شعار الموقع

نهاية العولمة

هشام الميلوي 2004-10-30
عدد القراءات « 546 »
?نهاية العولمة
بقـلم: جــون غـــراي*


سوف نتذكر دائماً أن العشرية الفاصلة بين سقوط حائط برلين والهجوم على برجي نيويورك على أنها كانت حقبة للتضليل والخداع بامتياز. الغرب صفق كثيراً لانهيار الشيوعية ـ جوهر الإيديولوجية المثالية في أوربا ـ وعده انتصاراً للقيم الغربية. إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان إيذاناً بسقوط أسوء التجارب المثالية والكارثية في التاريخ. لكنها استقبلت في الغرب بوصفها فرصة تاريخية للبدء بمشروع يوتوبي آخر وأوسع؛ ـ السوق العالمية الحرة ـ. وكان على العالم إذن أن يأخذ صورة وشكل الحداثة الغربية، صورة شرعت بإيديولوجيا السوق الخالية من أي واقعية إنسانية. مع الهجوم على نيويورك وواشنطن تعرضت المفاهيم التوافقية -والتي كانت ترى في العولمة حدثاً تاريخياً وقدراً لا راد له- إلى التهشم، وعدنا إلى الأرضية الكلاسيكية للتاريخ حيث الحروب لا تقوم على الإيديولوجيات وإنما على أساس التاريخ، العرق، الأرض وبالسيطرة على الموارد الطبيعية.
إن الذين هاجموا مبنى البنتاغون مستخدمين في ذلك السكاكين الصغيرة والمحمولة وكذا الطائرات أسلحةً، من الممكن أن يكون هناك من تبناهم أو حتى مولهم، لكن لا يوجد هناك سبب واحد يدفع نحو الاعتقاد بأنهم تحركوا بأمر حكومة ما. لقد كانوا جنوداً من نوع جديد تماماً من جنود الحرب، وجزءاً مكوناً أساساً من ضعف الدول المرتبطة بالعولمة، فالحرب خرجت هي الأخرى من سيطرة الحكومات. إن احتكار وتنظيم العنف هو أحد أسس سلطة الدولة الحديثة، والدولة التي نمت ببطء وبعد عناء كبير لا تجد نفسها بمأمن أينما وجد العنف بكل أشكاله، إلا أن الغريب والعام في الوقت نفسه هو هذه السرعة وهذا الاتساع الذي اختفت فيه الدولة تقريباً خلال العشرية الأخيرة الماضية، عهد عولمة ينوء فيه العالم بدول منهارة، وفي هذا الجزء نصارع الحرب بأسلحة غير عادية من النزاعات السياسية والجماعات الدينية والعشائرية تميل إلى وحشية صارخة لا توجد سلطة تستطيع فرض السلام.
تبين هذه الأحداث الجانب الأسود من العولمة، والتي لطالما حاول مؤيدوها مراقبتها وتدبيرها وتبين أن تكون حتى المجتمعات الغنية ليست بمنأى عن عدوى انهيار الدول والنوع الجديد من الحروب التي باتت تجتاح كل أرجاء العالم. وكان هذا واضحاً منذ زمن مع تدفق المهاجرين من الدول الفقيرة وطالبي اللجوء السياسي والاقتصادي الذين بضغطهم على حدود الدول الغنية يشهدون على تناقضات السوق العالمية الحرة. فالتجارة ورأس المال يتحركان بحرية كاملة عبر العالم، لكن حركة العمل جد محدودة على عكس دولة رجال الأعمال في نهاية القرن 19 حيث كانت الحواجز شبه منعدمة، وهذا تناقض آخر لا يرصده المدافعون عن السوق العالمية ولكنه سيكون أكثر حدة في السنوات القادمة.
مع الهجوم على نيويورك وواشنطن لم يعد أحد يستطيع تجاهل انهيار بنيات الحكومات والتي تُعَدُّ إحدى المنتوجات الموازية للعولمة، عن الأسلحة القديمة والمهترئة القادمة من أكثر المناطق تضرراً في العالم، برهنت على قدرتها على الوصول إلى قلب أغنى وأقوى دولة في العالم. ثم إن عنف الضربة هو مثال عما يسميه المحللون العسكريون >الرعب اللامتماثل< أو بعبارة أخرى قدرة سلاح الضعيف على مواجهة القوي والذي بدا للعيان أن القوي هو أضعف مما نتخيل، إن فقدان هذا القوي للقدرة ليس جديداً، لقد بدا واضحاً أثناء >الحرب على المخدرات< فتجارة المخدرات - إلى جانب النفط والسلاح - في أحد ثلاث مكونات للتجارة العالمية شأنها شأن الجريمة المنظمة فقد انتعشت هذه التجارة في سياسة التحرير التي أبدعتها العولمة المالية، أصدرت الدولة الأغنى في العالم ملايير في حرب دون طائل ضد صناعة معولمة وعالمية، لذا فإن الحرب الجديدة على الإرهاب واقتلاعه ستكون صعبة المنال لأن تدارك الآثار السيئة لتجارة المخدرات وتقليص الخسائر تَمَّ عبر تنقيتها وشرعنتها، ولا يوجد حل مماثل لعلاج الإرهاب وإرهاب العولمة.
إن العمليات الإرهابية وتدمير المراكز التجارية لم تعكس فقط مدى الدمار وفقدان الأرواح ووهن الأمن ووكالات الاستخبارات بقدر ما أزاحت المعتقدات التي أسست للسوق العالمية. في الماضي كان المستثمرون يعرفون بأن العالم سيظل مكاناً خطيراً بألوان الثورات والحرب قد تعصف بأرباحهم في أية لحظة. لكن خلال العشرية الأخيرة، وبفعل تأثير النظريات المضحكة عن >نهاية التاريخ< التي دفعت للاعتقاد بأن تقدم التجارة الليبرالية لا تقاوم فإن الأسواق المالية قد حددت سعر وثمن هذا الاعتقاد من خلال الأزمة الأسيوية والعجز الروسي سنة 1998 وسقوط الرأسمال للمدى الطويل. هذا كله أزاح الاعتقاد الأعمى في الأسواق والعولمة نفسها.
من المهم هنا التذكير كيف أن العولمة قدمت وعوداً أو أحلاماً ما بتحويل العالم إلى سوق حر كوني لا يعير اهتماماً للتاريخ وللقيم ولعمق الاختلافات ومرارة الصراعات حيث جمعت كل الثقافات في حضارة كونية واحدة. والغريب كيف أن فلسفة السوق الليبرالية والعولمة تشبه إلى حد كبير الماركسية، فهما في الأصل ديانتان علمانيتان حيث الآمال والرغبات المسيحية منحت ضياءً لهما، كلاهما ينظر إلى التاريخ على أنه نتيجة تطور الأجناس التي اكتسبت المعرفة والثروة وأشعت في حضارة كونية ونظرت إلى الكائن البشري انطلاقاً من مبررات اقتصادية. فهم إما منتجون أو مستهلكون ـ في العمق ـ مع القيم والحاجات نفسها. وأصبح الدين على الطريقة القديمة ظاهرة هامشية مصيرها الانقراض أو الزندقة داخل دائرة أو طبقة خاصة حين لن يستطيع إثارة السياسات والثغرات والحروب المشتعلة. أما تاريخ الجرائم والمآسي فالإشارة إليها تجد أصولها في الطبيعة البشرية. فهي أخطاء يمكن إصلاحها بتحقيق تربية أفضل ومؤسسات سياسية ومستوى عيش أحسن. غير أن الخلاف بين الماركسيين والسوق الحرة هو حول النظام الاقتصادي الأفضل فهم على قلب رجل واحد. عقيدة التنوير هذه تلقى استجابة كبرى ـ بالنظر إلى عدد المثقفين الذين بشروا بها، ولكنها في الوقت نفسه تشكل نوعاً من الدوغماتية والتبشيرية (Missionary site).
بالنسبة لليبرالية السوق ـ كما بالنسبة للماركسيين ـ هناك طريقة وحيدة للتحديث، على كل المجتمعات تبني السوق الحرة، وإذا كانت ديانتهم ونظام العائلة لديهم يعيقان هذا الأمر فإن المشكل يكون في غاية السوء ولكنه مشكلهم على أية حال. وإذا كانت القيم الفردانية التي يتطلبها السوق الحر تتماشى وتتناسب مع مستوى عالٍ من التفاوت الاجتماعي ومعدل مرتفع من الجريمة فليكن، فهذا ثمن وضريبة التقدم، وإذا كانت دول بأكملها تنهار حسناً، >لا يمكنك صنع العجة دون كسر البيض<. خلال التسعينات كان تأثير هذه الفلسفة العقلانية لأصولية السوق كبيراً لما يحصل عليه من دعم الصندوق النقد الدولي (FMI) كما تخطئ وتضل الطريق عندما تشغل سلطتها لفرض سياسات (وصفات) متطابقة على دول تختلف بدرجة كبيرة من حيث التاريخ، لأن عرَّابي البنك الدولي وصندوق النقد لا يرون إلا طريقاً واحدة للحداثة يجب فرضها على الجميع.
لقد وضعت أحداث 11 سبتمبر علامة استفهام على فكرة الحداثة، هل هي حقيقة تلك العلبة التي تضم المجتمعات البشرية والتي آجلاً أم عاجلاً ستجمع على القيم نفسها النظرة للعالم؟ قد يبدو هذا سؤالاً أكاديمياً لكنه اليوم يكتسي أهمية عملية ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في أغلب بلدان الغرب أيضاً. إن الاعتقاد بأن الحداثة ضرورة تاريخية لا يمكن لأي مجتمع تجاهله لأنه يجعل من الصعب إدراك هذا النزاع المضاد اتجاه الغرب. لقد قدنا ـ بزعامة الولايات المتحدة ـ الدول الغنية على أساس فرضية أن الشعوب تريد العيش مثلما نعيش وبالنتيجة فشلنا في الاعتراف بردة فعلهم الثقافية والإحساس بالظلم والرفض الحقيقي للحداثة الغربية. ما نحتاج إليه وباستعجال هو محاولة وضع أسس تعايش حضاري بين الثقافات والنظم التي ستظل دائماً مختلفة.
على مدى السنوات القادمة ستضطر المؤسسات العابرة للقارات والتي ساهمت بإنشاء السوق الكونية الحرة إلى القبول بدور أكثر تواضعاً وإلا ستفقد الكثير. إن مفهوم التجارة والثروة الذي يرتكز على: دعه يعمل دعه يمر؛ لا أساس له في التاريخ. إن الحرب البادرة ـ وهي فترة مراقبة سيولة لأورثوذكسية السوق الحرة فإن الرأسمالية لا تحتاج إلى سوق حرة واسعة للازدهار بل إلى محيط آمن، بعيد عن تهديد الحروب الواسعة وإلى قوانين آمنة لاستمرار العمال، وهي أمور لا يمكن أن تهيئها البنيات الهشة للسوق الحرة الكونية، بل على العكس تماماً إن فرض نمط وحيد من العيش سيولد صراعاً وعدم أمن وكلما كان ذلك ممكنا فإن القوانين المتعلقة بحركة رؤوس الأموال يجب أن توقع بحضور كل الأطراف المعنية وبين دول ذات سيادة في حين يجب ترك تلك التي تريد البقاء خارج السوق الكونية بسلام وترك حريتها في تصور الحداثة أو ألَّا تتحدث بالذل وبالتالي فلن تهدد الدول الأخرى، فحتى الدول غير المتسامحة يجب التسامح معها.
عالم متحرر من القيود وأكثر تجزئة ومعولم جزئياً سيكون بالتأكيد عالماً أقل ارتباطاً ومختلفاً لكنه أيضاً سيكون عالماً أكثر أمناً.

الهوامش:

?* بروفسور السياسة في جامعة أكسفورد وأستاذ الفكر الأوربي بمدرسة لندن للاقتصاد، ينشر مقالاته بانتظام في كل من جريدة الجارديان والتايمز البريطانيتين.. صاحب كتاب الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية.