شعار الموقع

مستقبل الكتاب في عصر الاستهلاك

منصور عبد الجليل القطري 2004-08-18
عدد القراءات « 706 »


إذ اننا بصدد تسجيل مقارنة بين نمطين من السلوك الاجتماعي الأول يتصل بالماضي ويتداخل مع تراثنا المعرفي والثاني يجسد التوجه الحالي لجيل وشباب المستقبل ويختزن نمط الاتجاهات الفردية في المرحلة الراهنة.
وكلمة الاتجاهات قد تحتاج إلى وقفة تفحص لمضمونها إذا أردنا استخدام أدوات الباحث في ميدان علم النفس الاجتماعي. فهناك فرق بين الاتجاه والرأي العام. وهناك أيضاً فرق بين القيم والاتجاهات.
فقد خطا علم النفس الاجتماعي خطوات كبيرة في قياس الاتجاهات وتغييرها بما يتناسب مع عملية التغيير الاجتماعي.
فمن الناحية النظرية فإن تغيير الاتجاهات يتطلب زيادة المؤثرات المؤيدة للاتجاه الجديد وخفض المؤثرات المضادة له. على سبيل المثال حتى نزيد من الاتجاه نحو عادة القراءة وفي الوقت نفسه نحجم انتشار الظاهرة الحالية ظاهرة (الفرار من الكتاب) من قبل هذا الجيل والذي قد يتصف بالابتعاد عن القراءة والتثاقف العميق. في مثل هذه الحالات نلجأ إلى تفعيل معارض الكتاب لكي ندفع الناشئة من الشباب إلى زيارة هذه المعارض ضمن خطة شاملة لتعزيز عادة القراءة والاطلاع. وخلفية الصراع في السلوك الاجتماعي يحدث عندما يجد المرء نفسه في موقفين متناقضين يتطلب أحدهما سلوكاً معيناً بينما يتطلب الآخر سلوكاً مغايراً. ومرجعية هذا التناقض قد يكون اجتماعياً أو نفسياً أو قيمياً.
فلو رجعنا أنثربولوجياً بذاكرتنا ومخيلتنا إلى الوراء إلى الماضي وتجولنا في سوق الكتب عند بوابة البصرة ببغداد سنشاهد أكثر من مئة متجر لبيع الكتب كان المهتمون بالثقافة والعلم من كل أنحاء العالم الاسلامي يلتقون هناك. فيأتي الفلكي والعالم والشاعر يفتش في هذا المعرض عن آخر الاصدارات من الكتب. وكذلك يبحث الطبيب والمؤرخ عن المخطوطات وعن النسخ القديمة. وقد يصادف أن يتناقشوا ويتبادلوا الرأي في أهم قضايا الفكر والمعرفة. وإذا طال مقام الحوار واتسع النقاش فقد يدعوهم أحد رواد هذه السوق إلى ضيافة الحضور ليستكمل النقاش في داره (الديوانية حالياً).
وكتاب (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي يضج بالقصص والمواقف العديدة لظاهرة الاهتمام بالكتب. لكن قد يعلق أحدهم ويرد على فحوى هذا الكلام بأن الاتجاه والاهتمام بالكتب والقراءة ليس مستغرباً إذ أنه في كل عصر من العصور تكون هناك فئة من العلماء والمثقفين تهتم بالمعرفة والاطلاع!!.
في الواقع هذا الإشكال لا يخلو من التبسيط الشديد لقيم ثقافية واجتماعية كانت سائدة في ذلك الزمان. إذ يمكننا استنتاج واستقراء طبيعة الذوق العام في تلك الحقبة من خلال مطالعة مجموعة من المصادر ومجموعة من القصص والتي نستشف منها أن الاهتمام بالكتاب والقراءة لم يكن مقتصراً على شريحة العلماء فقط. (مصطلح المثقف لم يكن وارداً في ذلك الزمان)، بل وصل الاهتمام بالكتاب إلى كل الشرائح الاجتماعية بحيث أصبحت العلوم والآداب هواية وعادة حميدة لقطاعات مختلفة من الناس. وهي تشبه عشق الشباب اليوم إلى لعبة الكرة وحفلات الرقص وأنماط التسلية الاستهلاكية.
تقول المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكة) ان كل متعلم في العالم الاسلامي من أكبر كبراء الدولة إلى بائع الفحم ومن قاضي المدينة إلى مؤذن المسجد هو زبون دائم عند بائع الكتب. ويمكن الاستشهاد بباعة الكتب فقد كانوا قراء وليسوا تجار فقط على سبيل المثال (ابن النديم) كان تاجر مبيعات كتب وتضيف المستشرقة في حديثها عن اهتمام العرب بالكتاب بأن مكتبة صغيرة كمكتبة النجف في العراق كانت تحوي في القرن العاشر (أربعين ألف) مجلد بينما لا تحوي أديرة الغرب على اثنتي عشر كتاباً ربطت بالسلاسل خشية ضياعها. وكل قارىء لو طالع أي كتاب من الكتب التي تحدثت عن نصير الدين الطوسي فإنه سيلاحظ ما قام من جمع (400000) مخطوطة لمرصده في مراغة. نكتفي إلى هنا بهذه الجولة في ذاكرة تاريخنا. ودعونا الآن ننتقل بآلة التصوير القلمية إلى أحد العواصم والتي استقبلت مؤخراً المغني المشهور (مايكل جاكسون) ونلقي الضوء على بعض الأرقام فقد تم خلال أقل من 24 ساعة وصول أكثر من (15) ألف من المتفرجين في (23) طائرة جاءت من مختلف أقطار العالم العربي. ثم تدفق حوالي (50) ألفاً من نفس الدولة وجاء حبواً على الثلج (25) ألفاً من نفس العاصمة وقد كان سعر التذكرة (35) ديناراً أي ما يعادل 33 دولاراً أمريكياً وهو يمثل أرخص بطاقة في سلم أسعار الحفلة. هذا المبلغ لعله يشكل المصروف الشهري لشاب أو شابة ذهبت إلى تلك الحفلة من ذوي الدخل المتوسط ونحن لا نعلم كم عدد الذين استدانوا أو عدد الذين حرموا أنفسهم مصروف ذلك الشهر كي يوفقوا لأداء مناسك ذلك الحفل؟!.
هذا المشهد الاجتماعي وهذه المقارنة التحليلية لعلها تضيء لنا ما نجهله عن جيل الأبناء أو لنقل جيل المستقبل وعلاقته المتناقضة مع موروثه القيمي والثقافي ورصيده الحضاري، فقد يتفوه الشباب بأنهم يكرهوا (أمريكا سياسياً) ولكن لا نعلم مع ذلك سر هذا التشبه بالنمط الثقافي الأمريكي؟!.
والذي يجتاح المعمورة قاطبة وليس شبابنا فقط.
وإذا ارتكزنا على محورية علمية فإن أحد خصائص الاتجاهات يتمثل في أنه قد يكون قوياً ويظل قوياً على مر الزمن ويقاوم التعديل والتغيير وقد يكون ضعيفاً يمكن تعديله وتغييره. لذا فهناك مداخلة مع شريحتين من شرائح مجتمعنا الأولى شريحة النخبة المثقفة والتي يتوقع الجميع منها أن تلعب دوراً في رصد طبيعة الحراك الاجتماعي فالاتجاهات تتفاوت في وضوحها فمنها ما هو واضح المعالم ومنها ما هو غامض. وإذا كان هناك اليوم ما يعرف بالهندسة الوراثية فإننا نعتقد أن أحد مهام النخبة المثقفة هو القيام بوظيفة الهندسة الاجتماعية إذا صح التعبير. أما الشريحة الثانية فإننا لازلنا نأمل أن يقوم الأهالي بتدريب أبناءهم على إدخار مبلغ من المال أو من مصروفهم الشهري للذهاب لمعارض الكتاب أو لشراء موسوعة عوضاً عن الاكتفاء باصطحابهم إلى أماكن الترفيه أو الترويح فقط. فالتخطيط العائلي لإحداث عادات وإنشاء قيم يطبقها الأبناء تبدأ من البيوت. ويمكن الآباء أيضاً اصطحاب الأبناء إلى المتاحف ومعارض الكتاب أو يمكنهم زيارة سوق الكتب عند بوابة البصرة ببغداد جنباً إلى جنب مع ابن النديم ونصير الدين الطوسي!.
فماذا عن مستقبل الكتاب في القرن القادم!
وماذا عن مستقبل هذا الجيل!
حذاري من الكارثة....
* معهد الادارة العامة ـ المملكة العربية السعودية.