من التراث إلى الاجتهاد
(الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد)
الكتاب: من التراث إلى الاجتهاد: الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد
الكاتب: زكي الميلاد
الناشر: المركز الثقافي العربي - المغرب
سنة النشر: ط1، 2004م.
الصفحات: 320 صفحة من القطع الكبير
مناقشة التراث والاجتهاد فيه، والحكم له، أو عليه من أولى الخطوات التي تشغل بال المفكر والباحث في الفكر الإسلامي وقضاياه. ولما كان هذا البحث يُعدُّ بحثاً في القديم الجديد، وهو ما يعني السعي الدؤوب والمتواصل للكشف والاكتشاف الدائمين، إن على مستوى الذات الإسلامية من خلال إعادة القراءة لتراثها الفكري والحضاري لا من منظور فلكلوري وحسب، بل من منطلق القراءة لكشف واكتشاف الطاقة الكامنة فيه من أجل تفعيله وتأصيله في مسيرة الإنسان المسلم المعاصر، الواعي والمستوعب لقضايا عصره وما يتطلبه من جدة وإثراء، ومشاركة معرفية، واستشراف مستقبلي لواقع الأمة، وواقع المجتمع البشري بوصفه القابل لتقبل أو رفض هذا المنجز أو ذاك. كما أن هذا الكشف، والاكتشاف يأخذ بالتأصل من خلال ما يختزنه من بعد حضاري يتجلى عبر إزاحة اللثام عن وجهه بالنسبة للآخر، فيتعرف على منجزنا الحضاري والثقافي من خلال ما نعرضه نحن عن هذه المعارف والقيم، لا أن يتحصل عليها من قنوات أخرى، أقل ما يمكن أن يقال عنها: إنها غير حيادية في رسم الصورة وشرحها، كما وأن في إعادة الكشف والاكتشاف للمخزون والطاقة الكامنة في هذا التراث، تُبعد عن كاهلنا ثقل تلك المظلة التي تطلُّ علينا برأسها الكسول، كلما بزغ نجم معرفي لنظرية علمية، أو ابتكار تقني، بقولها: إن هذا موجود لدينا وأنه قد تم طرحه أو الإشارة إليه في القرآن الكريم، أو السنة قبل عدة قرون.
والسؤال الذي يطرح نفسه بكل قوة، أين أصحاب هذا الخطاب قبل هذا الكشف؟، وكيف أنهم لم يفطنوا لوجود هذه الحقيقة العلمية حتى جاء الآخرون ممن ينتسبون لثقافات أخرى فأفصحوا عنها؟ ولِمَ لم يُعيدوا قراءة هذا التراث حتى يُكْفَوا مؤنة بخس الناس أشياءهم، وتبرير العجز عن الاكتشاف والابتكار بأن هذا كان ما يحتضنه تراثنا.
أجل إنها لمفارقة كبرى، ألَّا تلتفت الأمة لمخزونها الفكري والحضاري، حتى يقف الآخر عليه فيستفيد منه بالشكل الذي يصوغه بقالبه الفكري والحضاري، والذي يبدو معه وكأنه من صميم ثقافته وحضارته، تاركاً وراءه كل تلك النادبات لحظها العاثر، والمجترة لماضٍ لن يعود في ظلِّ حالات من الركون لأحلام اليقظة.
وفي ظل المساهمة في إعادة الصياغة والتأهيل الفكري للشخصية الإسلامية المعاصرة، حاول الأستاذ الميلاد معالجة الكثير من هذه القضايا والمفاهيم، بشكل مكثف ودقيق في كتابه المعنون: من التراث إلى الاجتهاد (الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد)
وجاء هذا الكتاب في مقدمة، تمثل خارطة لهيكل ومحتوى الكتاب الذي تبلور في أحد عشر فصلاً حملت العناوين التالية:
الفصل الأول: الفكر الإسلامي في العصر الوسيط من الغزالي إلى ابن تيمية.
الفصل الثاني: السيد جمال الدين الأفغاني وتطور الفكر الإسلامي الحديث.
الفصل الثالث: الشيخ محمد عبده وإصلاح الفكر الديني.
الفصل الرابع: عبدالرحمن الكواكبي وفلسفة النهضة والاستبداد.
الفصل الخامس: الشيخ محمد رشيد رضا ومآلات الفكر الإسلامي الحديث.
الفصل السادس: السيد محمد باقر الصدر وبناء التصور الإسلامي الشامل.
الفصل السابع: الشيخ مرتضى المطهري وإحياء الفكر الديني.
الفصل الثامن: الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتجديد الفكر الديني.
الفصل التاسع: إشكالية التراث بين المعرفة والمنهج.
الفصل العاشر: الحداثة والاجتهاد هل توجد حداثة إسلامية؟.
الفصل الحادي عشر: الفكر الإسلامي الجديد، ملامح وقضايا.
* عناوين وموضوعات
واضح كما هو متجلٍّ في سياق العناوين والموضوعات السابقة، أنها لم تكن مقصودة لذاتها بل هي نتاج عمل تراكمي تحصّل للأستاذ الميلاد من خلال "ندوات وحلقات دراسية وأكاديمية، قام بتنظيمها والإشراف العلمي عليها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، في إطار برنامجه البحثي حول دراسة تجارب حركات الإصلاح والتغيير، ص 5". كما حاول المؤلف في كتابه الماثل بين أيدينا "أن يتتبع أزمنة فكرية تنتمي إلى أربعة عصور أو مراحل تاريخية، زمن ينتمي إلى العصر الوسيط، وزمن ينتمي إلى العصر الحديث، وزمن ينتمي إلى ما بعد قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، وزمن ينتمي إلى تحولات العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ص 5".
ونظراً لحيوية الموضوعات التي جاء بها الكتاب، ومن منطلق الرؤية التي حاول المؤلف تأصيلها بغية تبيان رؤيته للمشهد الثقافي في الفكر الإسلامي في شقي الإصلاح، والتجديد، لذا فسوف نقف على رؤية المؤلف تلك من خلال الفصول الثلاثة الأخيرة، وذلك لمسوغات نعرض لها في ختام عرض هذه الفصول الثلاثة.
* الفصل التاسع: إشكالية التراث، بين المعرفة والمنهج
تحت هذا الموضوع، ناقش الأستاذ الميلاد بحثه في عناوين خمسة هي:
(1) قيمة التراث في المنظور الإسلامي العام
وفيه تحدث عن "قيمة التراث معرفياً من حيث نشأته وتكونّه في الإطار الزمني الإسلامي من جهتين: الأولى من جهة علاقته بالوحي، الذي كان إطاراً مرجعياً وثيق الارتباط به...، (منبهاً في الوقت نفسه إلى أن)، "التراث الفكري والعلمي الإسلامي كان متصلاً ومتفاعلاً بمرجعية الوحي، إلى درجة يختلط في أذهان البعض عدم إمكانية التمايز بينهما، وهي الإشكالية الملتبسة التي أضفت صفة القداسة على التراث. في حين أن التراث له صفة المنجز النسبي والمتغير، الذي يقبل الصواب والخطأ، وموافقة الحق والواقع أو مخالفتهما. والوحي له صفة التنزيل الإلهي، المطلق والثابت، الذي لا يقبل إلا الصواب وموافقة الحق والصواب، ص 241". لذا كان من الضروري من وجهة نظر الأستاذ الميلاد "فصل الخطاب أولاً حول هذه الإشكالية كمدخل منهجي في معالجة هذه القضية، لرفع سوء الفهم والالتباس، ص 241". أما عن الجهة الثانية، فقد تناول علاقة التراث بالحضارة، التي نهض بها المسلمون، (وذلك لأن التراث) الإسلامي تراث حضارة لها عبقريتها وابتكاراتها واكتشافاتها التي استفادت وتعلمت منها البشرية، بما في ذلك حضارة الغرب المعاصر، ص 241". ويرى الميلاد، أن "هذا التصنيف لا يعني الفصل أو القطيعة بين هذين الإطارين أو الحقلين من المعارف والعلوم، لأن التصور الإسلامي يرتكز على الوحدة النسقية للعلوم الناشئة من التصور التوحيدي الإلهي إلى هذا العالم، الوحدة النسقية هي وراء ترابط العلوم وتفاعل علاقاتها وتداخل نظمها المعرفية وطرائقها المنهاجية، ص 242".
(2) التراث من منظور تاريخي وتأصيلي
وفي هذا المبحث، شخص الأستاذ الميلاد ثلاث مفردات ذات منظور تاريخي عَدَّها ضرورية ومهمة في عملية الفهم والتأسيس. فـ"هذا المنظور التاريخي يمكن النظر إليه على أنه تبلور متزامن مع ظهور الإسلام كرسالة إلهية ناسخة لما قبلها من الرسالات السماوية وخاتمة لها أيضاً، ص 243". وهذه المفردات، أو المقولات هي:
"الأولى من الخطاب القرآني وهي مقولة {اقرأ}، والثانية من الخطاب النبوي وهي مقولة "التتميم"، التي وردت في الحديث النبوي "إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق"، والثالثة من الخطاب التاريخي وهي مقولة "الجاهلية". ومن هذه المقولات تحددت ثلاثة مفاهيم أساسية في العلاقة بالتراث والثقافات ومنظومات القيم، وهي: القطيعة، والتواصل، والتجديد. بدأت تنازلياً وانتهت تصاعدياً، ص 243".
فمقولة "الجاهلية" فقد "جاءت لكي تعبر عن القطيعة المعرفية والتاريخية والقيمية لمرحلة زمنية ينبغي الانقطاع عنها، والانعطاف عليها، وعدم الانطلاق منها، ص 243".
أما مقولة "التتميم" "فهي تعطي معنى التواصل والاتصالية في نطاق مكارم الأخلاق، وهي الفضائل والآداب والنظم والأعراف وكل النماذج الحميدة والنافعة للإنسان والجماعة والأمة والدولة، التي تبقى خالدة مع الإنسان في كل مراحله وأطواره وأزمنته،... وهذه المكارم لا تنحصر بالشرائع والرسالات السماوية، وإنما لها خاصية التعميم بما يشمل جميع المكارم الحميدة في المجتمعات الإنسانية كافة، ص 244".
ومقولة {اقرأ}، هي دعوة إلى العلم، وأن الدين دعا إلى العلم قبل دعوته لأي شيء آخر، لأن كل شيء في الإسلام يبدأ من العلم ويتأسس عليه، وكل دعوة إلى العلم هي دعوة للابتكار والتجديد والتطوير. ص 244". وقد خلص الأستاذ الميلاد، إلى أن "هذه المقولات الثلاث في ترابطها وتكاملها، هي أشبه ما تكون بقوانين المنهجية، فالقطيعة قاعدة نسبية مع وجود قاعدة التواصل، والتواصل قاعدة نسبية مع وجود قاعدة القطيعة، ولا تكفي القطيعة والتواصل بل بحاجة إلى قاعدة التجديد، ص 244".
وعلى هذا وبحسب رأي الأستاذ الميلاد "تتحدد العلاقة العامة والكلية بالتراث، فهناك الجانب الميت من التراث الذي انقطعت صلته بالزمن، فتصدق عليه قاعدة القطيعة. وهناك الجانب الحي من التراث الذي يحتفظ بصلته بالزمن، وتصدق عليه قاعدة التواصل. وهناك الجانب الذي بحاجة إلى الابتكار والاكتشاف وتصدق عليه قاعدة التجديد، ص 244".
(3) التراث من منظور راهن
يرى الأستاذ الميلاد، بأن المنظور الراهن لمسألة التراث لا يمثل مشكلة أو إشكالية عند الأمم والمجتمعات غير المتحضرة، وبالذات تلك المجتمعات التي مرت بتاريخ من التقدم والتمدن وافتقدته فيما بعد، فيتحول عندها إلى ذاكرة للتمجيد، وتاريخ للتعظيم، وإلى ذهنية تجعلها تنظر إلى الوراء لإشباع رغبتها في التقدم. وهذا التراث من وجهة نظر الأستاذ الميلاد، لا يتحول إلى همّ وقضية في الغالب إلا في حالة التفكير بالنهوض والتقدم، التقدم الذي يستحضر معه التراث، ويعيد قراءته من منظور مختلف. على خلاف الأمم والمجتمعات المتقدمة فإنها لا تواجه مشكلة أو إشكالية حول التراث، لأن التقدم الناجز والتمدن الذي وصلت إليه هذه الأمم يفترض منها أنها هضمت تراثها وتجاوزته، أو طورت ما هو أفضل منه، لذلك فإن التفكير والاهتمام عند هذه الأمم ينصرف في الغالب إلى قضايا الحاضر والمستقبل.
مشيراً في الوقت نفسه، إلى أن نظرة الأمم لقضية التراث تتغير وتتبدل حسب حركتها في اتجاهات التقدم والتمدن، فمع كل تقدم أو تطور تتجدد نظرة الأمم إلى التراث، لأن التقدم يفرض ذهنيته ومنظوره، وحتى سيطرته وقدرته التي يغلبها على أي منظور آخر، ص 245.
أما عند النظر المعرفي حسب قول الميلاد إلى مشكلة التراث، فإنه يمكن تحديدها في جانبين: الأول، ويرتبط بمشكلة مفهوم التاريخ، والثاني يرتبط بمشكلة الثقافة. فلأن التراث ينتسب إلى الماضي فتتحدد علاقته بالتاريخ، ولأن التراث من جهة أخرى في جدلية سجالية ومستمرة مع حركة العصر فتتحدد علاقته بالثقافة. فالتراث بمنظور تاريخي هو لإخراجه من اللاتاريخية، ومن اللازمني إلى الزمني، ومن السكون إلى الحركة، ومن الاحتباس في الماضي إلى الانطلاق نحو الحاضر والمستقبل. ولهذا الغرض جاءت فلسفة التاريخ التي جعلت النظر إلى التاريخ متصلاً في حركيته وقوانينه بأبعاد الزمن في الحاضر والمستقبل، ص 246.
أما عن علاقة التراث بمشكلة الثقافة، فإن طبيعة الفهم الذي يتشكل حول التراث يجد مرجعيته في الثقافة التي تمثل منظور الرؤية، فهي التي تحدد وجهة العلاقة بالحياة والعصر والعالم، ومن هنا منشأ جدلية العلاقة بين التراث والعصر. أما بخصوص مشكلة الثقافة السائدة كما شخصها الأستاذ الميلاد، في العالم العربي والإسلامي أنها لم تستطع أن تكوِّن رؤية متوازنة وفاعلة بين التراث والعصر، وهي سبب الإرباك في طبيعة الفهم المتشكل حول التراث ومنهجية التعامل معه. فكل تفكير في التراث هو تفكير في الثقافة، وكل تجديد في الثقافة يحدث تغيراً في التراث ص 247، ص 248.
(4) الخطابات العربية المعاصرة والتراث
وفي هذا المبحث، سلط الأستاذ الميلاد النظر المركَّز في السياق التاريخي من خلال الخطابات العربية المعاصرة للتراث، مشيراً إلى هذه المفردة (التراث)، وبما تحمله من مخزون فكري ومعرفي، واجتماعي، "تشهد على تحولات الخطابات الفكرية العربية المعاصرة، بمشاربها واتجاهاتها المختلفة، ص 248"، مستعرضاً لرأي طه حسين من خلال كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، وكذلك الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي)، مروراً بمقولة الجابري في كتابه (التراث والحداثة)، وغير واحد من المفكرين، والكتَّاب الذين تناولوا هذه المفردة بالبحث والدراسة. فهكذا كما يرى الأستاذ الميلاد "تتعدد القراءات وتتصادم التفسيرات بحسب طبيعة الفهم المتشكل حول التراث، وبين من يرى فيه منطلقاً للنهضة، وبين من يرى فيه نكوصاً وارتداداً وتراجعاً. ومع ذلك فقد أجمعت الخطابات العربية المعاصرة على ضرورة قراءة التراث ومراجعته واكتشافه، لإغراض وحاجات كانت في الأغلب توظيفية وإسقاطية أكثر من كونها معرفية وموضوعية، نتيجة المنطلقات الأيديولوجية الضاغطة والمهيمنة على تلك الخطابات، ص 250".
هذا وقد ذكر الأستاذ الميلاد، ثلاث قراءات ومنهجيات في "تصور تلك الخطابات العربية لقراءة التراث بنظرة عصرية أو حداثية، ص 253". موضحاً بأن هذه القراءات "جميعها لم تسلم من النقد الصارم. لكنها تأكدت عندها قيمة التراث، وازدادت إدراكاً لأهميته وفاعليته، ص 255". وتتمثل هذه القراءات في:
أولاً: ويتمثل بمن يرى "أن القراءة العصرية للتراث تتحقق بواسطة تطبيق المنهجيات الحديثة، مثل البنيوية والتفكيكية والألسنية، والأنثروبولوجيا، ومناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية عموماً (كما عند) محمد أركون، ص 253".
ثانياً: ويتمثل بمن "يرى بأن القراءة للتراث تتحقق عن طريق الفهم الحداثي للتراث، وتجاوز الفهم التراثي للتراث (كما عند) الجابري، ص 254".
ثالثاً: يرى هذا الاتجاه "بأن معيارية المعاصرة هو أن تكون حاجاتنا الراهنة هي التي على ضوئها نحدد ماذا نأخذ من التراث؟ وماذا نرفض؟ (كما هو في رأي) فهمي جدعان، ص 254".
(5) الخطابات الإسلامية المعاصرة والتراث
في طريق موازي لتتبع الخطابات العربية المعاصرة للتراث، أخذ الأستاذ الميلاد في كشف النقاب عن الصيغة الواردة في تصور الخطاب الإسلامي حيال هذه المفردة (التراث)، جاعلاً من ممارسة النقد الذاتي لهذه التجربة بوصفه كاتباً مشتغلاً بقضايا الفكر الإسلامي، ومنتمياً لهذه المدرسة، منطلقاً أصيلاً في بحثه لهذا المحور فأوضح بكل جرأة ووضوح دونما مواربة بأن "الخطابات الإسلامية المعاصرة ليست أفضل حالاً من الخطابات العربية في تعاملها مع التراث، فقد اعترضتها إشكاليات ووقعت في معضلات، ولم تظهر تقدماً كبيراً متميزاً في قراءتها لهذه القضية، أو تنجز إبداعاً مهماً يطور من عمليات الفهم، أو منهجيات التعامل، أو طرائق الكشف والاستفادة من هذه المسألة، ص 255 ص 256". وأنها تتصف في "رؤيتها بالدفاعية في مواجهة ما يتعرض له التراث الإسلامي من نقد وتشكيك وتشريح من بعض الخطابات العربية، أو من بعض المستشرقين، ص 256". وكذلك "تعزيز الحالة الفِرقية أو التطهير المذهبي والنقاء الطائفي، فكل طائفة تشتغل بتراثها، وأصحاب كل مذهب لا يتوجهون إلا للتراث الذي يتصل بهم إلى أن تضيقت الدائرة وأصبح الاهتمام ينصب على تراث الجماعة أو الفئة،... ص 257".
ومن أجل الخروج برؤية كاملة وتكاملية في صياغة الخطاب الإسلامي المعاصر للتراث، يطرح الأستاذ الميلاد مجموعة من الرؤى والتصورات يلخصها في الأسس والقواعد التالية:
أولاً: ضرورة الانطلاق من بلورة المنظور المعرفي الذي على ضوئه تتحدد المقاصد والغايات من النظر إلى التراث، وهكذا الحاجات المعرفية والمنهجية التي ترتبط بالتراث في زمنه الماضي، وبعلاقته بحياتنا المعاصرة، وبنظرتنا إلى المستقبل. فالخطابات الإسلامية مع أنها تولي اهتماماً كبيراً بالتراث، إلا أنها لم تولِ قدراً كبيراً من الاهتمام في بلورة منظور معرفي تتشكل على أساسه مناهج التعامل والنظر، وهذا من أشد ما ينقص هذه الخطابات في تعاملها مع التراث، ص 257.
ثانياً: إن المشكلة ليست في التراث، وإنما في طرائق تكوينات الفهم لهذا التراث. لذلك فإن الانطلاق من المنهجية والنظر المعرفي هو المدخل السليم في التعامل مع التراث. والفرق (كما يشير الميلاد)، بين المنهجية والنظام المعرفي، أن المنهجية ترتبط بآليات وأدوات وطرائق التعامل المباشر مع التراث، في حين أن النظام المعرفي المرتبط بالمقاصد والغايات والاتجاهات العامة هو الحاكم والضابط للمنهجية، ص 258.
ثالثاً: إن التعامل الحيوي والفاعل مع التراث يتلازم مع طبيعة الفهم الذي يتشكل عن العصر وطرائق التعامل معه. فسؤال التراث هو سؤال المعاصرة، وسؤال المعاصرة يفترض ألَّا ينفصل عن سؤال التراث، بهذا الفهم ينبغي أن تتحرك هذه الجدلية. فليس من الصواب النظر إلى التراث لأجل التراث، ولا النظر إلى المعاصرة على أساس القطيعة مع التراث، ص 258.
رابعاً: الانفتاح على مجموع التراث الإسلامي، والتواصل مع كل تنوعاته وتعددياته، وليس الانحياز أو التعامل الفرقي والمذهبي أو المعرفي القومي، وتجاوز الانغلاق والقطيعة والإقصاء لتراث الآخر. فلا ينبغي أن يفرض التراث سلطته علينا، بل ينبغي أن نفرض عليه سلطة العلم والمنطق العلمي والبحث عن الحقيقة، ص 258.
خامساً: التعامل النقدي مع التراث. وذلك بألَّا "نسلم بكل التراث الذي وصل إلينا، وما وصل إلينا ليس بالضرورة هو كل ما لدينا، أو أفضل ما لدينا، ص 259".
سادساً: الاستفادة من منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية... بحيث يمكن الجزم بأن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أي محاولة في التعامل مع التراث منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية، ص 260.
سابعاً: الموضوعية والمعقولية،... فلا بد أولاً من فهم التراث كما هو في سياقاته التاريخية، وطبيعة ظروفه ووضعياته، وبقدر ما نملك من أدوات في توصيف التراث وتحديده والكشف عنه والتعريف به، بقدر ما تتوافر لنا القدرة على تفسيره وتعقله وإدراك موقعه ومكانته من الواقع الذي نحن عليه من العصر الذي نعيشه، ص 260 ص 261.
أما المستخلصات التي كشفت عنها قضية (التراث)، فهي كما أوضحها الميلاد في النقاط الخمس الآتية:
النقطة الأولى: إن التراث الإسلامي ما زال يحافظ على قيمته وفاعليته وحضوره في حياتنا الفكرية المعاصرة، وفي تشكيل مفاهيمنا وأفكارنا، وفي تكوين خطاباتنا ومنظوماتنا، ص 261.
النقطة الثانية: إن التراث الإسلامي يمثل أحد أهم مكونات شخصية الأمة وهويتها ووجدانها وذاكرتها وحتى عقليتها، ص 261.
النقطة الثالثة: إن النهوض والتقدم لا يتحقق في أية أمة من الأمم إلا من خلال الانتظام في تراثها والتواصل معه، لا بالانقطاع عنه أو الانتظام في تراث أمة أخرى، مهما كانت عظمة تلك الأمة المُتَّبَعة، ودرجة تقدمها وتطورها، ص 261.
النقطة الرابعة: ضرورة إعادة الارتباط والتواصل بالتراكمات والمنجزات العلمية والفكرية والحضارية للمسلمين، والانطلاق منها نحو إبداعات وعطاءات جديدة،... هذا التراث العلمي هو من أكثر أنواع التراث قيمة وأهمية، وأكثرها حاجة وضرورة للإحياء والاستكشاف والاطلاع عليه، ص 262.
النقطة الخامسة: وتتمحور حول "بروز وتسارع العولمة الكاسح (مما أظهرت) تخوفات حقيقية على هويات الأمم والشعوب وتراثها وتاريخها أمام مخاطر الذوبان والانصهار أو الاستتباع والاستلحاق، مع محاولات فرض الاتجاه الواحد مع ما يطلق عليه بعولمة الثقافة. لذلك فقد تزايد الحديث وبصورة اقترانية بين العولمة والهوية، وعلى نطاق عالمي واسع يشمل العديد من المجتمعات والشعوب والحضارات. ويبقى التحدي (كما عبّر عنه الميلاد) كيف نعبر من التراث إلى العصر؟ ومن الماضي إلى المستقبل؟ ص 262.
* الفصل العاشر: الحداثة والاجتهاد
وتضمن هذا الفصل خمسة عناوين، تتشابك فيما بينها تشابكاً معرفياً لتشكل المضمون والمحتوى لمفردتي الحداثة، بوصفها مفردة ولدت من رحم الحضور الثقافي والفكري الغربي، والاجتهاد، بوصفه أيضاً من منظومة الحراك الحضاري والفكري الإسلامي. مع لحاظ حقيقة مهمة، هي أن هذا السياق المعرفي الذي ساقه الأستاذ الميلاد، لا يفترض القطيعة بين المفهومين، بل أراد أن يقارب ما بين المفهومين في محاولة جادة للاقتراب من مناخ القواسم المشتركة التي انعكست تأثيرات كل منهما على الساحة الفكرية على صعيد الثقافة الحضارية، المتمثلة في ساحة (الغرب)، وساحة الشرق الإسلامي. ورد كل مفردة إلى أصلها من حيث البزوغ والانتشار الثقافي بحسب المصطلح الأنثروبولوجي.
وهذه العناوين هي:
(1) هل توجد حداثة إسلامية؟
يقدم الأستاذ الميلاد، عبر هذا التساؤل قراءة لمشاركة للأستاذ (راينهارد شولسته) أستاذ الإسلاميات في الجامعات الألمانية، ضمن مشاركته بكتاب حول الإسلام والغرب، الصادر في نيسان / أبريل 1997م، بفرانكفورت، والتي جاءت تحت عنوان، هل توجد حداثة إسلامية؟ وهذا السؤال كما يرى الأستاذ الميلاد "له مبرراته الموضوعية والمعرفية في أن يعاد التفكير فيه من جديد، وبمنظورات تقطع وتتجاوز تلك التصورات القديمة، وبطرائق وأدوات مختلفة ومتعددة من آليات الفهم والتحليل، وذلك للحقائق التي تكشفت وكان من الصعب التنكر لها أو عدم الاكتراث بها، وهي الحقائق التي تولد بعضها من ظاهرة الانبعاثات الإسلامية بعد تعاظم حركتها ومفاعيلها في مجتمعات عربية وإسلامية، متعددة البيئات ومتباينة في مستويات النمو والتطور العام،... إلى جانب ما تشهده منظومات الأفكار في النطاقات العالمية من تحولات ومراجعات شديدة التحول والتغير،... فهناك تراجعات في منظومة الأفكار الماركسية،... وسجالات نقدية وجذرية في منظومة الأفكار الليبرالية بين تيار الحداثة وتيار ما بعد الحداثة، السجال الذي فتح معه الحديث حول نقد أهم الثوابت الأساسية في العقل الغربي وهي المركزية الأوروبية التي حددت للغرب شكل علاقته بالعالم وبثقافاته وحضاراته، وحرّضته باتجاه الهيمنة والسيطرة والإمبريالية... هذه الوضعيات والسياقات جعلت التفسيرات والتقويمات حولها تتباين وتتعارض بصورة كبيرة. ص265 ص266.
ويضيف الأستاذ الميلاد، بأن هذا التساؤل "جاء لكي يقلب هذه الإشكالية في تركيبتها المفاهيمية ومخزوناتها الفكرية المشبعة بالتأويلات والإشارات والدلالات والرموز، القديمة والمحنطة والبالية، وبالمنطق الذي كانت عليه في تقابل الثنائيات المتعارضة والمتصادمة وبحدود فاصلة وصارمة تقطع بين عالمين ومنطقين وزمنين، بشكل لا يمكن معه التواصل أو التجاوز، فقد أصبح من الممكن البحث في إمكانية أن ينهض الإسلام بحداثة من داخل منظومته الفكرية والقيمية والتاريخية، بعد أن أظهر هذا الدين قدرة فائقة على الانبعاث والحيوية والتجدد، ويفرض حضوره الواسع والفاعل في النطاقات العالمية، ويفتح حول قضاياه وموضوعاته واجتهاداته أعظم الحوارات الفكرية في عصر وصلت فيه الحداثة إلى أرفع مستويات تقدمها،... وقد أكد هذا الانبعاث على... أن عالم الإسلام إذا كان قد فقد حضارته وتمدنه وتراجع من هذه الناحية، إلا أنه لم يتراجع أو ينهزم ثقافياً، حتى مع ما حصل في ظروف تاريخية معينة من ابتعاد المسلمين عن جوهر وروح الثقافة الإسلامية، وهيمنة الفهم القشري والسطحي والجبري على هذه الذهنية الإسلامية بصورة عامة، ص 266 ص 267.
لذلك بحسب رأي الأستاذ الميلاد، "كان من المبرر أمام راينهارد أن يطرح السؤال (هل توجد حداثة في الإسلام؟) ص 269". وهو كلام "يُعدُّ مهماً، وقد يكون جديداً، أو من النادر أن يكون بهذا القدر من الوضوح والتماسك، وهذا النوع من الأفكار بدأ يتراكم في الغرب ويعلن عنه بثقة أكبر بعد تنامي المنظورات النقدية لتجربة الغرب في الحداثة والتقدم ص 270". لقد برزت كما يقول (راينهارد): "من خلال المنظور النقدي" محاولة إعادة تكوين حداثة إسلامية، بعيداً عن مسألة التعاقب التاريخي. إنه لصحيح أن يحذر من تفسير مراحلي جديد، ولكن أليس أمراً غير معقول بالمرة أن يرغب في إيجاد حداثة إسلامية، تماماً في اللحظة ذاتها التي تجري ويجري فيها تدمير هذه الحداثة بالنسبة إلى أوروبا؟... إن إمكانية أن يقدم الأفق النظري والعملي للمجتمعات غير الأوروبية حوافز قوية لبحث موضوع الحداثة، إمكانية متوافرة الآن تماماً. لأنه إذا أمكن أن يكشف النقاب عن أن نخب المجتمعات الإسلامية والصينية أو اليابانية قد عرفت العالم من حولها من خلال تصورات قائمة على الفصل بين التقليد والحداثة، وأنها أيضاً قد استخدمت معايير خبرتها الذاتية في توصيف موضوعي لمحيطها، وأنها أخيراً أعادت تشكيل ثقافتها بشكل جذري. إذا كان ذلك كذلك، فإنه يصبح من الواضح أن الحداثة لم تعد امتيازاً غربياً، وإنما كانت عملية عالمية واسعة النطاق، وبالتالي فقد بات من الممكن وجودها في السياقات الأخرى كما في السياق الغربي، ص 269 ص 270.
(2) من الحداثة إلى الاجتهاد
لقد حاول الأستاذ الميلاد، في هذا المبحث أن يؤصِّل لحقيقة فكرية معرفية تتصل بابتكار المفردات والمفاهيم في الحراك الثقافي والحضاري، كما هو الشأن في مفردتي (الحداثة)، و (الاجتهاد)، بوصفهما مفردتين تحملان من المخزون الفكري والحضاري لمنظومتين حضاريتين تتباين كل واحدة منهما عن الأخرى تبايناً واضحاً وجلياً. مشيراً في الوقت نفسه -دون أن يبخس الغرب من ابتكاريته لهذا المصطلح والمفهوم- إلى أن "مفهوم الحداثة الذي ابتكره الغرب قد عبرت عنه كل التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني من حيث مضمونه وجوهره، فكل تجربة حضارية ينبثق عنها مفهوم يعبر عن تلك التجربة، وإن كان يختلف في تركيبه اللغوي والبياني واللساني، عن تركيب لفظ الحداثة عند الغرب، بسبب اختلاف المنظومات الفكرية واللغوية نفسها. لأن كل حضارة في زمن صعودها وتقدمها تبتكر لها بكفاءة عالية، منظومة من المفاهيم تكون على درجة من الفاعلية والدينامية لارتباطها الشديد بالروح العامة لتلك الحضارة في انبعاثها ونهوضها، ص 274". وخلص إلى القول بـ"أن المفهوم الذي يقارب مفهوم الحداثة عند الغرب في تجربة المسلمين الحضارية هو مفهوم الاجتهاد، ص 275".
(3) الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام
وفيه استعرض الأستاذ الميلاد، هذه المقولة التي ابتكر مفرداتها الفيلسوف (محمد إقبال) في كتابه تجديد الفكر الديني، والتي كانت بمثابة المحطة التي تقف عندها قوافل الكتّاب والمفكرين، سواء من المفكرين المستشرقين كـ(هاملتون) في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، أو من المفكرين المسلمين كـ(الشيخ مرتضى المطهري) في كتابه (الإسلام ومتطلبات العصر)، والتي تفيد بأن "الاجتهاد هو الذي يقوم بدور نقل الفكرة الإسلامية من حيز النظرية إلى حيز التطبيق ويعطيها التحقق الفعلي، ليس بطريقة فورية أو دفعة واحدة وإنما على سبيل التدرج وفق مقتضيات الزمان والمكان، ص277".
(4) الاجتهاد منهج للتفكير الإسلامي
أرجع الأستاذ الميلاد، الأصل في استخدام هذا المصطلح لفرع الفقه من الثقافة الإسلامية. من جهة أخرى أرجع سبب النكوص من قبل الأمة في الاستفادة من المخزون العظيم لهذه الآلية عائد بحسب رأيه إلى "التحول الذي حصل في مفهوم الفقه من المدلول العام إلى المدلول الخاص، بحيث يتقيد بالأحكام الشرعية في نطاق الأحوال الشخصية وفي دائرة السلوك الفردي، ... بسبب الوضع العام الذي وصلت إليه الأمة من تراجعات حضارية، أصابت حركة الاجتهاد بالجمود والانكماش، ص 279".
من هنا فإن أي تراجع حضاري "إذا حصل في أي أمة فإنه ينعكس بصورة شديدة وطردية على تراجع منظومة المفاهيم وما تحمله من مكونات الفاعلية والحيوية والإبداع. المكونات التي تفتقد مع مرور الزمن الاقتران الواضح والمباشر بتلك المفاهيم التي أصابها الجمود. وهذا ما حدث مع منظومة المفاهيم الإسلامية، ومنها مفهوم الاجتهاد الذي تقلصت منه الفاعلية وانطفأت منه شعلة الحيوية وتوقف منه النبض، ولم يعد يستوقف الاهتمام في دلالاته وعناصره ومكوناته، ص 280".
ولأن هذه المفردة (الاجتهاد) التي هي أكبر من مجموع حروفها، قد تبلورت في "علم هو من أبرز ثمرات العقل الإسلامي الخالص في عصور إبداعه وتقدمه، وهو علم أصول الفقه،... كان يفترض في أصول الفقه أن يكون منهج البحث الإسلامي في كل ما يرتبط بالإسلام من معارف وعلوم وقضايا ومفاهيم، وبكل ما يتصل بعلاقة الدين بالحياة والحضارة، وهكذا في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية والاجتماعية، وأن يكون وثيق الصلة بها، لا أن يقتصر ويتضيق بمجالات ومعارف محدودة. كما أن الاجتهاد هو أيضاً نظام معرفي ومنهج للتفكير والنظر الإسلامي بالمعنى الأعم والأشمل، يفترض أن يمارسه ويحكّمه الإنسان المسلم، والمثقف والمفكر والفقيه المسلم بعلاقاته بالعلم والفكر والمعرفة، كسباً وعطاءً وإبداعاً. فالدين يحرض الإنسان المسلم على التعامل مع ما حوله من قضايا وظواهر ومسائل ومعارف بمنطق الاجتهاد الذي هو أعلى درجات البحث والتبيّن والكشف، واستعمال طاقة الفكر في أقصى درجاتها، ص 280 ص281".
(5) الاجتهاد دلالات ومكونات
حاول الأستاذ الميلاد، أن يقارب بين مفردة (الاجتهاد)، و (الحداثة)، من خلال البحث في دلالات ومكونات الاجتهاد، فأشار إلى أربع محطات رآها من المكونات الأساسية لهذا المفهوم، موضحاً في الوقت نفسه أنه "ليس بصدد خلق ثنائية جديدة إلى جانب الثنائيات القلقة والسجالية في الخطابات العربية والإسلامية المعاصرة، وهي ثنائية الحداثة والاجتهاد، وإنما (قصد) إعادة الاعتبار لمفهوم لا يقل قيمة وفاعلية عن مفهوم الحداثة. ووجه العلاقة المفترضة بينهما في اتجاهها العام، هو النظر إلى الحداثة باعتبارها تمثل تجربة الغرب في التقدم والتمدن، والاجتهاد يمثل منهج النظر للتجربة الإسلامية في التقدم والتمدن، ص 286". وهذه المكونات لمفهوم (الاجتهاد) هي:
أولاً: إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع وبذل أرفع مستويات الجهد الفكري والعلمي والبحثي في مجالات دراسة الأفكار والمفاهيم والنظريات والأحكام،... فالاجتهاد لا يصدق دلالة ومضموناً إلا بعد استكمال شرائط البحث وإعمال النظر بالطرائق والأدوات المنهجية بما يحقق الإحاطة التامة قدر الإمكان، وبما يوجد الاطمئنان النفسي والعلمي والمنهجي.
والحداثة إنما بدأت في الغرب من مقولة الانتصار للعقل وإعلاء شأنه والتمحور حوله، وعلى أساس القطيعة مع الدين أو الوحي أو الغيب أو الميتافيزيقا،... من هنا يتحدد الفارق بين العقلانية الغربية التي نهضت وانتصرت لنفسها بإقصاء الدين وكل ما يرتبط بالغيب، وبين العقلانية الإسلامية التي أسست العلاقة التواصلية والتكاملية بين الدين والعقل، ومن أكثر المقولات دلالة على ذلك هي تلك التي تبلورت وتحددت في أصول الفقه الذي هو منظومة الاجتهاد، مثل مقولة ما حكم به العقل حكم به الشرع، واعتبار الشرع سيد العقلاء، إلى غير ذلك من مقولات، ص 284.
ثانياً: التحريض المستمر والدؤوب على البحث العلمي والمعرفي، فالاجتهاد دعوة نحو مضاعفة الجهد العلمي بلا انقطاع أو توقف وإنما يتواصل ويتراكم. وهو صياغة ذهنية يتولد منها فعل الاجتهاد بصورة مستدامة لا تتهاون في تحصيل العلم والمعرفة، والتقدم إنما هو حصيلة تراكمات العلم..
والحداثة، التي ربطت العلم بالتقدم، هذا الربط نتوصل إليه من خلال مفهوم الاجتهاد الذي هو انتصار للعلم بما يحقق التمدن والعمران الإنساني من غير تصادم أو تعارض مع القيم والأخلاق، ص 284 ص 285.
ثالثاً: مقاومة عناصر الجمود والتفكير السطحي والنظر القشري والاعوجاج والشلل الفكري، فهذه الحالات هي من أشد ما يناقض ويعارض مفهوم الاجتهاد، ولم تظهر هذه الحالات إلا في زمن التراجع الحضاري الذي أصاب حركة الاجتهاد... (وذلك لان) الاجتهاد يفترض تعاملاً مع النص يتصف بشدة الفحص وتعمق النظر بصورة دائمة ومستمرة مما يجعل النص مفتوح المعنى في كل زمان ومكان وحال، بشكل يتعارض مع احتكار الفهم على طبقة أو جيل،... وحسب التشريعات الفقهية والعلمية في الفكر الإسلامي الشيعي فإن المجتهد لا يجوز له أن يكون مقلداً لمجتهد آخر، وإلا سلبت منه صفة الاجتهاد، ص 285.
رابعاً: مواكبة تجددات الحياة ومتغيرات العصر وتحولاته الزمن ومقتضيات التقدم وشرائط المستقبل. فالاجتهاد مجالاته القضايا والموضوعات الجديدة والمعاصرة، ص 258. خاتماً قوله بأن "هذه الدلالات تعطي قيمة متعاظمة لمفهوم الاجتهاد، تؤكد الحاجة إليه في هذا العصر، فالاجتهاد هو ثورة في التفكير، ودعوة للتقدم، ص286".
* الفصل الحادي عشر: الفكر الإسلامي الجديد، ملامح وقضايا
وفيه عالج الأستاذ الميلاد عدة موضوعات جاءت في عناوين أربعة، تعبّر في مجموعها الكلي عن أحد المسارات الفكرية وليس المسار الوحيد، غير أنه الأكثر تطوراً ونضجاً وتأكيداً على قيم التجديد والانفتاح والتواصل مع العصر.
الأول: الأرضيات والشروط الموضوعية
وقد تتبع في هذا العنوان السياقات التاريخية التي تبلور الأرضيات والشروط الموضوعية المتصلة بمراحل الفكر الإسلامي. فيرى بأن تحديد "مراحل الفكر الإسلامي وتحقيباته وتقسيماته الزمنية والتاريخية (تأتي) حسب اختلاف وتمايز الوضعيات والسياقات والمكونات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ارتبط بها في كل مرحلة، وحسب القضايا والظواهر والمفاهيم التي تفاعل معها، والاحتكاكات والتواصلات والانفتاحات التي تداخل معها. فهذه الشروط والعناصر (من وجهة نظره) هي التي تفرض على المنظومات الفكرية والمذاهب الاجتماعية، محددات وجهتها العامة ومساراتها ومسلكياتها، وتكوينات خطاباتها وبياناتها ومدوناتها، ص 289". وهذه التحقيبات باختصار هي:
ما يؤرخ له بظهور الدعوات السلفية المرتبطة في أكثر قضاياها بأمور العقيدة، والدفاع عنها وتنقيتها... كما في رؤية أصحاب هذه الدعوات، وفي مقدمتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد. وتتضمن هذه الفترة منذ القرن الثامن عشر إلى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلاديين.
ظهور حركات الإصلاح والتجديد، وتبدأ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إلى نهاية الخلافة العثمانية، والتي ارتبطت في أكثر قضاياها بالغرب، تارة في مقاومته بوصفه مصدر تهديد للبلاد الإسلامية، وأخرى الاقتباس منه بوصفه تجربة في التطور والتقدم.
وتبدأ بعد نهاية الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن العشرين، وبعد قيام الدولة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن نفسه، ويطلق عليها وصف (الفكر الإسلامي المعاصر).
وتشمل العقدين الأخيرين من القرن العشرين، عقد السبعينات، والثمانينات، والتي كما يراه الأستاذ الميلاد، ومفكرون آخرون بأنه ومن مجمل السياقات والقضايا والموضوعات والتحولات التي ظهرت فيهما، يمكن أن نطلق على أساسها وصف الفكر الإسلامي الجديد، وهذه الأرضيات والسياقات التي تشكل منها الفكر الإسلامي الجديد، خلال العقدين الأخيرين باختصار ما يلي:
أولاً: ارتباط الفكر الإسلامي ولأول مرة بمشروع دولة أعلنت انحيازها للمرجعية الدينية كما في قيام الجمهورية الإسلامية في إيران.
ثانياً: الانبعاثات الإسلامية التي أيقظته من سباته الطويل، وأعادت له الروح في عصر هيمنت فيه قيم الاستهلاك، وأكسبته الصحوة واليقظة والطموح باتجاه مستقبل حضاري جديد.
ثالثاً: نشوء المؤسسات والمعاهد والجامعات خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، والتي كان لها الدور المهم في تطوير العمل الفكري والبحث العلمي في النطاق الإسلامي وتجديد الأفكار الإسلامية، واقتحام مجالات معرفية جديدة، حيث ساهمت في تجسير التواصل بين الباحثين والعلماء الإسلاميين خصوصاً بين الموجودين في العالم العربي والإسلامي.
رابعاً: صدور الدوريات والمجلات التي تتسم بتنامي الإدراك واتساعه بأهمية العمل الفكري وضرورة الارتقاء به وإعطائه أولوية أساسية، وكذلك تجديد وتطوير الخطاب الإسلامي ليتوافق مع متطلبات وتحولات العصر وقضاياه المعاصرة.
خامساً: ظهور جيل جديد من الباحثين والمفكرين والأكاديميين الإسلاميين، كان أكثر وعياً وإدراكاً لضرورة التجديد والتطوير في منظومات الأفكار والمفاهيم، ومناهج التفكير وطرائق البحث.
الثاني: الأرضيات والشروط الثقافية
وقد ركّز الأستاذ الميلاد في هذا العنصر من حراك الفكر الإسلامي الجديد، على المنجز الثقافي من خلال حركة الأفكار والمفاهيم واتجاهاتها وقضاياها، والمستوى الكمي والكيفي من الأعمال والأدبيات المنجزة حولها، مقدماً فيه ما يمكن أن نطلق عليه (ببليوجرافيا) لحركة التأليف في الفكر الإسلامي الجديد خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، سواء في مجال الفقه وأصوله، أو في مجال القرآن الكريم والتفسير، أو في مجال الفكر الحركي الإسلامي، وهي بحسب رأيه تكشف بوضوح عن تحولات كبيرة في الأفكار الإسلامية وتغيراتها، وتأكيدها على التجديد والتطوير والاستجابة لمتطلبات العصر، والتي بإمكانها أن تؤرخ لمرحلة جديدة من مراحل تطور الفكر الإسلامي. ص 289 ص 300.
الثالث: ملامح الفكر الإسلامي الجديد
وقد حصرها الأستاذ الميلاد في خمسة ملامح هي:
أولاً: العلاقة مع العصر من الانقطاع إلى التواصل.
ثانياً: الاندفاع نحو التجديد.
ثالثاً: المراجعة والنقد.
رابعاً: التفكير في المستقبل.
خامساً: الوسطية والاعتدال. ص 300 ص 305.
الرابع: قضايا الفكر الإسلامي الجديد
وجاءت في خمس قضايا تمثل شغلاً مستديماً للفكر الإسلامي الجديد، والتي تنطلق تبعاً لخصوصيات المرحلة وشروطها ومقتضياتها وهي باختصار:
أولاً: قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة.
ثانياً: قضايا السلطة والدولة والفقه السياسي.
ثالثاً: إسلامية المعرفة.
رابعاً: قضايا الاجتهاد في الفقه والتجديد في الثقافة.
خامساً: قضايا المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر. ص 305 ص 310.
* رؤى في سياقات الكتاب
أولاً: يبدو من العنوان المختار للكتاب أنه يحمل حيوية ديناميكية من جهة، وإشكالية من جهة أخرى، فمن ديناميكية العنوان وحيويته، أنه يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لكل قارئ يلج غمار هذا البحث بما يقتضي هذا الإقدام على متعة المسايرة من خلال العرض الذي عالج فيه المؤلف موضوعاته من جانب، والخروج بفائدة تتصل بزيادة الوعي والبصيرة ضمن دائرة الحراك الزمني والمكاني -من جانب آخر- للقضايا والمفاهيم التي يخوض فيها الفكر الإسلامي الجديد غمار البحث والدراسة.
أما بالنسبة للإشكالية التي جاء بها العنوان، فهي أنه يتأسس على قاعدة تبدأ من التراث، لتستقر في رحم الاجتهاد في كل مناحي ومناشط حقول المعرفة كافة دون حقل بعينه.
وفي هذا السياق، يمكن لنا تصور مجموعة من الملامح والخطوط نوجزها في أربعة خطوط تترشح من خلال هذه الرحلة المعرفية التي تنطلق من التراث إلى الاجتهاد في حقل (الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد).
الأول: ويتضمن الانتقال من التراث إلى الاجتهاد من خلال الفصل الحقيقي لا الاعتباري لهذا الانتقال (بمعنى القطيعة بين الحقلين).
الثاني: يتضمن الخروج برؤية اجتهادية نابعة من مقاييس وموازين وآليات العمل المعمول بها في التراث. أي الاجتهاد في التراث، من خلال التراث.
الثالث: ويتضمن الخروج برؤية اجتهادية نابعة من مقاييس المعاصرة، وليس وفق الأطر التي جاءت بها مباني التراث في الحكم على الموضوعات.
الرابع: التوفيق بين الاستفادة من التقنيات والأدوات المعاصرة، في الفهم والاستيعاب والاكتشاف، وما يحتضنه التراث من أدوات وآليات تفيد في الفهم وإدراك الصورة.
ثانياً: يقدم الكتاب قراءة معرفية ناضجة لا تعمد إلى إحداث الفصل بين الحقول الزمنية التي مرت بها حتى وإن بدا للوهلة الأولى أنه يوحي بشيء من الفصل الزمني، فالأمر خلاف ذلك.
ثالثاً: التدرج المنطقي، والتبويب المتسلسل لإطروحات الكتاب وموضوعاته.
رابعاً: مما يعطي للكتاب وهجاً معرفياً آخر في أطروحته، يتمثل فيما أحسب بالمدرسة التي ينتمي إليها الأستاذ المؤلف، فهو ابن للحركة الإسلامية، ونعني بذلك أنه منذ نشوئه تأسست ذهنيته على المعرفة والقراءة الإسلامية فهو بذلك لا يقرأ موضوعاته من خارج هذه الدائرة، أو أنه تنقل من مدرسة إلى أخرى ليستقر به المطاف في رحاب هذه المدرسة كما هو عند بعض من المفكرين الإسلاميين المعاصرين والذين يحملون ـ وهو أمر طبيعي ـ تأثيرات الموروث الفكري الذي نمت عليه غصون معارفهم الفكرية، وعليه فالأستاذ الميلاد، ومن خلال ما قدّم في ثنايا كتابه يحمل أصالة في المبنى والمنطلق، وانفتاح في الوقت نفسه على الأفكار والقضايا والأطروحات التي تطرح في الساحة الفكرية وهو بذلك صاحب رأي واجتهاد لا يعتمد فيما وصل إليه رأيه على نمطية عقلية التقليد الأعمى للأفكار، مما يعطي للقراءة التي يقدّمها مذاقاً وطعماً آخر يتجلى في الفهم والتفكيك للعبارات ذات العلاقة بموضوعه بما تختزنه هذه المفردات من مضامين تأخذ من سياقها التاريخي إرثاً سسيولوجياً يستعصي على الكثير مِمَّن هم خارج هذه المدرسة الوقوف على حقيقة المعنى المراد، فمضافاً إلى مدرسته الإسلامية في الإطار العام، فهو متأسس في الوقت ذاته من خلال تبني فتح باب الاجتهاد، دون غلقه، مما يعني هذا التهيئة النفسية لقبول أطروحة الاجتهاد في قضايا الفكر الإسلامي دون أي كلفة أو تصنع في القبول أو الرفض.
خامساً: يمثل المؤلف العنصر الشاب في هذه القراءة، أي أنه في الوقت الذي يكون فيه ابناً للمدرسة الإسلامية التجديدية هو في الوقت ذاته يمثل مرحلة عمرية شابة تأخذ طريقها بكل ثقة واقتدار في السير في هذا الدرب الذي قلَّ سالكوه، مما يعني أنه يأخذ في علاقته بهذه المشروع جانبين، فهو في طور النمو والتطور الساعي نحو التجذر في أرض هذا الميدان، ومن جانب آخر يؤسس فعله هذا حراكاً معرفياً هو بالضرورة التاريخية سيأخذ موقعه في ذهنية الشباب الإسلامي من بني جيله لكونه ابناً لهذا الجيل، بالتالي لديه مساحة أوسع، وقدرة أبلغ على فهم الخطاب واللغة التي يتعاطاها جيل الشباب المسلم، مما يكسب كتاباته في هذا الخط سمة قد لا تتأتّى للرموز من الكتّاب والمشتغلين في قضايا الفكر الإسلامي. وهذا ليس بخساً لحقهم بل هي الضرورة التاريخية التي تفرض نفسها في هذا الصعيد.
إضافة، إلى هذه الجنبة، فإن القراءة للتراث من قبل جيل شاب، تحمل في مسيرتها حركة جوهرية تقدّم قراءة للآخر المختلف (غير المسلم)، لهذا التراث بما تعنيه هذه القراءة من رسالة تشكل خطاً وفاصلاً ومائزاً حقيقياً عن تلك القراءات التي تحاول اختطاف الإسلام واحتكاره من خلال الرؤية الأحادية التي لا تفهم من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه.
بالتالي فإن من أهم المقومات التي تتجلى في الواقع الاجتماعي على صعيد الأمة، والعالم، أن هذا الفعل يمثل ثقافة تتأصّل عبر التواصل بين أجيال الأمة، وبمقدار ما تكون فيه الأجيال الثقافية على تواصل وتعاضد وحوار، فإن تمظهر هذا الحراك على الواقع الخارجي يكون أكثر صدقاً ومصداقية وتعبيراً عن تلبية احتياجات ومتطلبات العصر، أي تكون فيه الأمة على مستوى التحدي والمنافسة.
سادساً: من السمات التي تتجلى في الكتاب، المنهجية العلمية التي بدت نمطاً سلوكياً عفوياً يفصح عن أمانة علمية، ألا وهي نسبة الأفكار إلى أصحابها، بل وفي درجة أرقى من ذلك ألا وهي فيما يحسب أنه أول من تنبه إلى تلك الفكرة أو الأطروحة من حيث السبق في المعالجة، إلى التنازل عن هذه الأسبقية لمن وجد أنه تطرق للموضوع حتى وإن كان التطرق قد ورد استطراداً دون تخصيص، كما في نص مقولته: "وكنت أتصور أنني أتفرد بهذا الرأي سعيت إلى الإشهار به، وفتح مجال التفكير والنظر حوله، إلى أن وجدت من يتبنى مثل هذا الرأي، وهو الدكتور حسن حنفي، ص 276". وهذه خاصية ينبغي التركيز عليها وتأصيلها لأنها من أهم بل في طليعة الأسس والمقومات التي تبتني عليها أي حركة فكرية نهضوية تسعى لأخذ موقعها بين عوالم الثقافات الأخرى، خصوصاً في عصر باتت فيه الثقافة ومعطياتها وما تختزنه من قيم ومعارف، أهم مصدر ومورد للانتشار والحضور في عصر التقنيات والمعلوماتية.
سابعاً: بالرغم من التتابع المنطقي لموضوعات الكتاب، غير أنني أتصور أن الفصول الثلاثة الأخيرة، والتي تم عرضها كان ينبغي أن تأتي ضمن فصول الكتاب الأولى بحسب ترتيبها، لأنها تمثل وبحسب التصور الإطار النظري الذي تجلت فيه رؤى وأفكار الأستاذ الميلاد، بشكل واضح وجلي نظراً لما تعكسه هذه الرؤى من قراءة جادة للخطابات التي أخذ في تبيان مرتكزاتها ومبتنياتها الفكرية والمعرفية التي على ضوئها صاغت خطابها.
وبقية الموضوعات، فإنها بمثابة المصداق للإطار النظري الذي عرضه الأستاذ الميلاد في مباحثه المختلفة.
* الكلمة الأخيرة
الكتاب في صياغته وموضوعه، شائق بما يحتويه من متابعة جادة للأفكار وملاحقتها، سواء من خلال العرض، أو النقد، وما يستدعي ذلك من تقديم التصور حول مناقشة الرؤى والأفكار، أو التجاوز الذي يعطي للجيل المعاصر أن يقول كلمته في القضية المطروحة للنقاش، دون الاستسلام لرؤية طرحت لتعالج قضية فكرية تناسب ظرفاً زمانياً ومكانياً، والذي لا يحمل بالضرورة معه مبررات ذلك الاستنتاج أو التصور في أنه يمثل حلاً لإشكالية، أو اجتهاداً في طرح رؤية تُعدُّ قضية مستحدثة تلحّ على المسلم المعاصر أن يجدد في ابتكار واكتشاف الحلول المناسبة لهذه القضية، أو الإشكال المعرفي الذي لا يقبل التأجيل، أو الاكتفاء بالتقليد واختصار مسار حضارة، وعنوان ثقافة في مرحلة زمنية بعينها لتكون ضمن السياق الزمني الذي يتوقف عنده العقل المسلم، ولتصبح هذه الفترة الزمنية هي المحك والمعيار الذي ينبغي أن تتطابق كل الحلول مع مقتضيات ذلك الظرف الزماني والمكاني.
من هنا فالكتاب، طافح بمادة تحريضية غزيرة، تدعو القارئ وبكل قوة إلى إعمال الفكر في البحث والمعالجة والنظر في الأمر المطروح على ساحة البحث والنقاش. الأمر الذي يستحق معه هذا الكتاب أن يعاد أمر القراءة فيه لأكثر من مرة للخاصية التي يحملها معه في أنه في الوقت الذي يقدم فيه موقف حيال القضية، يعطي القارئ مساحة كي يلتقط النفس ليقول كلمته، كما ولخصائص أخرى تميز بها هذا الكتاب يمكن جعله مرجعاً مهماً يؤرّخ بصورة مركزة ودقيقة للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، والذي لا يزال انعكاسهما على مستوى حراك الفكر الإسلامي في قضاياه ومعالجاته.