شعار الموقع

عن العولمة

هشام الميلوي 2004-10-30
عدد القراءات « 472 »

إدواردو غــاليــانـو*
ترجمة: هشام الميلوي


ليست العولمة ظاهرة جديدة، بل إنها نزوع أتانا من بعيد غير أنه في السنوات الأخيرة بدأ إيقاعها يتسارع كثيراً نتيجةً للتقدم الهائل الذي عرفته وسائل الاتصال والتواصل، وكذلك للتطور المماثل الذي شهده تركيز رأس المال على المستوى الدولي والعالمي. لكن ومع ذلك ليس من المناسب الخلط بين العولمة والعالمية، فإحداهما تأكيد لكونية الشرط الإنساني، تأكيد للعواطف، المخاوف، الحاجات والأحلام. أما الأخرى فهي أكثر اختلافاً وتشبه ممحاة للحدود من أجل حرية رأس المال. فالأولى تعني حرية تنقل الأشخاص، والأخرى ترمي إلى حرية تنقل الأموال وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة، والتي تم شطبها افتراضياً أمام رؤوس الأموال والبضائع، ولكن في المقابل أقامت حائط برلين مجدداً أو سور الصين أمام تنقل الأشخاص.


? حق تقرير المصير في الطعام

إن العلامة المميزة للعولمة هي عملية النفي المستمر التي تخضع لها الشركات، فماكدونالدز مثلاً تفتح خمس مطاعم جديدة يومياً في العالم، وكان سقوط الروس أمام زحف ماكدونالدز في الساحة الحمراء بموسكو، عندما ذاب الستار المسمى بالحديدي؛ إيذاناً بأن الماكدنة الكونية فرضت أيضاً طعاماً من لدائن بلاستيكية في الجهات الأربع من المعمور، لكن في الوقت ذاته كان ظهور الماكدونالدز بمثابة شرخ وجرح مفتوح في جسم أحد الحقوق الأساسية للإنسان: حق تقرير المصير في الطعام. فالبطن وعاء الروح وبابه الفم، قل لي كيف تأكل أقل لك من أنت، الطعام هو طريقة الأكل، وطريقة الطبخ هي أحد معالم الهوية الثقافية المهمة، لا يهم الكمية التي تأكل، فالطريقة أهم أيضاً لدى الشعوب الفقيرة التي تأكل قليلاً أو لا شيء تقريباً، لكنهم يحتفظون بتقاليدهم عندما يتحول هذا القليل من الأكل إلى نوع من الطقوس اليومية.


?  ضد التنميط

أفضل ما في هذا العالم، هو عدد العوالم التي يحتوي عليها. هذا التعدد الثقافي والذي يعد إرثاً للإنسانية يعبر عن نفسه من خلال طريقة الأكل والتفكير، الإحساس، الكلام، والرقص والغناء، يهدده نزوع واتجاه متسارع نحو تنميط وتوحيد العادات، لكنها تواجه في الوقت ذاته ردات فعل في اتجاه الاختلاف بجهد أبدي خارق. إن تحقيق الاختلاف الثقافي والاجتماعي والحفاظ عليه هو ما يمنح الإنسانية وجهاً واحداً بل أوجهاً متعددة في الوقت نفسه. وأمام هذا الهجوم من المجانسة ظهرت ردود فعل مناسبة وملائمة وأخرى مجنونة أتت من التعصب الديني وأشكال أخرى من محاولات فرض الهوية اليائسة.
أقول: ليس مفروضاً علينا ولا هو بقدر محتوم أن نعيش في عالم لا نملك فيه سوى خيارين اثنين: الموت جوعاً أو الموت ضجراً.


?  الهوية تتحرك

الهوية الثقافية ليست مزهرية ساكنة في إحدى واجهات المتاحف، بل على العكس تماماً فهي في حركة دائمة وتغير مستمر وتتحدى واقعاً ديناميكياً. فأنا هو أنا، لكن أنا أيضاً هو ما أقوم به من تغير لكي أصبح أنا. فكما في النقاء العرقي لا وجود للنقاء الثقافي، ولحسن الحظ كلاهما يختلط بأشياء خارجية. إن ما يميز ويعرف إنتاجاً ثقافياً ما ـ كتاب، الرقص أو حتى طريقة لعب كرة القدم ـ ليس في أصله بل في مضمونه، المشروب الكوبي المعروف لا يحتوي في عناصره المكونة على أي عنصر داخل كوبا، الشراب البارد والسكر كما الليمون من جزر الكانارياس، ومع ذلك فالمشروب هو كوبي والفطائر الأندلسية عربية الأصل، والعجائن الإيطالية أتت من الصين، ليس هناك شيء يأخذ قيمته من أصله. المهم ما تفعله به وما تضمنه والمقياس الذي تستعمله كل جماعة من أجل تمثل هويتها في رمز من الرموز وفي طريقة العيش واللعب والغناء والحب.
وهذا هو الأجمل في العالم، اندماج مستمر يمنحنا إجابات جديدة لتحديات جديدة، لكن وكما أسلفت هناك اتجاه شك فيه -نتيجة العولمة المفروضة- نحو التنميط على مستوى كبير من خلال تركز السلطة بيد وسائل الاتصال المهيمنة.
?  آمال الإنترنت ووسائل الاتصال
ألم يتقلص الحق في التعبير -المعترف به في كل الدساتير- إلى الحق في الاستماع فقط؟ والأمر كذلك بالنسبة للحق في الكلام؟ لكن كم عدد الذين لهم الحق في الكلام؟ تجب معالجة هذه الأسئلة بعمق بفضل >حزوم< التعدد الثقافي.
إن الفضاءات المستقلة في عالم الاتصال، قد تقلصت مساحاتها بشكل كبير. إن الوسائل المهيمنة اليوم على الإعلام هي تلك التي لا تفرض فقط المعلومة والخبر الملفق، وإنما تفرض رؤية وحيدة للعالم، كيف يمكن تحويل وتقليص ملايين العيون إلى عينين فقط لوجه واحد مهيمن على العالم.
إن انطلاقة الإنترنت التي بدأت وعداً جديداً للقرن الحادي والعشرين، هي إحدى التناقضات التي تغذي الآمال. لقد ولدت شبكة الإنترنت من ضرورة ربط العالم بالمخططات العسكرية أي إنها جاءت لخدمة الحرب والموت، واليوم تشكل مجمعاً للأصوات التي لم تكن تجد من قبل مكاناً للتعبير والانتشار، واليوم يمتلكون شبكات ووسائل للاتصال، لكنها تخدم التجارة العالمية والتضليل أيضاً، وقد فتحت آفاقاً أوسع من دون شك وأكثر حرية، استفاد منها الإعلام المستقل الذي لم يجد إلا أبواباً مقفلة في الوسائل الأخرى كالتلفزيون والصحافة.


?  الأهداف والوسائل

في اليونان القديمة كانوا يدينون بشدة القتل بالسكين والمقصلة. فعندما كانت تحدث جريمة، كان الناس يرمون بالسكين في النهر، واليوم نعلم أن هناك الوسائل من جهة، والأهداف التي تتناسب مع هذه الوسائل من جهة أخرى. ففي العالم المأساة هي فرض التلفزيون التجاري والنموذج الأمريكي كألمانيا، الدانمارك وهولندا. فلقد اكتملت مهمة التلفزيون الموجه لأهداف مختلفة تماماً على قاعدة الملك العمومي والمنفعة العامة، وفي المقابل هنا تم فرض النموذج الأمريكي للتلفزيون التجاري حيث كل ما يباع جيد وما لا يباع هو سيئ؟


?  معركة السكان الأصليين

واحد من أهم الأسرار العضلية وإحدى أكبر مصادر الطاقة لهذه الأراضي هم أناسها. إن استعادة قوة حركات السكان الأصليين وحيوية القيم التي يتمثلونها تأتي من قيمة أساسية هي قيمة التوحد مع الطبيعة، وهي رمز لقيم جماعية لحياة مشتركة غير متمركزة حول الجشع، قيم أتت من الماضي لكنها تتحدث مع الطبيعة ولديها الكثير لتقوله للإنسانية. واليوم تجد لها صدى واسعاً لأنها هي ما تحتاجه الإنسانية لإسعادها اليوم، في عالم أواصر التكافل جرحت وانقطعت بشكل فظيع، وعالم متمركز حول الذات وقيم >لينجو من يستطيع<، و>كل مسؤول عن نفسه<.


? عن الإنسان والأرض

على مدى خمسة قرون، تم ترويض أمريكا اللاتينية على عزل الإنسان عن الطبيعة، والإنسان هنا هو المرأة والرجل، الطبيعة من جهة والشخصية الإنسانية من جهة أخرى، العالم كله عرف وشهد الطلاق نفسه.
الكثير من السكان الأصليين الذين تم حرقهم أحياء بتهمة ذنب عبادة الأوثان، لم يكونوا أكثر من أخصائيي علم بيئة، والذين طبقوا علم البيئة هذا الوحيد المحترم في نظري، علم بيئة يوحد بين الإنسان والطبيعة، الوحدة بين الطبيعة والروح الجماعية، هما المفتاحان اللذان يفسران سر استمرار القيم الأصلية التقليدية على رغم خمسة قرون من الاضطهاد والازدراء.
على مر القرون، صُوِّرت الطبيعة دائماً على أنها حيوان غريب وغادر يجب ترويضه، واليوم حيث أصبحنا جميعاً من الخضر بفعل حملة دعائية إشهارية مبنية على الأقوال لا الأفعال، حَوَّلنا الطبيعة إلى شيء يجب حمايته، لكن ظلت هذه الطبيعة مفارقة لنا على أية حال، و مازالت موضوعاً للسيطرة وجني الأرباح.
أصبح من الضروري استدعاء إحساس السكان الأصليين من أجل إعادة التوحد مع الطبيعة، الطبيعة ليست منظراً ريفياً خلاباً بل هي نحن والمكان الذي نعيش فيه، ولا أعني بالطبيعة فقط الغابات وإنما ذلك التصور المفتوح لها والذي امتلكه السكان الأصليون الأمريكيون، وهي مقدسة لأن هنالك إحساس بسرعة ردة فعلها وانقلاب أي عمل أو جريمة بحقها علينا، وإن كانت هذه الجرائم تتحول إلى انتحارات جماعية، وهو ما نشاهده في المدن الكبرى لأمريكا اللاتينية، النسخ السيئة لمدن العالم المتقدم حيث يصعب التجوال والتنفس.
إننا نعيش اليوم في عالم هواؤه مسموم، ماؤه مسموم وأرضه مسمومة، وفوق هذا كله، الروح أيضا تسممت، ليتنا نستطيع استرجاع طاقتنا للعلاج.


? الذاكرة منجنيقاً

كنت دائم التساؤل خاصة أيام وليالي الحرب والحب: هل ستسعفنا الذاكرة بأن نظل سعداء؟ إلى الآن لم أحصل على إجابة شافية. تحكي رواية لكاتبة أمريكية عن جد التقى بحفيده وكان الجد فاقداً للذاكرة، وأخذت أفكاره لون الماء، كما إن الحفيد ولد حديثاً وبالتالي فلا ذاكرة له أيضاً، عندما قرأت الرواية قلت: هذه هي السعادة الكاملة، لكنني لا أريدها بهذه الطريقة. أريد سعادة تنبثق من الذاكرة لأحارب بها سعادة تأتي من التجارب. لا أتصور الذاكرة مرساةً حديديةً أو منجنيقاً يرمي باللهب النارية، ليست ذاكرة خط الوصول وإنما الذاكرة بوصفها نقطة انطلاق.
هناك تقليد أصيل في أمريكا اللاتينية في جزر المحيط الهادي، وفي كندا والمناطق الأخرى كشياباس في المكسيك، مفاده أن الحرفي الذي يوشك على التقاعد بسبب الأيدي التي بدأت ترتجف والعيون التي لم تعد ترى إلا قليلاً، يقوم بتسليم أروع إناء خزفي له في طقوس تشبه المراسيم الدينية للمهني المبتدئ الذي يعيد بدوره ثقبها وإعادة صنعها قبل وضعها في ورشته الخاصة، هذه هي الذاكرة التي أؤمن بها حقاً.


? صورة ذاتية

كل كتاباتي صعبة، ومن الصعب القول إنها خيال. ما يعجبني هو السرد. أشعر بأني راوٍ، أتلقى وآخذ لأعطي. هناك ذهاب وإياب. أسمع صوتاً وأحوله إلى أصوات متعددة عبر فعل الإبداع في شكل رواية وفي كتب تجمع ما بين كل الأساليب والأجناس، أحاول خلق جنس مركب غير التصنيفات التقليدية يجمع بين النص، الرواية، الشعر، السرد اليومي، أحاول طرح رسالة كاملة لاعتقادي بأن هذا التركيب يعبر عن اللغة الإنسانية.
لا حدود فاصلة بين الصحافة والأدب. الأدب مجموعة من الرسائل التي ينتجها مجتمع ما في شكل معين. الصحفي المتمرس يستطيع أن يبلغ مستوى رفيعاً من الأدب، كما يتبين ذلك في العديد من الأمثلة كخوصي هارفي وكارلوس كيخاتو وردوولفو والش.
كنت دائماً أرى نفسي صحفياً ولست مستعداً للتخلي عن المهنة، لأنه عندما يدخل المرء في العالم العجيب للتحرير لا يستطيع أحد إخراجه منه، فالصحافة لها فضائلها وميزاتها: تعامل الاختصار. وترغمك على التركيب وهو أمر مهم لشخص يود كتابة ركام من الأشياء. ترغمك على الخروج من عالمك الصغير إلى الواقع الرحب لترقص رقصة الآخرين وتستمع لهم، كما إن لها مساوئ: فالأولوية للسرعة دائماً وفي أحيان كثيرة أذهب طويلاً مع كلمة أو عبارة وأمضي ثلاث ساعات بحثاً عن أخرى، وهذا ترف لا تستطيع الصحافة منحه لي.


?  عن الحلم واليقظة

هدفي هو محاولة إخراج الواقع المقنع الذي نراه ولا نستطيع فهمه في الوقت نفسه. إنه واقع اليقظة والحلم، واقع كاذب وأحياناً كذَّاب. وأيضاً حامل لحقائق عدة نادراً ما يلتفت إليها. ليست هناك وصفة سحرية لتغيير هذا الواقع. ولتغييره يجب أن نتعلم أولاً طرق تحمله، وهذا هو المشكل. فنحن عميان لأننا تعودنا أن نرى بعيون الآخرين دائماً، لقد حولتنا مرآة العولمة إلى بقعة زئبق. مجرد بقعة.


? عن كرة القدم

الكل يولد في هذا البلد وهو يصيح: هدف. ولهذا هناك دائماً ضجيج في دور الولادة. أردت في الماضي أن أصبح لاعب كرة القدم كما هو شأن كل الأطفال في الأورغواي، لعبت في الثامنة من العمر وكنت لاعباً سيئاً لاصطدامي بحظي العاثر، فأنا والكرة لم نستطع التفاهم. كانت هناك حالة حب من طرف واحد، وأيضاً مأساة من جانب آخر، عندما يقوم أحد المنافسين بحركة جميلة كنت أهنئه وهو ذنب لا يغتفر في قواعد كرة القدم الحديثة والمعولمة.

الهوامش:

?* يُعَدُّ الكاتب إدواردو غاليانو من الأورغواي أحد أبرز الأصوات المضادة للتيار العام والسائد بأمريكا الشمالية خاصة كما يحلو للاتينيين تسمية الولايات المتحدة به حتى لا يصادر حقهم في قارة يتم غالباً اختزالها في الولايات المتحدة، وله العديد من الأعمال المترجمة سواء الأدبية منها أو السياسية، نذكر منها: العروق المفتوحة لأمريكا اللاتينية (1971)، ثلاثية ذاكرة النار (1982)، وقد حصل كتابه هذا على جائزة الكتاب من جامعة واشنطن سنة 1989 ومن وزارة الثقافة بالأورغواي، كما يساند إدواردو غاليانو الحركات المناهضة للعولمة بحضوره الفكري ومشاركته في مجلات عالمية وجرائد مثل >لوموند ديبلوماتيك<.