شعار الموقع

قضايا المرأة في الاجتهاد الإسلامي المعاصر

محمد تهامي دكير 2005-07-02
عدد القراءات « 774 »

قضايا المرأة في الاجتهاد الإسلامي المعاصر

في حوار مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله

حاوره في بيروت، محمد تهامي دكير

قضية المرأة من القضايا المهمة التي شغلت الفكر الإسلامي المعاصر، ولا تزال تأخذ حيزاً مهماً في انشغالاته، فقد طالب المجددون والمفكرون المسلمون بضرورة إعادة النظر في وضع المرأة المسلمة على المستويين الواقعي والتشريعي، لإخراجها من الواقع المتخلف والمتردي الذي تعيشه على جميع الأصعدة، مما أثّر سلباً على مكانتها وعطائها ودورها الإنساني والاجتماعي.

وهكذا انطلقت السجالات حول موضوع المرأة، وسط معطيات متناقضة، أهمها وأخطرها حضور النموذج الغربي للمرأة فكراً وممارسة، والذي أصبح يفرض نفسه يوماً بعد يوم على الواقعين العربي والإسلامي، ويضع المرأة المسلمة أمام تحديات المقارنة بين واقعها المتخلف والمزري، وبين واقع آخر تتمتع فيه المرأة -على الأقل على المستوى الظاهري- بالكثير من الحقوق والامتيازات، ويغري بالتقليد والمتابعة. من جهة أخرى انطلقت دعوات من خارج الدائرة الإسلامية، تطالب بضرورة تجاوز التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة، لكونها متخلفة عن الواقع من جهة، ولكونها لم تعد تتماشى مع مشاريع التحديث التي طالت كل الميادين.

في المقابل كانت استجابات الفكر والفقه الإسلاميين إيجابية إلى حد كبير بشكل عام، حيث انخرطا معاً في عملية تأصيل واجتهاد، استطاعت أن تعيد النظر في عدد من المسلَّمات والآراء القديمة والمتوارثة، كما فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه لإعادة النظر في هذه القضايا، مما يشغل بال الفكر والواقع الإسلاميين. لكن هذه العملية عانت ولا تزال تعاني من وطأة الواقع والعرف والتقاليد الاجتماعية التي تتحكم في مفاصل وضع المرأة المسلمة، لكن مما لاشك فيه أن العقل الاجتهادي الإسلامي المعاصر قد خطا خطوات مهمة إلى الأمام. فمجمل القضايا والمسائل التي انتقد بسببها التشريع الإسلامي هي الآن محل نظر، وقد وضعت على طاولة الاجتهاد من طرف عدد من الفقهاء والمجتهدين، المتحررين من سطوة التقاليد والأعراف الاجتماعية، وثقل التراث الفقهي، وآراء واجتهادات القدامى، من آلى على نفسه أن يخوض غمار التجديد، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات والآراء، منطلقاً من إعادة الفهم للقيم والمبادئ الإسلامية المتعالية والنصوص الدينية، على ضوء المعطيات العلمية والواقعية المعاصرة.

من بين هؤلاء الفقيه والمرجع سماحة السيد محمد حسين فضل الله، الذي أثارت آراؤه الاجتهادية الكثير من الجدل، ليس فقط في موضوع المرأة وحقوقها، ولكن في مواضيع أخرى. مجلة الكلمة زارته في مكتبه في بيروت، وأجرت معه الحوار التالي:

* سماحة السيد، إن الاجتهاد الفقهي الإسلامي يدرك الآن ضرورة وأهمية إصلاح وضع المرأة، وإعادة النظر في عدد من المسلَّمات، لكن على ألَّا يتجاوز هذا الإصلاح والتغيير الالتزام بالمرجعية الإسلامية ومبادئها، وعدم القبول بالمبادئ والقيم الغربية، مثل مفهوم الحرية الغربية مثلاً، إلى أي حد يعتبر هذا الموقف منسجماً مع مبادئ الإسلام وشريعته وفي الوقت نفسه لا يقف في وجه البحث لإعادة النظر في قضايا المرأة؟.

من الطبيعي أن يكون الاجتهاد هو القاعدة التي لابد للمثقفين المسلمين من الفقهاء أو غير الفقهاء أن يأخذوا بأسبابه، من أجل تطوير الفهم للنصوص الواردة في الكتاب والسنة، وهما الأساس في كل مفهوم إسلامي وفي كل حكم شرعي، وعندما أتحدث عن التطوير فأنا لا أتحدث عنه كعقدة تحكم المثقفين، تحكم الاجتهاد لدى المثقفين، بل إننا نتصور أن اجتهاد القدماء كان مرتكزاً على ثقافتهم، ونحن نعرف أن القدماء اختلفوا فيما بينهم حسب اختلاف ثقافتهم، ولذلك يمكن لنا أن نختلف معهم، بأن ندرس النصوص دراسة جديدة كما لو لم يدرسها أحد قبلنا، مع ملاحظة الفهم السابق عندما نريد أن نؤكد فهمنا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مسألة أن يكون الاجتهاد إسلامياً، هو ألَّا يخرج عن القواعد العلمية الاجتهادية، التي تؤكد على المصدر الأساسي للاجتهاد، وهو الكتاب والسنة، لأن هناك اتجاهاً يتداوله الكثيرون الآن، وهو أن نجتهد في المطلق، انطلاقاً مما نعيشه من تطلعات، إن هذا لا يمثل اجتهاداً إسلامياً، بل هو اجتهاد ذاتي، يحاول أن يُقَوِّل الإسلام من موقع ذاتيته، لا من موقع نصوصه.

* سماحة السيد، الفقهاء المجددون في فقه المرأة، انتقدوا بشدة مرجعية العرف الاجتماعي في فهم النصوص الدينية، كما انتقدوا عدداً من الأحاديث لأنها ضعيفة أو معلولة سنداً أو متناً، ويرون أن أي اجتهاد معاصر، يجب أن يتحرر من اجتهادات القدامى، وكذلك الأعراف الاجتماعية، وإعادة النظر في قراءة الأحاديث والروايات. ما رأي سماحتكم في هذا الموضوع؟.

إن مسألة العرف الاجتماعي قد تترك تأثيرها على المجتهد، بحيث يفهم النص من خلال الذهنية الذاتية التي تكونت من خلال البيئة التي يعيشها المجتهد، ولذلك فإن علينا أن ندقق في العرف الاجتماعي، ومدى تأثيره على ذهنية المجتهد في استنباط هذا الحكم أو ذاك الحكم، وهكذا لابد لنا عندما نريد أن ننسب شيئاً إلى الرسول K، لابد لنا من أن نوثق هذه النسبة، بأن تكون المصادر لهذا الحديث أو ذاك الحديث، مصادر موثوقة، أما إذا كان الراوي ضعيفاً، أو كان الراوي مختلطاً، فمن الطبيعي أن نتحفظ في أخذ فكرة استنتاج الحكم الشرعي أو المفهوم الإسلامي من هذا الحديث، لأن نسبته إلى الرسول عليه وآله الصلاة والسلام لم تثبت على الوجه القطعي.

* سماحة السيد، البعض يدعي أن الفقهاء يخافون من سطوة التقاليد والأعراف الاجتماعية، إلى أي حد يمكن أن يكون هذا الادعاء صحيحاً ؟!.

قد نجد ذلك لدى بعض النماذج -لدى بعض الفقهاء- في إعلانهم للرأي الذي قد يصل إليه اجتهادهم إذا خالف الذهنية العامة، ولكن هناك فقهاء أيضاً يملكون شجاعة إعطاء وإبداء الرأي المخالف، حتى لو واجهوا المعارضة القاسية من مجتمعهم.

* سماحة السيد، كيف يمكن التعامل في فقه المرأة مع الاختلاف المذهبي، مذهبٌ يحلِّل ومذهبٌ يحرِّم، الطالبان مثلاً منعت تعليم المرأة وعملها، وفي بعض الدول العربية، تمنع المرأة من عدد من الحقوق البسيطة بحجج وذرائع متنوعة، في الوقت الذي تتمتع بها في دول أخرى.. أي رأي نقدمه للمرأة وللعالم باعتباره الرأي والموقف الإسلامي من قضايا المرأة؟.

الأساس أن المسألة لا تخضع لاعتبارات مذهبية، ولكنها تخضع لاعتبارات علمية، لأن الأساس في كل فقه، سواء كان هذا الفقه للرجل أو للمرأة أو فقهاً مشتركاً -إذا صح التعبير- ينطلق من الكتاب والسنة، ولذلك فلابد لنا من أن نرجع إلى كتاب الله نستوحي منه المفاهيم في فقه المرأة، كما نرجع إلى ما صح عن النبي K في هذا المجال، مع التأكيد على الاتفاق على أصول تصحيح النصوص الواردة في السنة في هذا المجال بطريقة علمية أيضاً. لذلك فإن المشكلة لدى الكثيرين من الذين يجتهدون سلبياً بالنسبة إلى المرأة، كما في الذين ينكرون عليها أن تتعلم، وينكرون عليها أن تشارك في القضايا العامة، بل وينكرون عليها حتى إنسانيتها، في عقلها وفي موقعها الفكري والإنساني، إن المسألة تنطلق من جانب التخلف في فهم الكتاب والسنة، أو تتخذ جانب الاعتماد على بعض الأحاديث من دون مقارنتها بالأحاديث الأخرى، نحن نعرف أن علماء أصول الفقه تحدثوا كثيراً في باب التعادل والترجيح عن الأخبار المتعارضة في هذا المجال، وطريقة حل التعارض، إن البعض يأخذ ببعض الأحاديث ويرفض أحاديث أخرى، فيحكم على هذا الأساس. لذلك إنني أعتقد أنه من الممكن جداً أن يلتقي فقهاء المسلمين على قواعد مشتركة، لتأصيل النص هنا وهناك، سواء تأصيل النص في المسألة التفسيرية، إذا تعلقت المسألة بالقرآن، أو بالمسألة السنَدية والمضمونية، إذا تعلق الأمر بالسنة، ويمكن أن نصل إلى نتائج مشتركة تصحح ما أخطأ فيه الآخرون.

* سماحة السيد، من الملاحظ أن الفقه الشيعي تطور موقفه من المرأة خلال العقود الأخيرة، ما هي مظاهر هذا التطور، وما هي نواقصه، والعوائق التي تقف دون تفعيل الاجتهاد في مجال فقه المرأة بالشكل المطلوب؟.

إننا نلاحظ أن فقه المرأة في الاجتهاد الإسلامي الشيعي، استطاع أن يؤصل الفكرة التي تقول، بأن للمرأة حق المشاركة في كل جوانب الحياة التي ينطلق إليها الرجل، ولا سيما في مسائل الأخذ بأسباب العلم، وإلى أبعد مدىً في الموضوعات العلمية، وهكذا المشاركة في العمل السياسي والعمل الاجتماعي، على أساس أن المرأة إنسان مسؤول كما هو الرجل إنسان مسؤول، وأن مسؤولية المرأة كما هي مسؤولية الرجل تتسع لكل ما أراده الله سبحانه وتعالى للإنسان، في تنوعات حياته الفردية والاجتماعية والسياسية والعلمية وما إلى ذلك، وهكذا رأينا كيف شاركت المرأة من موقعها الإسلامي في مواقع المسؤولية كما نلاحظه في إيران مثلاً، فالمرأة تشارك في الانتخابات تصويتاً وترشيحاً، وما نلاحظه في المجتمع الإسلامي الشيعي في لبنان، فإن المرأة تنطلق من موقعها الإسلامي على أساس أن مشاركتها في الانتخاب تمثل تكليفاً شرعياً إسلامياً، لا من خلال دعوة الحرية العلمانية وما إلى ذلك، وهكذا نلاحظ أن المرأة اقتحمت الجامعات، واقتحمت الوظائف الكبرى التي تصل بها إلى مستوى المواقع الرسمية، كمستشارة لرئيس الجمهورية الإسلامية، أو كموظفة في الإدارات العامة وما إلى ذلك من هذه الأمور، هذه الأوضاع تمثل تطوراً في هذا المجال.

ومن الطبيعي أن هناك بعض القضايا التي يدور الجدل فيها، مما بدأ البحث فيه الآن، كمسألة القضاء ومسألة رئاسة الدولة، وما إلى ذلك من الأمور، وهكذا بالنسبة إلى تفاصيل حق الطلاق للمرأة وقضايا أخرى، هذه من الأمور التي لا تزال موضع جدل جديد في مسألة الاجتهاد.

* سماحة السيد، البعض يدعو إلى تغيير الكثير من الأحكام المتعلقة بالمرأة، لأنها من الأحكام التي شملها التغيير والتطور الاجتماعي، وكذلك إلى ضرورة التوفيق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية المعاصرة. من بين الأحكام التي يطالبون بتغييرها نظام الإرث، عقوبة الزنا، تعدد الزوجات، وغيرها من الأحكام، ما رأي سماحتكم؟.

إن مسألة التغيير هي مسألة لابد أن تكون مسار تحفظ، لأن قضية أن تغير حكماً شرعياً، لابد لك من أن تبحث عن أصول هذا التغيير من المصادر الأساسية للحكم الشرعي، وهي الكتاب والسنة بحسب الفهم الاجتهادي لهما، لذلك فإن قضية تغيير الحكم الشرعي لأن القوانين الوضعية اختلفت معه، أو لأن التطورات الاجتماعية المنطلقة من أسس غير إسلامية، أنتجت مثل هذا القانون أو ذاك القانون، لابد لنا هنا أن ندرس المسألة دراسة شاملة.

لنتحدث عن هذه العقوبات، أو عن هذه المفردات التي ذكرها السؤال، كقانون الإرث مثلاً، نحن نعتقد أن الإسلام عندما ركّز هذا التفريق بين حصة المرأة وحصة الرجل فإنه لم يركّزها انتقاصاً من شخصية المرأة، ولكن ذلك كان من خلال التوازن بين ما أعطى المرأة وما أخذ منها، فالإسلام أعطى المرأة الحق في نطاق الحياة الزوجية، بأن تأخذ المهر وأن تأخذ النفقة حتى لو كانت غنية مثلاً، ولم يحمِّلها مسؤولية الإنفاق على الأولاد أو على البيت الزوجي، وعلى ضوء هذا فإن ما أخذه التشريع الإسلامي من المرأة من جانب، أعطاها إياه من جانب آخر، وربما يتكلم بعض الناس على سبيل الطرفة، أن الرجال عليهم أن يطالبوا بالمساواة مع المرأة في مسألة الحصة في الإرث، القضية خاضعة للتوازن في مسألة الأخذ والعطاء، إذن علينا ألّا نستغرق فيما أخذه الإسلام من المرأة، بل علينا أن نقارن بين ما أخذه منها وما أعطاها إياه.

أما عقوبة الزنا فهي مشتركة بين الرجل والمرأة، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}.

أما مسألة تعدد الزوجات فهذه القضية تخضع لكثير من الحاجات الإنسانية، التي قد تحتاجها المرأة وقد يحتاجها الرجل، قد تحتاجها المرأة عندما يكثر عدد النساء ونواجه حالة لا تجد فيها المرأة زوجاً، وربما نواجه بعض الحالات الحادة التي قد يفرضها الواقع، لإبعاد الرجل عن الانحراف وما إلى ذلك، ونحن نعتقد أن العالم كله يواجه اليوم التعدد لا الوحدة، فنحن نجد أن الغرب كله قد منع تعدد الزوجات، ولكنه أطلق تعدد الصاحبات أو العشيقات أو ما إلى ذلك، بشكل فوضوي لم يضع له أي حدود، حتى اضطر التشريع الغربي الآن، إلى إعطاء العشيقة حقوق الزوجة في مشاركتها للرجل في ماله، وفي الكثير من الحقوق الأخرى.

هذا إلى جانب الكثير من الأمور، التي قد تجعل من هذا التشريع تشريعاً واقعياً عملياً، مع ملاحظة أخرى، وهو أن التعدد في الوقت الذي قد يأتي ببعض السلبيات للمرأة الزوجة الأولى، يأتي أيضاً ببعض الإيجابيات للمرأة نفسها، فتعدد الزوجات يعني حل مشكلة الزوجة الثانية، وإن كان ذلك على حساب الزوجة الأولى، وهناك نقطة لابد أن نلاحظها، وهي أن عالمنا عالم محدود، وأنك لا تستطيع أن تحقق شيئاً إيجابياً إلا وإلى جانبه شيء سلبي، لا مطلق في هذا المجال، فالمسألة هنا أنه قد يكون هناك سلبية بالنسبة للزوجة الأولى، ولكن هناك إيجابية بالنسبة للزوجة الثانية.

ولهذا فإن المسألة ليست اضطهاداً للمرأة، ولكنها حل لمشكلة معينة قد تتسبب في مشكلة أخرى، وهذا موجود حتى في أصل الحياة الزوجية. فنحن عندما ندرس الحياة الزوجية، نجد أنها في الوقت الذي تحل مشكلة للزوج أو الزوجة، فإنها تخلق مشكلة أخرى في جانب حرية الشخص في حياته، أو ما إلى ذلك من الأمور.

* سماحة السيد، في السياق نفسه بالنسبة لعدم قبول شهادة المرأة في بعض القضايا مثل الدماء والحدود، أو كون شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، هذه الأحكام تعتبر في نظر البعض تمييزاً ضد المرأة.

هل هذه الآراء اجتهادية يمكن إعادة النظر فيها عن طريق الاجتهاد المعاصر، أم هي أحكام إسلامية، تستند إلى نصوص لا يمكن تجاوزها، أو فهمها بخلاف ما فهمه القدماء منها؟.

أما بالنسبة لشهادة امرأتين في مقابل شهادة رجل واحد، أو شهادة رجل في مقابل شهادة امرأتين، فالقرآن يعللها بقوله: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}، وهذا التعليل يعني أن هذه المسألة لم تنطلق من النظرة الدونية للثقة بالمرأة، ولكن من باب الاحتياط للعدالة.

ومن الملحوظ أن المرأة هي التي تصحح للمرأة، مما يدل على أن هناك ثقة بالمرأة في هذا المجال، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإننا نلاحظ مثلاً أن الفقهاء بالنسبة للبيّنات التي تطلب في مقام القضاء، لا يكتفون بشهادة رجل واحد، بل يحتاجون إلى شهادة عدلين، فهل هذا انتقاص من الشاهد الأول؟ إن القضية هي أن هذه المسائل تدخل في باب الاحتياط للعدالة.

على أننا نجد في باب الشهادة، أن بعض التشريعات الإسلامية قد تقبل فيها شهادة امرأة واحدة، كما في مسألة البكارة والثيبوبة، ومسائل أخرى مثلاً تتصل أيضاً بما لا يطلع عليه إلا المرأة، إننا نعتبر أن هذه الأمور تدخل في باب الاحتياط للعدالة.

فهناك بعض الأشياء يراد لها الاحتياط بشكل أكبر، مثلاً نجد أن الزنا لابد فيه من أربعة شهود، فإذا كانت القضية في عالم الحدود، وفي عالم الدماء، فإن الأمر يحتاج إلى الاحتياط أكثر في هذا المجال، ولذلك نحن نقول بأن هذه المسألة تدخل في باب الاحتياط للعدالة، في أمور يُحتاج إلى الاحتياط فيها.

* سماحة السيد، بخصوص استبعاد المرأة عن تولي القضاء، بناء على عدم قبول شهادتها في الحدود والقصاص، وكذلك عدم قبول ولايتها على الأطفال إذا توفي أبوهم. وهذه مشكلة كبيرة الآن في المحاكم، ما هي أدلة المنع؟ وهل يمكن للاجتهاد المعاصر أن يعيد النظر فيها بما يمكِّن المرأة من أن تمارس القضاء، وكذلك أن تتولى الإشراف على أبنائها إذا كانت قادرة على ذلك؟.

إن مسألة تولي القضاء وردت فيها نصوص خاصة، لا من خلال قياس المسألة على عدم قبول شهادتها مثلاً في الحدود أو في الدماء، وما أشبه ذلك، ولكن هناك فقهاء -ونحن منهم- يتحفظون حول سند هذه الأحاديث التي تقول: لا تُولّى المرأة القضاء، إلى جانب أن القضاء الآن يختلف عن القضاء سابقاً، لأن القضاء كان في السابق ينطلق من خلال القاضي فحسب، أما مع تطور أصول الإثبات في القضاء، فإن القاضي لا يملك الحرية الكبيرة في النظر إلى الدعوة، أو إلى إعطاء الحكم فيها، بل إن هناك أوضاعاً إدارية جديدة، تجعل القاضي أكثر دقة في مسألة القضاء.

ربما يتحفظ بعض الفقهاء في اعتبار أن مسألة القضاء سابقاً تختلف عن مسألة القضاء الآن، مما قد يجعل السلب في المسألة بحسب الأحاديث السابقة يختلف عن الإيجاب في هذا المجال، ولهذا فإن المسألة أصبحت محل نظر.

* وبالنسبة لكفالة المرأة للأطفال والإشراف عليهم؟.

بالنسبة للإشراف على الأبناء، باعتبار أن الرجل الأب في هذا المجال هو الذي يتحمل مسؤولية إعالة أولاده، وقد تكون هناك بعض المواصفات التي يتميز بها الرجل، بحسب ظروفه النفسية وظروفه العامة، تجعل الرجل أكثر ارتباطاً بالولاية على الولد من المرأة، ولكن هناك جانباً آخر، وهو أنه يمكن للرجل في الوصية أن يجعل امرأته وصية على الأولاد، ويمكن للقاضي أيضاً أن ينصب المرأة وصيةً على الأولاد، مما يمكِّننا من فتح هذه الثغرة، التي تعطي المرأة بعض الحق في هذا المجال.

* سماحة السيد، هناك من يرى أن ما تسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصدي المرأة وتولِّيها للسلطة، دعوى ليس عليها دليل معتبر، وكذلك لا دليل على اشتراط الذكورة في رئيس الدولة، وبالتالي لا مانع من تولي المرأة السلطة، في إطار حكم المؤسسات ونظام الشورى. ما هي وجهة نظر سماحتكم حول الموضوع؟.

أما بالنسبة لقضية تولي المرأة الرئاسة العامة، فالذين يتحدثون عن ذلك بطريقة السلب، ينطلقون من حديث نبوي شريف، يصحِّحه البعض ويتحفَّظ عليه البعض الآخر، وهو أنه مات ملك فارس، فعين قومه امرأة الملك لتكون الملكة، فسئل النبي K فقال: ما أفلح قوم ملكتهم أو وليتهم امرأة. فاعتمدوا على هذا الحديث وقالوا بأن النبي كان في مقام التشريع في هذا المجال، وقوله: ما أفلح قوم، يعني أن على المجتمع ألَّا يملِّك المرأة أمره في مستوى الرئاسة العامة، ولكن هناك من يتحفظ على هذا الحديث فلا يوثِّقه، وهناك من يقول: إن قضايا الرئاسة العامة في الماضي تختلف عن قضايا الرئاسة العامة في الحاضر، لأن الرئاسة في الماضي كانت تمثل استبداداً من قبل رئيس الدولة على الدولة كلها -كما نقرؤه في التاريخ-، بينما نجد أن الرئاسة العامة الآن، تنطلق من خلال خضوع رئيس الدولة للقانون العام، وللأجهزة المحيطة به، التي يمكن أن تصل إلى مستوى عزله عندما يخالف القانون، وهذا يعني أن الحديث النبوي الشريف -على تقدير صحته- إذا كان ينفي ذلك، فإنه ينفي ذلك الواقع التاريخي، يعني الرئاسة العامة بحسب ظروفها في ذلك الوقت، ولا يشمل الرئاسة العامة بحسب المعطيات الحاضرة، والواقع المعاصر في هذا المجال.

أما إذا ابتعدنا عن مسألة الرئاسة العامة للدولة، وانطلقنا في مجالات أخرى، فنحن لا نمانع من أن تتولى المرأة الوزارة، أو تتولى الإدارات العامة أو ما إلى ذلك، أو تدخل مجلس الشورى، لتشارك فيه بالتصويت، أو بالترشيح، وبالتالي فليس هناك مشكلة في هذا المجال.

* سماحة السيد، هناك نساء بلغن درجة الاجتهاد، لكن الشائع عدم جواز تقليد النساء، أو تصديهن لمقام الإفتاء. كيف لمن حصل على ملكة الاجتهاد أن يقلد غيره، وما علاقة التقليد العلمي بجنس المقلد؟.

أولاً إذا بلغت المرأة درجة الاجتهاد فليس لها أن تقلد أي مجتهد آخر، بل لابد لها -إجماعاً عندنا- من أن تأخذ برأيها فيما اجتهدت فيه، أما بالنسبة لمسألة أن تكون المرأة في موقع المرجعية، فهناك الكثير من الفقهاء -ونحن منهم- لا يجدون مانعاً من أن يُرجَع إليها في الفتيا، لأن قضية الرجوع للإفتاء، التي يعبر عنها بالتقليد، ترتكز على رجوع الجاهل إلى العالم، وهذه القضية لا علاقة لها بالذكورة أو الأنوثة. ولذلك فإذا بلغت المرأة مرتبة الاجتهاد المطلق، فلا مانع من الناحية الفقهية من أن يرجع إليها الآخرون ويؤخذ برأيها تماماً كما نلاحظه في العلوم الأخرى، فنحن نجد أن المرأة يرجع إليها في الطب، ويرجع إليها في الهندسة، وفي غير ذلك من المجالات الأخرى. إننا لا نفرق بين الاجتهاد في الفقه، أو الاجتهاد في العلوم الأخرى، في قضية العلاقة بالآخرين الذين يحتاجون إلى رأي المجتهد في هذا المجال.

* سماحة السيد، هناك قضية مثارة في الأوساط الفكرية اليوم، تتحدث عن ذكورية الفقه، فهناك من يدّعي أن الفقه الإسلامي هو فقه ذكوري، ويستدل على ذلك بعدم وجود فقيهات مجتهدات، يجتهدن في قضايا المرأة. فالرجل الفقيه هو الذي يشخص ويفتي في موضوعات خاصة بالنساء، مثل الحيض والنفاس وغيرهما من القضايا المتعلقة بالمرأة. ما هو رأي سماحتكم في هذا الادعاء بذكورية الفقه؟.

إنني لا أوافق هذه النظرة، أولاً: لأن قضية الذكورة والأنوثة في هذا المقام، لا علاقة لها بالمصدر الاجتهادي، لأن مصدر الاجتهاد هو الكتاب والسنة، والكتاب والسنة لا علاقة لهما بالذكورية، فالكتاب وحي الله، والسنة هي كلام رسول الله K الذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، ولذلك ليست هناك أي ذكورية بالنسبة للمصدر التشريعي في هذا المقام، أما قضية التشخيص في هذا الموضوع، فالقضية تتصل بالواقع الذي منع المرأة من أن تأخذ بأسباب العلم، لتصل إلى مرتبة الاجتهاد، وهذه مسألة خاضعة للظروف الاجتماعية وللتقاليد المألوفة، وليست خاضعة لطبيعة الاجتهاد في نفسه وفي ذاته، لذلك نقول: عندما ينشأ عندنا مجتهدات، يأخذن بأسباب الاجتهاد، فمن الممكن جداً أن يستنطقن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بطريقة حرة، وقد يصحِّحن فيها ما شخَّصه الفقهاء من الرجال، إذا تبين أن ذكوريتهم أثَّرت في آرائهم.

* سماحة السيد، يرى البعض أن موضوع المرأة مثال للصراع الحضاري والثقافي، ظهر ذلك واضحاً في مؤتمر بكين سنة 1995م، حيث اختلفت الرؤى بين المنظومة القيمية والحقوقية الإسلامية والمنظومة الحقوقية الغربية، خصوصاً في مواضيع مثل: الحرية الجنسية، المساواة، الإجهاض.. الخ.

إنني أعتقد أن المسألة تتصل بالقاعدة التي ينطلق منها الفكر، سواء كان الفكر إسلامياً أو كان الفكر علمانياً، فنحن نلاحظ أن هناك اختلافاً في الفلسفة التي ينطلق منها التشريع هنا وهناك، في مسألة الحرية الجنسية والنظام الجنسي الذي يحكم علاقة المرأة بالرجل، وليست المسألة خاضعة لتطور ذاتي في طبيعة إنسانية الرجل والمرأة أو في طبيعة الحياة، إنها غلبة فلسفة على فلسفة، ومن الطبيعي أنه لا يفترض في الإسلام أن يخضع لتشريعات انطلقت من فلسفة أخرى ليسقط فلسفته الخاضعة لقيم أخلاقية وإنسانية وروحية في هذا المجال أو ذاك المجال.

* سماحة السيد، في السياق نفسه، نجد أن الفقه الإسلامي قد ربط بين كرامة المرأة وبين عفتها وطهارتها وسموها الأخلاقي، أما المنظومة الحقوقية الغربية، فاعتبرت أن الكرامة تجسدها الحقوق التي تتمتع بها المرأة بعيداً عن سلوكها الأخلاقي، كيف يمكن التوفيق بين الرؤيتين المختلفتين في العالم العربي؟.

إنني أعتقد أن قضية الكرامة تنطلق أيضاً من فلسفة معينة للمفاهيم الإنسانية، فالإسلام عندما تحدث عن كرامة المرأة في جانب العفة وما إلى ذلك، فإنه لم يحصر الكرامة في هذا الجانب، بل إنه أراد أن يقول للمرأة: إنها ليست مجرد جسد يشتهيه الآخرون أو يتعاملون معه على أساس غرائزهم، وإنما المرأة هي إنسان يملك عقلاً، ويملك إرادة، وأيضاً يملك جسداً كما يملك الرجل الجسد، فكما أن كرامة المرأة هي في توازنها الجسدي -إذا صح التعبير- في قضايا العفة وما إلى ذلك، فكرامة الرجل هي في ذلك كله كذلك، لأن الكرامة هنا وهناك تنطلق من القيمة الأخلاقية، فالرجل يفقد كرامته عندما يفقد أخلاقياته، وفي خط الكرامة هناك القيم الإنسانية التي تحكم إنسانية المرأة كما تحكم إنسانية الرجل، في الكرامة للرجل والمرأة على حد سواء، فقضية العفة مطلوبة للرجل وللمرأة معاً.

وإذا كان هناك مجتمع متخلف، يعامل المرأة بنوع من التمييز عندما يحاسبها على انحرافها الجنسي ولا يحاسب الرجل على هذا الانحراف، فهذا موقف جاهلي، لأن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في عملية الاستقامة وفي عملية الانحراف، فالرجل يعاقَب بما تعاقَب به المرأة، لم يحصر الإسلام مسألة الكرامة الإنسانية في الجانب الجنسي فقط، بل إن الجانب الأخلاقي الذي ركّز الإسلام كرامة الإنسان عليه، إنما ينطلق من التوازن الإنساني، الذي تمثله القيم الأخلاقية، والذي ينفتح على الجانب الفردي للإنسان، كما ينفتح على الجانب الاجتماعي، وفي عملية التوازن في حياة المجتمع بين الحرية هنا والحرية هناك والقيمة هنا والقيمة هناك. لذلك نحن نلاحظ أن الغرب عندما أهدر المسألة الأخلاقية في عملية الكرامة، فإنه يعيش الكثير من المشاكل، من جراء الانحراف الأخلاقي الذي يسيء إلى الفرد وإلى المجتمع.

* سماحة السيد! سؤال أخير: هل النظام الحقوقي الغربي الخاص بالمرأة نظام عادل، وأكثر انسجاماً مع فطرة المرأة وطبيعتها الحقيقية من النظام الحقوقي الإسلامي؟.

إنني أعتقد أن هناك إيجابيات كبيرة في منظومة حقوق الإنسان، بما فيها ما يتعلق بالمرأة، لكن هناك أيضاً حقوقاً إنسانية إسلامية بالنسبة للمرأة، ولكن المشكلة عندنا في مسألة المرأة، هي أن البعض لا يحاول الدخول في مقارنة بين تشريع يشتمل على سلبيات، يتكامل مع تشريع يختزن الإيجابيات، إنهم ينظرون إلى القضية بعين واحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن سوء التطبيق بفعل التقاليد الجاهلية وتقاليد التخلف، هو الذي أساء إلى المرأة، وليس التشريع الإسلامي....