شعار الموقع

فصل المقال فيما بين الدولة والدعوة من اتصال وانفصال

إدريس هاني 2005-03-22
عدد القراءات « 970 »

يتعين على الناظر في طبيعة “الدولة” ووظيفتها من المنظور الإسلامي، أن يحسن التمييز بين مقامين في الاعتبار. أما الاعتبار الأول، فيتصل بعلاقة الدولة بالعمران، كما فصَّل القول فيها وأطنب، المؤرخ العربي عبد الرحمن بن خلدون. وأما الاعتبار الثاني، فيتصل بعلاقة الدولة بالمنظومة العقائدية والتصورية للجماعة موضوع الدولة ومتعلقها. ويبدو أن ثمة سببين لهذا اللبس الذي انتهى إلى غمز طائفة من المسلمين في أمر الدولة، بوصفها حقيقة موصولة بالاجتماع السياسي، أو حتمية؛ لعلها أبرز الحتميات في تاريخ الاجتماع الإنساني:

السبب الأول: هو أن نشأة الدولة وتأسيسها في التاريخ العربي، كان قد تزامن مع حركة الدعوة وورود الإسلام. حتى ليبدو للناظر، أن الحدث الإسلامي كان هو من أرهص أحداث الدولة في المجتمع العربي.

السبب الثاني: وهو يعزز السبب الأول؛ أن قائد الدولة العربية ومؤسسها هو صاحب الدعوة نفسها.

كلا السببين يريان في الدولة والدعوة أمرين متلازمين. فصاحب الدولة الأول هو صاحب الدعوة الأول. هذا التركيب في الواقع التاريخي للدولة بوصفها ملازمة للدعوة، هو تركيب ظاهري ووهمي. ومتى ما أدركنا أن حقيقة الأمرين في الواقع كونهما منفصلين نحو انفصال، وإن كانت العلقة الوظيفية والتاريخية هاهنا لها حدودها المقررة. وذلك دفعاً لقول المنطقي؛ بأن ما ركب في الخارج، ركب في العقل ولا ينعكس الأمر. فهذه الرؤية الحلولية التي تستبد بالأذهان، لا مصداق لها في اعتبار القاعدة المنطقية، بل إنها خارجة عنها تخصصاً، لجنبة كونها وهماً تسالم عليه طائفة ممن لم يؤتوا دربة النظر في طبائع العمران وسنن الأحوال. إذ إن الناظر في تعاليم صاحب الدولة والدعوة، يدرك أن هذا الأخير لم ينظر إلى الأمرين بعين الوحدة الحلولية، بل بعين التكامل الوظيفي وتوزيع الأدوار. حتى لا يقال: متى ما بادت الدعوة، بادت الدولة أو العكس. فهذه الملازمة التي تبدو صورية، بل ومغالطة أكثر مما هي حقيقية وواقعية، هي ما أدى إلى أن يقال، بأنه متى ما لم تقم دولة الخلافة فلا اعتبار لإسلام الناس، لا بل زاغ بعضهم وبالغ شططاً حد القول، بأنَّ “لا إله إلَّا الله” غاية لا تدرك وليست حقاً متاحاً للنوع في كل حال، أو شهادة جاءت على نحو الإرشاد. وعلى هذا الأساس، قد يُقال: إما الخلافة الإسلامية أو لا يكون الإسلام. ويصبح فرض إقامة الدولة على ذلك المنهاج محل النظر، مطلباً من ذاتيات الشهادة ومقوماتها. فما لم تقم دولتهم على المعايير المذكورة، فهم كفار. ولا بديل للشرذمة طالبة الخلاص والانعتاق من جاهلية مجتمع مسلم لم يقم دولته على صراط مستقيم ـ شهد التاريخ أنها لم تكن كذلك قط ـ أن يقيم دولته في جماعته. وكأن الدولة غاية الإسلام القصوى، لا محض وسيلته الناجعة. ولنتوقف هنا عند الشبهتين:

* التلازم بين الحدثين: الدولة والدعوة

في البدء يبرز السؤال الإشكالي: لو كانت الدولة توقيفية وصناعة إسلامية محضة، فَلِمَ كان الإسلام ضحية لهذا النسق السياسي على طول الخط. كيف حصل التناقض واستفحل بين الدعوة والدولة، حتى بات واضحاً أن الدولة يومها كانت تتطور وفق منطق تاريخي محدد؟ نقول: لا تلازم بين الحدثين، لا من جهة الواقع التاريخي لكليهما، ولا من جهة المقاصد لكليهما أيضاً.

فأما من جهة الواقع التاريخي، فإن الدعوة قامت ولايزال السلطان في الاجتماع العربي، لأولي الشوكة، كل حسب نفوذ وانتشار عصبته أو اتساع رقعة غلبه.

وأما الحاجة إلى الدولة، فقد كانت حاجة اجتماعية وتاريخية منفصلة عن الحاجة إلى الدعوة. ولا يخفى أن “الشرك” الذي استدعى الحاجة إلى الدعوة، يكون مع الدولة أو دونها. ويلزم عنه أن “الإيمان” يكون مع الدولة أو دونها. فليس للدولة مدخلية في اصطناع الإيمان؛ بل هي ظاهرة في حقيقة أمرها، محايدة، ما لم تصبح طرفاً في الإقناع تبشيراً أو إرهاباً. فالناس مسلطون على أذهانهم، أحرار في اصطناع ما شاءت لهم إراداتهم واختياراتهم، دونما إسرافٍ في تقدير حرياتهم بما يصيب الاجتماع ويتهدد أركانه، حيث كل مقدَّر بقدره. ويدفع أيضاً، بأن هذه الملازمة غابت عن دعوات سابقة، حيث قامت الدعوة ولم تقم الدولة. فليس بالضرورة كل نبي هو قائد دولة والعكس يصح. ويضاف إلى ذلك، أن ما اختص به الاجتماع العربي أيام الدعوة، حيث إن المجال بلغ حداً من التوحش المعيق لقيام العمران الملازم لرسوخ الدولة، فرض على صاحب الدعوة، أن يتعدى دور إثارة دفائن العقول إلى تعليم تفاصيل الحياة اليومية، بعد أن عزّ على الاجتماع الوحشي أن يلتقط الإشارة الإرشادية إلى ما يرفع عن كاهله “الوصاية”. فكان محمد (ص) يعلمهم كل شيء حتى “الخراءة” كما ورد في الخبر الصحيح عن سلمان المحمدي الفارسي. لا يخفى أن تعلم “الخراءة” لم يكن من جنس الأحكام التعبدية التي خفيت مناطاتها، أو الجعلية التي لا يستقل بها عقل أو يقرها مبنى العقلاء. ومع ذلك فإنها من التعاليم التي استعصت بما فيه الكفاية، حيث تطلبت جهداً من صاحب الدعوة مضاعفاً تجاه قوم لا عهد لهم بالتمدن، فكان رسول الحقيقة السماوية إليهم، وأيضاً معلماً لهم في كثير من مفردات شؤون دنياهم. بعد أن كانوا في البداوة والتوحش من الرسوخ ما اعترفوا به وسارت به ركبانهم، وهذا ما تمت معالجته في اجتماعيات صاحب المقدمة. فإذا كان أمر “الخراءة” يتطلب من صاحب الدعوة كل هذا الجهد، الذي ما كان له أن يبذله، فيما لو كان بعث في إحدى المدنيات المجاورة، كفارس والروم وما أشبه؛ فأي جهدٍ يا ترى هو المطلوب، فيما لو تعلق الأمر بإنشاء الدولة وتأسيسها. هذه الملازمة التاريخية، في وجه من وجوهها، ناظرة في أوضاع العرب وطبيعة عمرانهم، وعجزهم عن إنشاء دولتهم، التي بها سيقوم تمدنهم، نظراً إلى أن التمدن ظل مطلباً إسلامياً مقدماً للقضاء على شروط النفاق والكفر، التي هي في البداوة أكثر رسوخاً منها في الحواضر ـ {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} ـ، وبعد أن أضحى التعرب بعد الإسلام كفراً بواحاً. فهي في ذلك من باب اللطف، لتقريب الدعوة إلى الناس وليست لجهة طلب الدولة في ذاتها. فمتى ارتفعت الموانع التي لا ترتفع إلا بالدولة، وقلّت الحاجة إليها في الوسيلة، وبقيت الحاجة إليها من جهة مقاصدها التي تتميز بها بوصفها ظاهرة راسخة في العمران المدني.

وأما كون “النبي” ملكاً وصاحب أمر، فذلك يتعين إدراكه بلا واسطة في الإثبات، لكون الاجتهاد في تقصي الأفضلية فيما عداه في المجتمع المؤمن بنبوته، دونه خرط القتاد. فالإيمان باستحقاقه لهذا المنصب ثابت بالضرورة، ما دام أنه فرع لكمال الشخص الذي يعتقد في نبوته. فلا يقال أن النبي (ص) المسدد دونه من هو حقيقٌ بإقامة العدل والقسط بين الناس. وهذا أمر استثنائي، حيث زمان “النبوة” محصور، وأزمنة الفترات والغيبات أوسع وأكبر. فيكون الاجتهاد في غير زمان المعصوم عمدة معرفة الأفضل لسياسة النوع. فإن كان العلم الضروري في الأول يقيني، فهو في الثاني ظنِّي.

وأما التمايز في جهة المقاصد بين الدولة والدعوة فهو تمايز في المادة والصورة، وإن كان ما يشير إلى نحو التقاء في المقاصد القصوى ناشئاً عن علقة عموم وخصوص من وجه.

أما التمايز في المادة، فلا يخفى أن “المجيب” في الدعوة هو الناس كل الناس، سواء أكانوا أفراداً في هذا الوطن أو ذاك. فمادة الدعوة إن كان من جهة “المجيب” فهم الناس كافة، وإن كان من جهة “السائل” فهم أيضاً الناس كافة. وكون الدعوة لا وطن لها، فهي أوسع من تطلبات الدولة في العمران. ذلك لأن حدود الدولة وموادها مستقلة عن حدود الدعوة وموادها.وشروط هذه مستقلة عن شروط تلك. فإذا كانت الجغرافيا والعرق والثقافة والاجتماع موادَّ للدولة وحدودها، فإنها في الدعوة حدودٌ مهملةٌ وموادُّ لا أسَّ ينهض باعتبارها. لا بل، أحيانا تصبح حدوداً مانعةً ومعيقةً للدعوة. وهذا لا يمنع أن تلتقي الدولة والدعوة، متى ما أصبحت حاجة بعضها إلى الآخر من جهة الوظيفة قائمة إلى الدرجة التي يصبح فيها للدعوة مدخلية حاسمة في حفظ حق الإنسان في الإيمان والاعتقاد؛ حيث حماية الحقوق، حقٌّ للمواطن على دولته. وليس ذلك هو الالتقاء الوحيد في المقاصد القصوى بين الدولة والدعوة، بل إذا كان الإنسان من منطلق ماهيته بوصفه إنساناً هو هدف الدعوة وهدف الدولة العادلة؛ فذلك منتهى ما يجعل الدولة والدعوة في مسلك حضاري واحد. وهذا لا يمنع من الإشارة إلى ما شهده تاريخنا من حالات كثيرة تصالحت فيها الدولة مع الدعوة وحالات أخرى تخاصمتا فيه بأعنف العنف.

وأما التمايز من جهة الصورة، فإن طريقة انتظام حدود الدولة ليست كانتظام حدود الدعوة. فإذا كان “الحق” في الدولة يتبع السواد الأعظم وذوي العصبة، فإن “الحق” في الدعوة يتبع الأكفاء، بمقاييس “العلم” لا “الشوكة”. بل إذا كان “قائد” الدولة يفترض فيه جملة شروط، كالصحة والشجاعة والسياسة.. إلى حد التناظر مع السوبرمان، فإن المطلوب من صاحب الدعوة، أن يكون عالماً قوي الحجاج ودرباً في الجدل وسليم البيان، وإن افتقد القوة والشوكة، أو كان من هزال الجسم نظير من وصف من بعض علماء الصحابة، بذي السويقتين.

وأما كون التقائهما في المقاصد القصوى، لجهة علقة العموم والخصوص من وجه؛ هو أن كل “دولة” في نهاية المطاف تحتاج إلى “دعوة” وليس كل “دعوة” تحتاج إلى دولة احتياج ضرورة.

ونزيد دفع التلازم بين الدولة والدعوة وضوحاً، حينما نشير إلى أن هذه الملازمة صارت متوترة مترددة في التاريخ السياسي الإسلامي. بل إن وهم الملازمة -ما بين الدولة والدعوة- خلا مكانه لملازمة جديدة بين الدولة والفتوح.. أو الدولة والخراج.. فكان أن رفض الخليفة العربي، إسلام بعض أهالي البلاد المفتوحة، لأن إسلامهم يحررهم من دفع الجزية. فهم رعايا أهل ذمة أولى له من أن يكونوا رعايا مسلمين. فأين ذلك من غايات الدعوة. هذا مع أن الدعوة أوصلت “الدين” إلى أبعد مما بلغته الدولة؛ أعنى بلوغ الإسلام بلاد الهند والصين..

وفي نهاية الأمر نقول: إن السعي إلى نقض “الدعوة” يُرَدُّ بالدليل والبرهان؛ وسلاحه “الحجاج”. في حين أن السعي لتقويض “الدولة” يُرَدُّ بالقوة والعنف؛ وسلاحه النضال والغلب. وقد بدا ذلك التمايز في مقامين.

ـ أما مقام الإكراه في الدين: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.

ـ وأما مقام الإكراه في الاجتماع؛ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ؛ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}.

إن التمايز في المقاصد ـ مع الإقرار بالتلاقي في المقاصد القصوى برسم عُلقة العموم والخصوص من وجه ـ يبدو واضحاً، مُدرَكاً بالوجدان. فمقاصد الدولة اجتماعية محضة. ومقاصد الدعوة فضلاً عن أنها اجتماعية، فهي تربوية تزكوية.

فمقتضى رسالة النبي (ص) أن يبلغ بالنوع أرقى ما أمكن في مسالك العرفان. فإذا كان المواطنون سواء أمام الدولة في الحقوق، بغض النظر عن اعتقادهم أم بعدهم أو قربهم من الدعوة؛ فإن شخوص الدعوة متفاوتون متميزون. فإذا كان قصد الدولة أن تحمي حقوقك مقابل واجبات تفرضها عليك، فإن قصد الدعوة، أن تحقق لك كل مطالبك الروحية حسب استعداداتك، وترقى بك إلى ما ليس في مقدور الدولة القيام به ولا من اختصاصها، وتطلب منك واجبات، تجعلك مسؤولاً أمام “الله”.

* التلازم بين صاحب الدعوة وصاحب الدولة

قلنا: إنها ملازمة فرضها من جهة، واقع المجال بوصفه متوحشاً. فرض على صاحب الدعوة أن يبذل وسعاً إضافياً لملء فراغ ما غاب من فنونٍ وصنائعَ راسخةٍ في العمران الحضري. فالأمر له ها هنا علاقة بالرشد والاستغناء عن الوصاية.

ومن جهة أخرى، اقتضى أمر الدعوة وسيلةً لجمع شتات هذا العمران وانتشاله من بداوته ليخرج من طوره الأعرابي ـ {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} ـ إلى طوره المدني، ليستوعب منطق دعوة جاءت لتثير للناس دفائن العقول وتبعث فيهم الرشد، وليس لتفرض عليهم وصاية تجعلهم عبئاً ثقيلاً على التعاليم، وليس أن يكونوا هم بنضجهم مطية تفعيلٍ وتحريرٍ للتعاليم.

فالتعاليم جاءت لترفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم لينفذوا من أقطار السماوات والأرض بسلطان عقل، وليستنطقوا قرآناً إنما كان غير ناطق قبل أن يستنطقه الرجال. وليس غايتها، أن تصبح هي نفسها أغلالاً تمنع الإنسان من الانخراط في سنن الكون ومنطق التاريخ والاجتماع. وترتفع تلك الملازمة ـ التي هي ملازمة وظيفية عرضية ـ من أن صاحب الدعوة، بدأ داعياً “لله” وللعدالة الإنسانية، وليس للدولة. ولو كان كذلك، لاستجاب لهم يوم ساوموه على أن يملّكوه عليهم إن كان طالب ملك. فكان أن أعلن فراقاً بين دينه ودينهم. وزاد ذاك الفراق وضوحاً يوم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، لابن عباس بذي قار، وكان يخصف نعله؛ بأن خلافتهم عنده أهون من تلك النعل، إلا أن يقيم بها حقاً ويدفع بها باطلاً.

وكل هذا يضعنا أمام حقيقة كبرى: أن الدعوة جاءت لتحيي الناس، أينما كانوا؛ مع وجود الدولة أو عدمها. وأن الدولة جاءت لتنظم أمور الناس وتحمي حدود الاجتماع..

وقد أردنا بفك هذه الملازمة، أن ندفع شبهة كبرى؛ وهي اعتقاد شرذمة من هذه الأمة، بأن الدولة أمر توقيفي، وجعل شرعي، وليس حقيقة راسخة في منطق العمران. وذهاب آخرين، إلى أن الدعوة تدور مدار الدولة وجوداً وعدماً. فحيثما تعذر أسلمة الدولة أو صياغتها على وفق معايير محددة، عُدَّ الأمر نهاية للإسلام والمسلمين؛ وإعلاناً صريحاً بدخولنا عصر الجاهلية، وبأن المنعتَق كامنٌ في عزلةٍ شعوريةٍ وهجرةٍ للنوع وتكفيرٍ للمحيط. وذهاب آخرين إلى الاهتمام والانهماك بالدعوة وترك الدولة، وكأن هذه الأخيرة لا حقيقة لها في سنّة الأحوال، بدعوى “لا حكم إلا الله”!

على أن تصدي النبي (ص) إلى سياسة الدولة في بداية نشأتها، هو من باب الواجب التكليفي الذي أصبح عينياً دفعاً لضرر أعظم، وهو انفراط العدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن شأنية النبي (ص)، لم تكن هي الحجة في إثبات إمامته بالمعنى الولايتي إلا مع وجود البيعة والرضا. فلو كان منطق القبول بالنبي (ص) بوصفه صاحب دعوة هو نفسه منطق القبول بالنبي (ص) بوصفه صاحب دولة، لكانت الشهادتان ـ وهما عنوان الانقياد لدعوته ـ يكفيان ويغنيان عن البيعة، بوصفها عنواناً إضافياً عن الانقياد لدولته.

وإذا استوعبتَ ذلك، انتقلنا معاً إلى بحث دعوى من يطرح “الخلافة” بديلاً عن واقع الدولة الحديثة والوقوف، باقتضاب، على فساد منتحلي هذه الدعوة. فيدفع هذا بدليلين:

الأول: الدليل التصوري

لا يكفي بحسب تعريف المنطقي إثبات التمايز بين دولة الإسلام ودولة الأغيار. فالتعريف قبل أن يبلغ التمايز، يثبت صورة المعرَّف ـ بفتح الراء ـ في الأذهان. وهذا ما لم يحصل عند دعاة قيام “الخلافة”. فهم لا يملكون تصوراً عنها في منطق زمانها بالأحرى منطق زماننا. وقد رأى المرحوم سيد قطب، بألَّا جدوى من التفصيل في وصف شكل هذه الدولة أو صورتها. معلقاً ذلك إلى حين قيامها.

وإذا كان أقوم التعاريف ما اشتمل على العلل الأربع، فإن تعريف دعاة الخلافة لدولة الخلافة، مما لا يشتمل على كل هذه العلل، أو ربما اشتمل عليها بصورة مغشوشة، كما لو جعلوا الصورة، نماذج تاريخية، لم تحظ بالمشروعية في عصرها بله عصرنا. أو جعلوا الفاعل مطلقَ مَنْ آمن بدعوتهم، بلا شرط، أو جعلوا الآلة عنفاً لا يبقي ولا يذر، أو الغاية تحويل المجتمع إلى سوق للخطابة والوعظ وليس العمل والكدح طلباً لقوة الحداثة. ومع عدم ثبوت صورة المعرَّف ـ بفتح الراء ـ تصبح الدولة الإسلامية في منظور دعاة الخلافة حجاجاً مستداماً وعناداً وعنفاً. حتى أن الدعوة إلى هذا النموذج إن كانت تفتقر إلى تصور في ذهن الدعاة إليه، كيف تنتقل إلى أذهان من ليسوا مستعدين في هذا العالم لسماع ثرثرة أقوام هم مدعوون إلى تأسيس دولتهم، لا على أساس الاستحضار لنماذج مضت، بل ما أحوجهم أن يقيموها على أسس نقد ذاتي لهذه النماذج التاريخية.

الثاني: الدليل التاريخي

كان على دعاة خيار الخلافة أن يجيبوا عن سؤالين:

الأول: هل الحداثة أو الغرب والاستعمار هما سبب مأزق النظام السياسي الإسلامي التاريخي، أم أن الأمر راسخ في صلب تجربتنا. وحتماً لم يكن الشهرستاني صاحب “الملل والنحل” مستشرقاً ولا مؤرخاً للاستعمار، يوم أعلن، بأنه ما استُلَّ سيفٌ في الإسلام على أمر أكثر منه على الخلافة...

الثاني: إذا كان التاريخ السياسي للمسلمين خضع للمقاتل والمجازر، حتى أنه بات أسوأ لهم في زمانهم، فكيف يراد له أن يتحول إلى بديل في عصرنا الموسوم بالنضج والتحرر وشرعة حقوق الإنسان، اللهم إلا أن يخضع إلى النقد؛ فمن قام بذلك حتى الآن؟!

إن شرذمةً من دعاة الخلافة الإسلامية بلا قيد أو شرط، فضلاً عن جهلهم بمنطق الاجتماع والتاريخ، وفضلاً عن عسر تحقيق هذه الخلافة في ظروفهم الراهنة،  مازلوا يتمسكون بأكثر ما فشلنا في تحقيقه تاريخياً. فدولة الإسلام كما ينتظر منها اليوم، ينبغي أن تكون دولةً للعدالة الإنسانية، مستشرفةً نموذجها في المستقبل، لا في الماضي. إنها ليست دولةً للشعارات وللماضي. علما أن النموذج النبوي هو نموذجٌ للمستقبل، وإن أرغمته الشروط التاريخية أن ينعكس على ذاك المثال في اجتماعٍ لَمَّا يبلغ بعد رشده. وبلا شك إن دولة الإسلام المطلوب قيامها، لا علاقة لها بنماذج مضت، ولا بكل البؤس التاريخي الذي كان ولا يزال سبب تخلفنا؛ إنها بالأحرى دولة الإنسان المسلم الحر الكريم النافع المنتفع، وليست دولة المتجبرين والمستكبرين الذين كانوا يقولون في حق مخالفيهم: اقتلوهم بالشبهة والظنة!

وعليه، ما أحوجنا إلى التمسك بما نجحنا في تحقيقه، وأن نطرح ما أخفقنا وأخفق أسلافنا في تحقيقه على طاولة المراجعة والنقد. فالمسلمون اليوم مدعوون ليس إلى مراجعة حاضرهم فحسب، بل هم مضطرون إلى مراجعة تاريخهم، وحسن التقاط إشارات مستقبلهم. من حق المسلمين أن يفكروا في خياراتٍ سياسيةٍ وفق تعاليم إسلامهم وإكراهات أعرافهم. على أن العرف الدولي هو نفسه غدا جزءاً من عرف المسلمين، خلافاً لما كان عليه عهد أسلافهم. على أن تأسيس هذا البديل السياسي لا يحتاج إلى دعوة بالجدال، بل إلى دعوة بالنموذج والحال. فالعالم إن رأى في دنيا المسلمين ما هو مدهشٌ حقاً، ووجد في تدبيرهم لمدينتهم ما ينفع الناس، فسينقاد حتماً لبديلهم، ويلتمس التقدم من دورتهم. ولا يخفى على الحكيم الذي انتظمت الحقائق في ذهنه على النحو الأكمل، أن بديلاً كهذا -يقصد إلى تحرير النوع كل النوع- لن يتشكل في أزمنة المحنة ولجّة الكراهية، ولا في السجن الحربي وليمان طرّة ومعالم في الطريق، ولا في كشمير والشيشان وقندهار... بل هو مخاض أمةٍ بكاملها وإفراز نهضةٍ لا بد من الإعداد لها، ومنتج عقلٍ ناقدٍ متأملٍ تحرّر من الوصاية وبلغ رشده. وليس بعد ذلك إلا القول على لسان علي بن أبي طالب (ع): “فلا يرفع أحدكم صوته فوق أحد من دون حجة. واعلموا أن الظفر لمن احتجّ لا لمن لجّ”.