بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، قد يلحظ المُتتبع لحركة الطباعة والنشر على مستوى المكتبة العالمية، والمكتبة العربية تحديداً؛ تزايداً واضحاً وملموساً في عدد العناوين التي تناولت موضوع العنف والإرهاب، وبطبيعة الحال قد لا ترقى بعض تلك الكتابات الآنية لتجلية الحدث بصورة موضوعية واعية وعميقة؛ لأنها ربما كُتِبت في ظل مشاهدة الصور المُرعبة والمُخيفة لعملية اختراق الطائرتين لبرجي مركز التجارة العالمي وانهيارهما، واستحالتهما -بمن فيهما- إلى رماد!! فهذه الصور بقيت متغلغلةً في أذهان كل المتابعين، ولن تفارق -على ما أظن- مخيِّلة من يمسك بالقلم، وقد تُشكِّل عند السطحيين منهم -ونحن نعيش عصر الصورة- نوعاً من الغبش في الرؤية، سيتبعه اتخاذ مواقف ارتجالية قاصرة!!
صحيح أنه نتيجة لحالة الحصار والكبت الذي تعرضت له بعض الجماعات الإسلامية، انبثق لدى جهاتٍ منها خيار العنف، إذ تصور بعض قادتها أن العنف لا يمكن أن يُجابه إلاّ بالعنف. في المقابل هناك وجهات نظرٍ أخرى، ارتفعت قبل عقودٍ من الزمن، ترى أن الإسلام يُحرِّم >الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين<(1).
فنحن عندما ندين أعمال العنف والإرهاب المنسوبة لبعض الجماعات المحسوبة على الإسلام؛ فإننا بالمقابل نتوجه بالإدانة -أيضاً- لمن اضطر هذه الفئات للجوء لخيار العنف؛ فلكل فعل ردة فعل! كما أننا نعي أنه ليس كل من حمل السلاح في وجه جلاَّده، حُسِب عنيفاً وإرهابياً!
وكما يقول المتنبي [303-354هـ]:
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَّيفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضعِ السَّيفِ في مَوضِعِ النَدى
لهذا نظلُّ بحاجةٍ ماسّةٍ لجرَّاحٍ ماهرٍ، يعالج لنا هذه الإشكالية -إشكالية العنف والإرهاب- بموضوعية؛ لنتحصّل على البلسم المُلائم لجراحنا المتفجِّرة والملتهبة هنا وهناك.
وضمن هذا السياق جمع الكاتب والباحث المعروف (زين العابدين الركابي) مجموعة من مقالاته المنشورة على مدى زمني طوله سنواتٌ عشرٌ في جريدة (الشرق الأوسط)؛ لتخرج لنا في كتابٍ يُناقش موضوع العنف والإرهاب، بدرجة عالية من الإتقان والوضوح. وسنتداخل بدورنا بقدرٍ مع أطروحات الكاتب؛ علماً بأنه قد قسَّم كتابه في ثلاثة فصول، وهي:
1ـ الفصل الأول: ضد الإرهاب الأقرب: في الزمان والمكان.
2ـ الفصل الثاني: قبل قارعة 11 سبتمبر.
3ـ الفصل الثالث: في وجه القارعة ومجابهة مسبباته ومستغليه.
? ما أولويات الناس على هذا الكوكب؟
في مقدمة كتابه تساءل المؤلف: ما أولويات الناس على هذا الكوكب؟ وأكد أنهم مُتفقون على المطلب الأول الجامع الذي يهتف به الجميع، ويجعلونه الرقم (1) في أجندة حياتهم -الخاصة والعامة- هذا المطلب المتقدم المنعقد عليه الإجماع هو (الأمن)، أو (البيئة الآمنة). وأشار إلى أن إجماع الناس على هذا المطلب مؤسس على عقلانية واقعية، هي: أن المطالب الأخرى تفقد قيمتها وطعمها، بل تفقد وجودها الحقيقي والمريح حين تُفقد البيئة الأمنية، أو يضطرب الأمن. (ص6).
بعد ذلك وضَّح المؤلف مفاهيم رأى أهميتها حيث أشار إلى:
1ـ النظرة السطحية المسيطرة على القائمين بمكافحة العنف والإرهاب، ومبعثها -كما يذكر-:
أ - الاغترار بالإجراءات الأمنية؛ بالرغم من أهميتها.
ب- التفسير الناقص والمضطرب للظاهرة. وأظهر هذه التفاسير:
* تعليل العنف والإرهاب بـ(الفقر)، وهذا تعليل غير صحيح بهذا الشمول والاستغراق، فمعظم الفقراء في العالم مسالمون.
* تعليل العنف والإرهاب بـ(غياب الديموقراطية)؛ فالذين يمارسون العنف لا يطالبون بالديموقراطية!!
* تعليل العنف والإرهاب بوجود (مناهج تعليم)، تُعلِّم الناس هذا الانحراف، فلو ثبتت صحة هذا التعليل -يقول الكاتب- لأصيب الخريجون كافة بهذا المرض.. ويبدو أن (الركابي) مشتبه في هذه النتيجة غير المنطقية التي وصل إليها. فلو افترضنا أن مجموعة من الناس، أكلوا وبشكلٍ جماعيٍّ من طعامٍ فاسدٍ؛ فقد نجد منهم من لا يُصاب بالأذى! والسبب بإيجاز: هو وجود مناعة معينة لديه. والأطباء أخبر بهذا الأمر.. والمسألة نفسها تجري على موضوع المناهج، ولكي نُعالج إشكالية (الأدمغة المفخخة) بطريقة صحيحة، علينا أولاً أن نقرَّ بمسبباتها بجرأة وموضوعية، بعيداً عن أية مواربة، أو تبسيط!!
ج- انبنى على التفسيرين السابقين: طَرْق لطيف أو ضعيف للمنطقة الأساس لتصدير العنف والإرهاب: منطقة (الدماغ) أو الذهن والفكر، في حين أنه كان يجب أن تظفر هذه المنطقة بالاهتمام الأول والأعظم والأطول، لأن كل جريمة (إرادية) على الأرض، مسبوقة -تفكيراً وزمناً- بفكرة شريرة في الدماغ. فالفكر الإرهابي هو الجريمة في (مرحلتها الذهنية الجنينية). أما الفعل الإرهابي فهو (الصورة المادية) -المشاهدة والملموسة- لهذا الفكر.
2ـ إن الإعلام العالمي -في معظمه- لم يكن موضوعياً -لا بمعيار المهنة، ولا بمعيار الخلق- وهو يخبر عن العنف ويفسره ويرده إلى مصادره أو مظانه؛ فعقب قارعة سبتمبر كثف الإعلام بثه على هذه المقولة: >إن الإسلام والمسلمين هما مصدر العنف والإرهاب<. في حين ذهب المؤلف إلى أن المصدر الأكبر للعنف والإرهاب هو الغرب؛ فحركات العنف الأربع إنما نبتت في الغرب وهي: الحركة الصهيونية، والحركة الشيوعية، والحركة الفاشية، والحركة النازية.
3ـ بالاستقراء المنهجي، تبين: أن الإسلام هو الدين أو المنهج الأول، والأعلى صوتاً ضد العنف والإرهاب. هذه حقيقة حلوة -حسب المؤلف- حُجِبت عن الرأي العام العالمي، وعن نخبه المعتبرة والمؤثرة. والمسؤول عن هذا التقصير المدمر هم علماء المسلمين ونخب العالم الإسلامي من مفكرين ومثقفين وفنانين وإعلاميين. (ص8-12).
النبي K أعلى صوتاً ضد الغلو والعنف
>مسؤولية النبوة ووظيفتها الأولى: (تبيين الحق) بياناً مفعماً بالوضوح والدقة والكمال والجمال.. و(تبيين ما يضاد الحق)<. بهذه العبارات ابتدأ (الركابي) حديثه؛ ليصل إلى أن النبي K >بيّن اليسر والرحمة والاعتدال واللين والرفق، وبيّن ما يضاد ذلك وهو التشدد والقسوة والغلظة والعنف<، والنقطة الأخيرة هي موضع الشاهد؛ >فالإسلام بكّر بتجريم أول عنف دموي شهدته الأرض، وصدمت به الأسرة البشرية الأولى، وهو (عنف قابيل)<. (ص18).
ولتأكيد أن النبي K كان أعلى صوتاً ضد الغلو والعنف؛ ننتقى بعض التوجيهات التي أوردها المؤلف، من أقوال الحبيب المصطفى K، وهي:
>وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين<. >إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف<. >من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه<.
كما أنه K، كان أعلى صوتاً ضد الذين (يتدينون) على منهج منحرف، ولا يتورعون عن استحلال الدماء المعصومة، بالرغم من تدينهم في كم العبادة وصورها؛ فقال K: >يخرج قوم من أمتي، يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية<. (ص19-21).
وقد قرأنا عبر صفحات التاريخ مصاديق كثيرة تؤيد ما ذهب إليه المؤلف؛ فبعضهم -أشباه المتدينين- كانت {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، ولكنهم لم يتورعوا من بقر بطن امرأة حامل؛ لأنها تُحبُّ أبا الريحانتين، علي بن أبي طالب C! ولعلَّ عبد الرحمن بن ملجم خيرُ مثالٍ لمن يحسب أنه يُحسن صنعاً، إذ كان كثير الذكر، كما ذكر المؤلف؛ لكنه تجرأ على قتل الإمام علي C، وهو في محراب صلاته!
وقد شاهدنا عبر القنوات الفضائية؛ مشاهد لعمليات إرهابية متنوِّعة، تمثلَّت في قتل العشرات من المصلين في مساجدٍ يذكر فيها اسم الله! وحادثة تفجير ضريح الإمام علي C -أيضاً- ليست ببعيدة عن ذاكرتنا! أجل، فخط (الخوارج) وعلى رأسهم (ابن ملجم)، وجد من يتمثَّلُه في هذا العصر، حتى ابتلينا في عواصمنا ومدننا وقرانا المختلفة، بعمليات إرهابية يمجها: الشرع، والعقل، والعاطفة السليمة.
خلاصة القول: >إن نقض الغلو والعنف ورفع الصوت عالياً: إنكاراً وتجريماً لهما (سنة ماضية) سنها النبي، وهي سنة واجبة الاتباع والأداء أبداً<. (ص21). ونحن نتفق مع المؤلف في هذا الأمر(2)، كما أننا نشاطره الرأي حول مسألة (خفوت الصوت) من قبل بعض العلماء، -وإن كنت أُفضِّل عبارة أشباه العلماء!- وإن كانت ثمة بيانات موسمية، أو بيانات بالمناسبة، تصدر وتستنكر وتجرم الغلو والعنف بين الحين والآخر.. فهذه البيانات بالرغم من أهميتها -كما يشير المؤلف- >بيد أن الأمر أعقد وأفدح وأخطر من أن تعالجه بيانات المناسبات. إن المطلوب -بالضبط، وباستمرار- هو (الجهاد العلمي الدائم)، و(النضال الفكري المستمر)، و(المطاردة اليومية المتجددة) للأفكار والمفاهيم المنحرفة عن الدين، والمنحرفة به<. (ص22).
? تحريف مفهوم الجهاد، وتحريف آية السيف!
قبل شروع الباحث في حديثه عن تحريف مفهوم الجهاد، تطرَّق إلى مسألة (عمومية الجهاد في الجنس البشري). فلكل أمة جهادها -بمعنى القتال- وضرب مثالاً لافتاً، يخص الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن مجلس الشيوخ الأمريكي وافق على إنتاج قنابل ذرية صغيرة تعادل كل ثلاث منها: القنبلة التي ضربت بها هيروشيما في اليابان، وأضاف، ومن هنا يتأكد أن مبدأ الجهاد -بمعنى القتال للدفاع- هو مبدأ معقول، ومتقبَّل وواقعي من حيث الأصل. وعاب على المتحدثين -من المسلمين- عن الجهاد بلغة الاعتذار والانكسار والتنصُّل! لأن >سوء التطبيق لا يلغي المبدأ الصحيح<. (ص28-29).
وبعبارة جميلة يقول الركابي: >لا ريب في أن الله تعالى قد عصم النص القرآني من التحريف والتبديل، ولئن عجز مسلمون متنطعون جهال عن تحريف (الكلم عن مواضعه)، فإنهم لم يعجزوا عن (تحريف المعاني والمفاهيم عن مواضعها)<.(ص29-30).
ولذلك شهدنا من >(حرف مفهوم الجهاد) فجعله بطشاً فاجراً، وفتنة عمياء تلغ في الدماء المعصومة، وتخريباً ودماراً وفساداً في الأرض، وتحريضاً على كراهية الإسلام وأمته، وترجيحاً للمفسدة على المصلحة، وفوضى تصادم كل نظام كوني وتشريعي<. (ص30).
وفي لفتة رائعة تحدث الركابي عن تحريف المحرفين؛ لمفهوم الآية الموصوفة بـ(آية السيف)، وهي قوله -عزَّ من قائلٍ-: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. فالبعض يذهب إلى أن >هذه الآية نسخت أكثر من 100 آية من آي القرآن!!<. (ص38). ومن هذه الآيات: آية: لا إكراه في الدين، وآية: لست عليهم بمسيطر! وآية الوفاء بالعقود! والقسط! وجميع آيات الصبر!.. و>بذلك انحرف مفهوم الجهاد عن موضعه عند فريق من المسلمين، فنشأت تصورات مضطربة جداً لعلاقة المسلمين بغير المسلمين< (ص45).
يقول أبو العلاء المعري [363-449هـ]:
وَكَم مِن فَقيهٍ خابِطٍ في ضَلالَةٍ وَحِجَّتُهُ فيها الكِتابُ المُنَزَّلُ
أجل، لقد شُوِّه مفهوم الجهاد بدرجةٍ كبيرة، حتى أصبح التمييز بين المُجاهدين والإرهابيين بحاجةٍ لخبراء ومحللين بمقدورهم فك رموز كل حادثة أو عملية!! ومما يؤسف له أن بعض جماعات العنف السياسي (الإسلاميين) خاصةً، كادوا، وربما نجحوا في تهيئة النفوس، وعلى مستوى عالمي؛ لوسم كل عملية (عنف) أو (إرهاب) بالإسلام والمسلمين، وكأن الإرهاب (ماركة مسجلة) بنا.. وما حادثة تفجير المبنى الاتحادي في (أوكلاهوما) عنَّا ببعيدة!! صحيح أن الغرب (المتصهين) يحيك بنا المكر السيئ، ويُحاول الانتفاع من كل حادثة عنف تجري في العالم لينسبها إلينا، ولكننا -كمسلمين- أعنَّاه على ذلك.
هذه خلاصة رأيي.. بالرغم من اتفاقي مع (الركابي) في كون العنف متعدد الجنسيات، >بل يمكن التقرير -بموضوعية قضائية- أن (البيئة الغربية) هي منبت الإرهاب الخصب، ومصدره الأكبر في العصر الحديث<. (ص48). >يقول (زبغنيو بريجسنكي) -في عالم خارج السيطرة- >لقد انتشرت الجريمة والعنف في المجتمع الأمريكي انتشاراً واسعاً. وما جعل الأمر أسوأ هو السهولة الغريبة في امتلاك الأسلحة الفتاكة، حيث إن المسدسات التي في حوزة الأشخاص، بل حتى في حوزة المجرمين، تزيد عما لدى معظم الجيوش في أنحاء العالم. وكان ذلك نتيجة للثقافة التي تقدمها الأفلام السينمائية والتلفزيون: الثقافة التي تشجع على العنف.. ونجم عن ذلك: نسبة قتلى تفوق أي دولة متحضرة في العالم<. (ص50). >فالسينما (تفخخ) عقول الناس -ولا سيما الناشئة- بمفاهيم العنف<. (ص153).
ومن أوربا، يقول الكاتب البريطاني (جون غراي): >اتجاه أن الإسلام هو مصدر الإرهاب هو اتجاه غربي مزيف للحقائق. ذلك أن فكرة تغيير العالم عن طريق الإرهاب ليست فكرة منبثقة من الإسلام، بل على العكس هي فكرة غربية، فمنذ اليعقوبيين، ومروراً بلينين وستالين إلى منظمة بادر ماينهوف، ظل الغرب يضخ أيديولوجيات، وحركات تقول باستخدام العنف من أجل عالم أفضل<. (ص52).
يذهب (الركابي) للقول بأن >الحركات الثلاث الكبرى العنيفة في القرن الماضي، بل في التاريخ البشري كله، إنما هي (إنتاج غربي):
1ـ فالصهيونية إنتاج أوربي حيث تخمرت هناك ونبتت هناك، وتأسست هناك.
2ـ والحركة الشيوعية، إنتاج أوروبي، وهي حركة قامت على فكر العنف، ومارست العنف على أوسع نطاق... إن فلسفة العنف هذه ذبحت 20 مليون إنسان.. وفي المدة ما بين 1937 إلى 1938، أي في عام واحد أرهب ستالين وقتل مليون إنسان رمياً بالرصاص. يضاف إلى ذلك مليونا آدمي قتلوا في معسكرات العمل.
3ـ الحركة الثالثة الأوروبية الإرهابية هي: الحركة النازية والنبع الأساسي لهذه الحركة هو تمجيد العنصرية، واعتماد العنف سبيلاً لنصرة العنصرية. وبناء عل الفكرة والفعل أشعلت النازية -بالتحالف مع صنوتها الفاشية- الحرب العالمية الثانية التي قتل فيها وشوه أكثر من 30 مليون إنسان<. (ص53-54).
? الأدمغة المفخخة
>رُشّح (الدلفين)، لأن يكون (كائناً مفخخاً)، يُدرب على تتبع الغواصات المعادية، والاحتكاك بها، والانفجار فيها (سرعة الدلفين 44 كم في الساعة + تقبل هذا الحيوان للتوجيه)<.. بهذه الحكاية يستهِّل (الركابي) فكرته ليؤكد على أن >ما يفعل مع الدلفين، يفعل مع الإنسان، ولكن باختلاف اقتضاه الفرق بين الدلفين والإنسان. فالدلفين لا يدري، لأنه لا يعقل، ولذلك كان جسده هو (المنطقة المختارة للتفخيخ)، في حين أن تفخيخ الإنسان، تركز عل (منطقة الدماغ)، وهي منطقة بالغة الحساسية، موفورة القيمة، عالية السيطرة، شديدة التعقيد<. (ص100).
وما التفخيخ المَعْنيّ؟
>الفخ -لغة- هو: المصيدة، فالتفخيخ -من ثم- هو أن (يُجعل الدماغ البشري مصيدة وكميناً) لبلوغ أهداف فكرية أو اجتماعية أو سياسية.. أما (العبوة) في الكمين فهي (أفكار ذات قوة تدميرية) عالية< (ص101).
يتبين مما تقدم أن الكاتب وضع إصبعه على موضع الجرح؛ ليقول لنا:
1ـ إن هناك من يعمل على (تفخيخ الأدمغة البشرية).
2ـ إن هؤلاء يستغلون حالات موجودة من اضطراب التفكير؛ فالاستغلال وظَّف الاستعداد، ولم يوجده.
3ـ في حالة عدم وجود رجّة اضطراب، تعمد جهات لإحداث هذه الرجات، مستخدمة: دراسات نفسية، وتعبئات فكرية، وإحباطات سياسية واقتصادية، وحملات إعلامية عنيفة الوطأة والتأثير، واستدراجاً بالدين.
4ـ كوكبنا هذا يموج بحركة، قوامها أكثر من ستة آلاف مليون إنسان، في تلافيف دماغ كل واحد منهم (أفكار) لا يعلمها أحد.. منها ما هو نواة للعلم والحق والخير والجمال، ومنها ما هو قابل أو مُعَدٌّ للتفخيخ.
5ـ إن تفخيخ الأدمغة، ربما كان بديلاً للحروب، أو لبعض الحروب، وهو -في الوقت نفسه- لا يتطلب أعباء مالية باهضة. (ص101-102).
أما العلاج الذي ينادي به الكاتب؛ فيتلخص في البدء من الدماغ، وقصد بذلك أنه >عمل رشيد متحضر، يجعل مناط أمره: إطلاق طاقة التفكير السوية بوسائط التعليم والثقافة والإعلام. من خلال سيادة المنهج الصحيح العام، بمعنى أن يكون الشعب والحاكم على منهج واحد، يصلح التفكير والاعتقاد والسلوك، ويطيعه الجميع بمحبة ورضا، وأن يكون الرابط بين القيادة والأمة هو رباط العقل والعدل والأخوة والتشاور والتناصح والتناصر والتعاون والتراحم. فهذا هو المناخ الصحي النقي الذي لا تعتل فيه الأدمغة ولا تضطرب<. (ص106-107). >أما محاولة الإصلاح عند المصب فحسب، فهي محفوفة بالخسران والبوار<. (ص246). >وتخطئ حكومات ودول إذا ظنت أن التضييق على الإسلام نهج صحيح في مكافحة الإرهاب الديني، تخطئ لأن هذا النهج غير الذكي وغير السوي ينشئ الإرهاب ويسعره تسعيراً، ولم يكن موجوداً<. (ص148). >والمطلوب هو: ثقافة دينية سوية تغسل العقول من لوثات الإرهاب.. وثقافة علمية تمد حركة التفكير بزاد علمي يعين على استواء التفكير ويجعله (مبدعاً) لا (مبتدعاً) سواء أكان الابتداع في مجال التفكير، أم في مجال العنف والإرهاب<. (ص149). ونحن نتفق مع (الركابي) في هذه الرؤية الواعية.
كما أننا بحاجةٍ إلى دورٍ تنويريٍّ رياديٍّ يمارسه العلماء والمثقفون، على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم و...؛ لأن أمر العنف والتطرف والإرهاب، كأمر القنبلة الموقوتة، فهي عندما تنفجِر تُدمِّر كل ما حولها، إذ ليس بإمكانها أن تُفرِّق بين مسلمٍ ومسيحيٍّ، أو بين متدينٍ وعلمانيٍّ أو بين شيعيٍّ وسنيٍّ... إلخ.
وفي مواجهة الإرهاب -الذي جعلت أمريكا منه شمَّاعة لضرب حركات التحرر وشرفاء الأمم- نحن نأمل -مع الركابي- >صياغة نظام عالمي جديد يقوم على العدل.. الحقيقي<. (ص171). وإلاَّ ستتأزم الأمور وستنذر الأرض قبل السماء بما لا تُحمد عقباه.. فأمريكا التي تدعي مواجهة الإرهاب، ينبغي أن تكتشف أولاً أنها مصدر أولي لتفقيس (صيصان) الإرهاب نتيجة لسياستها المعادية للإسلام والوجود الإسلامي، ونتيجة لتحيزها الكامل للكيان الصهيوني المحتل لأراضي الآخرين بقوة السلاح!!
ونشاطر (الركابي) الرأي بضرورة إيجاد تحديد واضح ومقنن ومشترك لـ(مفهوم الإرهاب)، على أن يستثنى من ذلك الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي. خاصةً وأننا >نصدر في موقفنا من الإرهاب عن (مرجعيتنا) الخاصة، وهي منهج الإسلام<. (ص165). >ومن الملائم -هنا-: إيراد كلام دقيق وصادق وعميق لمفكر يهودي أمريكي هو (نعوم تشومسكي). فقد قال: إن مصطلح الإرهاب يستخدم على نطاق واسع بما يمكن أن يطلق عليه (الإرهاب الجزئي): إرهاب الجماعات الصغيرة، والجماعات المهمشة، ولا يطلق على إرهاب الدولة القوية. ولقد قامت إسرائيل بقصف مقار منظمة التحرير في تونس، وقتلت نحو 75 شخصاً مستخدمة في ذلك قنابل (سمارت). وهذا أمر بغيض تماماً. ولكن نحن نعتبر عنفنا ليس إرهاباً. وإنما نعتبر رد الآخرين هو الإرهاب<. (ص198).
مع تراكم موجات الدخان الأسود، التي غطَّت صدورنا قبل أجوائنا، ثمة بشائر أملٍ تلوح في الأفق، ما دامت عقول العلماء والمثقفين، تضخُّ في أبناء الأمة، الوعي، والكلمة الطيبة، التي تقبل الآخر وتتعايش معه؛ فـ>تعالوا نبني هذا العالم الهادئ الآمن بما قل وكثر من العمل والتفكير والتعبير بالفكرة الرضية الندية.. وبالكلمة الداعية إلى الله اللطيف الودود السلام، وإلى العدل والإنصاف والاعتدال.. وبالسلوك المتسامح.. وبالفعل الرفيق المسالم.. وبالأدمغة النظيفة من التفكير في الإثم والعدوان، الملأى بمفاهيم السلام، والأمن، والمرحمة، ومحبة الخير والأمن للإنسان: كل إنسان<. (ص6).
أكتفي بهذا القدر من الكتابة حول هذا الكتاب المُمتِع، والذي يُعد بحقٍ إضافة مفيدة للمكتبة العربية. ولديَّ ملاحظة فنية بسيطة: الكتاب كان في الأصل جُماع مقالات كما أشار (الركابي) في مقدمته، وبعد أن تحولت هذه المقالات إلى كتابٍ، كان من المستحسن أن توثق معلوماته المقتبسة بطريقة أكاديمية! ففي ذلك فائدة للقرَّاء والباحثين؛ فأنا على سبيل المثال، متشوِّقٌ لقراءة شهادة (نعوم تشومسكي)، -وغيرها من الاقتباسات- من مصدرها الأصلي الذي لا أعلم عنه شيئاً!!
?(1) السيد محمد الشيرازي. الفقه: كتاب النظافة، ط1، (الكويت: هيئة محمد الأمين Kع، 1421هـ)، ص300.
(1) انظر: الفصل الثاني من كتابنا المعنون بـ(هكذا ربَّانا الإمام الشيرازي)، ط1، (بيروت: دار العلوم، 1424هـ).