في بادرة استبيانية ثقافية راصدة، تحتشد مكوناتها بتعددية مبتنية على تخصصات عديدة، وخبرات معرفية مترافدة في بعدها الثقافي الجامع، يأتي هذا الجهد الحافز لقراءة نشاطات المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية وفعله المنجز، وضمن قسمات تنامياته الملحوظة، وخصوصيته البيّنة في طبيعة الزمان والمكان، والذي لم يمنع حضوره في تكامل الثقافة العربية والاسلامية الشاملة، مسجلة طبيعتها التشاركية معها في تراتبية زمانية متفاوتة بطبيعة البنى المجتمعية من جهة، وبدايات فعل التعليم الذي بدأ لاحقاً في تناسبه مع الحواضر العربية والاسلامية الأخرى; بالاضافة إلى عوامل أخرى ربما ساهمت في تأخير الفعل الثقافي ضمن انجازه المجتمعي الخاص، وبروزه من جهة أخرى في خارجه الاقليمي.
إلا أن هذه العوامل مجتمعة لم تمنع فعل التأثير الثقافي لمختلف تيارات الفعل المعرفي والايديولوجي التي كانت ولاتزال تحتشد وتمور بها مساحات البلاد العربية والاسلامية وحتى العالم ثالثية، على الأجيال الثقافية المختلفة محلياً، وعلى الأقل في بواكيرها الثقافية، ولقد كان ذلك في ظل غياب الكارزما الثقافية المحلية، وغياب تراكمية فعل النشاط الثقافي الجماهيري الذي بدوره يفي بغرضية تعددية الأنشطة الدافعة لبروز مواهب الابداع الثقافي المتخصص والمحترف، والذي ربما كانت أحد أهم أسباب كمونه وتواريه، هو محدودية مساحة الحرية المتاحة للتعبير، ومحافظة المجتمع في تقاليده وعاداته الذي تصل حد التزّمت في بعضها، والنزوع المفرط لتضخيم الخصوصية المجتمعية، وأخيراً وليس آخراً وفي العقود الثلاثة الماضية فعل الثروة النفطية في جانبها السلبي والذي كان في بعض الأحيان على حساب مضمونية الثقافة وحضورها الأكثر في حياة انسان هذه المنطقة.
المشهد الثقافي بين العام والخاص لماذا يختلف الرأي فيهما؟
ثمة أمر متصل بطبيعة موضوعنا هذا، لابد من الاشارة إليه، وهو مفارقة التمييز الحاد وغير الموضوعي بين قراءتنا لمشهدنا الثقافي الخاص، ولمشهدية ثقافة الأمة، فعندما نقوم بتطلبات وصفية مباشرة، أو نقدية تحليلية، خاصة بالمشهد الثقافي العربي أو الاسلامي عموماً، حتى نقوم بسرد كل معطياتنا البيانية والفكرية المركزة معرفياً، بتوصيف المشهد بالمأزومية والاشكاليات المفتوحة على أفق اللاحل، وتحفل مساحة الثقافة والفكر العربي والاسلامي في حيزها الكبير وخلال العقود الأخيرة، بمشاريع فكرية عالية الطرح الثقافي في المستويين الفردي والجمعي وضمن تيار محدد أو بين تيارات متباينة الطرح في ذلك، حتى بتنا من المصارحة في شأن مكشوف تماماً في أمر ثقافتنا على المستوى العام.
ولكن ما إن يأتي الأمر على شأننا الثقافي المحلي، كل بحسب بلده، حتى تنخفض الأصوات، ويكثر المسكوت عنه، وتغيب الموضوعية لصالح الذاتية بمسوحاتها المغالطة، ويتضخم الشعور بالخصوصية حد الانغلاق والقطيعة عن ثقافتنا الأم، هذا ان لم نصل إلى حد التنافر والتنابذ إلى حدود الاحتراب الفكروي والايديولوجي، ناهيك عن استعراضاتنا المستمرة بانجازاتنا الثقافية حتى الشكلية والقشرية منها، على انها انجازات تفي بغرضنا واحتياجنا، عن كل تواصل ثقافي يأتي من الآخر [أي كان هذا الآخر] ثقافياً، عقائدياً، أيديولوجياً، حضارياً، ولربما اقليمياً حينما تتصاعد الخلافات السياسية بين الدول، فتغلق الحدود في وجه أسماء بعينها، كتباً بعينها، ودور نشر تصدر من دول تتحدد تبعاً لتحالفات بينية في طبيعة تلك الخلافات، وغير ذلك من عقبات التواصل الثقافي الحر، التي تفرزه اشكالية النظر إلى ثقافة الذات المتضخّمة، وثقافة الآخر المنبوذة ضمن محفزات الخصوصية، وحماية الثقافة الوطنية، والتي قد تكون مفتعلة في بعض مراحلها الزمنية أو المكانية.
وهناك جانب آخر يمكن رصده ها هنا أيضاً، وهو اغفال الجانب النقدي لقراءتنا لمشهديتنا الثقافية، وينسحب الأمر على المواطن والمقيم لهذه المشهدية أو تلك، فالسمة العامة لمقروئيتنا هي الوصفية المباشرة، وضمن تنميطات الخطاب الثقافي العام، حتى عندما نكتب أو نتكلم عن ثقافة ذات طابع تخصصي محض، فإننا نطرح ذلك بشكل يشي إلى ضعف رصيدنا الثقافي العام، ويتم الإيغال في عموميات خطابية تبتعد عن الكيفيات لمصلحة الكم العددي الاستعراضي، دون ذكر الماهيات الموضوعية لخطط الثقافة واستراتيجيتها التنموية، والتي تتخذ كمعايير لمداخل النقد الثقافي، والتي تزخم جهدنا النقدي الثقافي بصيرورة الابداع في شتى مجالاته، فبدلاً من كل ذلك نحن لازلنا نسير في خط ثقافي مرسوم في أذهاننا أولاً، بآليات دفاعية موهومة، تسترقق رغد العيش، وضمان السلامة فيما يجب أن نقوم به...! حتى لو كان على حساب أهداف المصلحة العليا لأوطاننا وثقافتنا.
ان حقيقة الاحتراز المستديم، من السقوط في سهو ذكر الحقائق، ومعالجة القضايا الثقافية بكل جرأة، مصحوبة باخلاصنا الواعي لتلك القضايا وحيثياتها المتضامنة مع طبيعة اهتماماتنا الثقافية، وتخصصاتنا العلمية الرافدة لفعلنا النهضوي الشامل; إن حقيقة ذلك الاحتراز والذي فرضته عقود ثقافية يجب أن تكون ماضية، وبرقابة مركزية فرضها طابع بدايات تكوّن الدولة ومفهوم السلطة المركزية فيها، والذي يفترض أنها قد تخففت، هو الذي لازال مهيمناً بكثير من حمولاته الثقيلة، على ظهر حركتنا الثقافية، وفعل سيرورتها المبدعة.
ان هذه المعوقات المزمنة في طبيعة حركتنا الثقافية الخاصة والعامة ـ ومعوقات لابد وان تتضامن مع ما ذكرنا ـ في ذهن القارىء لهذا الموضوع الذي نشارك فيه، ستظل ماثلة بحقيقة محدودية حرية الاجتهاد الفكري والأدبي بمغازاته المتعددة، وبحقيقة الصراع الحاد بين تيارات الثقافة التقليدية، وتيارات التجديد والمعاصرة، خاصة إذا ما تم تغليب مصلحة هذا الصراع لصالح أحدهما، دونما حوارية موضوعية ممكنة، تغربل نتائج ذلك الحوار لفوائد التنمية الثقافية المأمولة.
لماذا غياب النقد؟
يلاحظ من خلال ملامسة ما تم استبيانه في قراءة المشهد الثقافي الراهن في المملكة العربية السعودية، وجود طابع عام لجل القراءات يميل لصالح الوصف المباشر لتلك المشهدية، دون تماس نقدي يستقرئ ما هي عليه فعلاً هذه المشهدية من كيفية ظافرة يجب دفعها نحو المزيد من التحقق، ورصد عوالج الوضع الثقافي وضرورات معالجاته المتوافقة ومتغيرات العصر، وسبل تنمية هذه الثقافة إلى قفزات تتخطى مراحل كثيرة مرجوة.
ان الإقرار بوصول مشهدية ثقافية ما إلى أوجها الثقافي، أو الوصول إلى اصطفافاتها المرجوة بمحدداتها المحلية المتواضعة كمياً وكيفياً، ذلك يعني الحكم عليها بالثبات والركود، وحتى لو ابتهجنا لفعلية وصول ابداع ما، أسماً ما، إلى فضاء ثقافي أوسع.
صحيح بأن السلوك الانساني يصدر دائماً في أغلبه في أشكال وأنماط منتظمة، حد التكرار والتواتر، كما أن الناس في مجتمع معين يميلون إلى التشابه فيما يصدر عنهم من أحكام، يفرضه طبيعة النظام الاجتماعي الذي يعيشون في ظله، كما يقرر الأنثروبولوجيون، إلا أن ذلك لا يعني ضرورة التشابه التام حتى في بنية التصورات الواعية، وفي مزاولة التأمل الثقافي، وقراءة مشهده الواقعي.
إلا أن من اللازم تسجيله، هو أن بعض القراءات لازمتها شحنة نقدية مشوبة بحذر واضح، خاصة في موضوع ضرورة افساح المزيد من هامش حرية التعبير، كما في ورقة الدكتور محمد الرصيص عن الابداع الفني التشكيلي، الذي طالب بضرورة «التخفيف من أعباء الاجراءات الادارية المركزية، المقصودة منها وغير المقصودة»; أما الكاتب والشاعر الاستاذ محمد العلي فقد حدد النقص الثقافي في ساحتنا المحلية هو الحاجة إلى «المزيد من حرية التعبير» بعد أن وصف وفي معرض جوابه عن ما الفرق بين المثقف السعودي والمثقف العربي..؟ فكان جوابه بأن «الفارق الوحيد هو أن المثقف العربي يعلن موقفه في كل القضايا.. أما في ساحتنا فإنه لا يقول رأيه، أي أنه ملاك أخرس.»; كما أكد الاستاذ الشيخ حسن الصفار، إلى ضرورة استدراك القيمة المعنوية لمجالات حرية التعبير الفكري في شتى أوجهه، والتي من شأنها تفعيل انتاجية العقل، وتيسير الابداع;.. وقد أكد الدكتور محمد رحومة وهو مصري الجنسية مقيم في المملكة، على ان المشهد الثقافي والأدبي في السعودية، يعاني من «غياب النقد بشدة.. فهو إما قدح أو مدح، أو ملاحظات جزئية لا تفيد».
فيما أكدت مجموعة من الأصوات النسائية المشاركة في الاستبيان، على أن حظ المرأة من حرية التعبير لازال متواضعاً، وان قررت الدكتورة عزيزة المانع، على أن «الانتاج الفكري لازال وئيداً على صعيد الجنسين، وهذا يعود ـ في نظرها ـ إلى أسباب ثقافية وفكرية تتصل بطبيعة الوضع الاجتماعي»; أما الدكتورة حياة البسام، فقد أكدت على أن عطاء المرأة السعودية في المجالات المختلفة و«بالرغم من العقبات التي تحاول عرقلة سير هذا العطاء، إلا أن دور المرأة برز بشكل فعال، ومازال يعطي الكثير، وسيعطي لو أتيحت له الفرصة التي أتيحت للكاتب الرجل». وأكد الدكتور محمد رحومة الاستاذ بكلية الآداب للبنات بالرياض على «أن الطالبة السعودية الموهوبة أدبياً تبحث عن نوافذ تتيح لموهبتها أن تطل على القراء فهل نمد أيدينا لها...؟!».
فيما لامست قراءات أخرى مواضيع اشكالية أخرى، فلقد سلط الكاتب الناقد محمد العباس على موضوع الابدال والامتثال في الخطاب النقدي المعاصر، مجادلاً إياه في ممكنات حضوره الابدالي ضمن خصائص معرفية قابلة للتفعيل المناهجي داخل دوائر تخصصاته الأكاديمية، بل وداخل حيز الثقافة الاجتماعية القابلة لمفهوم «النقد الثقافي» الذي يتصدره الدكتور عبد الله الغذامي، وغيره ممن اندرج على مبتنيات تيارات النقد الغربي الحديث، وأكد الناقد العباس على ضرورة النأي بعيداً عن ظاهرة الامتثال الثقافي الصريح لممليات الثقافة الغالبة;.. فيما دعى الاستاذ الأديب محمد رضي الشماسي، إلى ضرورة مراجعة المناهج الدراسية، مراجعة تتلائم مع روح العصر، ومتطلبات الحياة، فإن الآراء العلمية تتغير بصورة مطردة، والنظريات يطرأ عليها التبدل والتحول;.. أما الدكتورة عزيزة المانع فأشارات إلى انخفاض الوعي التربوي،.. فالتربية لاتزال تؤخذ باعتبار اكتسابي عفوي، يرثه الفرد ضمن ما يرثه من خصائص اجتماعية، والتي ربما تكون خاطئة، الأمر الذي ربما أسس إلى تخبط وضياع أجيالنا القادمة;.. كما وأشارت الدكتورة المانع إلى خصيصة باتت مستشرية عند طلاب وطالبات المراحل الأكاديمية، وهي الانغلاق الفكري والقصور الثقافي، حيثُ يّوجه كثير من الشباب والشابات جل اهتمامهم إلى أمور سطحية;.. كما ركز الاستاذ الشيخ حسن الصفار على ضرورة الاقرار بطبيعية التمايز الثقافي والمعرفي، وجعله رافداً من روافد تأسيس ظاهرة التعددية، مادامت هذه التعددية في اطار العقيدة الواحدة واللغة والمجتمع الواحد، الأمر الذي يقودنا إلى ضرورة الحوار وحتميته; كما قدمت الدكتورة ثريا العريض تحليلاً نقدياًوافياً لطبيعة المرأة السعودية لامست فيه مختلف قضاياها، وتداخلات البنى النقدية تجاهها، على صعيد الكتابة، وطبية المراحل والأدوار التي مرت في أطوارها تناميات الابداع النسوي في السعودية.
أسئلة المستقبل
وتبقى مدارات الأسئلة الثقافية وملاحظاتها المستبينة، لحقيقة المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، يثيرها زخم ثقافي ملحوظ، بات من الضروري، مروره بمرشحات نقدية فاعلة، تبتني فعل التغيير الاجتماعي بتمفصلاته الواعدة ابداعياً وعلمياً، لتكوين جو ثقافي تسوده صيرورة كيفية، يندغم الكم فيها لمصلحتها القيمية في وعينا الاجتماعي والوطني، دون اغفال لطبيعتنا المجتمعية، وبمقدار النظر الصحي الذي يرقب ضرورة توازننا الثقافي، في المحافظة على عافيته من شوائب عديدة، لاتزال تحفل بها نتوءات الفعل الثقافي، من معوقاته المرئية، وغير المرئية، فتركيبة مشهدنا الثقافي لاتزال لم تصل إلى كلية مسماها الفعلي، ضمن الصياغة الاجتماعية الأكثر نضجاً ووعياً، إذ لازال الاغفال المستشري للكثير من أخاديد الانتاج الثقافي واصداراته قائماً، ومفتعلاً لسبب أو لآخر، ولازال الترقب حذراً لكل جديد يصادم الذوقية الثقافية والاجتماعية السائدة، والذي قد يحفز ردود أفعالها تجاه هذا الانتاج، دون ممكنات نقدية قارئة لذلك العمل من داخله، ومن منظور تخصصي حافل بالتحليل الموضوعي; فأحكامنا يسودها جو من الأحكام القاسية، والتي ربما قمنا بتطويع كل خزيننا القيمي السلبي لأجل هدم بنائية ابداع الآخر، وكل ذلك يكون على حساب قيمة التنمية الثقافية، التي هي هدف الجميع.
لقد خطت بلادنا على الصعيد التنموي الشامل خطوات قياسية، خصوصاً في مجالات تنمية البنى التحتية، واعادة تحديث تلك البنية على أحدث ما توصلت إليه أنظمة الفعل التكنولوجي والفني المصاحب له، وانفتح انسان المنطقة على وفرة معرفية وأخرى اقتصادية هائلة خصوصاً في العقود الثلاثة الماضية، مما أدى بالضرورة، إلى بروز أنساق جديدة في الفعل الاجتماعي، الذي بات مفتوحاً إلى مرشحات ثقافية مغايرة، ربما عصفت ابدالاتها المعرفية بقوة في صياغة السلوكيات العامة والخاصة في ابعاد غير محمودة، بل ومفرطة في استحواذيتها على مجتمعنا المحافظ، وغربلة انساننا في تشيؤ استهلاكي غير محسوب من الناحيتين المعنوية والمادية; كل هذا قد حصل ولازال، دون معالجات دقيقة من الناحية التخصصية في مراكز البحث والأكاديميات، أو على الصعيد الثقافي العام، بالشكل الذي يضمن سلامة مسار مجتمعنا من تحولات غير مرغوبة، قد تفرضها طبيعة بنية التحولات في عالمنا الاشكالي المعاصر...!!