شعار الموقع

نقد المثقف الوعظيّ

د. رسول محمَّد رسول 2005-07-02
عدد القراءات « 693 »

نقد المثقف الوعظيّ

إشكالية المُصلح من منظور اجتماعي

د. رسول محمَّد رسول*

الوعظ هو أحد أدوات الإصلاح في المجتمعات الحية، وهو كمنهج وطريقة يتغير من حين إلى حين، ومن مجتمع أو ثقافة إلى أخرى، وتحت عنوان نقد المثقف الديني، ظهرت مؤلفات عدَّة في السنوات القليلة الفائتة، تتناول إشكالية المثقف الديني** بعد أن صار لهذا النوع من المثقفين أدواره المتشابكة، في ظل توظيف خطابه في مناحٍ إيديولوجية وسياسية وكفاحية وعسكرية وتكفيريَّة، ما يعني أن ظاهرة المثقف الديني أخذت تفرض موجوديتها على الوعي المعاصر بشكل ضاغط، وبكل ما فيها من تشابك وتعقيد أحياناً، لا فرار من وضعها على محك النقد والمراجعة الفكرية.

ولكي تمضي في طريق هذا النقد، لا بُدَّ من تقليب أوراق الماضي النقدية، والوقوف عند أدوات المثقفين الدينيين التي اعتمدوها في تصريف خطابهم لإصلاح المجتمع، ومن ذلك أن هؤلاء اعتمدوا الوعظ Sermon كأداة لتوصيل رسالتهم الإصلاحية إلى المجتمع، وسُمي هؤلاء الذين يمارسون هذا الضرب من الاتصال الإصلاحي بالواعظين Sermonizers، ولنا في الفكر العراقي الحديث تجربة رائدة في مجال نقد إصلاحية الواعظين، تلك التجربة التي كرَّسها المفكِّر العراقي الراحل علي الوردي، والتي تُعدُّ حتى الآن من التجارب الرائدة في مجال هذا النقد، الذي غابَ طويلاً في الثقافة العربية الحديثة عامّة، وفي الفكر الاجتماعي على نحو خاص خلال القرن العشرين.

كانت مساهمة علي الوردي (1912 ـ 1995م) النقدية، قد وضعت الفكر الاجتماعي العراقي في سياق جديد، ليس لأنها تصدَّت إلى نقد البُعد السوسيولوجي في المجتمع العراقي فحسب، إنما لأنها كرَّست رؤية علمية تعتمد على جملة من الفرضيات في دراسة واستقراء مشكلات المجتمع العراقي، فقبل الوردي كان مفكرون عراقيون قد أمعنوا النظر في طبيعة المجتمع العراقي، إلا أن إمعاناتهم تلك بدت ذات منحى انطباعي Impression يفتقرُ إلى أصول البحث العلمي الدقيقة، ناهيك عن أنها لم تأت ضمن مشروع نقدي متكامل الرؤية، وهو ما لجأ إليه الوردي على الأقل في دراسة المجتمع العراقي، ضمن ما وضعه من مؤلفات وبحوث، حيث يخرج القارئ لمؤلفات الوردي بتصوّر شبه متكامل الأجزاء عن طبيعة المجتمع العراقي، بغضِّ النظر عن قيمة الاختلاف مع رؤية الوردي النقدية.

* النقد والإصلاح

كان (النقد) في تجربة الوردي مفهوماً رئيساً، وظل يُمارس في كل تأملاته أدواراً تفاعلية تجاوزت مجرَّد توصيف الحالة قيد الدراسة، إلى محاولة إعادة بنائها وفق رؤية إصلاحية؛ ما يعني أن همَّ (الإصلاح) هو الآخر ظل يمارس أدواراً تموضعية في فلسفة الوردي الاجتماعية، بل بدا مأمولاً في مشروعه الفكري، رغم اعتقادنا أن مشروع الوردي هو في صميمه مشروع إصلاحي، وفي أقل تقدير يمكننا تلمُّس ملامح رؤيته التكاملية في العلاقة بين النقد والإصلاح، النقد المؤسَّس على رؤية علمية تتوسَّل المناهج الجديدة في دراسة أي حالة أو أزمة، والإصلاح الذي يُعدُّ الغاية القصوى لمفكِّر أفنى حياته من أجل تغيير المجتمع نحو طريق أفضل.

من بديهات القول: أنَّ كل إصلاح يفترض نقداً، ولمّا كان (المجتمع) هو ميدان بصيرة الوردي وتأملاته في حياته، شأنه شأن أي مفكِّر سوسيولوجي آخر، فإن المجتمع العراقي حاز اهتمام الوردي في كل فصول حياته، ومثلما درس طبيعة المجتمع العراقي، وطبيعة الشخصية في هذا المجتمع من الناحية التاريخية، وضمن الموجِّهات الدينية والقيميَّة الوضعية والواقعية، التي تحكَّمت في صيرورة وخطاب هذا المجتمع، نظر الوردي إلى المشهد الإصلاحي في العراق، وتأمّل مقولاته وشخوصه ومساراته، واستقرأ أعطاله وهمومه ومنحنياته ضمن رؤية نقدية تميزت بالوضوح المعارفي، وبجرأة المفكِّر الواقعي الذي انصرف إلى استقراء الأزمة في صيرورتها اليومية برؤية شمولية، فمبدئياً يمكن القول: إنَّ "نقد الوردي للعلل الاجتماعية كان يتسم بالنظرة الشاملة، ولذلك جاء منهجه موضوعياً من دون تحيز فئوي أو فردي، لأنه لم يجامل الحدث الاجتماعي أو الموقع الاقتصادي أو السياسي المتميز داخل المجتمع العراقي، ولم يبالغ في تسجيل الظاهرة أو المشكلة، بل شخَّصها كما هي، وابتعد كل البعد عن الغيبيات والمواعظ والخيال السوسيولوجي"(1).

 وقد انعكست هذه الرؤية على أغلب ما تصدى إليه الوردي، في مناقشته للقضايا والإشكاليات، وإعادة بنائها برؤية مفكِّر سوسيولوجي إصلاحي، شرع بتنضيد رؤيته الفكرية ابتداءً من إعادة النظر في مفهومي (المُصلح) و(الإصلاح)، وإعادة بنائهما وفق فلسفة نقدية تفكِّر في حراك الواقع وصيروراته، بوصفهما غموضاً متراكماً أملته متغيرات اجتماعية وسياسية معقدة على المجتمع.

* مُثلَّث الإصلاح

في كتابه (وعّاظ السلاطين) كشف الوردي عن رؤيته النقديَّة تجاه العقل الوعظي أو العقل الإصلاحي، الذي يشتغل بمقتضاه المُصلحون، أو من يدَّعون أنهم إصلاحيون في العراق، أو الذين جعلوا من خطابهم إصلاحياً وفق ما يرونه كذلك.

وفي الواقع تبدو العملية الإصلاحية مثلَّثاً ينبني على مفهومات مركزية ثلاثة، هي: المجتمع، المُصلح، الخطاب الإصلاحي. وبطبيعة الحال يكتنز مفهوم (المجتمع) عناصر عدَّة أهمها الإنسان كفرد أو كعنصر في مجموعة، ولهذا الإنسان طبيعة بشرية بالضرورة، ويشمل مفهوم (المُصلح) أفراداً يتميزون بسلطة القول ومخاطبة الرأي العام، وهذه السلطة هي إما معرفية - ثقافية، أو دينية - شرعية، أو سياسية - تنظيمية. كذلك يكتنز مفهوم (الخطاب الإصلاحي) رؤية فكرية أو دينية، أو شرعة ثقافية وقيمية يُراد لها أنْ تكون منهاج عملٍ في الحياة اليومية.

وفي ضوء ذلك، نظرَ الوردي إلى حال الإصلاح في المجتمع العراقي الحديث، و(المجتمع) هو العنصر الأول من عناصر المثلَّث المفهومي. ونظرَ إلى (الوعّاظ) كفئة من فئات المُصلحين في المجتمع العراقي، كما أنه تأمَّل في رؤى هؤلاء العملية، بوصفها خطاباً إصلاحياً، وهي تمارس سلطة قيمية على المجتمع، لكن الوردي آثر، وهو يتصدّى لنقد الخطاب الإصلاحي في العراق، أن يضعَ مفهوم الواعظ The Concept of Sermonizer، بوصفه مُصلحاً، في مقدمة الاهتمام النقدي، بينما بقي مفهوما (المجتمع)، بوصفه طبيعة بشرية، و(الإصلاح)، بوصفه خطاباً، في مرتبة تالية من الناحية المعرفية، المتعلقة بآلية النقد الاجتماعي التي تُميِّز تجربة الوردي في هذا المجال.

وعلى رغم أن الغاية القصوى من النقد هي إصلاح المجتمع، إلاّ أن المُصلح والإصلاح ليسا هنا سوى أداتين تحليليتين، تثريان العملية التحليلية من جهة، وتعزِّزان عملية بناء فهم جديد للواعظ بوصفه مُصلحاً، ما يعني أن تجربة النقد هنا تنصرف، مع الوردي، إلى إعادة بناء مفهوم (المُصلح) عبْر تفكيك ونقد مفهوم (الواعظ)، وإعادة بنائه من جديد في ضوء خصوصية الطبيعة البشرية للمجتمع العراقي، وخصوصية التجربة التاريخية لإنسان هذا المجتمع.

حازت موضوعة الطبيعة البشرية أهمية كبيرة في المشروع الفكري لعلي الوردي، فهي تأتي ضمن سياق اهتمامه بدراسة المجتمع البشري عامة والعراقي منه على نحو خاص. بل جعل نظام حراكها الحقيقي مرجعية في رؤيته النقدية، والمُلاحظ أن أغلب مؤلفات الوردي كانت قد انصرفت إلى دراسة هذه الطبيعة، بعنوانات ومداخل مختلفة من حيث المعالجة والاستقراء منذ بداية الخمسينات، في أقل تقدير زماني، حيث صدور كتابه (خوارق اللاشعور، بغداد 1952م)، و(مهزلة العقل البشري، بغداد 1955م)، و(أسطورة الأدب الرفيع، بغداد 1957م)، و(دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، بغداد 1965م)، والموسوعة الضخمة (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، بغداد 1969م)، ومن ضمن ذلك كتابه (وعّاظ السلاطين/ تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء منطق جديد)(2). الذي أثارت المناقشات التي فيه جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية والفكرية والمجتمعية العراقية حينها(3)، والسؤال الحيوي في نظرنا الآن هو: كيف فكَّر الوردي في (إشكالية المُصلح)، وأيضاً في (إشكالية الإصلاح)؟؟، ومن ثم كيف تصدى الوردي لنقد العقل الإصلاحي، الذي وجد في أنموذج (المثقف الواعظ)، بوصفه مُصلحاً، العنصر الذي يكرِّس في الإصلاح أعطاله ومطبّاته وانحداراته ومهاويه!؟.

* منطق المُصلحين

يكشف العنوان الفرعي لكتاب (وعّاظ السلاطين/ تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء منطق جديد)، عن تكريس منطق جديد يسعى الوردي إلى إحلاله بدلاً من المنطق الدارج الذي يعتمدهُ الوعّاظ بوصفهم مُصلحين، فهؤلاء يركنون إلى منطق أفلاطوني، ومعروف أن المنطق الأفلاطوني هو منطق مثالي، شغل اهتمام الفلاسفة منذ أن صدح أفلاطون (347 - 427 ق. ب) بفلسفته المثالية قبل قرون طويلة، ومعروف أيضاً أن الفلاسفة المسلمين كانوا قد تلقَّفوا فلسفة أفلاطون على نحو تفاعلي، في سياق تبيئة الخطابات الفلسفية الأكثر تواؤماً مع الخطاب الديني - الإسلامي، خصوصاً الفلاسفة العرب والمسلمين الذين ظهروا بالعراق بعد عصر التدوين والترجمة، وفي عصر التنوير الفكري والأدبي والثقافي، الذي ظل يَسِمُ الحضارة الإسلامية لستة قرون تالية على انبثاق الرسالة الإسلامية.

ونظراً لهذا العُمق التأصيلي الذي لاقته المثالية الأفلاطونية في المجتمع الثقافي العراقي، ظل المنطق الذي تعتمده الأفلاطونية المثالية، هو المنطق المُهيمن على عقلية النُّخب العراقية المثقفة في العراق لقرون عدَّة، إلاّ أن هذه الهيمنة كانت تخضع إلى صيرورة وتحولات المجتمع العراقي التاريخية، ففي مرحلة الازدهار الثقافي كانت عملية تبيئة المنطق الأفلاطوني المثالي في الفضاء الفكري والفلسفي العراقي تؤدي إلى إنتاج فكري مثمر، بينما في مرحلة الضمور الثقافي والسياسي والحضاري كانت العملية نفسها لا تنتج إلا سياسات تفكيريّة عقيمة؛ فبدلاً من التثاقف الخلاّق، بين المنطق المثالي وطبيعة منطق التفكير الذي يحبِّذُه الحراك العقلي العراقي في مرحلة الاستقرار السياسي والإبداع الحضاري، تجد الانثقاف العقيم يفرض سلطته على طبيعة منطق التفكير الذي تفكِّر به النُّخب العراقية.

 ومعلوم من الناحية التاريخية أنَّ العراق الحديث تعرَّض، لقرون طويلة، إلى موجات التردي الحضاري، والاضطراب السياسي بل والتبعية السياسية الصارخة، ابتداءً من سقوط بغداد عام 1258م = 656هـ؛ ففي هذه المرحلة التاريخية السوداء تصدَّع المجتمع العراقي بكل أبعاده، ومنه تصدُّع الحراك الفكري والثقافي، وباتت النُّخب المثقفة العراقية تجترُّ النماذج الإرشادية (منطق الرؤى الفكريَّة = Paradigm) في التفكير اجتراراً مضطرباً، وتسقط قيم هذه النماذج على واقع مجتمعي فاقد القُدرة على التفاعل معها، بسبب ما يعيشه المجتمع من تردٍّ ثقافي وحضاري وسياسي، فضلاً عن سلطة خصوصياته الضاغطة.

لقد كانت هذه الحال واضحة أمام الوردي، فنظر إلى منطق الأنموذج الإرشادي الذي يفكِّر به المُصلحون العراقيون، فوجدهم يركنون إلى منطق أفلاطوني مثالي في عصر مأزوم بمشكلات وإشكاليات كثيرة، وفي هذا السياق يقول:

لقد ابتلينا في هذا البلد بطائفة من المفكرين الأفلاطونيين، الذين لا يجيدون إلاّ إعلان الويل والثبور على الإنسان لانحرافه عمّا يتخيلون من مثُل عُليا، دون أن يقفوا لحظة ليتبينوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل، فقد اعتاد هؤلاء المفكرون أن يعزوا علّة ما نُعاني من تفسُّخ اجتماعي إلى سوء أخلاقنا، وهم بذلك يعتبرون الإصلاح أمراً ميسوراً؛ فبمجرَّد أنْ نصلح أخلاقنا ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح، على زعمهم، سعداء مرفَّهين، ونُعيد مجد الأجداد! إنهم يحسبون النفس البشرية كالثوب الذي يُغسل بالماء والصابون فيزول عنه ما اعتراه من وسخ طارئ، وتراهم يهتفون بملء أفواههم: هذِّبوا أخلاقكم أيها الناس! ونظفوا قلوبكم! فإذا وجدوا الناس لا يتأثرون بمنطقهم هذا انهالوا عليهم بوابل من الخطب الشعواء، وصبوا على رؤوسهم الويل والثبور. وإني لأعتقد بأنَّ هذا أسخف رأي وأخبثه من ناحية الإصلاح الاجتماعي. إنَّنا قد نشغل بهذا أنفسنا ونوهمها بأننا سائرون في طريق الإصلاح، بينما نحن، في الواقع، واقفون في مكاننا أو راجعون إلى الوراء!!(4).

يمكن لنا أن نعتبر هذا النص أحد النصوص النقدية المركزية التي كتبها الوردي في مناقشته لإشكالية المُصلحين من جهة، ولإشكالية الإصلاح من جهة أخرى، ناهيك عن إشكالية الواقع الذي عليه المجتمع العراقي، وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن نعتبر أيضاً أن الوردي يضعنا في مثلَّث الأزمة مباشرة، أي: الإصلاح، المُصلح، المجتمع.

 وهو بذلك يضعنا في جوهر أزمة المشهد الإصلاحي بالعراق. فهذا المشهد يحرِّكه المُصلحون الذين يسميهم الوردي بـ(الوُعّاظ)، وخطاب هؤلاء هو خطاب ديني وقيمي مثالي يدْرجهُ الوردي تحت تسمية (أفلاطوني)، عندما يُسمي أهل الإصلاح بالعراق بالمفكرين الأفلاطونيين، وما تجدر الإشارة إليه هنا أن تسمية هؤلاء بـ(الأفلاطونيين) لا يعني أنهم يدْعون المجتمع إلى تبنِّي الفلسفة الأفلاطونية في ذاتها، إنما هؤلاء الوعّاظ هم أفلاطونيون لأنهم يتعاملون مع المجتمع تعاملاً ميتافيزيائياً فوقياً من دون أي إصغاء لحركة وطبيعة الواقع.

* المُصلح الواعظ

الوعظ هو عملية تثقيفية، إنها وظيفة نخبة من المتعلِّمين في المجتمع، وعلى رغم أن مصطلح (الواعظ) يبدو بصبغة دينية كما استقرَّ ذلك في مخيال المجتمع الديني، أو المجتمعات المحافظة أو مجتمعات الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي والعربي، بل في المجتمعات الغربية في العصور الوسطى، وإلى وقت قريب من العصور الحديثة، على رغم ذلك، لا تقتصر دلالة هذا المصطلح على المتعلِّم الديني أو المثقف الديني (مرشد روحي، فقيه، داعية، إمام)، إنما على المتعلِّم العَلماني بشتى أنواع ظُهوره في المجتمع (مرشد حزب، قائد حزب، منظِّر لاتجاه سياسي)، فالوعظ طريقة في التوجيه والإقناع ترتبط بالمسؤولية التوجيهية في المجتمع، وبالقيادة التنظيمية له أيضاً، وهي عامّة؛ لا ترتبط بمكان دون غيره، ولا بزمان دون آخر، وإذا كانت (العمامة) تُميِّز الواعظ الديني، فإن (السِّدارة) أو (الكرافتات) تُميِّز الواعظ العَلماني، ناهيك عن معطيات ووسائل يستخدمها الوعّاظ للتعبير سيميائياً عن الحقل الذي يتحركون في مجاله، لأداء وظيفة الوعظ نسبة إلى المرجعية التي يفكرون في فضائها. وهؤلاء، سواء كانوا من أصحاب (العمامة) أو (السِّدارة)، أو (المعلمون)، و(شيوخ الكتّاب) غالباً ما ينظر إليهم الناس على أنهم مُصلحون في المجتمع، ويمثلون نُخبة فيه ينبغي احترامها والركون إلى وعظها ونصائحها، بل وسلطتها الروحية والفكرية أيضاً، وعلى نحو وظيفي وأبويٍّ، ما يعني أنَّ الوردي تناول بالنقد أنموذج المُصلح في كل مرجعياته وسيميائياته، سواء (من تثقف منهم ثقافة حديثة أو قديمة)(5).

إلى هذا الأنموذج، أنموذج المُصلح الواعظ، أو الواعظ المُصلح، انصرف الوردي، مفكِّكاً الخصائص والأدوار والوظائف التي يقوم بها هذا النوع من المُصلحين، بعد أن وجد فيه أنموذجاً كارثياً على المجتمع، فما هي طبيعة حراك الواعظين؟

* إشكالية الواعظ

يلعب (الواعظ) دوراً مركزياً في عملية الإصلاح المجتمعي، فلا يكاد يكون هناك إصلاح من دون مُصلحين، والوعّاظ هم فئة من المُصلحين كما هو معتاد؛ ولهذه الأهمية يضع الوردي شخصية الواعظ على محك التوصيف النقدي، فالوعّاظ فئة حقيقية في المجتمع، يعيشون في كنفه، ولهم فيه منزلة مميَّزة لا يطالها الشك، تظهر هذه الفئة على هيئة (مشايخ، علماء، خطباء) مرَّة، ومرَّة على هيئة (معلِّمين) من ذوي الثقافة العَلمانية، إلاّ أنَّ دلالة الواعظ غالباً ما تنصرف إلى رجال الدين، هؤلاء الواعظين الأكثر إثارة في مخيال المجتمع، والأكثر جذباً له، فهم يمثلون مركز جذب إلى مجالسهم التي يأتي إليها الناس. ويرى الوردي أنَّ الوعظ صار "مهنة، مهنة تدرُّ على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل منْ فشل في الحصول على مهنة أخرى، إنها مهنة سهلة، فهي لا تحتاج إلاّ إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث، ثمَّ ارتداء الألبسة الفضفاضة التي تملأ النظر وتخلبهُُ، ويستحسن في الواعظ أن يكون ذا لحية كثَّة كبيرة وعمامة قوراء...، صار الواعظ يصلِّي بالأُجرة، ويحجُّ بالأُجرة"(6).

ومع أن الوردي يبسِّط أوضاع الواعظ، بحيث ينزل عمله منزلة المهنة، شأنه شأن أي من الممتهنين الآخرين، إلاّ أن الوردي محقٌ إلى حد ما، فقد نظر إلى أوضاع الواعظ في زمانه، وربما المقصود من كلامه هذا هو أنه يتحدَّث عن الواعظين من الدرجات الثانوية وليس المحترفين منهم، مع جواز القول: إنه حتى المحترفين منهم هم يكرِّسون انهماكاً سلبياً على أدوارهم الإصلاحية. ومن ازداوجية الواعظين أنهم يقولون ما لا يفعلون؛ فهم "لا يتبعون النصائح التي ينادون بها؛ تراهم يقولون للناس: نظفوا قلوبكم من أدران الحسد والشهوة والأنانية، بينما نجدهم أحياناً من أكثر الناس حسداً وشهوة وأنانية"(7). ولمّا كان فاقد الشيء لا يعطيه، كما يُقال، فمعنى ذلك أن الواعظ فاقد لمعاني الإصلاح، تلك المعاني التي يُؤمل منها أن تأخذ طريقها إلى الممارسة والتطبيق في المجتمع، فالداعي إلى الإصلاح عن طريق الوعظ، لم يتمثَّل معطيات ألإصلاح تمثيلاً حقيقياً، فكيف يريد من الآخرين أن يُصلحوا حالهم؟.

* الواعظ والسُّلطان

لا شك أنه لا إصلاح من دون عدالة، ولا إصلاح مع الجور والظلم والاضطهاد، ولما كانت العدالة من الصفات الجوهرية في أي عمل إصلاحي، فإنها أيضاً يجب أن تكون من الصفات الجوهرية لدى المُصلح (الواعظ)، ويسهب الوردي في توصيف حالات كثيرة يبدو فيها الواعظ ظالماً أكثر منه عادلاً، يقول الوردي: "الغريب أن [الواعظين] يستنزلون غضب الله، وويلاته جميعاً، على رأس ذلك الفقير الذي يغازل جارية من الجواري، بينما هم يباركون للغني ويهنئونه على تلك الجواري اللواتي اشتراهن بماله من السوق، وكأنَّ الفرق بين الحلال والحرام، في نظر هؤلاء [الوعّاظ]، هو الفرق بين وجود المال وعدمه!!". ومن جهته ترى "الواعظ يرفع مسؤولية الظلم الاجتماعي عن عاتق الظالمين، فيضعها على عاتق المظلومين أنفسهم؛ فإذا اعتدى أحد المترفين على صعلوك يضعون اللوم على عاتق هذا الصعلوك وحده، أما إذا أخطأ هذا الصعلوك مرَّة فاعتدى على أحد المترفين قامت قيامتهم، وأخذت مواعظهم تنهمر على هذا الخطاب من كل جانب، ولقد أدركتُ مدى النفاق الذي يتعاطاه الواعظون، حيث هم ينذروننا دوماً بعذاب الله بينما هم يهشُّون ويبشُّون في وجوه الظلمَة، ويقومون لهم احتراماً وتبجيلاً"(8).

يبدو أن غياب العدالة، ومشهد الظلم الذي يخوض غماره الواعظ في حراكه الإصلاحي، غالباً ما يؤتي ثمراته اللذيذة على رأسماله الوظيفي المفترض تحصيله من المجتمع، فأنْ يكيل الظلم على الفقراء والمحكومين، معناه أنه يكتسب مهارة على إضفاء صفات العدالة على الآخرين، والآخرون هنا هم الحكام وولاة الأمر في المجتمع الذي يعيش فيه الواعظ.

 لقد أسهب الوردي في ذكر نماذج عديدة على علاقة السلطان بالواعظين، وعلى علاقة الأخيرين بالسلاطين، وبدت النماذج أكثر ممّا تُعدُّ أو تحصى، خصوصاً تلك المُستلَّة من تراثنا السياسي، فالواعظون يقوِّلون العدالة بما لا تريد أنْ تقول، عندما يكون ظلم السلطان مستشرياً بكثافة في المجتمع، إنهم ببساطة، يحوِّلون ظلم السلطان إلى عدالة، وجور السلطان إلى ضرورة من ضرورات سعادة المجتمع، فعلى نحو عام ترى الوعّاظ "عندنا أنهم يأخذون جانب الحاكم ويحاربون المحكوم"(9)، بل حتى في مجالسهم الوعظيَّة، على ما يرى الوردي، فإنهم لا يقدِّمون للسُّلطان مواعظ تجرح شعوره وترمي باللائمة عليه في علاقته بالرعية، أي لا تجعل منه ظالماً، إنما عادلاً إزاء رعيته، لذلك غالباً ما يكون الواعظ "محموداً مشكوراً من قبل السلطان، إذا اقتصر الواعظ على تخويف السُّلطان من نقمة الله وحده، أما إذا خرج الواعظ عن حدِّه هذا، وأخذ يخوِّف السلطان بنقمة الناس، فإنه يصبح عند ذاك خطراً"(10).

لا يفرِّق الوردي بين الواعظين والحكام من حيث علاقتهم بالمجتمع، فكلاهما طاغٍ في الحياة، والطغيان بالسيف لا يختلف عن الطغيان بالقول، إذا كانت وسيلة الحاكم السيف ووسيلة الواعظ الكلام، فـ"الوعّاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك يظلمونهم بأقوالهم"(11).

* صوتيَّة الوعظ

إن غياب العدالة، والتعامل المزدوج فيما بين الحاكم والرعية ذاك الذي كرَّسهُ الوعّاظ، يشي بحقيقة أساسية، هي أنَّ العقل العربي الوعظي يكرِّس تفاعلاً إصلاحياً منقوصاً في صميم رؤيته، وفي جوهر خطابه، ناهيك عن أساليب تصريفه اليومي في المجتمع وبين الناس، فهو يحمل تناقضاته الفكرية، وترسُّبات منطقه الانتقائي، وتداوله الطبقي والفئوي والمناطقي، يبدو هذا العقل مهزوماً في بدئه، وفي شروعه وانطلاقته وخطاه، لذلك ترى الواعظين يتوسَّلون أقصر الطرق للتعبير عن هزيمة مشروعهم الإصلاحي، ويلجؤون إلى آليات سطحية في توصيل رسالتهم، وهم على يقين بأنها ليست ذات فاعلية وتأثير في المجتمع، وهو العُطل الذي توارثوه من أسلافهم الوعاظ، يقول الوردي: "كان القدماء يتصوَّرون بأنَّ الإنسان حرٌ عاقل مختار، وهو في رأيهم يسير في الطريق الذي يختاره في ضوء المنطق والتفكير المجرَّد؛ ولهذا أكثروا من الوعظ اعتقاداً منهم بأنهم يستطيعون بذلك تغيير سلوك الإنسان وتحسين أخلاقه. ولقد جرى مفكرونا اليوم على أسلوب أسلافهم القدماء، ولا فرق في ذلك بين من تثقَّف منهم ثقافة حديثة أو قديمة؛ كلهم تقريباً يحاولون أن يغيروا بالكلام طبيعة الإنسان"(12)، فمثلاً "ظنَّ وعّاظنا أنهم يستطيعون أن يمنعوا الانحراف الجنسي بواسطة الكـلام والنصيحة وحدها، غير دارين بأن الانحراف طبيعة اجتماعية لا بد من ظهورها في كل بلد يحجب النساء فيه عن الرجال"(13). وعن البيئة التي أنتجت هذه الآليات قال الوردي: "إن خطر هذا الطراز الخبيث من التفكير نما في أحضان الطغاة، وترعرع على فضلات موائدهم.."(14).

* الواعظ.. والطبيعة والبشرية

يرى الوردي أنه "آن لنا أن ندرس الطبيعة البشرية، كما هي في الواقع، فلا نعزو لها طبيعة ملائكية هي منها براء"(15). ويُستنتج من كلامه في مؤلفاته أن الواعظين غالباً ما يخالفون الطبيعة البشرية، فهم يخلقون في مخيالهم طبيعة بشرية مطواعة لإصلاحهم كما يتصورون أو يتوهمون، من دون أن يعلموا أن "للطبيعة البشرية نواميسها التي لا يمكن تخطيها، ومن خالف في وعظه تلك النواميس، كان كمن يحرِّض الناس على العصيان"(16).

ومشكلة العقل الوعظي الإصلاحي أنه، حسب تجارب الوعّاظ، غالباً ما يطرح القيم الإصلاحية طرحاً بعيداً عن الواقع، من دون مراعاة لقيم الواقع المريرة التي تجثم على روح وحياة الإنسان في الواقع اليومي، فبدلاً من أن يلجأ الواعظون إلى أسلوب التدرُّج في طرح القيم الرفيعة تراهم يطرحونها على بساط الوعي، ويطلبون من المسلم فورياً الإذعان لمنطقها المتعالي واقعياً من دون تلكُّؤ، وهذا ربما هو أحد الأسباب التي تجعل معطيات الخطاب الوعظي عُرضة للسخرية من ناحية الاستجابة لسلطتها. فـ"الواعظون وضعوا في الأخلاق مقياساً صعباً لا يناله إلا من شذَّ وندر..، كما أنهم حلَّقوا في السحاب، ثم رجعوا بعد ذلك إلى رجال السلف الصالح، يزكونهم ويجردونهم من جميع عيوبهم لكي يجعلوا منهم قدوة للناس، لقد خلق الوعاظ هؤلاء بأيديهم كما يخلق الفنان تمثاله، ثم جاؤوا إلينا يريدون أن نكون مثلهم، وبهذا وضعوا أمامنا غاية لا تُنال!"(17).

* الاستجابة المجتمعية

لقد تحدَّثتُ سابقاً عن (مثلَّث الإصلاح)، ووجدنا أن (المجتمع) يمثل أحد أركانه الرئيسة، إلى جانب (المُصلح) و(الخطاب الإصلاحي)، ولمّا كان لفضاء المفهومين الأخيرين، العملي أو التطبيقي، أعطاله في المشهد الإصلاحي، فإن للمجتمع، بقدر علاقته بالإصلاح والوعظ، أعطالهُ أيضاً؛ ولما كانت رؤية الوردي النقدية تتسم بالشمول في تحليل الظاهرة الاجتماعية، فإن الرجل اهتم بمعطيات منطق الاستجابة لخطاب الواعظين في المجتمع Logic of Response، وتحليل معطيات الاستجابة ومساراتها، وهو ما يُعدُّ أمراً لافتاً في فكر الوردي الاجتماعي، في وقت كانت دراسات الاستجابة طريّة العود في العراق، بل وفي الوطن العربي برمته، تلك المتعلِّقة باستقراء وقياس استجابة الفرد لمعطيات الخطاب الوعظي، ولأنماط تلقِّيه المجتمعي، ولآلية الوعْظ في حينها، أي تحليل الجوانب التفاعلية فيما بين أطراف عملية الإصلاح الوعظي.

لقد نظر الوردي إلى تفاعلية هذه العلاقة بين الواعظ ومتلقِّي الوعظ، واستقرأ مظاهر استجابة المجتمع للواعظ، والكيفية التي تعامل بها الفرد مع الوعظ، والطريف في تجربة الوردي، في محاولة تأصيلية منه، أنه عاد إلى التاريخ السياسي والديني العربي - الإسلامي بعين اجتماعية نقدية، بحثاً عن أصول لأنماط الاستجابة السلبية للوعظ في المجتمع العربي الحديث، وعن أصول آليات التلقِّي للوعظ في التاريخ ذاته، بل عن جذور أزمة الاستجابة المجتمعية للوعظ؟.

عندما رجعَ الوردي إلى التاريخ الإسلامي متجولاً في أدبيات حدائقه السياسية، حملَ معه فرضية طالما أعمل عقله وبصيرته من أجل الاشتغال على طاقتها المعرفية في تحليل الظواهر الاجتماعية والثقافية، ففي الفصل الثاني من كتابه (وعّاظ السلاطين)، يُعيد الوردي تأسيس نقده لخطاب العقل الوعظي وفق مداخل جديدة، فهو الذي كثيراً ما اعتمد على مفهوم (ازدواج الشخصية) في بحوثه ومؤلفاته الأخرى؛ نراه يعتمد مرة أخرى هذا المفهوم المركزي في منجزه السوسيولوجي النقدي، لتفكيك منطق الاستجابة للوعظ ولآليات خطابه، من خلال استقراء نمطين من الاستجابة: نمط استجابة النُّخبة لخطاب الوعظ والواعظ، ونمط استجابة الجمهور للخطابين ذاتيهما.

* استجابة النُّخبة

يأخذنا الوردي إلى العصر الأموي في التاريخ الإسلامي، في مقاربة تاريخية منه لاستكشاف أعطال الشخصية العربية - الإسلامية، التي ما انفك المجتمع المعاصر عن تمثيل معطياتها، وتكريسها في حياة أفراده المعاصرة. إنَّ ظاهرة (ازدواج الشخصية) هي ظاهرة متأصلة في أنموذج الإنسان العربي، ولأنها ذات فاعلية تراها تظهر في كل مراحل التاريخ العربي التي مرَّت، فـ"كثير من المسلمين كانوا مبتلين بداء الصراع النفسي أثناء الحكم الأموي، إذْ كانت حياتهم العملية واقعة تحت تأثير القيم البدوية، بينما كانت حياتهم الفكرية متأثرة بالتعاليم الإسلامية؛ لذا كانوا يشعرون في باطن أنفسهم بتناقض بين ما يفعلون وما يقولون"(18)، ويضيف الوردي معللاً هذا التناقض: "مما هو لافت للنظر، في هذا الصدد، أن الأمويين كانوا ذوي نزعة بدوية صريحة، فكانوا لا يبالون بما يقول الفقهاء وأهل الدين، كان جُل اهتمامهم منصرفاً إلى تدعيم ملكهم بحدِّ السيف على الطريقة البدوية القديمة. وكان الخليفة الأموي بدوياً صريحاً، يعمل ما يشاء ما دامت القوة بيده، وكان يتَّبع في ذلك سُّنة الصحراء التي تقول: إنَّ الحلالَ ما حلَّ باليد، وأن الحقَ بالسيف: لذا وجدناهم تركوا أهل التقوى والدين في أبراجهم العاجية يتحذلقون كما يشتهون"(19).

ويرى الوردي أنَّ العباسيين حاولوا سدّ هذه الثّغرة بين خطاب الدين ومتطلَّبات الدولة في منظور الأمويين، إلاّ أنَّ ذلك كان من قبيل المستحيل، فـ"الدولة تقوم، عادة، على أساس القهر والتسلُّط والاستغلال، بينما يقوم الدين على أساس الرحمة والعدل والمساواة"(20)؛ ومن هنا أخذ "الخليفة العباسيّ يتَّبع طريق الازدواج، فإذا جاء وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى! فهو في وقت الموعظة من أشدِّ الناس خشوعاً وتعفُّفاً وزُهداً، أما حين يجلسُ في الديوان وينظرُ في أمر الخراج، وتعيين الولاة، وشراء الجواري، فهو لا يختلف عن جالوت أو نيرون بشيء!!"(21).

ويسلِّط الوردي الأضواء كثيراً على حياة هارون الرشيد، بوصفه الأنموذج النُّخبوي الذي كرَّس ازدواج الشخصية في حياته ومواقفه وهو تحت الأضواء لكونه خليفة المسلمين، قال الوردي نقلاً عن صاحب كتاب (الأغاني): كان الرشيد من أغزر الناس دموعاً في وقت الموعظة، وأشدِّهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة. وروى أحمد أمين في (ضحى الإسلام: ج 1 ص 117) أنَّ الرشيد: كان يصلي في اليوم مئة ركعة، ويسفك الدم لشيء لا يستحق سفك الدم(22).

الواضح هنا، أنَّ الوردي يؤرِّخ للعصر العباسي رياديَّته في خلق أنموذج (ازدواج الشخصية)، ويقدِّم، في هذا السياق، أمثلة كثيرة على نمط الاستجابة النُّخبوية للوعظ الديني، تلك التي كرَّسها الملوك والخلفاء وأولياء الأمر في التاريخ الإسلامي، وهي استجابة شكليَّة كان التلقِّي فيها صوتيَّاً ومراسيمياً أكثر منه حقيقياً، وكانت الاستجابة للوعظ عندهم ذات منحىً تفاعلي صوتي، يُبرِّر لخليفة المسلمين انخراطه في واجباته الشرعية أمام الناس، وأمام الواعظين من دون أن يأخذ الوعظ تأثيره في السلوك السياسي الذي يحكم الرعية به.

* استجابة الجمهور

يعتقد الوردي أن مجالس الوعظ كانت قد ازدادت في العصر العباسي، لكن نظام التلقِّي لدى العامّة لم يكن يختلف عن نظام الخاصة أو النُّخبة، في الاستجابة للوعظ والتفاعل مع خطاب الواعظين، حتى أنَّ ابن جُبير انتبه إلى التلقِّي السلبي عندهم لمّا زار بغداد، وكتب في أدبيات رحلته الشهيرة (رحلة ابن جُبير) الكثير عن يوميات الوعظ والوعّاظ، ومستوى الاستجابة لخطابهم من قِبَل المسلمين، فقد تحوَّل تلقِّي الوعظ لدى جمهور المسلمين إلى وسيلة للبُكاء والعويل والصراخ، شعوراً بالذنوب وتكريساً للتطهير الشكلي منها أمام الوعّاظ، وهنا قال ابن جُبير الذي حضر خطبة للواعظ المشهور جمال الدين بن علي الجوزي: "أتى الواعظ برقائق من الوعظ، وآيات بيِّنات من الذِّكر طارت لها القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، إلى أن على الضجيج، وتردَّد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح؛ كلٌّ يأتي ناصيته بيده فيجزّها، ويسمع على رأسه داعياً له، ومنهم منْ يُغشى عليه فيرفع الأذرُع إليه، فشاهدُنا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكّرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب سطح البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلاّ لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة.."، وبإزاء هذا النص التوصيفي قال الوردي: يبدو من كلام ابن جُبير هذا، أن البكاء عند سماع الوعظ أصبح في نظر البغداديين غاية لذاته؛ فهم لا يبالون أنْ يفعلوا ما يشاؤون في السوق، فينقصون الكيل ويستغلون الغريب، ولكنهم في مجلس الوعظ يبكون، ويشهقون ثم يُغمى عليهم، ويذوبون شوقاً إلى الله وخشية منه(23).

إن نظام الاستجابة وكذا التلقِّي لخطاب الوعظ إذن أصبح سياقاً لدى عامّة الناس أو جمهور المسلمين، ولمّا كان الناس على دين ملوكهم، فإن العادة جرت على تكريس التفاعل الصوتي المزدوج مع خطاب الوعظ، بوصفه الخيار الأكثر تجاوزاً للأزمة النفسية، أو أزمة العُطل النفسي، الذي كرَّستهُ خطابات الملوك والأولياء والخلفاء العباسيين في المجتمع وبين الناس، ومن هنا قال الوردي: لقد استراح الناس حقاً حين اتخذوا هذه العادة، إنهم كانوا يعانون من قبل داء الصراع النفسي، وكانت الثورات تتوالى فيهم جيلاً بعد جيل، أما بعد اتخاذهم طريق الازدواج فقد هان الأمر عليهم، إذ صار لهم قلبان: يسمعون الموعظة بأحدهما، ويسمعون رنين النهود والنقود بالآخر، فليس إذن هناك صراع نفسي ولا قلق اجتماعي(24).

ولكن هل آل هذا الحال إلى القرن العشرين؟ في منظور الوردي لا يكاد الأمر يختلف؛ فقد صارت الاستجابة لخطاب الوعظ والواعظين أكثر شفافية من ذي قبل في سلبيتها، ويبدو لي أنَّ قروناً من التخلُّف والتبعية والحروب والصراعات البينية والإقليمية، وشيوع العقلية التلقينية التي مُني بها العراق، كانت سبباً رئيساً لتفشِّي نمط التفاعل الصوتي مع الخطاب الوعظي، وشيوع التفاعل الآنوي واللحظوي والعابر معه في استجابة زائفة غير منتجة.

يقول الوردي في هذا السياق: لقد "دأب الناس على هذا مئات السنين، وهم في أثناء ذلك منهمكون في أعمالهم التي اعتادوا عليها، لا يتأثرون بالموعظة إلاّ حين تُلقى عليهم، فنراهم يتباكون في مجلس الوعْظ، ثم يخرجون منه كما دخلوا فيه لئاماً، وكثيراً ما نراهم [الوعّاظ] يطالبون الناس أنْ يغيروا من نفوسهم أشياء لا يمكن تغييرها؛ فهم بذلك يطلبون المستحيل، وقد أدّى هذا بالناس إلى أنْ يعتادوا سماع المواعظ من غير أن يعيروا لها أُذناً صاغية". ويضيف الوردي قائلاً: لقد "انتشرت في الآونة الأخيرة [القرن العشرين] عادة سيئة بين أبناء الجيل الجديد؛ إذ نراهم يضحكون على ذقن كل واعظ، فأصبح الواعظون في وادٍ، وأبناء الجيل الجديد في وادٍ آخر"، ومن جهة "ترى المعلِّم [الواعظ / المُصلح] شاهراً في وجوهنا سوطه وهو ينصحنا بالتزام الوقار والأدب والسكون، فنحن نكتم أمامه ما يجول في أنفسنا، ونتظاهر له بما يريد منا من وقار مصطنع، حتى إذا خرجنا من عنده أقمنا الدنيا وأقعدناها بالعربدة والصخب والهياج"(25).

لقد استبعد الوردي أصلاًً أي تلقٍّ إيجابي، تلقٍّ منتج وفاعل يأتي من قبل الجمهور، ويستجيب لما يريد الوعّاظ تكريسهُ من خطاب، بل عدَّ الاستجابة الإيجابية ضرباً من المستحيل على عامّة الناس سوى نفر قليل منهم، يقول في هذا الصدد: إنَّ الواعظ حين يعظ الناس باتباع المُثل العليا، وبتطهير نفوسهم من أدران الحسد والأنانية، إنَّما يطلب المستحيل؛ إذ لا يستطيع أن يفعل ذلك إلاّ النادرون من الناس، أما بقية الناس، وهم الذين يؤلفون السواد الأعظم منهم، فيبقون في حيرة من أمرهم(26).

تكشف أنماط استجابة عامّة الناس والنُّخب منهم لمعطيات الخطاب الوعظي، عن حراك المجتمع العربي السلبي إزاء الإصلاح الذي يأتي عن طريق الواعظين، بوصف هؤلاء وسائط في توصيل المعرفة الإصلاحية، والملاحظ أنَّ الناس يحرصون على حضور المجالس الوعظية في وقت يخرجون منها كمن لم يسمع شيئاً، أي أنَّ مشاركتهم هي مشاركة صوتية تنفعل مع الحدث في أجوائه وطقوسه فقط، من دون أن تتفاعل تفاعلاً حقيقياً مع معطيات الوعظ، ما يعكس حقيقة أن تمثيل الوعظ إصلاحياً هو تمثيل يحمل أعطالهُ ابتداءً، فثقة الجمهور معدومة بالواعظ وبخطابه رغم أنَّ الواعظين يمثلون سلطة دينية في المجتمع، وهو الأمر الذي يجعل الناس تمتثل لسلطة الواعظين عبر المشاركة في الجلسات والمحاضرات، إلا أنَّ سلطتهم هذه لا تؤدي بالناس إلى تمثيل نظامهم في المعرفة الوعظية، وهذا التناقض أو الازدواج في التفاعل، هو الذي يمثل أحد إشكاليات الإصلاح الوعظي في المجتمع العربي الإسلامي الحديث، بل وينعكس على نمط الاستجابة العام لأي خطاب إصلاحي يُراد له أنْ يكون في المجتمع.

تعدُّ مساهمة الدكتور الوردي أنموذجاً مبكراً في نقد المثقف الوعظي في المجتمع العربي الإسلامي الحديث، لأنها وقفت عند إشكاليات المُصلح في المجتمع، التي هي إحدى إشكاليات الإصلاح في صورتها العامة، التي يعاني منها المجتمع الإسلامي المعاصر، والمتمثلة بجملة الأعطال التي تثوي في سلوكيات وفي شعور وفي لا شعور المُصلح العربي أو المُصلح الإسلامي، والتي تنعكس أيضاً في سلوكه الأخلاقي، وفي أدوات توصيل خطابه الإصلاحي للناس في المجتمع.

لقد سعى الوردي في محاولته النقدية هذه، إلى تفكيك حراك الطبيعة البشرية للمُصلح (الواعظ)، وهي تظهر كفعل إصلاحي، للكشف عن قوة التناقض الذي يكرِّسه حراكها في المجتمع، بين طبيعتها الحقيقية وجملة ما يسعى الإصلاحيون إلى تكريسه في خطابهم الإصلاحي اليومي، وهو تكريس غالباً ما ينأى عن جوهر الطبيعة البشرية وعن حقيقتها، وذلك من أجل حماية المجتمع من أعطال الذات الإصلاحية وقراءاتها التحجُّرية، وحماية المجتمع من ذوات الإصلاحيين، الذين ينغلقون على سلطة النزعة الازدواجية في تصريف الخطاب الإصلاحي داخل المجتمع، وعلى جملة من الأنانيات الشخصية، وكيل الأمور بمكاييل عدَّة، متشابكة ومتمانعة، وليس بمكيالين فقط، أي حماية الإصلاح من ذوات دُعاته وعمّاله في المجتمع الإسلامي.

وأعتقد أن هذه المساهمة أسَّست للحراك النقدي الاجتماعي هيكليته على نحو مبكِّر في عقود سابقة، لكنها، وهذا مؤسف، لم تؤخذ بالحسبان من قبل الباحثين العرب والمسلمين، الذين درسوا أوضاع المُصلحين في المجتمع الإسلامي الحديث والمعاصر، ولعل مساهمتنا هذه تفتح آفاقاً جديدة لمتابعة آليات المُصلحين الوعظيين، والسُّبل التي اتبعوها في توصيل خطابهم إلى المجتمع، وصولاً إلى الكشف عن آليات وعمل وأعطال ومطبَّات العقل الوعظي الإسلامي.

 

الهوامش:

* كاتب من العراق.

** انظر في هذا السبيل مثلاًً: علي حرب (أوهام النخبة ونقد المثقف، 1996م)، حسن الصفار (علماء الدين: قراءة في الأدوار والمهام)، فيصل العوّامي (المثقف وقضايا الدين والمجتمع، 1999م)، زكي الميلاد (محنة المثقف الديني مع العصر، 2000م)، يحيى محمد (القطيعة بين المثقف والفقيه، 2001م).

(1) معن عمر خليل: روّاد علم الاجتماع في العراق، ص 39، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1990م.

(2) علي الوردي: وعّاظ السلاطين/ تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء منطق جديد، دار كوفان للنشر، بيروت ط2 1995م.

(3) أُلفت بشأنه خمسة كتب في أقل تقدير.

(4) الوردي: وعّاظ السلاطين..، ص 5 ـ 6.

(5) المصدر نفسه: ص 6.

(6) المصدر السابق: ص 47.

(7) المصدر السابق: ص 7.

(8) المصدر السابق: ص 10، 12 ـ 13.

(9) المصدر نفسه: ص 12.

(10) المصدر نفسه: ص 40.

(11) المصدر نفسه: ص 40.

(12) المصدر نفسه: ص 6.

(13) المصدر نفسه: ص 8.

(14) المصدر نفسه: ص 13.

(15) المصدر نفسه: ص 13.

(16) المصدر نفسه: ص 55.

(17) المصدر نفسه: ص 57، وص 60. لا يعني الوردي بكلمة الشذوذ الدلالة السلبية إنما الدلالة الإيجابية، أي: التميُّز.

(18) المصدر نفسه: ص 36.

(19) المصدر نفسه: ص 38.

(20) المصدر نفسه: ص 37.

(21) المصدر نفسه: ص 37.

(22) المصدر نفسه: ص 39.

(23) المصدر نفسه: ص 44.

(24) المصدر نفسه: ص 45.

(25) المصدر نفسه: ص 6، 7، 8.

(26) المصدر نفسه: ص 11.