام والتشظي، بل ووفق الرؤية القرآنية ينبغي أن يقود إلى التعارف والوحدة، إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(2).. والتعارف في الآية القرآنية الكريمة يختزن كل أبعاد وشروط التواصل الحقيقي بين مختلف التنوعات الإنسانية. كما إن هذه المقولة (التعارف) تشمل جميع الشرائح والفئات الاجتماعية.
فـ>التعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى، فأفراد العائلة الواحدة متعارفون، وعائلات العشيرة متعارفون إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تتألف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر، فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم، وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم<(3).
فالنظرة القرآنية تؤكد أن الاختلاف ينبغي أن يقود إلى التعارف لا إلى الخصومة والتباغض، فـ>التنوع وسيلة من وسائل التعارف باعتبار حاجة كل فريق من هذه الدائرة إلى ما يملكه الفريق الآخر في الدائرة الأخرى، من خصوصياته الفكرية والعملية ليتكاملوا في الصيغة الإنسانية المتنوعة، ليكون التعارف غاية للتنوع بدلاً من التحاقد والتناحر والتنازع. ثم تكون القيمة في التقوى التي تعبر عن مضمون الشخصية المؤمنة العاملة في خط الصلاح، في ساحة رضوان الله، فيما يلتزمه الإنسان من تقوى الله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الذين تختلفون في ألوانكم وقومياتكم وخصائصكم الأخرى التي تتنوع فيها ملامحكم وأشكالكم، {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} اللذين يلتقيان في النفس الإنسانية الواحدة، ويختلفان في الخصائص الذاتية التي تتكامل وتتحد وتتفاعل، لتكون الإنسان الواحد الذي هو ثمرة الوحدة في التنوع. مما يجعل الإنسانية تمتد من موقع الوحدة في دائرة التمايز الذي لا يلغي الخصوصية ولكنه يوحدها في حالة التمازج الإنساني الذاتي<(4).
فالاختلافات بكل أشكالها ومستوياتها، ليست مدعاة للتناحر والتباغض والنفي المتبادل، بل ينبغي أن تقودنا إلى التواصل والتعارف..
>ويبقي التعارف غاية إنسانية من أجل إغناء التجربة الحية المنفتحة على المعرفة المتنوعة، والتجربة المختلفة للوصول إلى النتائج الإيجابية في مستوى التكامل الإنساني، ولكن ذلك لا يعني القيمة الروحية التي تقرب الإنسان إلى الله، لأن الله هو خالق الجميع بكل خصوصياتهم، فلا معنى لأن يقرب إليه بعضهم بخصوصيته الذاتية التي لم يصل إليها بجهده، بل حصل عليها بوجوده، لأنها هبة الله له من خلال إرادته في تمايز الناس عن بعضهم البعض، بل القيمة الروحية التي يتقرب فيها الإنسان إلى ربه، هي الحركة الروحية والعملية المتمثلة بالتقوى الفكرية والسلوكية في جانبها الحركي {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، فإن التقوى هي الإرادة الإنسانية الإيمانية التي تحمل المضمون الروحي المنفتح على أوامر الله ونواهيه، في عملية تجسيد حي لعبودية الإنسان لربه، مما يجعل الحركة الإنسانية في وجوده سائرة في اتجاه رضوان الله، ويوحي بالقرب الروحي في حياته الذي يتطلع إلى الحصول على الكرامة الإلهية في مغفرة الله ورحمته ورضاه<(5).
فإلغاء خصوصيات الإنسان الذاتية والدينية والمذهبية، لا يعد نهجاً صحيحاً وواقعياً، لأنه لا يزيد الإنسان إلا تمسكاً وتشبثاً بهذه الخصوصيات، وذلك لأنها ليست حالة طارئة وهامشية، وإنما هي من صميم الذات الإنسانية.
لذلك فإن المنهج الصحيح الذي ينبغي أن نتبعه في التعامل مع حالات التنوع الإنساني والخصوصيات الثقافية للمجتمعات، هو تشجيع هذه الخصوصيات للعمل في الفضاء الاجتماعي والوطني، في الجوانب الإيجابية التي تدفع الإنسان عاطفياً وفكرياً ونفسياً وعملياً، إلى المشاركة الإيجابية في شؤون الوطن والمجتمع المختلفة.
وبهذه الطريقة ننزع عن كل الخصوصيات كل العقد التي تفضي إلى الانكفاء أو التعصب الأعمى للذات. فالتعدد المذهبي في إطار سياق ثقافي وسياسي يحترم التعدد ويضمن حق الاختلاف وحقوق الإنسان الأساسية، هو من الروافد الأساسية لبناء مواطنة متساوية وغنية في ثقافتها وخياراتها المجتمعية.
لا شك أن ظاهرة التنوع الاجتماعي والتعدد المذهبي والفكري والسياسي، تثير العديد من الأسئلة والتحديات، ولا بد من بلورة إجابات حقيقية وواقعية لهذه الأسئلة والتحديات. فليس صحيحاً أن نهرب من أسئلة التنوع وتحديات التعدد برفضها، والركون إلى الفكر الأحادي والواقع الذي يقمع كل تنوع ويستأصل كل تعدد.
لذلك فإننا ينبغي أن نتعاطى مع هذه الظاهرة الإنسانية على أساس أنها من الظواهر التي تثير الكثير من الأسئلة، وتطلق جملة من التحديات. وواجبنا الفكري والأخلاقي، يقتضي احترام هذا التنوع والتعدد، والبحث عن إجابات للأسئلة والتحديات التي تطلقها هذه الظاهرة الإنسانية الثابتة.
فإقامة الجدار العازل بيننا وبين حقيقة التعدد المذهبي والفكري والسياسي، يمنعنا من الاستفادة من بركات هذه الحقيقة الإنسانية، ويحول دون بلورة إجابات دقيقة وعميقة لجملة التحديات التي تطلقها هذه الحقيقة.
كما إن ادعاءنا بأننا نمتلك كل الإجابات على كل التحديات التي تطلقها حقيقة التعدد في فضائنا الاجتماعي والوطني، مجانب للصواب ولا ينسجم وحقيقة الصيرورة التاريخية.
لذلك كله فإننا بحاجة إلى مبادرات فكرية وخطوات سياسية وجهد ثقافي متواصل، لتأصيل هذه الحقيقة في فكرنا وواقعنا الاجتماعي أولاً، ومن ثم العمل على بلورة حلول عملية وممكنة لكل التحديات، التي تبرز في واقعنا من جراء التزامنا بخيار الاعتراف الكامل بحقوق كل التعدديات التقليدية والحديثة، في ممارسة دورها ووظيفتها في الحياة الوطنية العامة.
فالتنوع الاجتماعي والفكري قوة، ولكنه يحتاج باستمرار إلى إدارة حكيمة، لكي تؤدي هذه القوة دورها في البناء والتطوير. والتعدد المذهبي في الفضاء الاجتماعي الواحد ثروة، ولكنه يتطلب بناء نظام مجتمعي ينسجم ومقتضيات هذه الثروة.
ونحن هنا لا نقول: إن الاعتراف بالتعددية المذهبية والفكرية والسياسية في وطننا هو حل سحري لكل مآزقنا وأزماتنا، ولكننا نقول: إن الاعتراف بهذه التعدديات هو خطوة نوعية في مشروع الإصلاح السياسي والوطني، وهو أرضية أساسية وصحيحة للحوار الوطني المستديم لعلاج الأزمات التي يعانيها الوطن على مستويات مختلفة. فسيئات التعددية لا تعالج بنفيها ومحاربة حقائقها، بل بالاعتراف بها في ظل نظام سياسي مرن ومتسامح، وقادر على الإنصات الواعي لإيقاع الواقع وحركيته.
وعلى هدىً من هذا نقول: إن الأسئلة والتحديات التي تطلقها حقيقة التعدد المذهبي والتنوع الاجتماعي، لا يمكن الإجابة عنها إلا في سياق الالتزام بالتالي:
- إشاعة وتعميم ثقافة التسامح والحوار والحرية وحقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي. وذلك لأن هذه الثقافة بتأثيراتها ومتطلباتها، تشكل الأرضية المناسبة لخلق أجواء من الحرية، تسمح لكل التعبيرات والأطياف بممارسة دورها بعيداً عن ضغوطات الواقع أو إجراءات الإقصاء والتهميش.
- الانخراط في مشروع الإصلاحات السياسية، الذي يزيل كل مخلفات المرحلة السابقة التي احتضنت بشكل أو بآخر ممارسات طائفية، ترفض التعدد وتحارب كل مستلزماته ومقتضياته ومظاهره، فالإصلاح السياسي هو الخطوة الضرورية المطلوبة، لإنهاء كل مظاهر رفض ومحاربة التعدد المذهبي والفكري والسياسي من الفضاء الوطني.
- بناء الأطر والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، التي تستهدف زيادة وتيرة المعرفة والتواصل بين مختلف التعبيرات والأطياف المذهبية والفكرية والسياسية، ورفع مستوى التفاهم والتلاقي بين مختلف مكونات الوطن، فردم الفجوات بين مكونات المجتمع، يقتضي العمل على خلق مبادرات وطنية جادة، تتجه صوب إضاءة وتطوير مستوى العلاقة والتفاهم والتلاقي والتداخل والتواصل بين تعبيرات الوطن والمجتمع.
وهذا بطبيعة الحال، يتطلب تغييراً ثقافياً حقيقياً، بحيث نتجاوز ثقافة الغلو والتطرف والتعصب، وإرساء معالم وحقائق ثقافة منفتحة، تعترف بالآخر وبحق الاختلاف، وتحتضن كل أشكال التنوع الثقافي والسياسي والاجتماعي الموجودة في المجتمع. كما تتطلب إرادة حقيقية وجادة، لإنهاء زمن الاستفراد والاستئثار، والقبول بمشروع الإصلاح السياسي الذي يتجه إلى توسيع دائرة المشاركة والمسؤولية الوطنية.
وجماع القول: إن التعددية بكل مستوياتها وأشكالها لا تناقض مفهوم المواطنة المتساوية. وإن الطريق إلى بناء وحدة وطنية متينة وصلبة، هو الاعتراف بالتعددية المذهبية والفكرية والسياسية، في إطار نظام سياسي، تعددي، تداولي، ديموقراطي.
?(1) السيد محمد حسن الأمين، الاجتماع العربي الإسلامي - مراجعات في التعددية والنهضة والتنوير، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، دار الهادي، الطبعة الأولى، بيروت 2003 م، ص 85.
(2) القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية (13).
(3) الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ج12، ص 259.
(4) السيد محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، دار الزهراء، الطبعة الأولى، بيروت 1989م، ج10، ص 191.
(5) المصدر السابق، ص 192.