شعار الموقع

الشباب وثقافة العولمة السياسية

عبد الإله التاروتي 2004-10-30
عدد القراءات « 550 »

يمثل عقد التسعينات من القرن الماضي، عقد المخاض للعديد من التحولات الضخمة والواسعة، فقد مهد الطريق لولادة مجموعة كبيرة من المفاهيم والطروحات المتنوعة وصولاً لتيارات ومناهج سياسية واجتماعية وفكرية تتبنى رؤىً تستمد شرعية أغلب ما تدعو إليه مما عُرف حينها بالنظام العالمي الجديد. هذا النظام الجديد الذي بشر بدوره بمفاجآت أضخم وأوسع سيشهدها العالم وهو يستقبل ألفيته الثالثة، وذلك بفعل التنوع والكفاءة الحاصلين في مجال تقنية وسائل الاتصال المختلفة تلك التي دشنت في أدبيات ذلك العقد ولا تزال مشروع (القرية الكونية).
فهذا التحول الخطير، والمثير والممتع الذي شهده سكان المعمورة أوضحت في الجزء الأصيل من الصورة المقدمة - والتي تمثل في أعلى درجاتها رسالة التقدم التقني والعلمي - المعالم الأولية لشخصية القرن الواحد والعشرين، الذي يعتمد في فعله وممارسته على عنصر القوة في مناحيها المختلفة والمتعددة.

ومن سياق معالم هذه الصورة لشخصية القرن الواحد والعشرين نقع على معنيين في محور الحديث عن الشباب وثقافة العولمة السياسية، الأول: ويتضمن ثقافة العولمة السياسية، والثاني: سياسة العولمة. ولعل الجامع بين هذين المعنيين، هو أن سياسة العولمة بمثابة المرتكز الذي تتكئ عليه ثقافة العولمة السياسية، بمعنى آخر يكون فيه مسار الحدث لظاهرة ثقافة العولمة السياسية هو في نتيجته بمثابة محصلة لكل عمليات سياسة العولمة، فكل ما يشاهد من أحداث وتطورات على الساحة الدولية هو من فعل سياسة العولمة التي تحمل على عاتقها مخزون العولمة السياسية. والعنصر الثابت في كل هذا الجوّ ـ في حديثنا الحالي ـ هو عنصر الشباب بوصفه القابل لفعل هذا المتغير (سياسة العولمة). ولعل في محاولة قراءة هذا المتغير من خلال الفئة الشابة لا يعدو أن يكون من صميم فعل ظاهرة العولمة ومن عمق اختصاصها، وذلك لما تمثله شريحة الشباب في كل مجتمع وأمة من رقم صعب وقيمة كبرى ورصيد قومي يتحدد من خلالها مسيرة التنمية البشرية المراد تحقيقها في ميادينها المتعددة. فيسعى المجتمع بواسطة أدوات التنشئة الاجتماعية إلى تمثل الفرد لقيم ومبادئ مجتمعه وأمته لأنه من سيمسك في المستقبل القريب بزمام القيادة وسيواصل مسيرة الامتداد الطبيعي لحضور المجتمع، من جهة أخرى فإن أنظار الأقطاب الدولية تسعى في تمرير مجمل مخطاطتها السياسية إلى الاستفادة من هذه الفئة، عبر الإمساك بزمام خياراتها ورهاناتها، كعامل ضغط توظفه عند الحاجة.
وعلى الرغم من أهمية التعرف على ثقافة الشباب ووعيه السياسي كما يرى الدكتور (علي أسعد وطفه) بوصفه >حقلاً علمياً متنامياً ولا سيما في العقود الأخيرة من القرن العشرين.... (وبأن) المكتبة العربية بدأت تغتني إلى حد كبير بعطاءات الدراسات والأبحاث الامبيريقية حول الشباب العربي وهمومه بصورة عامة. ومع أهمية هذه العطاءات (إلا) إن الدراسات التي كرست نفسها لدراسة الوعي الشبابي بمستوياته السياسية ما زالت في باكورتها الأولى، وما زالت هذه القضية تحتاج إلى همم الباحثين وجهودهم. فالدراسات التي حاولت أن تتقصى الحياة السياسية للشباب تعاني من ندرتها، إذ قلما نجد مثل هذه الدراسات لأسباب لا تخفى على العارفين. فدراسة مثل هذه القضية تستوجب الحذر وتقتضي مزيداً من اليقظة والإحساس بالمسؤولية في أجواء تختنق فيها الحريات العلمية والأكاديمية،... وغني عن البيان أن أغلب الدراسات الجارية في هذا المجال تأخذ تسميات مختلفة مثل: دراسة القيم والاتجاهات، وثقافة الشباب ومشكلات الشباب<(1)، وأشار الدكتور (وطفة) في مجال تغطيته لدراسات سابقة أجريت في بعض الدول العربية كالكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر، المملكة العربية السعودية، المملكة الأردنية الهاشمية، تونس، مصر، سوريا، لبنان، ضمن بحثه المعنون: >التحديات السياسية في الكويت والوطن العربي: بحث في مضامين الوعي السياسي عند طلاب جامعة الكويت، إلى النتائج التالية:
ـ تراجع خصوصية النزعة القومية في بنية الوعي السياسي العربي.
ـ الحضور المتقدم للانتماء الإسلامي وتنامي أهميته في بنية هذا الوعي.
ـ ضعف وتيرة الانتماء الوطني والمدني، لا سيما في بلدان الخليج العربي.
ـ حضور قيم الانتماء القبلي في نسق المفاهيم والتصورات السياسية السائدة في بنية الوعي السياسي.
ـ تنامي الإحساس بأهمية الانتماء الإقليمي ولا سيما في منطقة الخليج العربي.
ـ تنامي الوعي الاجتماعي وتقدمه فيما يتعلق بجوانب الحياة الاجتماعية، ولا سيما الحياة الديموقراطية وحقوق الإنسان.
ـ تزايد وتيرة القبول للحلول السلمية والتطبيع مع العدو الصهيوني عند شرائح محددة من الشباب والمثقفين العرب.
ـ أن الشباب والمثقفين يمتلكون صورة متقدمة للتحديات التي تواجه مصير بلدانهم، ويؤمنون أيضاً بأهمية التضامن العربي الإسلامي في مواجهة هذه التحديات المصيرية<(2).

وفي محور حديثنا حول الشباب وثقافة العولمة السياسية نحن أمام عدة تساؤلات، فما هي هذه العولمة؟ وما هي ثقافتها التي تبشر بها؟ بالنتيجة ما هو موقع القوى والعناصر الشابة من إفرازات وتداعيات هذه العولمة؟ وهل نحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في محك صراع مع ثقافة العولمة؟ أم أن المسألة لا تعدوا أن تكون درجة من درجات السلم الحضاري الذي تقطعه البشرية ضمن الخط الطويل لمشوار الإنسان وهو يسعى لتطويع متغير الزمان والمكان بما يتلاءم ومستوى طموح هذا الإنسان؟ وبوصفنا عرباً ومسلمين ممن أسهم يوماً ما في صياغة البنى الفكرية والثقافية في سلم الثقافة والحضارة الإنسانية ما هو موقعنا من هذا المنعطف التاريخي الكبير؟ وعلى هذا الأساس ما هو خيارنا في الحقبة التاريخية المقبلة؟ وما هي الأدوات والأوراق التي بين أيدينا ونمتلكها ونحن ندير دفة صراع أو حوار يعتمد في كثير من حيثياته على تقنية معلوماتية متطورة ليست فيما أحسب مما ننتجه على الأقل في زمننا الراهن؟
وعلى ضوء ما سبق فهل نحن أمام مرحلة تاريخية تفضي لعولمة سياسية، من شأنها أن تلغي الحدود الجغرافية السياسية القائمة بين الدول؟ بالتالي ولادة نظام السياسة الموحدة، كصورة نهائية لمخاض النظام الدولي الجديد تحت خيمة العولمة؟ وأين هو مقر هذه الخيمة؟ ومن يمثل فيها الساتر ومن الوتد؟ ومن هو في داخلها؟ ومن هو الخارج عن شرعيتها ؟ وهل العضوية في هذا المنتدى العولمي متاح للجميع أم أنه خاضع لرؤية ومصالح من يملك خيوط اللعبة السياسية والقدرة الاقتصادية؟ وما مصير المنظمات الدولية القائمة، كمنظمة الأمم المتحدة، وما يتبعها من مؤسسات دولية؟ هل ستكون جميعها في ظل هذه العولمة في ذاكرة التاريخ؟ أم أن هناك محاولات وبفعل آلية هذه العولمة ستسعى لتطويعها لتخدم أكثر مصالح القوى الدولية المتنفذة؟ أسئلة كثيرة ليس في وسع هذه السطور وغيرها الإجابة عنها. وفي سياق مقاربة جميع هذه الأسئلة وغيرها، ونظراً لقيمة وأهمية الوعي السياسي للفئة الشابة في ظل متغيرات موجة ثقافة العولمة المصاحبة للألفية الثالثة كان من المهم الإشارة إلى العناوين ذات الصلة فيما أحسب بمحور الشباب وثقافة العولمة السياسية، نأمل أن نقترب من خلالها إلى مناخ هذه المقاربة.
أولاً: العولمة بوصفها جزءاً من مفردات المكوّن الثقافي للشباب
مع التطور المذهل في حقل النظام المعلوماتي الذي شهده العالم وما يمثله هذا التطور من حراك ثقافي لا مثيل له في التاريخ البشري، فإن هذه المنظومة بحد ذاتها تمثل مفردة مهمة في الذهنية المجتمعية ما تلبث أن تتحول إلى رمز ومن ثم إلى عرف من الأعراف التي تتوارثها المجتمعات لا بوصفها أعرافاً قومية، بل بوصفها أعرافاً ذات بعد عالمي يشمل كل الثقافات وكل المجتمعات مع لحاظ قابلية كل ثقافة من هذه الثقافات لهضم وتمثل هذه القيمة الحضارية بالمقارنة مع ثقافة أخرى، مضافاً إلى هذه القابلية وفهم الأدوات والوسائط التي بواسطتها وصلت هذه المفردة للمجتمع، أهي بفعل الضرورة والإلزام؟ أم بفعل التفاعل الثقافي والفكري وبالتالي تأتي تبعيراً عن حالة النماء المعرفي وشفافية المناخات السياسية ودافعية القوى الاجتماعية التي ساهمت جميعها في بلورة هذه الظاهرة في الوسط الاجتماعي؟
ومن منطلق عملية التغير الاجتماعي التي تصاحب عادة المجتمعات التي تأتي في العديد من صورها بفعل القوى الشابة في المجتمع، فإن المجتمع العربي سيشهد تحولات سياسية واجتماعية وفكرية تكون فيه العولمة إحدى أهم المتغيرات التي ساهمت في حدوث الكثير من مظاهر التغير الاجتماعي في الوطن العربي في العقود القليلة المقبلة.
ولكي يتسنى معرفة ماهية هذه العولمة التي ستسهم من دون شك في البناء المعرفي للمجتمعات وما سيترتب على هذا المكون من ردود أفعال مختلفة، فإن هذا الفهم لا يمكن أن يكون بمعزل عن معرفة بيئتها الطبيعية التي تنمو فيها وتترعرع، ألا وهي منظومة شبكة الاتصالات العالمية، فمعلوم أن >تقنية الاتصال تؤدي دوراً حيوياً في نشوء الثقافة وتطورها... لأن التقنية توسع من إمكاناتنا في الإبداع والنقل والتخزين، لذا فإنها بهذا توسع مجال البيانات المتوفرة المشتركة لجميع الأفراد في المجتمع. هذا الرصيد من البيانات يتألف من الأخبار والمعلومات وبرامج الترفيه التي تقدمها وسائل الإعلام... كما يمكن النظر إلى هذه البيانات بوصفها مرآة للمجتمع، لأنها تعطي معلومات مقبولة عن حركته، وكيف يتخذ الفرد مكانه في إطاره،... وبهذه الطريقة تساهم تقنية الاتصال في نقل الثقافة وحركتها<(3)، هذا إذا نظر إلى تقنية الاتصال في إطارها المحلي / القومي، أما بالمنظور العالمي الذي يتمركز على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فإن طبيعة هذا التواصل الحاصل فيما بين الأفراد بوصفهم أفراد، والمجتمعات بوصفها مجتمعات، وجميعها تنطلق من تصورات ورؤى ثقافية وحضارية محددة تحمل في تفاعلها هذا خصوصيتها الحضارية والثقافية، ستكون هذه العملية المستمرة والدائمة بفعل التراكم الزمني لعملية التواصل سمة ثقافية تنطبع عليها أغلب إن لم يكن كل الثقافات البشرية، لا من حيث الإزاحة بل من موقع أن هذه المفردة لم تعد ملكاً لثقافة دون غيرها.
ومن أهم الفئات التي ستتمثل هذه المفردة (العولمة) وتعدُّها جزءاً من مكونها الثقافي هي الفئة الشابة بغض النظر عن موقف هذه الفئة الشابة من هذه المفردة من حيث القبول أو الرفض، السلب أو الإيجاب، ففي الحالتين يأتي هذا الفعل تعبيراً صريحاً عن موقف، والموقف في أبسط معانيه سلوك، والسلوك ثقافة تحمل في جوهرها مضامين وأبعاد هذا الموقف.
وحيث إن الركيزة الأساس في نشوء هذا المكون تعتمد على عنصر توافر أدوات ووسائل الاتصال الحديثة المختلفة، وهذه الأدوات بحاجة لممارسين ومتلقين إن على مستوى التخصص، أو بحسب ما يأتي من مقتضى الضرورة الحياتية، فإن في طبيعة هذه الممارسة وعلى المدى الطويل ستفرز تداعيات على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي في مستواه القومي والمحلي. وعلى هذا ومن حيث المبدأ، سوف لن تعاني الفئة العمرية الشابة الغربة على الصعيد المفاهيمي بالنسبة لتعاطيها مع نتاجات ثقافة العولمة السياسية على وجه الخصوص، وذلك لأن جيل الشباب سيعتبر ظاهرة العولمة من المفاصل التاريخية التي ستتشكل منها ذاكرته التاريخية بما تحتويه هذه الذاكرة من تراكمات معرفية، ومن خيارات الفعل أو الإحجام، الموافقة أو الرفض، القبول أو الممانعة، إضافة إلى هذا فإن من طبيعة هذه الممارسة ينتج عنها عملية التكيّف النفسي التي تتولد بفعل الممارسة والاحتكاك المتواصل وبشكل متكرر ويومي، مما يعطي مفردة العولمة حضوراً مقبولاً على مستوى التصور الذهني بالنسبة للجيل الشاب، وبناءً على ذلك كله ستغدو مفردة العولمة بمثابة إرث عصري حضاري حتى وإن بدا هذا الإرث طوطبائياً في مناحيه وأهدافه. ومن غير شك، وبفعل هذا التواصل المعتمد على تقنيات الاتصال الحديثة، سيخلق فرصاً لنمو مجموعة من القيم والمفاهيم ذات العلاقة بالشأن السياسي والاجتماعي التي تظهر على شكل ممارسات تكشف عن نمط ثقافي قد تشكل من خلال هذا التواصل، فالدعوة مثلاً: لإقامة المجتمع المدني، وتحقيق الديموقراطية، وحقوق الإنسان، لن تكون من المفاهيم الغريبة والمستهجنة، بل ستأخذ موقعها من مخزون الشاب الثقافي والفكري مما يعني خلق حالة من الوعي السياسي والاجتماعي لممارسة >المكاشفة والمحاسبة في مواجهة الفساد، وضرورة المشاركة في مواجهة تركز السلطة، وتدعيم الحقوق الاجتماعية والسياسية، بغض النظر عن النوع والأصل العرقي والثقافة الفرعية، والحاجة إلى توفير آليات الاندماج الاجتماعي<(4)، وغيرها من القيم التي ستنمو تدريجياً لتتحول مع مرور الزمن والاتصال الدائم بين الثقافات وما يتمخض عن هذا التواصل من ممارسات سياسية واجتماعية تخرق حدود الجغرافيا السياسية، لتصير عملية التواصل هذه هي السمة الغالبة والمسيطرة في سلوك النشاط الإنساني يؤثر فيها ويتأثر بها. وذلك لأن >الأفكار والمعلومات التي تدخل الشبكة العالمية يجري تفريغها في سياق السياسات القومية والثقافات المحلية التي تقوم بتصفية وتعديل كل ما يصل إليها بصورة انتقائية. وغالباً ما تكون المؤسسات السياسية أكثر مقاومة للبث عبر الأمم منها لبث الثقافة الشعبية<(5)، مع لحظ أن المعلومة لوحدها غير كافية في نشوء مثل هذا الوعي، ما لم تصاحب تدفق المعلومة تربية ورعاية وممارسة تحمل على عاتقها إنماء مثل هذا النوع من الثقافة الحية في الوسط الاجتماعي، وإلا سيكون نفس هذا التدفق المعلوماتي سبباً في نشوء أفكار وممارسات في الوسط الشبابي ليست بالضرورة ذات منحى إيجابي تجاه المجتمع ومؤسساته، بل قد تغذي هذه الظاهرة ظاهرة التوترات الداخلية والعنف والعنف المضاد، من هنا فالضرورة تفرض أن تكون في المجتمع حالة من الممارسة المسؤولة والشفافية السياسية.


ثانياً: العولمة في ظل ثقافة القطب الواحد


إذا كانت الشبكة المعلوماتية العالمية، تمثل وجهاً من وجوه الحراك الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، للعولمة، فإن ثقافة القطب الواحد، تمثل وجهها الثاني. فكما هناك تلازم بين العولمة والمعلوماتية، فإن التلازم عينه حاصل بين العولمة وثقافة القطب الواحد والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية. فـ>بانهيار الاتحاد السوفيتي أصبح الجو مناسباً للولايات المتحدة الأمريكية كي تبسط هيمنتها وتفرض زعامتها على الساحة الدولية، وهي الزعامة التي تكرست في أعقاب أزمة الخليج الثانية التي احتكرت الولايات المتحدة دواليب إدارتها،... ومنذ ذلك الحين تمحورت الاستراتيجية الأمريكية في المحافظة على هذا النظام الدولي الذي تحتل فيه مركز القيادة، عبر تعزيز أمنها العسكري الذي تعتمد عليه في إنجاح سياستها الخارجية، وتطوير اقتصادها وتعزيز حضورها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي الوازن والمكثف على الساحة الدولية<(6). وقد ساهمت >الظروف والمستجدات العالمية... مساهمة مباشرة في البروز المتجدد للولايات المتحدة، كدولة عظمى وحيدة في العالم المعاصر، وعملت الدولة الأمريكية على ترسيخ الانطباع بأنها قد كسبت المواجهة السياسية والعقائدية مع الاتحاد السوفييتي السابق لمصلحتها، كما أخذت تروج عبر وسائلها الإعلامية والدعائية الضخمة أن هزيمة الاشتراكية تعني انتصاراً مباشراً للرأسمالية والفكر الليبرالي، الذي اعتمد في هذه المرحلة الراهنة الفكر الذي يتمتع بكل مواصفات (العالمية) Globalization، بما يتضمنه ذلك من بروز أطروحات مثل (نهاية التاريخ والأيديولوجيات) لـ Fu Kuyama، لذلك أخذت الولايات المتحدة تتصرف من موقع إدارة العالم وتقرير شؤونه السياسية والاستراتيجية، خاصة أن أيديولوجيتها هي الآن من دون منافس، وأكثر تألقاً من أي وقت مضى، وحلفها العسكري والسياسي هو أكثر تماسكاً واحتفاظاً بقوته، كما أن مواردها وإمكاناتها ما زالت تتصدر موارد وإمكانات كل الدول الأخرى في العالم<(7).
والظاهر من سلوك الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها الخارجية أنها تسعى من خلال مصادر القوة والنفوذ الذي تتمتع به على الصعيد الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي السياسي لفرض هيمنتها وأنموذجها الثقافي على دول العالم من خلفية القوة الوحيدة في العالم. فعبر هذه الثقافة التي تسعى لفرضها وتكريسها في الواقع العالمي بأسره، تحمل في كينونتها رسالة مفتوحة موجهة للنظم السياسية الحاكمة، كما للشعوب والثقافات الأخرى، بأن الحراك السياسي والثقافي والاقتصادي والتقني المتطور، لا يمر إلا عبر البوابة الأمريكية، بوصفها نموذجاً ثقافياً تسعى لتعميمه ونشره بين ثقافات العالم مستفيدة في ذلك من المناخات التي تتيحها لها العولمة إذا وضعنا في عين الاعتبار الحقيقة الموضوعية التي تفيد بـ>أن معظم الدافع لثورة المعلومات يأتي من الولايات المتحدة، وأن قسماً كبيراً من محتوى شبكة المعلومات العالمية يتم إبداعه في الولايات المتحدة<(8)، مضافاً إلى ذلك >الاقتصاد الأمريكي (الذي) مازال هو الأضخم عالمياً من حيث الحجم، فإجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة يتجاوز 6 تريليون دولار، وهو ما يوازي حوالي 25% من إجمالي الناتج العالمي،... وهي الدولة الأولى في العالم من حيث عدد المليارديرات وعدد رجال الأعمال، وعدد المدراء الذين يتقاضون أعلى الرواتب في العالم، وهي الدولة الأعلى في العالم من حيث الاستهلاك الخاص الذي يشكل حوالي 67% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، كما أنها الأولى في العالم من حيث عدد الشركات المتعددة الجنسية حيث تمتلك 164 شركة من أصل 500 شركة في العالم<(9)، واضعين في الحسبان >أن هذا التفوق الأمريكي العالمي لا يستند فقط إلى القدرات الاقتصادية فحسب، بل يستمد فعاليته وربما مشروعيته من القوة العسكرية والنووية التي تمتلكها الولايات المتحدة،... فهي الأولى في العالم من حيث عدد الرؤوس النووية التي تقدر بحوالي 15 ألف رأس نوي، وهي الأولى من حيث عدد الصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات والتي تصل إلى 1000 صاروخ،.... هذه القدرات النووية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية الضخمة مدعومة بقدرات تكنولوجية وبشرية متقدمة، ومدعومة من مؤسسات سياسية راسخة ومقننة، بالإضافة إلى قدرتها الإعلامية والدعائية الواسعة والمؤثرة التي لا تجاريها أو تنافسها أي دولة أخرى في العالم اليوم<(10) يعطي للولايات المتحدة الأمريكية القدرة على تحريك الساحة الدولية بما يخدم مصالحها المشروعة وغير المشروعة، من موقع القوة والنفوذ والسيطرة، فقد سعت على سبيل المثال: >الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجهاض مؤتمر الأرض في ريو دي جينيرو بموقفها المتشدد ضد الحفاظ على التنوع البيولوجي... من أجل حماية مصالح شركات التكنولوجيا الحيوية وعمالقة صناعة الدواء الأمريكية.. وهي... التي وقفت بصرامة ضد الحفاظ على التنوع الثقافي، حماية لمصالح صناعة الاتصالات والمعلومات هذه المرة، وذلك عندما وأدت ـ في مهده ـ اقتراح منظمة اليونسكو لإقامة نظام معلوماتي عالمي جديد، بغية إقامة بيئة معلومات عالمية أكثر عدلاً في توزيع موردها ومنافعها. ثم كان من انسحابها هي وبريطانيا من منظمة اليونسكو، وبينما جددت بريطانيا عضويتها في المنظمة الدولية، لم تستشعر الولايات المتحدة ـ قائدة قافلة عولمة الثقافة حالياً ـ أي حرج في أن تعلن صراحة أنها في غنى عن منظمة اليونسكو، منتدى الثقافة العالمية<(11)
فطبيعة هذه الممارسة من جانب الإدارة الأمريكية هو بحد ذاته ثقافة، إذا ما نظرنا إلى الثقافة بوصفها (سلوك)، ينبئ عن قناعات واتجاهات ورؤى المتمثل لهذا السلوك أو ذاك، سواء المتشكل على مستوى الفرد، أو المنبثق من العقل الجمعي. ومن بوابة هذه الثقافة سيُفرز نمطان من السلوك من قبل المتلقي استجابةً طبيعية لمثير ممارسات الهيمنة الأمريكية الموجهة نحو الدول والشعوب، نمط رافض لهذه الهيمنة ويراها نوعاً جديداً من الإمبريالية الجديدة التي توظف تقنيات العصر في إلباسها ثوباً جديداً، ونمط آخر ينظر إليها بنوع من الارتياح بل ويعدّها أنموذجاً يمثل أرقى نماذج الحداثة التي مرت على التاريخ البشري، وبين هذين النمطين تتوزع طروحات قد تقترب أو تبتعد عن مناخات هذين النمطين. وبكلمة، فإن مجرد ارتباط العولمة في ذهنية الجيل الشاب، بصورة هيمنة القطب الواحد، بما يعنيه هذا من >إقدام هذه الدولة على ممارسة العنف واستعراض العضلات عسكرياً، وغير ذلك من الأشكال الترهيبية التي تسلكها في مواجهة الأمم الأخرى كالتدخلات العسكرية المباشرة وفرض العقوبات الزجرية المختلفة والانتشار الاستراتيجي عالمياً واستغلال المؤسسات الدولية والاقتصادية والسياسية والعسكرية خدمة لمصالحها، إضافة إلى تحييد القوى الدولية الاقتصادية الكبرى من خلال الإبقاء على وجودها العسكري الرمزي، وتحجيم أي خطوة أو مبادرة للاتحاد الأوروبي...، وتقييد أي دور لدول العالم الثالث من خلال مراقبة وضبط تسلحها في سياسة خارجية جائرة ومتخبطة لا تعير الاهتمام إلا لمصالحها، ومساندة أنظمة دكتاتورية وعنصرية (مساندة إسرائيل في أعمالها الوحشية ضد الفلسطينيين مثلاً)، وإسقاط أنظمة واستبدالها بأخرى، واستعمال شعارات حماية حقوق الإنسان والديموقراطية، ومكافحة الإرهاب في العالم؛ ذرائع للتدخل في شؤون الدول، وإهمالها لقضايا دولية أكثر أهمية وإلحاحاً كمشكل تلوث المناخ والمحافظة على البيئة ومحاربة الفقر والعنصرية وخفض التسلح، كلها تشكل عوامل حقيقية تؤجج الشعور الدولي بالحقد تجاه هذا البلد<(12)، فكون هذه العولمة السياسية تأتي في ركب الارتباط بنموذج القطب الواحد، المعبرة عن روح السيطرة والنفوذ، فإن حالة من الحقد ستتولد عن هذه الممارسة مما ستفرز استجابات سلوكية تكون فيما بعد وبفعل التراكم والخبرة السلوكية ذات دلالات سياسية تأتي في صورة تغذية راجعة لكل هذه الرسائل التي ترسلها الولايات المتحدة الأمريكية لدول العالم، مما يشكل لها مأزقاً حقيقياً على مستوى القبول والرضا القومي، مما يعني أن حلقة العنف والعنف المضاد ستتخذ من آليات وتقنيات العولمة ساحة حقيقية في المواجهة، ولعل ما جرى على هامش قمة أيفيان شرق فرنسا لدى اجتماع الدول الصناعية الثماني في حزيران/ يونيو 2003م، من مظاهرات واحتجاجات حاشدة مناهضة للعولمة بشكل عام، ولسياسة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، كاشف عن المأزق العالمي الذي بات واضحاً سعي الإدارة الأمريكية للدخول في نفقه المظلم، مما يكرس وبفعل هذه الممارسة حالة الإحباط لدى الدول والمجتمعات والتي يتولد عنها حركة مضادة بين الشعوب تعمل على كبح جماح هذه الغطرسة والهيمنة.
ومن مرتكز خصائص النمو النفسي والاجتماعي للشباب، خصوصاً في مجال الحاجة إلى توكيد الذات والشعور بقيمة المشاركة والإنجاز على مستوى الواقع الاجتماعي، وحيث إن هذه الحاجات تعبر عن مخزون الطاقة التي يختزنها الشباب، كان لا بد من الالتفات من موقع الدفع نحو استبصار الشباب لحركة خط العولمة من ساحة الواقع بعيداً عن الأحلام الوردية والنرجسية التي تصاحب عادة الشاب، ومن خلفية ما ذكر في النقاط السابقة نلفت نظر الشباب إلى ما يلي:
أولاًً: العولمة لا تعني الرفاه الاجتماعي والسياسي
من المهم في عملية التأسيس للفهم والوعي السياسي لدى الشباب، وهم يتفاعلون مع معطيات وتداعيات حركية العولمة في مسارها العالمي، أن تتضح لهم الصورة جلية دونما تزييف، من خلال السعي الدؤوب في إجراء عملية فك الارتباط بين العولمة بوصفها مفهوماً مجرداً لم يتفق بعد على تحديد ماهيته وحدوده وأطره، وبين مفهوم الرفاه المتضمن للقواعد والقوانين المتعلقة بسياسات نظام العمل، والتقاعد والصحة، والضمان الاجتماعي. فبين هذين المفهومين فاصل عريض على مستوى الممارسة والتطبيق.
من هنا فبيان أن العولمة ليست كلمة مرادفة لدولة الرفاه على جانب كبير من الأهمية، فبوضوح هذا النوع من الفهم يعني ألَّا تلازم بين العولمة والرفاه، بل الأمر في كثير من وجوهه على خلاف ذلك، إذ لعملية الانفتاح الاقتصادي الدولي انعكاس سلبي على مستوى النفقات التي تقدمها الدولة القومية المتضمنة لخدماتها الرعائية والاجتماعية المختلفة، ولتجربة الدول الأوروبية في هذا المجال مصداق لهذا المأزق فـ>ليس ثمة ريب في أن دول الرفاه في البلدان المتقدمة تتعرض إلى مصادر متنوعة من التوترات التي ترفع كلاًّ من تكاليف الخدمات والطلب عليها، مثل استمرار المستويات العالية من البطالة في الكثير من الدول الأوروبية، وشيخوخة السكان ـ ازدياد تكاليف المخصصات التقاعدية والرعاية الصحية ـ وتزايد تعقيد التكنولوجيا الطبية، وارتفاع معدلات انهيار العوائل وتدهور الرفاه غير الرسمي المعتمد على العائلة، وتنامي الطلب على تحسين الرفاه والخدمات الاجتماعية عموماً. إلا أن معايير التقارب في سبيل الوحدة النقدية وضعت كابحاً عاماً على الإنفاق العام والاقتراض الحكومي في عدد من البلدان، مما أثر على مخصصات الرفاه وتوفيره<(13)، فهذا التأثير على المخصصات المقدمة آتٍ عبر بوابة الوحدة الأوروبية، والتي تعني فيما تعنيه التكتل من أجل مواجهة تداعيات العولمة التي ستصبغ الألفية الثالثة بلونها المميز.
على هذا فلا تلازم بين العولمة، وبين دولة الرفاه، نعم قد تساعد العولمة عند توافر القوة الاقتصادية على المساهمة في تهيئة سبل وآليات الاتصال المعرفي والثقافي، ومن ثم إيجاد نوع من فرص الرفاه >وعليه فإن العولمة في شكلها المطلق لن تكون بحال من الأحوال هي تلك المظلة التي ستستظل تحتها دولة الرفاه التي تعيش في مخيلة التصور الذهني للشباب.
ثانياً: العولمة ليست بديلاً عن إرداة الشعوب
من المظاهر التي ينبغي التشديد عليها، أن ظاهرة العولمة لا يجوز النظر إليها على أنها قدر تتحطم عنده جميع الخيارات، بل العكس هو الحاصل بالنسبة لمسيرة العولمة، فخيار الشعوب والأمم هو المناخ الذي تتحرك فيه إستراتيجية العولمة وتكتيكاتها المختلفة، حتى وإن كانت خيارات هذه الشعوب قاسية ومضنية بفعل الظروف السياسية والاجتماعية القاهرة التي تصب في محفظة الميزان السياسي والاقتصادي للدول صاحبة الامتياز.
فإرادة الشعوب والمجتمعات هي الحاكمة في ظل هذه المتغيرات الضخمة في الميدان الدولي، لذلك فخيار الشعوب في ظل العولمة السياسية لا يمكن أن تلغيه العولمة بشكلها المطلق من القاموس السياسي لذاكرة الشعوب والأمم. وبتحليل مضمون >العولمة ليست بديلاً عن إرادة الشعوب<، نستبين دلاليتين أساسيتين هما: الأولى: وتكون على مستوى الأداء الجماهيري، والمتمثل في قدرة المجتمع على الفعل في مناشط الحراك السياسي والاجتماعي، والتي تعني زيادة في القدرة على المشاركة السياسية، وكذا التعبير عن آماله وطموحاته في الحاضر والمستقبل، ليكون هو والنظام السياسي في جبهة عمل واحدة ضد أي هجوم خارجي يستهدف البناء الثقافي والحضاري للأمة، وهذا خيار تعمل القوى المتنفذة في السياسة الدولية على خلق نوع من الخلخلة فيه وفك التناغم الحاصل بين النظام الحاكم وجماهير شعبه، والتي تأتي في صور رسائل تحريضية متنوعة توجه لكل طرف ضد الطرف الآخر. والمحصلة من مثل هذه السياسات تحقيق أهداف زعزعة الاستقرار لفرض شروط السيطرة والنفوذ، ونلمح مثل هذه الإرادة على سبيل المثال من قبل >الصينيين واليابانيين يتوجسون قائلين: إن أمريكا تريد أن تمنع بروزهم كقوى عظمى، (لذا فـ) أكثر الكتب مبيعاً عندهم هي الكتب التي تدعو إلى قول [ لا ] للأمريكيين<(14). أما المستوى الثاني: فيفيد بأن أهم عناصر نقل العولمة من منطقة القوة إلى حيز الفعل لا يمكن أن يمر من دون الإطار الشرعي للدولة القومية، وذلك راجع إلى أن >نظم الضبط، والهيئات العالمية والسياسات المشتركة المقرة في المعاهدات، لا ترى النور إلا لأن دولاً قومية كبرى وافقت على خلقها، وإضفاء الشرعية عليها بما لديها من السيادة. فالسيادة قابلة للتحويل، والدول تتنازل عن شيء من السلطة للهيئات فوق القومية، لكنها ليست كماً ثابتاً. إن السيادة قالبة للنقل والتقسيم، لكن الدول تكتسب أدواراً جديدة حتى بعد أن تتنازل عن جانب من السلطة، فهي تتولى، على وجه الخصوص، وظيفة إعطاء الشرعية وتقديم الدعم للسلطات التي نشأت بفضل هذه المنحة من السيادة<(15)، فعلى أي معنى من المعنيين السابقين سواء في صورته المحلية، أم في مساره القومي المتمثل في الدولة، فالعولمة بشكل مطلق ليست بحال من الأحوال بديلاً عن إرادة فعل الشعوب في تبني هذا الخيار أو رفضه.
نعم تعمل القوى الدولية المتنفذة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على الاستفادة من معطيات العولمة السياسية في إيجاد مناخات ملائمة لزيادة معالم التحكم في مقدرات ومصائر الشعوب من خلال شعارات رنانة تعرف كيف ومتى تعزف على وترها، والتي تصبح -كما قال الإمام علي C- >كلمة حق يراد بها باطل<.


خامساً: العولمة لا توهب

إذا كانت العولمة تمثل ظاهرة عالمية بما تتمثله هذه الظاهرة من قدرة على الانتشار والتوسع، فإن طبيعة هذه العولمة إذا نظر إليها على أنها تَمَثُّل الحاضر، وتطلع المستقبل، كانت النتيجة أن متغيرات الحاضر والمستقبل لا بد وأن يرتكزان على متغير الطموح في خوض غمار هذا المنجز الحضاري.
غير أن السؤال المهم والذي يطرح وبشكل دوري ومتكرر، كيف لنا أن نجتاز هذا البحر اللجي، دون أن نمتلك أدوات الإبحار في هذا المحيط الثابت فيه أنه غير ثابت، ونحن في وطننا العربي لم نسع كي نعمل على إيجاد سوق عربية مشتركة في حين يشهد العالم في ظل العولمة تنامياً لحركة التكتلات الاقتصادية والسياسية؟
ولما كانت العولمة في ثوبها الحالي، ورتوشها المستقبلية هي فعل، والفعل يختزن في مضمونه فعل الفاعل، بالتالي فإن العولمة صنيعة فعل بشري، ومن طبيعة الإنجاز البشري أنه لا يقدم هكذا صدقة دون عناء، بل التاريخ البشري في سجله المكتوب والمسموع، يكشف أن من يملك مفاتح التقدم والرقي يسعى بكل طاقاته من أجل احتكار أدوات هذه الصنعة، وإن سمح بشيء منها فإنه لا يسمح بها دون اتفاقيات تعقد بهذا الشأن يضع فيها جميع البنود التي تكفل له إدارة دفة هذه الصنعة. من هنا فنحن أمام عطاء بشر لبشر، ولسنا في محضر هبات وعطايا السماء المستغنية بالمطلق {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} الآية.
فاستبصار الشباب هذه الحقيقة في غاية الأهمية، ذلك لأن الوعي بهذه الحقيقة وإدراك أن العولمة لا توهب ستشكل منطلقاً فكرياً ومعرفياً يؤسس الشباب عليه ميوله واتجاهاته في المدى المنظور، ليخرج من شرنقة الأحلام النرجسية وأن ما يريده يقدم له على طبق من ذهب!، فإذا تثقف الشاب أن من أهم تداعيات هذه العولمة فضلاً عن أنها لا توهب، هي محك خطير لمستقبله الوظيفي المستتبع لتضييق الخناق عليه في مجال الاستقلال الاقتصادي الذي يعمل الشاب على إيجاده لأنه من أهم مكونات تأكيد الذات، كان من شأن هذا الوعي زيادة الطموح والتطلع نحو المستقبل على قاعدة الإنتاج وليس الاستهلاك، خصوصاً في حالة الركود الاقتصادي التي يشهدها العالم، وتفاقم أعداد البطالة في صفوف الشباب.
ومن هذا الموقع والمرتكز ينبغي أن نعلم في الوقت الذي لا تنال فيه العولمة بالأماني والهبات، فإنها في الوقت نفسه قادرة -وبفعل أياديها الممتدة طويلاً- على إحكام السيطرة وجعل كثير من الثقافات والمجتمعات على هامش المنجز الحضاري في كل ما يجري من حولها.
وهكذا فإن إذكاء الوعي السياسي المرتبط بـ>مجموعة القيم والاتجاهات والمبادئ السياسية التي تتيح للفرد أن يشارك مشاركة فعالة في أوضاع مجتمعه ومشكلاته: يحللها ويحكم عليها ويحدد موقفه منها ويدفعه إلى التحرك من أجل تطويرها وتغييرها<(16)، يتيح للجيل الشاب فرصة من الاستبصار المساعد على اتخاذ القرارات الحاسمة من موقع وعيه السياسي، وحسه القومي وشعوره بقيمته وهويته وثقافته التي يسعى من خلالها للمثاقفة مع الآخر لا من موقع المنهزم، بل من خط الواعي بقيمة تراثه الحضاري وإسهاماته الفكرية. من شأن ذلك أن يثقفه ثقافة ميدانية لا على مستوى تمكنه من إتقان فن الخطاب على مستوى الداخل المحلي، بل يعطيه مهارة من حيث القدرة والكفاءة على فهم تلك المفردات والخطابات الموجهة إليه والتي تتناقلها الوسائط المعلوماتية المختلفة، شريطة أن تتوافر الرغبة الجادة وليست الأُمْنِيَّة من القوى الفاعلة في المجتمع لتربية الجيل الشاب على ثقافة المجتمع المدني، بما تعنيه هذه الثقافة من مشاركة فاعلة في مناحي الحياة المختلفة، كل ذلك من أجل أن يرتبط الوعي لدى الشباب بالممارسة الميدانية، وأن يتربى في ظل ثقافة العولمة السياسية، بروحية تثق بذاتها وما تملكه من إمكانات وقدرات، لا بروح منهزمة قلقة.
وتأسيساً على ما تقدم فالعولمة ليست مجرد شعار بل هي واقع، وواقع فرض نفسه علينا بقوة نشهد تداعياته يومياً رغبنا في ذلك أم أبينا، ومن منطلق هذا الاقتحام بات من اللازم العمل على توكيد الذات والثقة بالقدرة على المشاركة والفعل، شريطة أن نعمل على الاستفادة من الإمكانات المتاحة والخيارات التي تملكها الشعوب ومن أهمها إشاعة مناخ الحريات العامة، وتطبيع المجتمع بكل فئاته وطبقاته على الوعي بأهمية إدراك مسألة الحقوق، والواجبات عبر ممارسة الديموقراطية الفاعلة لا المنقوصة والمبتسرة.

الهوامش:

?* كاتب - السعودية.
?(1) التحديات السياسية في الكويت والوطن العربي: بحث في مضامين الوعي السياسي عند طلاب جامعة الكويت. د. علي أسعد وطفة. (عالم الفكر ـ الكويت) العدد 3 مجلد 31 يناير / مارس 2003 م ص 71 ص 72.
(2) التحديات السياسية في الكويت والوطن العربي: بحث في مضامين الوعي السياسي عند طلاب جامعة الكويت (مصدر سابق) ص 85.
(3) الاتصال والسلوك الإنساني: برنت روبن. ترجمة نخبة من أعضاء قسم الوسائل وتكنولوجيا التعليم بكلية التربية. جامعة الملك سعود. الناشر: معهد الإدارة العامة. الرياض ـ السعودية. سنة النشر 1412 هـ، 1991م ص 432 - 433.
(4) الألفية الجديدة. مجلة العلوم الاجتماعية. المجلد 28 العدد 2 صيف: 2000م. ص 167.
(5) الحكم في عالم يتجه نحو العولمة. تحرير: جوزيف س. ناي، وَ جون د. دوناهيو. تعريب. محمد شريف الطراح. الناشر: مكتبة العبيكان. الرياض. السعودية. الطبعة الأولى. 1423 هـ، 2002 م. ص 26
(6) إدريس لكرين، >الزعامة الأمريكية في عالم مرتبك: مقومات الريادة وإكراهات التراجع< المستقبل العربي (لبنان) السنة 26، العدد 291 (أيار/ مايو 2003 م) ص 12 ص 13.
(7) سيد أحمد أبو ضيف أحمد >الهيمنة الامريكية: نموذج القطب الواحد< عالم الفكر (الكويت) العدد 3 المجلد 31 يناير / مارس 2003 م. ص 11
(8) الحكم في عالم يتجه نحو العولمة. (مصدر سابق) ص 26.
(9) سيد أحمد أبو ضيف أحمد >الهيمنة الامريكية: نموذج القطب الواحد< (مصدر سابق) ص 11 ص 12.
(10) سيد أحمد أبو ضيف أحمد >الهيمنة الامريكية: نموذج القطب الواحد< (مصدر سابق) ص 15.
(11) الثقافة العربية وعصر المعلومات. د: نبيل علي (عالم المعرفة ـ الكويت) العدد 265، يناير/ 2001 م، ص27.
(12) إدريس لكريني، (الزعامة الامريكية في عالم مرتبك: مقومات الريادة وإكراهات التراجع) المستقبل العربي (لبنان) السنة 26 العدد 291، أيار / مايو 2003 م. ص 22.
(13) ما العولمة. بول هيرست، جراهام طومبسون. ترجمة: د. فالح عبد الجبار، عالم المعرفة عدد 273 ص 242.
(14) العولمة: المفهوم المظاهر والمسببات. أحمد عبدالرجمن أحمد. مجلة العلوم الاجتماعية (الكويت) المجلد 26 العدد 1 ربيع 1998 م. ص 72.
(15) ما العولمة (مصدر سابق) ص 406.
(16) التحديات السياسية في الكويت والوطن العربي: بحث في مضامين الوعي السياسي عند طلاب جامعة الكويت: د: علي أسعد وطفة. (عالم الفكر ـ الكويت) العدد 3 مجلد 31 يناير / مارس 2003 م. ص 71.