شعار الموقع

الغرب وتاريخ الهيمنة على العالم..ثبات الغاية وتغير الوسيلة

رزفاوي عمر 2005-03-22
عدد القراءات « 864 »

لقد سعت المركزية الغربية بعد بناء نموذجها الحضاري إلى محاولة تصديره إلى مختلف بقاع العالم؛ وقد حصل ذلك فيما عرف بغزو أمريكا عندما أسس المهاجرون الهاربون من نير الكنيسة البروتستانتية مدينتهم الفاضلة على جثث الهنود الحمر والأزتيك وبسواعد الأفارقة السود، هنالك تحول المقهور إلى قاهر والحلم إلى كابوس.

وعلى إثر ذلك انتشى الغرب نشوة لم يسبق لها مثيل، فتحت شهيته لتوسيع مدينته الفاضلة وفرض نموذجه الحضاري ونمطه الثقافي على سائر مناطق العالم كإفريقيا وآسيا، وهو ما أنيط بالحركة الاستعمارية القيام به بعد النجاح العريض الذي لقيه أسلوب الإبادة في (أمريكا) و(الألاند). فسيطرت على مدخرات شعوب الأطراف وثرواتها وتاريخها محاولةً إلحاقها بها حضارياً.

وتكاد تجمع مختلف الدراسات أن وسائل الهيمنة المختلفة - التي سيتم ذكرها في حينها - تشترك في غاية واحدة، غاية إذابة الخصوصيات الحضارية والفوارق الثقافية للآخر المختلف، والتي ما فتئت تتواصل وتتغير بتغير الظروف الزمنية والسياقات التاريخية، التي يظن الغرب أنه يصنعها لوحده.

ولعل ذلك التغير في الوسيلة والإرادة هو ما تتغيا هذه الدراسة الوقوف عليه، بداية بأسلوب الإبادة، ومروراً بالاستشراق والدراسات المقارنة واستغراب المثقف، وصولاً إلى ما بعد الاستشراق والعولمة بمختلف أبعادها وصورها.

1ـ غزو أمريكا وديكتاتورية المدينة الفاضلة

إذا كان نقاد المركزية الغربية ينعتون ما قام به المهاجرون البيوريتان في أمريكا غزواً وإبادة، فإن ممثليها والمدافعين عنها - مهما كان ولاؤهم أو انتماؤهم - يرونه فتحاً وإنجازاً حضارياً، (فتزفيتان تودوروف) - على الرغم من أنه من نقاد ما بعد الحداثة - نعته بالفتح في عنوان كتابه (فتح أمريكا، مسألة الآخر)، وفرانسيس فوكوياما جعل من تلك الإبادة الجماعية للهنود الحمر والأزتيك هديةً قدّمتها أمريكا وشعوبها لمن حملوا الفتح الحضاري، وحولوا تلك الأرض إلى فردوس أرضي، نقلوا من خلاله تلك المخلوقات البدائية إلى مرحلة التحضر، فأمريكا والقول لفوكوياما: “هي آخر بلد يمكن أن يكون فيه للاعتبارات العائلية والعرقية أية أهمية، وهي لم تقم كما يدعي البعض على أشلاء أهلها الأصليين من الهنود الحمر والأزتيك الذين كانوا يذبحون أطفالهم قرابين للآلهة”(1).

ولعل البون شاسع بين أن يقدم الهنود والأزتيك أبناءهم عن طيب خاطر وعن معتقد يؤمنون به، وبين أن يباد شعب بأكمله بدعوى تحضره وتقدمه، وما دامت طبيعة المرحلة تفرض الاختلاف مع الآخر (الغرب) ومحاورة مشروعه الحضاري، فإن ما حدث وتحقق في أمريكا لا يختلف عن جمهورية أفلاطون المتخيلة، فاليوتوبيات البشرية إذا ما ترجمت إلى واقع، تتحول إلى إيديولوجيا قهر تصادر الحريات الفردية فيموت الإنسان، - ولو كان ذلك الموت موتاً رمزياً - فأضحى الإنسان الأوروبي الهارب المقهور فيلسوفاً حاكماً، والأفارقة السود عبيداً يدفعون أرواحهم ثمناً لراحة المهاجر (الضيف). ولا تختلف أمريكا والحال هذه بعد الهجرة الأوروبية إليها عن المجتمع الأثيني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد إذ “إن كل مواطنٍ حرٍّ كان يستمتع بعمل أربعة أرقاء في المتوسط، ولم يكن هؤلاء الأرقاء يستخدمون في الخدمة المنزلية وحدها، بل كان منهم الزرّاع والرعاة ولكن استخدامهم الأكثر شيوعاً كان في مجال الحرف والصناعات اليدوية واستخراج المعادن”(2).

إن تلك الإبادة الجماعية للهنود الحمر والأزتيك، والاستغلال البشع للأفارقة السود. في مناجم الذهب والفحم، ولّدا حقداً دفيناً تغلغل في نفوس تلك الشعوب، وصار تاريخاً مشوّهاً من العلاقات لا يُنسى، ظهر جلياً في ردّ اللاتينيين على سؤال الرئيس الفرنسي (فرانسوا ميتران) إثر مأدبة عشاء صارت في المكسيك، عن العدو الرئيس الذي يهدد وجودهم القومي: “فقال الأوربيون إن عدوهم الرئيس هو الاتحاد السوفياتي، أما اللاتينيون فقد أجمعوا على أن عدوهم هو الولايات المتحدة الأمريكية”(3).

وهكذا أضحى ذلك الأسلوب علامة سيمولوجية تميز الثقافة الغربية والأمريكية اليوم. متغلغلاً في نسيجها الثقافي وماضيها. وبعد هذا كله، هل اكتفى الإنسان الغربي بهذا المنجز الحضاري - كما يدعي - الذي خلف الموت والذبح والإبادة، وترجم الحلم بالفردوس الأرضي إلى بحيرة سابحة بالدماء والقتلى أم أن الانتشاء باللذة كان أبيقورياً، اللذة فيه أقوى من الألم، فتح شهيته لتوسيع مدينته المثالية لتشمل العالم بأسره؟

2ـ الحركة الاستعمارية وترسيخ أسلوب الإبادة

لقد غض الغرب الطرْف عن الثمن المقدَّم لذلك الإنجاز الحضاري المزعوم، فذهب به غروره إلى الاستمرار في اعتماد أسلوب الإبادة واتّباعه، واستنفاد الخيرات والسيطرة على مقدرات الشعوب، وهو الأسلوب الذي فرضته طبيعة المرحلة.

إذن فتوسيع المدينة الفاضلة تكفلت به هذه المرة الحركة الاستعمارية المجيَّشة، قاصدةً الشرق، تحمل معها رسالة الرجل الأبيض الوصي على العالم - المركز - الفاتح - المتحضر - الحر.. الذي فضلته الطبيعة الكونية، واختارته ليكون حامل مشعل الحضارة والتقدم، وسيداً على غيره من شعوب المعمورة التي سيقضى عليها إذا وقفت في وجه إبحار الإنسانية نحو التقدم والرقي في منظور الغرب. فتأكيد الفروقات والتمايزات بين البشر -والقول لمحمد محفوظ-: “هو مسوغ السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب وثرواتها، إذ يبدو ضرورياً خضوع الإنسان البدائي إلى الإنسان الأبيض محتكر الحضارات، والذي يلغي جانباً من تاريخ الشعوب والأمم، ويحمل لواء العولمة والكونية”(4).

وهي الأساس النظري الذي سنّه المفكرون والفلاسفة ليوجّه الإطار العملي لفكرة الهيمنة، فقد كانت حروب القرن العشرين والواحد والعشرين صدىً لذلك الصوت الجدلي الهيغلي، حيث: “كان هيغل يرى في الحروب تجلياتٍ للتاريخ والأفكار والمؤسسات والدول، وكان (ليبتز) الفيلسوف أيضاً قد اقترح في العام 1672م - أي قبل الحملة الفرنسية بحوالي قرن ونصف قرن - على ملك فرنسا لويس الرابع عشر أن يرسل حملة لاحتلال بلاد (الفراعنة) أم العلوم والمركز الأمثل للسيادة على العالم والبحار”(5).

وقد تسلمت ذلك الميراث الثقافي الغربي المؤسسة الاستشراقية التي ظلت مشدودة إلى تلك التوجهات الاستعمارية. فهذا المستشرق (كارادوفو) يقول متحدثاً عن استعمار فرنسا للجزائر: “إن البدوي هو الهندي الأحمر في إفريقيا، ويجب تهيئة المصير نفسه الذي آل إليه الهندي الأحمر أثناء عملية استعمار الرواد لأمريكا، في استعمارنا للجزائر يجب أن يختفي من على وجه الأرض”(6).

3ـ الدراسات الاستشراقية والهيمنة المعرفية بديلاً

اقترنت الدراسات الاستشراقية في بداياتها بالحملة الصليبية، حيث تغيّت الإحاطة الشاملة بكل عنصر من عناصر الحضارة العربية الإسلامية، ممتطية المعرفة اللغوية تارة وعلم الفيللوجيا تارة أخرى: “فكان أن ترجم القرآن الكريم في أسبانيا ضمن هذا السياق تحت إشراف (بيتر المبجل) عام 1143م، غير أن تلك الترجمة كانت أبعد ما تكون من الدقة نتيجة للتعصب الديني الذي أملاها، والذي جعل (بيتر المبجل) يعتبر الترجمة جزءاً متمماً للحملات الصليبية التي كانت قد بدأت عام 1096م”(7).

والحقيقة التي لا مراء فيها أن الفعالية الاستشراقية تعاضدت بوصفها مرحلة تالية مع أهداف الحركة الاستعمارية، التي كانت موجهاً لها ومؤطرةً لغايتها؛ فقد “كان كارادوفو يدعو إلى تمدين شعوب شمال إفريقيا بدمجها في الحضارة الفرنسية. والحق أن هذه الدعوة لم تكن وقفاً على فئة دون أخرى من المستشرقين”(8).

وقد استندت الدراسات الاستشراقية إلى معطيات فلسفية بدءاً بفلسفة (هيغل)، مروراً بنظرية (إرنست رينان) العرقية، وصولاً إلى رؤى (غوتيه)، والتي تصب كلها في التقسيم العرقي لشعوب المعمورة. ومع تجدد تلك الرؤى تم تجديد الأدوات الإجرائية للاستشراق، من المعرفة اللغوية إلى علم الفيللوجيا إلى علم الأنتولوجيا (الأعراق)، فأكد إرنست رينان: “أن كل عرق يحمل خصائصه الثابتة التي تجعل منه عبقرياً. وقد تجعل منه خاملاً غير قادر على الإبداع مطلقاً”(9). فعلم الفيللوجيا - بالنسبة إليه - لا يتأتى إلا لعقول معينة تنتخب طبيعياً، لا شك هي العقول الغربية حيث يقول: “إن فقه اللغة هو في آن واحد مذهب مقارن لا يمتلكه إلا المحدثون، ورمز التفوق الحديث والأوروبي. وكل تقدم حققته الإنسانية منذ القرن الخامس عشر يمكن أن يعزى إلى عقول ينبغي أن نسميها فقه لغوية”(10).

إن العقل الغربي هو العقل الفقه لغوي، أما غيره من العقول فهي دون ذلك، مما يعني - من وجهة نظر رينان - أن العالم المسيحي هو مهد الحضارات وحامل لوائها ومشعلها، في حين أن العوالم الأخرى (العالم الإسلامي) معزولة عن الفعل الحضاري، أو ما يطلق عليه حسن الأمراني الفعل الحضاري، وهي الفروض التي ارتكزت عليها رؤى غوتيه كادّعائه: “أن العقل السامي لا طاقة له على إدراك الجزئيات والمفردات منفصلاً بعضها، أو مجتمعة في غير تناسب ولا انسجام ولا ارتباط. فهو عقل مباعدة وتفريق لا جمع وتأليف”(11). فالعقل الآري هو القادر الوحيد على أن “يؤلف بين الأشياء بواسطة تدريجية، لا يتخطى واحد منها إلى غيره إلا على سلم متداني الدرج لا يكاد يحسن التنقل فيه، فهو عقل جمع ومزج”(12).

فبات الاستشراق والحال هذه تجلياً من تجليات العقل الغربي، وممارسة من ممارساته المعرفية المنتجة عن الشرق، وكشف نمطه الفكري من منظور ما تريده الذات الغربية، التي جعلت من الآخر (الشرق) موضوعاً للدراسة. فهو من منظور المفكر العراقي عبد الله إبراهيم “ضرب من الممارسة الفكرية، التي اقتضتها حاجة العقل الغربي لأن يشمل بـ(كليته) المعطيات الثقافية لـ(الآخر)، وإعادة إنتاجها بما تندرج ضمن ثقافات المركز”(13).

وإذا كان بعض المفكرين يذهبون إلى القول بأن الاستشراق مر بمرحلتين، مرحلة الاستشراق التقليدي، المعتمد على المعرفة اللغوية الهادفة بداية لمعرفة الشرق، والقبض على أسباب مقومات قوته وعلى الأسس التي مكنت الحضارة العربية الإسلامية من الهيمنة لعقود طويلة، ومرحلة استشراق محدث، اعتمد تلك الرؤى والفلسفات على الرغم من إعلان (جاك بيرك) عام 1975م نهاية الاستشراق، مؤكداً أن زمن الاستشراق قد ولّى وانتهى، وأن ما يعقده المستشرقون من مؤتمرات إنما هي مؤتمرات للعلوم الإنسانية.

وبعد ثلاث سنوات كشف الناقد والمفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) - رحمه الله - حقيقة الاستشراق وغاياته ونواياه وأكد موته الحقيقي بتعرية نسقه المضمر. فهو من وجهة نظره “أسلوب معين في الثقافة الغربية في التحدث عن الشرق والبحث فيه وتوظيفه. أسلوب يعكس الثقافة المنتجة أكثر مما يعكس موضوع التأمل أو التخيل أو البحث”(14).

ومع تداعيات المشهد الثقافي العالمي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين والقضاء على العراق، جاءت مراجعة الفعالية الاستشراقية بوصفها ضرورة، بعدما استنفدت وسائلها وتغيرت معطيات الخارطة الجيوبوليتكية للعالم. ذلك ما تشير إليه الكاسحة (ما بعد Post) من دلالة التجاوز والمراجعة للأسس والركائز، التي قادت الاستشراق إلى أزمة في المنهج، جعل (جاك بيرك) يعلن نهايته، وفرضت اعتماد (علم الحفريات) أو المنهجية المتعددة الاختصاصات (اللسانيات - الأنثروبولوجيا - التفكيك..)، التحول الذي استطاع بعض المشتغلين في هذا الحقل إقناع الجهات الرسمية “بما يمكن أن يقدموه من أبحاث وتحاليل وقرارات حول قضايا العالم والفكر الإسلامي، بعد أن فقد هذا الحقل أهميته بمرور الوقت، حتى كاد يصل إلى درجة الإعلان عن نهايته. فجاءت هذه الأوضاع لتعيد له الاعتبار وتبعث له الحياة من جديد”(15).

ويذهب الباحث زكي الميلاد إلى أن ما يسمى ما بعد الاستشراق - الذي يعد اليوم (برنارد لويس) و(دانيال بايبس) من أعلامه - “أكثر تركيزاً وتخصصاً من الاستشراق القديم، حيث يعطي أولويته لدراسة مكونات قدرة الانبعاث والنهوض في الإسلام ومستقبلياته في العالم المعاصر، وظاهرة الحركات الإسلامية وتناميها واتساعها وديناميتها”(16).

لعل دراسة الشرق بالنسبة للغرب، كانت تفرضها حاجة نقل مشروع الخلاص والأنوار الأوروبي، لتهيئة تربة استقباله وانبجاسه، فالشرق الحالم الذي تمتزج فيه أجواء حكايات السندباد الغارقة في الخرافة، بدا كنيسة جديدة تحكم ذلك المكان من العالم وتهيمن عليه، لابد للغرب من التخلص منها فيلحق بفضاء المكان الأمريكي، ويفعل به ما فعل بالهنود الحمر: “إن الشعب العربي لا يعدو أن يكون إذن كالهنود الحمر، وأن حضارة الغرب وحدها جديرة بأن تسود”(17).

4ـ إيديولوجيا الأدب المقارن

لقد بدأت الدراسات المقارنة وهي تتغيا لَـمَّ شتات ذلك المتراكم المعرفي، الذي أنتجته الحقول المعرفية المختلفة، سعياً لتوحيد المعارف والسيطرة على تشعباتها الكثيرة، وتأكيد تلك الفروقات والتمايزات بين منتوج كل أمة من الأمم، انطلاقاً من بيان أو مانفستو الدراسات المقارنة الذي حرره (فرديناند برونيتيير) سنة 1900م قائلاً: “سيؤدي تاريخ الأدب المقارن إلى زيادة الوعي لدى كل منا: فرنسيين وإنجليز وألمان بالخصائص الوطنية المميزة لكتابنا الكبار. إننا نحقق أنفسنا بالتعارض. وتحدد المقارنة أنفسنا بالآخرين، إننا نعرف أنفسنا عندما لا نعرف إلا أنفسنا”(18).

وقد استطاع الأدب المقارن أن يحافظ على هويات الأمم والشعوب، خاصة فيما يتعلق بدحر الهيمنة الفرنسية إبان القرن الثامن عشر، إذ “يمكن اعتبار المؤرخ والمفكر الألماني (هردر) (ت.1803) من أهم مؤيدي هذا الاتجاه، وذلك ضمن مسعاه إلى تحقيق الهوية الثقافية والأدبية الألمانية، في مواجهة الهيمنة الفرنسية لغة وثقافة إبان القرن الثامن عشر”(19).

ومع العصر الحديث تولت الدراسات المقارنة الإسهام في صنع التوحيد والتمركز الغربي حول ذاته، وتمتين تلك الروابط بين الشعوب الأوروبية الحديثة بعد الفرقة التي كرّستها القرون الوسطى وها هو (فرانسوا جوست) يقول: “منذ العصور القديمة كان المثال الأعلى للتعليم (في أوروبا) يسمى الدراسات العامة والمدرسة المناسبة التي أنشئت في العصور الوسطى كان اسمها الجامعة. في القرن العشرين تحولت الجامعة إلى مُفرّقة. ولقد قدّر للمقارنة أن تستعيد وتجدد في ميدان الأدب تلك الروح القديمة محولة الفرقة إلى إجماع”(20).

وعلى الرغم من الاختلاف الماثل بين المدارس المقارنة الفرنسية والأمريكية، إلا أنها تتفق حول مركزية الغرب وتفوقه العرقي، وهو ما يقرّه سعد البازعي وميجان الرويلي قائلَين: “كما أن قواسم الالتقاء بين المدارس (مع بعض الاستثناء للمدرسة الروسية) مهادها ومركزيتها الغربية - أي انتماؤها عن وعي أو لا وعي - إلى الغرب ثقافياً، وما يتضمنه الإحساس بذلك الانتماء غالباً من اختلاف الغرب وتميزه عن غيره من مناطق العالم”(21).

وهكذا ارتبطت الدراسات المقارنة بالإيديولوجيا الغربية فصاغت مفهوم عالمية الأدب انطلاقاً من نظرة التفوق العرقي الغربي وهو المفهوم الذي اتخذ منه الغرب الأوروبي “مقياساً مارس به قمعاً كبيراً على الآداب العربية. تجلّى في عزلتها وفي النظرة إليها نظرة دنيا”(22).

وقد ظهرت تلك الأطر والإيديولوجيات بعد التناقض بين الأطر النظرية للدراسات المقارنة وبين توظيفها. فبعد دعوة (جوته) إلى الانفتاح على الآداب الأخرى في عمليات المقارنة، وظف ذلك المفهوم توظيفاً جغرافوثقافياً يشير إلى أوروبا. فتكرست إيديولوجيا الإقصاء لأدب الأطراف.

ولا يخلو مفهوم العالمية ومعاييرها من الصبغة الإيديولوجية، فاللغة مثلاً -وهي بوابة العالمية- أزيحت من تلك المعايير ما لم تكن مرتبطة بقيمة ثقافية وحضارية. فالصينية وهي أكثر انتشاراً في العالم لا تحقق لأدبٍ كُتِبَ بها أو انتشر بواسطتها العالميةَ، مما يعني أن الفرنسية والإنجليزية هما المعبر إليها دون سواها. فظلت الدراسات المقارنة منحصرة في الآداب الأوروبية على أساس الندّيّة والتساوي، وهو ما تقرّه (سوزان باسنيت) مؤكدة ارتباط الدراسات المقارنة بالتوجهات الاستعمارية قائلة: “إن المقارنين (الأوربيين) ظلوا طوال القرن التاسع عشر يصرّون على أن المقارنة تحدث على محور أفقي بين متساويين، وكانت إحدى نتائج ذلك أن دارسي الأدب المقارن كانوا أميل إلى دراسة الكتّاب الأوروبيين فقط، على أساس أن الكتّاب غير الأورووبيين غير مساويين لنظرائهم في أوروبا، وبالتالي غير مؤهلين للمقارنة”(23).

وتتدرج الناقدة (سوزان باسنيت) ضمن نقاد ما بعد الحداثة، الذين سخّروا أقلامهم لنقد المركزية الغربية الكامنة في مفهوم العالمية - ضمن دراسات ما بعد الكولونيالية - من خلال أعمال (إدوارد سعيد) و(هومي بابا) و(إميلكار كابرال) و(جياتري سيفباك)، على الرغم من أن النقد الموجّه لهم من كونهم ينطلقون من مركزية شرقية داخل إطار أزمة الدراسات الثقافية.

5ـ المثقف العربي.. من المثاقفة إلى المطابقة

لقد استغرب المثقف العربي وهو ينشد المثاقفة والحوار مع الآخر. ونقصد هنا بالاستغراب غير الذي يعنيه حسن حنفي في مشروعه النهضوي، وإنما نقصد ما قصده أدونيس، وهو تكوّن المثقف العربي ثقافياً في الغرب، وتبنّي نمطه الفكري، ونقله إلى وطنه بوصفه المخلّص والمنقذ من حالة الوهن الحضاري، بدايةً بالطهطاوي زمن محمد علي باشا، الذي دفع بالإنسان العربي للاستفادة من منجز الغرب الحضاري في بناء دولة حديثة تجاري أوروبا وتضاهيها، فانطلق في مصر “منذ إرسال الطهطاوي إماماً للبعثات التعليمية إبان حكم محمد علي باشا، وتأسيس جريدة الوقائع المصرية، والقيام بترجمة أعمال رواد التنوير، وإعادة قراءة التراث القديم من منظور التنوير”(24).

وقد كان الطهطاوي -على حد رؤية محمد عمارة- أول نافذة أطل منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية.. ولكن أية نافذة؟ فهل استطاع الطهطاوي أن يتمثل عمق الواقع العربي ويشخصه ويحلله وينقذه ويقدم رؤىً وتصوراتٍ تنتج عنها بدائل للتخلص من الركود الحضاري؟

يذهب كمال عبد اللطيف وهو يتحدث عن الجهود التنويرية إلى القول: “إنها تعبر عن تمزق الوعي العربي أمام واقعه، وأمام تاريخ الفكر الإنساني، وفي إطار زمانيةٍ أوسع تتسم بالهيمنة الغربية، كما تعبر عن جهود الفكر العربي في مقاربة واقعه التاريخي بأساليب النظر الفلسفي”(25).

ولا نشك أن المثقف العربي قد أسهم في تعميم مشروع الأنوار الأوروبي، فالشيخ رفاعة الطهطاوي كان متيقناً “أنه لا يوجد اختلاف كبير بين مبادئ الشرع الإسلامي والمبادئ الخاصة بالقانون الطبيعي التي أقيمت على مقتضاه دساتير أوروبا الحديثة، الذي أدى بالشيخ الطهطاوي إلى إعادة تفسير الشرع الإسلامي في اتجاه التطابق مع المتطلبات الحديثة”(26).

وهي البداية المتعثرة لمشروع الأنوار المأمول، الذي تمثّل أطراً نظريةً ذاتَ انفصالٍ وتناقضُ مع طبيعة الواقع العربي آنذاك، الذي لا يزال قوي الصلة بالشرع الإسلامي، الصلة التي قطعها الطهطاوي ليلحقه بالآخر (الغرب)، عن طريق التمثل الإسقاطي وأوجه المماثلة والمشاكلة. ومن هذا بدأت أزمة المشروع الحضاري العربي كما يؤكد السيد يسين: “إنني أرى أن الأزمة قد وجدت منذ احتكاك الغرب بالعالم العربي مع الحملة الفرنسية التي قادها نابليون؛ إذ حدث انقطاعٌ معرفيٌّ في الاجتهاد التراثي طبقاً للحضارة العربية الإسلامية”(27).

وقد تحرك طه حسين بين مبدأي المقايسة والمماثلة، ممارساً الإلحاق للشرق القريب -وهو ما يصطلح عليه الآن (الشرق الأوسط)- بالغرب وثقافته. ولا نشك أدنى شك في أن المدة التي قضاها في فرنسا قد أثرت في فكر الرجل ووجهته وجعلته يدعو إلى أن “نُشعر الأوروبي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوّم الأشياء كما يقوّمها، ونحكم على الأشياء كما حكم عليها”(28).

وقد قاد دعوة التماهي مع الآخر التيارُ العلماني في اتجاه الليبيرالي، وفي طليعتهم شبلي شميّل وفرح أنطون وسلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين، وهو ما يقول عنه مصطفى محمد الطحان: “فللعالم العربي والإسلامي تجربة مع الرأسمالية الغربية أو (الليبرالية) منذ وقت مبكر. فقد تأثر مفكرو النهضة العربية أمثال رفاعة الطهطاوي ومن بعده علي مبارك وأحمد لطفي السيد وطه حسين وغيرهم.. الذين درسوا في جامعات الغرب تأثروا بالأجواء الغربية. وعادوا إلى مصر (كبرى الدول العربية) يبشرون بالفكر الليبرالي الغربي، كان التناقض صارخاً بين النظرية والتطبيق. الأفكار الغربية المعلبة شيء والتطبيق الميداني شيء آخر”(29).

ورأى هذا التيار في الثقافة الغربية ذلك النموذج -المقدس- المتعالي عن النقد -المركز- الفاعل في العالم. فعمل طه حسين -من وجهة نظر عبد الله إبراهيم- “يندرج في إطار التبشير ليس بالمعنى الدوغمائي لثقافة الغرب. وخاصة بعدها الإنساني دون التدقيق فيما سيؤدي إليه ذلك التبشير”(30).

وخلاصة القول أن الهيمنة الغربية على العالم، ستبقى حلماً تسعى إليه مختلف المؤسسات الغربية ولو تحول ذلك الحلم إلى كابوس، وهو ما نشهده اليوم في الفردوس الموعود الذي يتشكل من خلال المجتمع التقاني، وهي المدينة الفاضلة التي ستتكفل العولمة بتحقيقها ليسودها الإنساني العددي، وتغترب فيها الذات الإنسانية وتتشيأ، بعدما طمحت إلى التواصل والاجتماع، وتبعد منها شعوب الأطراف ويصبح معها الإنسان مسماراً في الروبوت، لا يختلف عن كونه قطعة غيار للآلة في ظل الحداثة والمجتمع الصناعي.

 

الهوامش:

* أستاذ مساعد بقسم الآداب واللغة العربية، جامعة العربي التبسي، تبسة - الجزائر.

(1) فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ترجمة: فؤاد شاهين وجميل قاسم ورضا الشايبي، د. ط، مركز الإنماء القومي، بيروت - لبنان 1993، ص8.

(2) عبد الله محمد الغذامي: رحلة إلى جمهورية النظرية (مقاربات لقراءة وجه أمريكا الثقافي)، ط2، مركز الإنماء الحضاري، دمشق - سوريا 1998م، ص74.

(3) المرجع نفسه، ص75.

(4) محمد محفوظ: نقد المشروع الحضاري الغربي وتحديات العولمة، مجلة الكلمة، ع19، س5، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، بيروت - لبنان 1998م، ص56.

(5) وجيه كوثراني: شمبليون والطهطاوي، ظاهرتان ثقافيتان من تداعيات حملة نابليون، مجلة العربي، ع502، وزارة الإعلام، الكويت، سبتمبر 2000، ص17.

(6) انظر كتاب حسن الأمراني: المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين، ص341.

(7) سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي (إضاءة لأكثر من خمسين تياراً ومصطلحاً نقدياً معاصراً) ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، 2000، ص28.

(8) انظر كتاب حسن الأمراني: المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين، ص220-341.

(9) و(10) و(11) و(12) انظر كتاب حسن الأمراني: المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين، ص220-341.

(13) عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة (تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة) ط1، المركز الثقافي العربي، الرباط - المغرب، 1999، ص171.

(14) سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص31.

(15) زكي الميلاد: تطورات الفكر الإسلامي ومساراته المعاصرة، مجلة الكلمة، ص16.

(16) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(17) انظر كتاب حسن الأمراني: المتنبي في دراسات المستشرقين الفرنسيين، ص341.

(18) انظر سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، ص22-23، 25، 117-118.

(19) و(20) (21) حسن حنفي: الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي، ص222، نقلاً عن إسماعيل زورخي: التنوير في الفكر العربي الحديث، التنوير ومساهمات أخرى، د. ط، منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة قسنطينة، الجزائر، د.ت، ص215.

(22) و(23) حسن حنفي: الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي، ص222، نقلاً عن إسماعيل زورخي: التنوير في الفكر العربي الحديث، التنوير ومساهمات أخرى، د. ط، منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة قسنطينة، الجزائر، د.ت، ص215.

(24) حسن حنفي: الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي، ص222، نقلاً عن إسماعيل زورخي: التنوير في الفكر العربي الحديث، التنوير ومساهمات أخرى، د. ط، منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة قسنطينة، الجزائر، د.ت، ص215.

(25) كمال عبد اللطيف: قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة، ص41-42، نقلاً عن، إسماعيل زورخي: التنوير في الفكر العربي الحديث، التنوير ومساهمات أخرى، ص209.

(26) رفاعة رافع الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر 1991 (من مقدمة الكتاب بقلم الصغير بن عمار).

(27) السيد يسين: ندوة (أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر) مجلة فصول، ع3، م4، الهيئة العامة للكتاب، مصر، إبريل/ مايو/ يونيو 1984، ص206.

(28) طه حسين: المؤلفات الكاملة، ط1، م9، دار الكتاب اللبناني 1973، ص58، نقلاً عن، عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، ص17.

(29) مصطفى محمد الطحان: العولمة وقضية الهوية العربية، مجلة المجتمع الثقافية، ع1312، بيروت - لبنان، ربيع الثاني 1419/1998، ص46.

(30) عبد الله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، ص51.