شعار الموقع

خطاب التصوف بالمغرب

محمد المصطفى عزام 2005-04-30
عدد القراءات « 862 »

خطاب التصوف بالمغرب

بين التحصيل والتأصيل

محمد المصطفى عزام

 

- خطاب التصوف بالمغرب بين التحصيل والتأصيل

- رسالة دكتوراه

- إعداد الباحث: محمد المصطفى عزام

-  تحت إشراف: د. عباس الجراري

-   الموسم الجامعي: 2003 - 2004

- كليـة الآداب بالربـاط

 

إن ما نعنيه بـ(التحصيل)، في تتمة عنوان هذه الأطروحة هو قراءة الكتب الصوفية وما يتصل بذلك من مدارسة وتدريس، وما نعينه بـ(التأصيل) هو التجربة المؤطرة تربوياً بقصد التحقق بالأصل الروحي للإنسان.

لقد كان من الطبيعي أن يحمل الفتح الإسلامي للمغرب جميع المكونات لتأسيس مجتمع جديد. ومن مقتضيات ذلك تعليم العربية والقرآن، وتلقين الشرعية وكيفية العمل بها. واقتضى ذلك أيضاً أن تحمل الكتب الدينية، ومنها كتب التصوف من المشرق إلى المغرب. ومع شرح التأريخ لبداية ذلك، فإننا نعلم مما دُوِّن أن القرن الخامس الهجري شهد استجلاب كتب التصوف، كما شهد على نصح بعض العلماء العاملين بقراءة بعض تلك الكتب. فلم يكن إحراق الإحياء إلا دليلاً على اهتمام المغاربة بهذا الصنف من الكتب وانتشار أثرها فيهم.

ولم ينتقل إلى المغرب حاملو العلم وحده دون العاملين به -حتى وإن جاز الفصل بينهما-. وإذا افترضنا أن التصوف انتقل من المشرق بصورة فردية في البدايات، فإنه ما لبث أن أسس رباطات ومدارس تحولت إلى زوايا للعمل والتربية والجهاد، أفاد منها المشرق نفسه بعد ذلك، إذ استمر التصوف على امتداد التاريخ المغربي وأرضه، يقوم بتحديد التربية الروحية على يد شيوخه المتتابعين. ولقد بلغ من رسوخ المغاربة وعلمائهم في علم التصوف وممارسته، أن بعث الشاطبي إلى بعضهم مستفتياً في موضوع الخلاف الذي نشب بالأندلس في القرن الثامن، حول اتخاذ الشيخ في التصوف أو الاكتفاء بكتبه.

وإذا كان أولئك المختلفون قد استشكلوا أمر العمل بكتب التصوف لعدم وجود شيخه، فإن الإشكال الذي يعنينا في هذا البحث، هو تلقي المكتوب الصوفي وفهمه، ثم الكتابة فيه أو عنه من غير خوض تجربته.

وإن هذا الإشكال المزدوج لهو ما يخص القدرة التوصيلية والتواصلية للغة الطبيعية عموماً، ووظيفتها الإبداعية على الخصوص. وإذا كان غموض اللغة الصوفية شكوى مزمنة تصدر من غير أهلها، فإن اشتراط التجربة لفهم هذه اللغة دعوى مستمرة تتردد بين أهلها. ويكاد المشتغلون بالأدب والنقد يتفقون على التناسب الطردي بين صدق التجربة والتعبير عنها، كما أن أغلب مدارس تحليل الخطاب اليوم، وعلى الأخص منها نظريات التلقي والتأويل، وهي التي أطّرت عملنا هذا، تعد التفاعل مع النص من أهم شروط الفهم والإنتاج، فكلما قارب المتلقي تجربة المؤلف كان أكثر تفاعلاً وفهماً للعلم، كما أن الكتابة الإبداعية حقيقة تستلزم معاناة موضوع هذه الكتابة.

والأطروحة التي نروم الدفاع عنها هي أن المقاربة النظرية للخطاب الصوفي، تتناسب طرداً مع المقاربة العملية لهذا الخطاب، وأن هذه المقاربة العملية، لا تكتمل إلا بإشراف الخبير بهذه المقاربة. وإذا كان هذا الطرح مسلماً عند القوم، فإن عنصر الجدة في عملنا هو الاحتجاج لهذه الأطروحة بنموذج سيدي أحمد بن عجيبة، وتحليل إنتاجه الصوفي قبل خوضه التجربة وبعدها، أي إنتاجه استناداً إلى التحصيل، وإنتاجه استلهاماً من التأصيل.

وإن القرينة المادية الملموسة، التي اعتمدناها حجة شهد بها ابن عجيبة على نفسه هي ما تجده في آخر شرحه على الوظيفة الزروقية، وهو نص صوفي شرحه في فترة التحصيل، ثم كتب في آخره هذا الاعتراف، قال: (قد كان تأليف هذا الكتاب قبل الفتح، ولذلك تجد فيه حشواً وتخليطاً، كل ذلك لضيق الحال وعدم ضبط المقال، وقد هممت بتمزيقه، ثم قلت لعله يشتمل على حكمة أو أحاديث ينتفع بها العامة فتركته).

لقد ولع ابن عجيبة منذ صغره بالعلم إلى حد الوله، كما أن نزوعه الصوفي غلب على حياته عموماً، فكان جل وقته مقسَّماً بين الاستغراق الكلي في الدراسة، والاجتهاد المضني في العبادة، وذلك قبل أن يلتقي بشيخ التربية الصوفية ليتحول بعدها إلى مرحلة التأصيل.

إن قراءة ابن عجيبة كتب التصوف وهو في مرحلته التحليلية، قراءة لم تعتمد إلا على موسوعته العلمية، وحتى تدشينه كان عملاً تنفصل فيه العبادة عن تطلب العرفان، ومن ثم فقد جاءت كتاباته ترصيصاً لكلام غيره دون إضافة من أفكاره، كما كانت عبادته تطبيقاً لأحكام الشرع دون بحث عن أسراره.

أما قراءة ابن عجيبة في المرحلة التأصيلية، فقد انفتحت فيها ذاته على الموضوع بفضل تجربة التخلي عن مفاهيمه السابقة (الحجب)، فتحقق فيها التفاعل مع النصوص تفاعلاً نتج عنه التعاون بين المتكلم وكلامه والمتلقي ليصير هذا الأخير قارئاً نموذجياً يمارس الفهم والتأويل.

ولما كانت الكتابة نشاطاً وتأويلاً للعالم وللذات، فإنها تغدو موضوع تأويل بالتلقي وحده، أو بكتابة ثانية تتناول الأولى بالشرح أو التعليق أو غيرهما، وهكذا دواليك، إذ تصير كل كتابة حول سابقتها إعادة إنتاج تحييناً وتذويتاً. ولما كان ابن عجيبة قد تحرر من رق تحصيله وترقى ذوقه العرفاني في مرحلة التأصيل، فقد تفاعل مع النصوص في مستواها الروحي فهما وتأويلا، فجاء إنتاجه نقلة إبداعية مطبوعة بذاتيته المتأصلة.

وإن ما يبرز بقوة عند صاحبنا لهو إلحاحه الشديد والمكرر، على ضرورة صحبة شيخ التربية الصوفية، لا لتطهير القلب والترقي في مقامات الروح فحسب، ولكن لتحقيق الفهم في الدين والعلم، وكل ما يتعلق بالحياة المعنوية للإنسان. ومع أن جمهور الصوفية على هذا الموقف، إلا أن تجربة ابن عجيبة في المرحلتين أوصلته إلى حق اليقين مما قرر وأعاد؛ وإن ما قرأناه من نصوص في هذا الاتجاه قد كوّن لدينا فهماً جديداً في علاقة المريد بشيخه في التصوف - وهي علاقة إشكالية عند الكثير-، فبدا لنا أنها علاقة قارئ بكتاب، كما يطرح ذلك في نظريات التلقي والتأويل.

فالمريد يتلقى من شيخه متخلياً عن تعلقاته النفسية، ليصبح قلبه مرآة صقيلة تنعكس فيها الحقائق والأنوار انعكاساً يناسب هذه المرآة، وعن طريق التفاعل بين الطرفين بالمحبة الصادقة والعمل الخالص، يعود المريد إلى أصله الروحي كما كان في أحسن تقويم. وإذا مارس الفهم والتأويل تأليفاً أو سحراً، فإنه يمارسه بخصوصيته المتفردة المبدعة؛ فليس المريد انتساخاً للشيخ، ولكنه، في تقدرينا، صورة من الصور التأويلية الممكنة لهذا الشيخ، تتجلى في خصوصية المريد وما يصدر عنه.

وإن ما يمكن أن نعده غير مسبوق كذلك في هذا البحث، هو تصنيف الكتابة الصوفية تصنيفاً جديداً، استنبطناه من منهج السلوك الصوفي وإنتاجه، فقد جعلنا تلك الكتابة أصنافاً ثلاثة بحسب وظيفتها وقصيدتها، وهذه الأصناف هي:

- كتابة توجيه، وهي ما كتب للتعريف والإرشاد والتقعيد.

- كتابة توجه، وهي ما كتب من الأحزاب والأوراد.

- كتابة مواجهة، وهي ما دون من الإشارات إلى بعض الحقائق والرقائق.

وقد وجدنا لابن عجيبة في مرحلتي التحصيل والتأصيل، مؤلفات تستجيب لتصنيفنا هذا، مما فتح أمامنا باب المقابلة بين المرحلتين على مصراعيه.

ومن ثم فإننا قسمنا بحثنا إلى بابين خصصنا كلاًّ منهما بمرحلة، وجعلنا لكل باب فصلين، فكان الباب الأول لـ(التصوف بين التحصيل والتأليف التحصيل)، بسطنا في فصله الأول القول في (التصوف والتحصيل)، وحللنا في فصله الثاني نماذج من (التأليف التحصيلي) بحسب تصنيفنا المذكور. أما الباب الثاني فخصصناه لمرحلة (ابن عجيبة بين التأصيل والتأويل)، على اعتبار أن تجربة التصوف تأصيل للروح، وأن التأويل إبداع مستمد من هذا التأصيل، فجعلنا الفصل الأول من هذا الباب مرحلة انتقال (من التحصيل إلى التأصيل)، وحللنا في الفصل الثاني نماذج من (التأليف التأصيلي)، بحسب التصنيف السابق كذلك، وقد وقفنا في هذه النماذج على بعض آثار التجربة الروحية للمؤلف.

ومما استوقفنا كذلك أثناء البحث:

- تميز تعريف التصوف واتساع مفهوم الصوفية عند المغاربة

- اهتماما الصوفية المغاربة بالسلوك العملي والأخلاقي أكثر من النظر الإشراقي.

- عنايتهم بكتب التصوف عناية انتقائية -تبعاً لما تقدم- فقدموا كتابات التوجيه على كتابات المواجهة، مع إنتاجهم فيها وفي التوجه.

- أمام ما توقفنا عنده، فرأينا أنه يحتاج إلى بحث مستقل، فهو التفسير الإشاري الذي يقف فيه ابن عجيبة عَلَماً شامخاَ ببحره المديد، نأمل أن يكون موضوع عمل خاص به.

إن طريق هذا البحث لم تكن ممهدة لنا، ولا قوته متسعاً أمامنا، فمع أننا استفدنا كثيراً من دراستين جادتين متفردتين تتصلان بموضوعنا، أولاهما للأستاذ (جان لوي ميشون)، والثانية للأستاذ عبدالمجيد الصغير، إلا أن أكثر النصوص التي اعتمدناها ما يزال مخطوطاً وما طبع منها دون تحقيق فإنه يضر البحث العلمي أكثر مما يفيده. ولا نبالغ إذا قلنا: إن الإهمال المقصود وغير المقصود قد حرم -وما يزال- أجيالاً من الاطلاع على جانب نيِّر من تراث تبلورت فيه هويتنا بجميع مكوناتها.

وبعد، فإننا لا ندَّعي لعملنا هذا شيئاً من الاكتمال أو ما يقاربه، وقد يشفع لنا فيه أن كان لنموذج من أهل الفضل، كما يكفينا اعتزازاً أن تفضّل خيرة أساتذتنا بقراءته وقبول مناقشته، وهو اعتزاز مغمور بالاعتذار لهم عما زدناهم به أتعاباً وإرهاقاً، خصوصاً في هذه الفترة من السنة الجامعية، فشكراً لهم وعذار.

وجازى الله عنا أستاذنا المشرف سيدي عباس، على ما لقيناه منه من توجيه علمي سديد، وعطف أخوي فريد.

كما نسأل الله العلي القدير أن يجازي كل الأهل والأحباب الذين غمرونا محبة ومعونة، وأمطرونا تشجيعاً ودعاءً بخير الجزاء، إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

الهوامش:

* باحث من المغرب.