لا حاجة للمرء إلى كثير من الحفر فيما يكتبه اليوم أنصار الصدام بين الثقافات في الولايات المتحدة الأمريكية، فهو واضح بَيِّن في ملفوظاتهم المفعمة بالكراهية، والاستهتار بذلك النداء الذي ينبعث من قلب إنسانية معذبة، يربض أغلبها على ضفة الجنوب، كشريط ضاج بكل ما هو ممكن وغير ممكن من صور الضحالة، وهذا بالتأكيد لا يحجب عنا ما يكتبه وينادي به أنصار التسامح والحوار في المكان نفسه.
وربما كان ضفيفاً من ذلك النداء الإنساني الذي ينبثق من بين هذا الركام من الكراهية، فيه ما يذكي شيئاً من الأمل عند إنسان الجنوب، الإنسان الذي بدا لهنتنغتون مسلوب الحق في أن يحظى بالديموقراطية أو التنمية، طالما أن الاستقرار هناك يأتي نتيجة الجهل والتخلف والفقر، نحن إذن، على طرفي نقيض.. فما هو منشأ استقرار لهم، هو منشأ اهتزاز عندنا، إن التنمية والديموقراطية والحداثة، هي امتياز عرقي لا شأن لغير الغربيين به، بهذا المعنى علينا أن نخرج من الدورة الاقتصادية العالمية، وعلى المؤسسات الدولية أن تصبح غربية أكثر مما هي أممية، باختصار شديد: إن العالم في نظر هنتنغتون، يجب أن ينقسم عرقياً وثقافياً، وعلى الولايات المتحدة والغرب برمته أن يعزز هذا الانقسام.
أجل، يمكننا أن نلمح ذلك الوجه الآخر في النداء الذي يعزز الأمل المنشود، ولكن لا بد من أن نتساءل: هل هي عملية انتقاء أم هو موقف تقدمه نظرية المؤامرة؟
إن ما يجعل الحديث عن الجانب الأسوأ فيما ينتج هناك، مطلوباً وموضوعياً، أمران:
الأول: كونها مقالات أو تقارير أو أعمالاً مقدمة أصلاً إلى دوائر القرار في السياسة الأمريكية، وهي فضلاً عن ذلك تهدف إلى المساهمة إن لم يكن الفوز بالاستئثار بتكوين رؤية نمطية عن الآخر في الاستراتيجية الأمريكية، الأمر الذي يجعلها أكثر قرباً من فرص التصريف السياسي في شكل تدابير سياسية واقتصادية وعسكرية... ولذا، تبدو قيمة ما يقدمه تفوق غيرها مما لا يجد طريقه إلى حيث دوائر القرار تلك، أو حتى الإمكانات التي من شأنها أن تجعله خطاباً منتعشاً داخل الرأي العام.
تظل أعمال أمثال الراحل إدوارد سعيد أو نعوم تشومسكي على الهامش، فيما يبدو المتن السياسي والإيديولوجي امتيازاً لفئة معروفة بحسها الانزوائي، أو كراهيتها وأصوليتها الثقافية والسياسية في تموقعها من العالم، وهنا تحتل الواجهة أسماء نظير برنار لويس أو هنتنغتون أو فوكوياما، أو فلدمان، أو فريدمان...
الثاني: كونها أفكاراً تروج داخل دولة عظمى لا يجمع بينها سوى خيمياء المصلحة المادية، وهي تستبدل عمق الإحساس بالأوطان وعراقة المنابت، بالاحتفال بالقوة المؤسطرة، دولة الأصوليات بامتياز، الأصولية السياسية والثقافية والدينية...
وقد يكون هذا أمراً طبيعياً بالنسبة لدولة ليس لها تاريخ تستطيع أن تفخر به، بوصفه وطناً تشهد تربته على انبثاق أوائلها، حيث يحتفظ لها التاريخ بأسوء أشكال العنف الذي قام عليه شمل كيانها، كحدث استيطاني استنسخ كياناً أوروبياً جديداً على أنقاض أمة أبيدت عن بكرة أبيها.
وسوف يذكرنا المقال الآتي، بأن الولايات المتحدة، لم تشهد ثورة اجتماعية تصلح نموذجاً لدول الجنوب الآخذة في الحداثة والنمو، بل لقد شهدت حرب استقلال عن الدولة الأم، بعد أن تباينت المصالح فيما بين المستوطنين وآبائهم الأصليين في دول الميتروبول، وعليه، لنا جميعاً أن نتخيل ما يمكن أن يحدث فيما لو استبدت أفكار وعقائد تحتفل بالكراهية في دولة كهذه، تملك اليوم أكبر احتياطي من أسلحة الدمار الشامل، ضد دول تملك أكبر احتياطي للطاقة؟! بل ماذا سوف نتوقع، إن كان المسيطرون على القرار هم من أولئك الذين جمعوا في جعبتهم أقسى الأصوليات الدينية والحنين الذهاني لآرماجيدون، وبين عجرفة المجدفين في بحيرات الذهب الأسود، المتحولين من صيادي الجوائز رعاة البقر التائهين في براري تكساس إلى صيادي جوائز داخل مصارع الاستثمار في الطاقة، أجل، ماذا عسى المرء أن يتوقع فيما لو استبدت مثل هذه الأفكار والمواقف والعقائد بإجماع أمة تمتلك أفتك أسلحة الدمار الشامل؟!
إن التركيز على مثل هذه الخطابات الديماغوجية التي تقوم على نظرية المؤامرة، والتي تفسد على أصحابها أمورهم وتجعلهم لا يعون ما يقولون، حيث تصبح نظرية المؤامرة أحياناً مؤامرة جديدة ضد عقلنا ووعينا، وضد قدرتنا على استيعاب حقيقة ما يجري حولنا... إنه ليس ضرباً من الوفاء لنظرية ندرك ما لها وما عليها، بل هو استباق لما يمكن أن يحدث، إن لم نتوقف عندها ملياً بالتحليل والنقد.
إن إنسانية حرة كريمة، لها أن تثبت وجودها في الجنوب كما في الشمال جديرة بأن تستفزها أفكار ومواقف كتلك التي تجد لها طريقاً إلى سياسات الدول ووعي الرأي العام، تلك هي رسالة الإنسان الخالدة تجاه الإنسان الأخير!.
? النص المترجم: سيرج حليمي
لا يزال كتاب >النظام السياسي في المجتمعات طور الانتقال< المنشور سنة 1968م، لصمويل هنتنغتون، كتاباً للتدريس في الولايات المتحدة، بمثابته كتاباً نموذجياً للعلوم الاجتماعية(1). فهو عمل غني بالدروس بالنسبة لـ Nation Building، بما في ذلك مستشارو جورج بوش.
يرفض الكاتب سذاجة >المثاليين< المراهنين على مدى استعداد شعوب الجنوب لتقليد >النموذج الأمريكي<، وعلى خلاف ما نادى به كل رؤساء الولايات المتحدة، يشرح قائلاً: >ليس هناك غير الشيء اليسير الذي يمكن أن تقدمه التجربة الأمريكية للدول الآخذة في التحديث، فلم تكن الثورة الأمريكية ثورة اجتماعية على غرار الثورة الفرنسية أو الصينية أو المكسيكية أو الكوبية، لقد كانت حرباً للاستقلال، ومع ذلك فهي لم تكن حتى حرباً للاستقلال قادها السكان الأصليون ضد غزاة أجانب، بل لقد كانت حرب المستوطنين ضد دولهم الأم، إن كان ولا بد من عقد مقارنة صحيحة لذلك، فالأولى الحديث عن حرب المستوطنين الفرنسيين ضد الجمهورية، أو الروديسيين ضد المملكة المتحدة<، إنه من الصعوبة أن يبدو المرء قاسياً.
كان هنتنغتون قد دحض، من خلال منحه امتيازاً لدور المؤسسات السياسية، الفكرة التي تقدم بها جون كينيدي -الفكرة التي سيستعيدها بعد ذلك كل من الرئيس كارتر وكلينتون-، مفادها أن التجارة والتعاظم والسلم والديموقراطية تنمو بالتوافق، وعلى عكس من ذلك، يرى هنتنغتون، أن >الحداثة السياسية< ليست بمثابة المتغير في تقويم >التنمية الاقتصادية<، إلا أنه >في الدول الآخذة في التحديث، حيث الحكومة واقعة تحت رحمة مثقفين فوضويين، وضباط عنيدين وطلبة غوغاء<، تغيب السلطة، مما يتيح لـ>الشيوعية< المجال لانتهاز الفرصة.
وسوف تنتهي دراسة هنتنغتون الأكثر حفراً، والقائمة على شلال من الأمثلة والإحصائيات، ومن حيث اشتغالها ابتداء بمسألة >الاستقرار< والنظام الاجتماعي، إلى استنتاج أن الولايات المتحدة ليس لها، قسراً، المصلحة في تشجيع الإقلاع الاقتصادي للدول المحرومة.
إن فكرة كون الفقر هو من يغذي العنف، تبدو مع كل ذلك، فكرة بسيطة بالنسبة لهنتنغتون: >إذا كانت الدول الفقيرة لا تتمتع بالاستقرار، فليس ذلك لأنهم فقراء، بل لأنهم يحاولون أن يصبحوا أغنياء، إن مجتمعاً تقليدياً محضاً، هو في الوقت نفسه مجتمع فقير وجاهل ومستقر<.
لقد استند الكاتب على تصنيفات البنك الدولي التي كانت قد أفادتها خلال تلك الحقبة، النظريات التي كان يحاربها (النظريات التي تربط بين المعركة من أجل >الديموقراطية< والتنمية)، للبرهنة على أن الدول الفقيرة هي الأكثر هدوءاً في الواقع -بمعنى أنها الأقل تهديداً من قبل >الشيوعية<- من تلك الدولة التي ينفجر فيها النمو، وكمثال على ذلك، في سنة 1966م >كان احتمال حدوث ثورة في دول أمريكا اللاتينية غير الفقيرة، يفوق مرتين الدول الفقيرة<.
كذلك لما أطلق كيندي أولئك الشباب >حماة السلام< - (Peace corps)- للانقضاض على أمم العالم الثالث، شارحاً ذلك: >ليس عدونا هو الفقر واليأس والجمود<(2)، لقد بدا نقده من >هارفارد< أكثر ارتياباً من نتائج هذا النوع من التشخيص للمصالح الجيو-استراتيجية الأمريكية.
وفضلاً عن ذلك، لم تكن >الديموقراطية< تمثل شاغله الأساسي، فعلينا دائماً أن نختار: >على غرار الدول الأوروبية في القرن (17)، يمكن أن تتمتع الدول غير الغربية، بالتحديث السياسي أو التعددية الديموقراطية، لكن لا يمكنها تحقيق الأمرين معاً، على وجه عام<. [...] ففي تقرير اللجنة الثلاثية التابعة للدول الغربية سنة 1975م، ظهر هنتنغتون مهووساً إلى حد ما بالنمط الذي يكتب عنه: >إن العملية الفعالة لنظام ديمقراطي ما، يتطلب بشكل عام قدراً من اللامبالاة وعدم المشاركة من قبل بعض الأشخاص والجماعات<(3)، إنه هاهنا يفكر في الولايات المتحدة.
يدافع هنتنغتون عن موقعه الجامعي بقوة، مسلِّماً بفكرة كون الديموقراطية على الطريقة الأمريكية مترتبة عن النمو الاقتصادي تعود إلى أصل القبول بالخصائص التابعة لنظامها، أي إلى علم السياسة. إلا أن البروفيسور في جامعة هارفارد، يرفض أن تصبح هذه الأخيرة منتجاً للاقتصاد وللقوى الاجتماعية شأن هذا الاقتصاد البالغ النشاط.
ونظراً لكونه يمنح الأولوية للبنى السياسية، كان يبدي إعجاباً بلينين، كمنظر للسلطة والاستيلاء عليها، سواء تعلق الأمر بسلطة الحزب أو سلطة الدولة، (وهو هنا يقارن بينه وبين ماديسون)، في الوقت نفسه الذي يسخر فيه من ماركس، >السياسة البدائية<: >إذا كانت الدولة واقعاً، وكما يؤكد الماركسيون، هي >اللجنة المركزية للبرجوازية<، فلن يكون لها بعدئذ كمؤسسة، أي قيمة تذكر...<.
لقد عبرت السطور الأولى من كتاب هنتنغتون عن هاجسه: >إن التمايز السياسي الأكثر أهمية بين الدول، لا يتعلق بأشكال حكوماتهم بقدر ما يتعلق بمستوى حكوماتهم (...) إن للولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفياتي، أشكالاً مختلفة من الحكومات، إلا أنه في جميع هذه البلدان الثلاثة، توجد حكومة تحكم<.
إذا ما تم في تحليلات هنتنغتون استبدال >الشيوعية< بـ>الإسلامية<، سنجدنا أمام استنتاج مفاده أن الولايات المتحدة كانت قد فشلت في أفغانستان وكذا العراق، إنها لم تكثرت أبداً بالمؤسسات السياسية، ولم تبحث عن سبل خلق سلطة وطنية شرعية، لقد فوضت الأمر إلى القبائل والعصب، ورضيت بالعمائية.
لقد أخضعت المستقبل -والسلم المدني- إلى نوع من الإقلاع الاقتصادي المحتمل للدول التي تحتلها، إلا أن هنتنغتون كان قد قدر في 1968م، أن: >الوظيفة السياسية للشيوعية ليست كامنة في قلب السلطة، ولكن وظيفتها تكمن في ملء الفراغ الناجم عن غيابها<.
?(*) Le monde Diplomatique, n 597 Décembre 2003.
(1) Samuel Huntington, Politico order in changing Sociéties, yale university press, 1968, Les citations qui Suivent sont tirées de cet ouvrage
(2) Cité par André Kaspi, Kennedy ou les mille jours d’un président, Armand Colin, Paris, 1993.
(3) Samuel Huntington, the Crisis of Deuocrary, New York university press, New York, 1955.
?