شعار الموقع

علاقة الشريعة بالدولة المدنية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر

خالد يـايـموت 2005-07-02
عدد القراءات « 862 »

علاقة الشريعة بالدولة المدنية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر

مقدمات أولية في الأساس المعرفي

خالد يـايـموت*

اتسمت الأدبيات السياسية التي يطرحها الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، باهتمام كبير بمركزية الدولة ودورها في إنتاج وتصريف السلطة السياسية، وطرحت معها أفكار سياسية ارتكزت الغالبية منها على التجربة التاريخية وكيفية الوصول إلى السلطة. غير أن مشكل النموذج الدولتي الذي يتبناه غالبية المفكرين السياسيين الإسلاميين المعاصرين، يطرح أكثر من سؤال، ليس على المستوى النظري فحسب، بل على صلاحية الإرث التاريخي السياسي الإسلامي المتعلق بهذا الموضوع. وتزداد الحاجة إلى طرق باب هذا الموضوع من جديد، خاصة أمام محاولة بعض الحركات الإسلامية المعاصرة التعامي عن هذا الإشكال الجوهري، بالجنوح إلى مقاربة تبسيطية تستدعي نموذج الخلافة الراشدة. ولأن القول بهذا النموذج الأخير لا يقدم أي حل واقعي يلامس جوهر الإشكال، فإن التعرض لفكر الإسلاميين المنظرين للدولة وطبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والشريعة الإسلامية، ومن ثم الحديث عن المسلمات المعرفية التي من خلالها يناقش بعض الإسلاميين المعاصرين نموذج الدولة، تبقى من المواضيع التي تحتاج إلى أكثر من دراسة.

* الدولة وأركان الدين

يدخل قيام الدولة في إطار التدابير الإنسانية التي تقوم بها الأمة لتحقيق العمران البشري، ولم يفصِّل الوحي (القرآن أو السنة) في كيفية بناء الدولة، غير أن القول بهذا التقرير الذي يجعل قيام الدولة خارج أركان الدين، لا يعني مطلقاً أن الطرفين -الدين والدولة- منفصلان، أو أن العلاقة بينهما منتفية كما يقول بذلك التيار العلماني العربي. فالقرآن الذي لم يفرض إقامة الدولة، فرض من الحقوق والواجبات الدينية على المجتمع المسلم ما لا يمكن إنجازه خارج الدولة.

إن الدولة في الإسلام، بطابعها المدني، تتميز عن طبيعة الدين وإن برأها من "الكهانة والثيوقراطية"، إلا أنه لا يقطع الصلات بينها وبين الدين على النحو الذي يقول به العلمانيون، فهي واجبة بنظر الإسلام وضرورة شرعية، لأن في تخلفها تخلف الواجبات التي فرضها الدين(1)، من هنا فاتصال الدين بالدولة يرجع في أحد زواياه، إلى وجود نصوص دينية داخلة في إطار الحق والواجب الديني، المتوقف على وجود السلطة السياسية الغالبية في الجماعة بتعبير -كمال أبو المجد-، وحينما نتعقب بعض الآيات مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فأخذ الزكاة هنا لا يتحقق إلا مع وجود سلطة سياسية، وهذا ما يطلق عليه "الأصوليون" أي علماء أصول الفقه "إقامة الدولة ثابتة بالاقتضاء"(2)، فالدولة إذن جزء من رسالة الإسلام وتنظيم السلطات، وإقامة المؤسسات -التي تصلح حال الأمة، وتحفظ الحقوق والواجبات بالعدل- جزء من الشريعة(3).

إن القول بأن الإسلام "دين ودولة" يمكن أن يفهم انطلاقاً من أمرين اثنين متلازمين:

الأول: أن الإسلام لم يضع تصوراً نصياً من القرآن أو السنة للدولة.

الثاني: أنه لم يقم الإسلام كدين وينتشر إلا بالدولة، والتجربة التاريخية للرسول (ص) كرسول وقائد سياسي، ومرحلة ما أطلق عليه الخلافة الراشدة (دامت حوالي ثلاثين سنة)، أثبتت أن الأمرين غير متعارضين لسبب رئيسي، هو أن بناء الدولة لا يستند إلى نص شرعي -ديني-، بل على إنتاجات التجربة البشرية المؤطرة بالمرجعية الدينية، وحيث إن المرجعية العليا تركت المجال واسعاً للتدخل البشري في إقامة الدولة، فإن إبعاد الدين عن المجال السياسي لا يمكن أن يتم إلا بالإرادة الجماعية التي أنشأت الدولة، إذ لا يمكن لمجموعة بشرية لا ترتضي مرجعية معينة أن تؤسس عليها اجتماعها السياسي في إطار دولتي.

من جهة أخرى تقرر الأطروحة القائلة بمدنية الدولة(4) "أن الإسلام لا يعرف نظاماً سياسياً واحداً يفرضه على الناس، وإنما يعرف قيماً ملزمة لجميع الأنظمة"(5). لقد كان من الطبيعي أن يلتزم الفكر السياسي التوفيقي المعاصر بما استقر عليه الفقه السياسي السني منذ القديم، من "أن الإسلام في نظامه السياسي لم يُعْنَ بشكل الدولة خلافة أو إمامة، وإنما عُني بقيم ومبادئ تقوم عليها الدولة، وعلى رأسها الشورى والعدل"(6).

هذا البعد للدولة المدنية يعتبر أسًّا معرفياً، قبل أن يحوَّل إلى التطبيق عبر آليات الدولة، فهو بذلك سابق للدولة لأنه مرجعيتها، والسبب المباشر الداعي إلى قيامها، ويمكن التأكيد على أن هذا التمثل الذهني يحوِّل الدولة من مفهوم رمزي(7) إلى وظيفة لحراسة الدين وإعمار الدنيا، أي دولة المصلحة العامة.

والصالح العام في ظل هذه الدولة المدنية الإسلامية، ليس زمنياً أو دنيوياً بحيث يلغي دور الدين في تحقيق الصالح العام كما هو معروف في الدولة العلمانية، وإنما هو يؤدي "حتمياً" إلى إقامة الدين، ومصالح الناس الثابتة والسابقة على الدولة(8). وتفقد الحكومة شرعية وجودها بإسقاط إقامة الدين وفق المستجدات الواقعية، التي تفرض بدورها التجديد المتواصل في الدين والدولة، أي رعاية مصالح المجتمع. وبالتالي فإن إقامة الدولة لا علاقة له بما يطلق عليه الفقهاء بفرض الكفاية، بل هو "الفرض الجماعي" الذي يمس الفرد كفرد داخل الجماعة، ويقع على عاتق الأمة للدفاع عن نفسها وعن الدين(9).

* بنية الدولة من بنية الثقافة

الدولة داخلة في النظرية السياسية، ولها خصائص تستقيها من الثقافة السياسية، والتعامل السياسي مع الواقع له أساس اتصالي مع المدرَكات والمفاهيم الخاصة بتلك الثقافة السياسية. "فالدولة بعبارة أخرى، تظل أساس علاقة بين المواطن وبين التعبيرات المجردة عن المفهوم الوظيفي للدعوة الإسلامية"(10). من ناحية موازية فالدولة حسب أستاذ العلوم السياسية حامد ربيع، تعبير معنوي يقوم على أساس الوحدة المعنوية للجماعة الإسلامية. وطبقاً للخبرة التاريخية وما يفرضه التكامل الاجتماعي والسياسي، فقد بقي مفهوم الوحدة كما هو مبثوث في دراسات علم السياسة أحد أهم "المفاهيم الثابتة في جميع النماذج السياسية المتطورة"(11).

لذلك كانت الدولة الإسلامية الأولى في عهد الرسول (ص) بسيطة في تكوينها، وفي بناء جهاز الحكم وآليات الضبط الاجتماعي، رغم بروز الشق القانوني فيها بقوة من خلال نظام الشريعة، أي نصوص القرآن والسنة التي تتحدث عن العلاقات الاجتماعية، أو من خلال وثيقة المدينة "الدستور" الذي نظم العلاقة مع غير المسلمين، واعترف لهم بحق المواطنة في إطار سلطة سياسية موحدة.

غير أن تأكيد الإسلام على قيام الدولة لا يعني بحال من الأحوال، أنها تحمل سمات "الدولة أو الحكومة الدينية" المعروفة في التاريخ الأوروبي التي ادّعت القداسة، وكانت رمزاً للتسلط والقهر.

مضمون هذا الموقف يحيلنا إلى مصدر شرعية السلطة، وحسب أستاذ القانون الدستوري كمال أبو المجد "فإن رضا الشعب هو مصدر شرعية السلطة في المجتمع الإسلامي"(12).

فالحكومة بهذا المعنى مدنية، ولا مانع في أن يشارك غير المسلمين في عضويتها. "فالنزاع بين ما يسمى بالحكومة الدينية والحكومة العلمانية، حينما نعمق النظر ونستحضر الرؤية الفقهية، نجده -كما يقول محمد مهدي شمس الدين- نزاع (أشباح)"(13)، مادامت الإرادة الشعبية هي التي تصنع الشرعية السياسية للسلطة.

* الدولة ليست مقدسة

"ففي الفكر والفقه الإسلاميين، الدولة كلها غير مقدسة، ولا يوجد فيها مقدس على الإطلاق"(14). وهنا قد يطرح إشكال نظري حول مكانة الشريعة من داخل الدولة كجهاز سلطوي، فهناك اتصال بين الدولة والشريعة يتفق عليه كل مذاهب الفكر السياسي الإسلامي، ما لا يدخل الأمر في عداد الإشكاليات، هو كون "الدولة ليست مقدسة، وليس فيها مقدسات، وأن المقدس الكبير هو الأمة"(15).

ليس هذا وحسب، بل إن الاجتماع السياسي الإسلامي القائم على التصور المدني للدولة، "يجعل مكان الشريعة هو المجتمع المدني وليس الدولة"(16)، فأن يعيش الفرد المسلم داخل الدولة، لا يتطلب أن تكون الدولة دولة دينية يحكمها علماء الدين. من جهته يذهب أحد علماء المقاصد المعاصرين إلى كون الشريعة، إنما تطبق من خلال المجتمع المدني، ولا صلة للدولة بذلك إلا في الاستثناء، والذي لا يتعدى في أحسن الأحوال عشر هذه الشريعة، وهذا يعني أن هناك تضخيم لدور الدولة، على حساب الأصل أي الأمة التي تعد مصدر السلطة(17). وإذا أردنا أن نجمل القول في هذه القضية، ودون الدخول في نقاشات ذات طبيعة إيديولوجية، أفرزها تنامي الحركات الإسلامية اجتماعياً وسياسياً في الدولة العربية القطرية. فإننا نؤكد أن الطرح الإسلامي، يجعل من الأحكام الشرعية (أي الشريعة) "تندرج في إطار الوظيفة الاجتماعية للمسلمين"، وهذا يعني أنه في إطار الاجتماع السياسي الإسلامي "فإنه لا يتصور بحقها إمكانية التطبيق إلا بسلطة قادرة وحكيمة"، وعندما نتحدث عن تطبيق الشريعة فإن الأمر يحتاج بالضرورة إلى السلطة باعتبارها، "طريقاً للتطبيق ويدرجها في إطار المقدمة الوجودية"(18)، وانطلاقاً من كون الدولة "صناعة" بشرية في إطار الدفاع عن المصلحة، فإن وجود السلطة التي توصل إلى تطبيق الشريعة، أو بالتعبير الدقيق تطبيق ذلك الجزء الذي يحتاج إلى الدولة، يؤدي حسب التطور التاريخي إلى التغيير في شكل النظام السياسي، لأن "الوصول إلى الغاية تملي شروطها على المقدمة، فتفرض عليها المرونة والحكمة"(19). وبما أن الدين فيه الثابت والمتغير، فإن التنافي بين الدولة والدين يتبين وهمه(20) خاصة أن الدولة، وإن أطلقت على نفسها الدولة الإسلامية، فإن نشاطات الدولة تنحصر في المجال التشريعي والقضائي في دائرة من الأحكام، يطلق عليها اسم الأحكام السياسية، "بينما تبقى الأحكام المتعلقة بالنشاطات التربوية والتبادلية في إطار سلطة الأمة"(21)، وبذلك يشكل الدين قيم ومثل المجتمع العليا، ولا تجسده الدولة إلا في الإطار السياسي المتعلق بالسلطة، وتحقيق المصلحة العامة للمجتمع، أي الأمة، وبهذا الشكل فقط تعطي الأمة شرعيتها للدولة، ويُمنَع الديني والزمني من الاستفراد بالسلطة، وصناعة التفسير الواحدي للسياسة أو الدين.

ويظهر المجتمع أقوى من الدولة بمؤسساته المدنية/ الأهلية باعتباره المنشئ الحقيقي للسلطة، ومانح الشرعية ونازعها في إطار القواعد الدستورية المنظمة للسلطة السياسية، أي ما يطلق عليه سليم العوا بالنظام التعاقدي.

إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة هي في الأصل دعوة إلى تحقيق العدل، والشريعة في الأساس حسب المفكر الإسلامي فهمي هويدي "مجموعة من القيم الحضارية والأخلاقية والعملية، قبل أن تكون مجموعة من القوانين". مسألة تطبيقها كما أشرنا أعلاه لا تحتاج في جزئها الأكبر إلى الدولة. وإنما إلى جهود الأمة -المجتمع- وتمسكها بالدين، ولأن الأمر كذلك "فإن تطبيق الشريعة ينبغي أن يفهم بحسبانه إقامة العدل بجميع صوره في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإذا ما اقترن تطبيق الشريعة بظلم من أي نوع، في أي من تلك المجالات، فذلك يعني بشكل مباشر تغييب جوهر الشريعة ومقصودها"(22). يتفرع عن ذلك إلزامية النظر إلى الواقع الاجتماعي، فاختلاف الأوضاع الاجتماعية والتاريخية لا يبقي النص القانوني-نقصد هنا الشريعة وغيرها- في حالة الجمود، فالثابت تاريخياً أن أحوال الاجتماع السياسي تتغير، وبالتالي تظهر قدرة الإبداع البشري لتسد الفراغ، وتضمن استمرار التجربة الإنسانية، والمجتمع العربي الإسلامي لا يتميز في هذا عن غيره من المجتمعات، لذلك تتفاعل الشريعة الإسلامية مع العصر، لينتج العقل الإسلامي في كل زمان إنتاجاته الخاصة بمحيطه الاجتماعي، وهو مما ينسب إلى (الفقه)، وليس للنص ولا للحكم المنزل [أي الشريعة](23). هذه الثنائية مكّنت الشريعة من السيادة من داخل ظروف تاريخية وسياسية وجغرافية متباينة، ومن داخل مجال عريض ومتنوع، فبرزت حركة فقهية وفكرية لاءمت ووفّقت بين الأحكام الكاملة دينياً للشريعة، وبين أوضاع تلك المجتمعات، الشيء الذي حافظ على وحدة الأصول والكليات -أصول وكليات الشريعة- رغم التنوع الهائل في الفروع أي في الفقه.

إن دائرة التمييز بين الشريعة التي هي نصوص مقدسة (القرآن والسنة)، والفقه الذي يعتبر إنتاجاً بشرياً مسنوداً إلى الشريعة، يؤدي بنا حسب الفكر السياسي الإسلامي المعاصر إلى تأكيد الخاصيتين التاليتين:

1- أن الشريعة إنجاز إلهي.

2- أن الفقه إنتاج بشري لا يخرج عن الشريعة ومقاصدها.

ولنا أن نتساءل حول هذين الاعتبارين، أَلَا يعتبر الاجتهاد كإعمال للعقل في نص شرعي تشريعاً بذاته؟.

حسب الخبرة التاريخية، فإن الفقه تكيّف مع القواعد الاجتماعية والأعراف السائدة، وهو ما مكنه من التطور، "وليس هناك ما يمنع من اغتناء فقه الشريعة بالعديد من نماذج الحاضر مما أنتجته تجارب حضارات أخرى"(24)، وليس هناك ما يمنع أن تصبح الآراء الفقهية صادرة عن مؤسسات متخصصة في ذلك، أو أن يصدر البرلمان تشريعات تدور في مقاصد الشريعة المرتبطة بما هو إنساني.

* الحاكمية لله و الأمة

يمكن النظر للحاكمية باعتبارها نسقاً يتضمن أداتين: الأولى سياسية، وهو ما يطلق عليه الحكم بالمعنى السياسي، ويدور حول الأفعال بحيث يكون الناس بها -أي الحاكمية- أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، "فهذه الأداة تتأسس على الحاكمية بمكوناتها، وتهدف إلى تحقيق مضمونها، بما يجسد حضور عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه في واقع الحياة غير معزول عن الدنيا"(25). والثانية تتعلق بسلطة القضاء. ولا يسعنا هنا إلَّا أن نشير إلى أن تطور الأنظمة الدستورية المعاصرة يجعل في النهاية من القضاء سلطة من داخل السلطة السياسية للدولة.

إذا نظرنا من زاوية الفلسفة السياسية للحاكمية، فإن حق الله "يعني في المجال السياسي" "حق المجتمع"(26)، و"حكم الله وسلطانه" يعني في السياسة "حكم الأمة وسلطانها"، مما يعني أنه ليس هناك "تناقض هنا بين أن يكون الحكم لله، وبين أن تكون السلطة السياسية والحكم في المجتمع الإسلامي لجماهير المسلمين"(27).

إذا أردنا أن نتحدث بلغة الفقه الدستوري، فإن الحاكمية -يقول المفكر الإسلامي سليم العوا- هي السيادة، وهذه الأخيرة لله سبحانه وتعالى، وهو مَنْ منح للإنسان حق الحاكمية على مصيره الاجتماعي، انطلاقاً من الحرية المقررة في الدين نفسه.

لقد اتخذ مفهوم الحاكمية بعداً إطلاقياً غير مميز بين الأحكام العبادية المحضة والدنيوية، عند كل من سيد قطب(28) وأبي الأعلى المودودي، وبذلك يكون قطب خاصة قد وسّع من مفهوم الحاكمية، ليمس كلٌّ مجالات حياة البشر ويدّعي أن التشريع لله، وأن عقيدة الإسلام وشريعته كل متناسقٌ في شؤون الدين والدنيا. والملاحَظ أن هذه المسلَّمات مقررة عند المسلمين منذ الجيل الأول للإسلام، غير أن جديد سيد قطب تمثل أساساً في نظام المفاصلة بين من يقول بالحكم لله، وبين سائر البشر. من جهة أخرى وصل مفهوم الحاكمية عند سيد قطب إلى القول بأن أي خضوع لقانون غير الشريعة داخل في إطار الشرك، ووجه من وجوه الجاهلية، "لذلك اعتبر أن دعوته إنما هي لإنشاء الدين إنشاء. فهي دعوة لاعتناق عقيدة الإسلام، حتى لو كان هؤلاء الناس يدعون أنفسهم مسلمين"(29).

من جهته يعتبر عبد الوهاب الأفندي السيادة/ الحاكمية لله بأن الترجمة العملية لهذا المفهوم هي السيادة للشرع أو القانون"(30).

أما الدكتور حسن الترابي، فيقدم تصوراً توفيقياً يذهب إلى تفسير الحاكمية لله في المجال السياسي، تفسيراً جديداً يرتبط أولاً بإرادة الأمة وثانياً بالدولة، ويمكن تلخيص رأي الترابي فيما يلي:

1- الدولة وممارساتها السياسية تتحول إلى مشرع، أي إلى رافد من روافد الشريعة/ القانون، ويدل على ذلك تاريخياً اعتبار علماء الأمة الممارسة السياسية لدولة الخلافة الراشدة بمثابة سوابق قانونية.

2- إن الإجماع الذي يعتبر مصدراً من مصادر التشريع، لم يعد مقبولاً أن يكون في المجال السياسي هو إجماع القلة، فإجماع علماء الدين المتخصصين في المجال الديني المحض يعتبر إجماعاً، أما اليوم فإن الإجماع في السياسة هو الرأي العام أي جمهور المسلمين لا رأي قلة من المتخصصين، النتيجة إذن أن الرأي العام هو الحاكم في شؤون الأمة، ومنها القرارات التي تلزم الدولة.

3- إن الاختيارات التي تختارها الأمة تصبح جزءاً من الشريعة، وهذا يعني أن الأمة تشرع لمصالحها، المتحولة عبر الزمان والمكان(31).

فإذا كانت القاعدة أن التشريع لإرادة الله، "فإن للأمة مشاركة فعالة في ذلك"(32).

هكذا يمكننا أن نتجاوز المفهوم الستاتيكي والجامد للشريعة، ويتدخل العقل البشري الجمعي لتدبير أمور الحياة السياسية... التي تركتها الشريعة منطقة عفو وفراغ في كثير من أمورها، لما تتسم به من دينامية لم يكن من شأن الشريعة متابعتها نظراً لتوقف الوحي. وبالتالي يمكن القول: إن ما يشرعه المجتمع عبر مؤسساته كالبرلمان... في موضوع معين، هو بمثابة "شريعة" ما لم يرد فيه نص قطعي الثبوت والدلالة في الشريعة الإسلامية. إن هذا التصور لا يجعل من الدين إحدى عقبات السلطة السياسية، فمن غير المتوقع أن تكون الإرادة المتسامية على الجماعة هي المتحكمة بالحكم، ما دامت السلطة تنبثق من الأمة وفق تصورها الخاص للشأن السياسي. فالتجربة التاريخية منذ الفراعنة إلى سلطة الكنيسة في أوروبا أثبتت، أن مزج السلطة الدينية بالسياسية، لم يسهم في بناء نظام سياسي مؤسسي، ولا ترك للسياسة مجالها الخاص بالعمل المدني، بل جعل من الدين مطية لبناء نظام سياسي فردي متأله، يدَّعي استمداد شرعيته من الله، مفقداً بذلك الإرادة المجتمعية إمكانية الاختيار.

* خلاصة

يثير مفهوم الدولة - رغم ما راكمه الفكر السياسي من معالم معرفية وتنظيمية دقيقة - نقاشاً يصل إلى درجة الإشكالية. ذلك أن البناءات المعرفية ترتبط باللحظات التاريخية وإفرازاتها الاجتماعية، وبالتالي تخضع المفاهيم - طبقاً لعلم تاريخ الأفكار والتاريخ الاجتماعي المقارن - إلى التغير في الدلالة بتغير أحوال الاجتماع السياسي. الدولة إنتاج بشري يدرسه علم السياسة اليوم في دائرة حدود السلطة والأمة، والإطار الجغرافي، (هذا يعني أن مفهوم الدولة القومية الذي يجعل للدولة مرتكزات ثلاثة هي: السلطة السياسية/ السيادة، والأرض، والسكان، ما يزال صامداً رغم موجة العولمة). فطبيعة هذا الكيان اصطناعية، بشرية وديناميكية، لا تتوقف عن التطور والتشكل، كما أنها تحيل دائماً إلى بنية وذهنية المجتمع التي تصوغ السلطة، ومن ثم قد يؤخذ بالدين أو العرق أو كليهما أو غيرهما كأساس للانسجام والتفاعل الاجتماعي والسياسي.

إن البناء الإنتروبولوجي للثقافة السياسية يعتبر حسب التجربة التاريخية أحد عوامل الحسم (وهنا نستحضر الدين في المجتمعات الإسلامية) في تشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، لذلك يشار إليها في الأدبيات السياسية بمؤسسة المؤسسات. بكلمة، "هي مؤسسة تنجزها الأمة، فتنجح فيها أو تفشل، وقد تفرض على الأمة فتكون دائمة الفشل إلا حينما تستطيع هذه الأمة أن تجد مخرجاً تعبر به عن نفسها"(33)، وبما أن المجتمعات المعاصرة خاضعة للتطور الاجتماعي، فإنه من الطبيعي، حسب وجهة نظر علم الاجتماع السياسي، أن توجد هناك أنماط مختلفة من النظام السياسي(34)، تلعب المشروعية عاملاً حاسماً في ثباتها.

يقدم علم السياسة السلطة السياسية للدولة باعتبارها الوجه الأول للقوة، فهي قوة ذات طابع نظامي، ومهيكل، يشمل تنظيمات مركزية وفرعية، تمتلك حق إصدار القرارات وتنفيذها وتوقيع الجزاءات، "وهذا الحق هو ما يطلق عليه اصطلاح السلطة"، وحيث إن السلطة السياسية تتمظهر بأشكال مختلفة، وتبنى على قاعدة إيديولوجية، فإن تأثيرات هذه الإيديولوجية وضعية كانت أم "سماوية"، لابد أن تتحرك في الواقع الاجتماعي بالشكل الذي يضمن لها النفاذ والتحكم، بعبارة أخرى، إن ما يدفع المذهبيات السياسية، وضعية كانت، أم سماوية -إسلامية- ... لطرح وجهات نظرها حول السلطة السياسية هي القاعدة الإيديولوجية المحمولة أصلاً من كل هذه المذهبيات.

الهوامش:

* باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة - جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق أكدال الرباط - المغرب.

(1) محمد عمارة: الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1988 ص 213.

(2) أحمد كمال أبو المجد: المسألة السياسية: وصل التراث بالعصر والنظام السياسي للدولة، مجلة المستقبل العربي، العدد 71 السنة 1985 ص 35-36.

(3) للمزيد من التفصيل في هذه النقطة راجع: طارق البشري: منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، سلسلة الدراسات الاستراتيجية 1، مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى 1991 ص 64 وما بعدها.

(4) محمد سليم العوا، تجديد الفكر السياسي في إطار الديموقراطية وحقوق الإنسان التيار الإسلامي والماركسي والقومي، تحرير عصام محمد حسن، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الأولى 1998 ص 156.

(5) محمد سليم العوا، الدولة، الأقليات، المواطنة، المرأة في الفقه السياسي المعاصر، مجلة المنطلق ع 116 السنة 1996، ص 95.

(6) فهمي هويدي: الخطاب الإسلامي في عالم متجدد، مؤسسة عبد الحميد شومان، الطبعة الأولى 1998 ص 19.

(7) للتعمق في هذه النقطة راجع: فيليب برو: علم الاجتماع السياسي، ترجمة عرب صاصيلا: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998 ص 122-127.

(8) محمد سليم العوا: في النظام السياسي للدولة الإسلامية، المكتب المصري الحديث، الطبعة السادسة 183 ص 153.

(9) عبد الوهاب الأفندي: الإسلام والدولة الحديثة، رؤية جديدة، دار الحكمة لندن، دون ذكر سنة النشر والطبعة، ص 170-180.

(10) حامد ربيع: وحدة الأمة وجوهر النموذج الإسلامي للممارسة السياسية، مجلة قضايا دولية، العدد 336 السنة 1996 ص 35.

(11) حامد ربيع: نفس المرجع ص 35.

(12) أحمد كمال أبو المجد: المسألة السياسية: وصل التراث بالعصر والنظام السياسي للدولة، مجلة المستقبل العربي العدد 71 السنة 1980 ص 37.

(13) إدريس هاني: الدولة والأمة في فكر الشيخ شمس الدين، مجلة الكلمة، العدد 30 السنة 2001 ص 84.

(14) محمد مهدي شمس الدين: المقدس وغير المقدس في الإسلام، مجلة المنطلق العدد 98 السنة 1993 ص 9.

(15) محمد مهدي شمس الدين: نفس المرجع ص 15.

(16) وجيه كوثراني: المجتمع المدني بين الذاكرة التاريخية الإسلامية والتحديات الحضارية المعاصرة، مجلة المنطلق، العدد 131-1998-1999 ص 38.

(17) جاء هذا التصريح للدكتور أحمد الريسوني مع قناة الجزيرة في برنامج الشريعة والحياة 2000.

(18) حسن جابر: الدولة المفهوم والدور، مجلة المنطلق العدد 98، السنة 1993 ص29.

(19) حسن جابر نفس المرجع والصفحة.

(20) حسن جابر نفس المرجع ص 31.

(21) لؤي صافي: العقيدة والسياسة، معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، منشورات الفرقان، سلسلة الحوار 44، الطبعة الثانية 1998 ص 173.

(22) فهمي هويدي: المقالات المحظورة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1998 ص 234.

(23) طارق البشري: في المسألة الإسلامية المعاصرة، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي، في التاريخ المعاصر، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1996 ص 48.

(24) طارق البشري، نفس المرجع ص 50.

(25) هشام أحمد عوض جعفر: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، رؤية معرفية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1995 ص 70.

(26) يتفق هنا كل من محمد عمارة، فهمي هويدي، سليم العوا ومحمد مهدي شمس الدين، في الطرح التحديثي في الفكر السياسي الإسلأمي المعاصر.

(27) محمد عمارة: الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، دار الشروق الطبعة الأولى 1988 ص 34-35.

(28) انظر، سيد قطب: معالم في الطريق.

(29) طارق البشري: في المسألة الإسلامية المعاصرة، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1996 ص 32.

(30) عبد الوهاب الأفندي: الإسلام والدولة الحديثة رؤية جديدة، دار الحكمة، لندن، دون ذكر سنة للنشر، والطبعة ص 99.

(31) حسن الترابي: قضايا التجديد في الفكر الإسلامي، الخرطوم 1982.

(32) راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1993 ص 119.

(33) محمد مهدي شمس الدين: المقدس وغير المقدس في الإسلام، مجلة المنطلق، العدد 98، السنة 1993.

(34) توم بوتومور، علم الاجتماع السياسي، ترجمة وميض نظمي، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 1986 ص 90-91، 99.