شعار الموقع

مكافحة الفقر في العالم الإسلامي

هشام الميلوي 2005-07-02
عدد القراءات « 710 »

مكافحة الفقر في العالم الإسلامي

المشاكل والحلول*

ما من شك في أن التحدي الذي يواجه المجتمعات المعاصرة اليوم هو إشكالية الفقر، ودور التنمية الاقتصادية في الحد من دائرة اتساعه عبر تبني مقاربة شمولية، تجمع ما بين السياسي والاجتماعي وكذا الاقتصادي، خاصة بعد بروز تناقضات النظام الرأسمالي المتضخم مع العولمة.

إلا أن الحديث عن هذه الآفة في العالم الإسلامي، يأخذ شكل معضلة بنيوية مستعصية تنضاف إلى لائحة المشاكل التي تثقل كاهله. وحالة الانسحاب الحضاري المتناقض مع الموارد الطبيعية التي يتوفر عليها. ولأن استمرار معاناة خمس ساكنة العالم من هذه الآفة قد يشكل تهديداً للاستقرار، بدأت برامج تحت إشراف هيئات دولية لمواجهتها بتدابير استعجالية وتبادل الخبرات. ولقد زاد من حدة هذه المشاكل في دول الجنوب عموماً ومنها الدول الإسلامية، تحوّل الدور النسبي للدولة الاجتماعية وعدم كفاية الاستثمار العمومي التي عوضت سياسات تدبير الأزمة، فإذا كان الشمال يعاني تراجع الدولة الاجتماعية به، فإن العالم الإسلامي يعرف زيادة مهولة في عدد الفقراء يومياً. ما هي الأسباب والحلول لمشكلة الفقر في العالم الإسلامي؟

في محاولة للإجابة عن السؤال نظم المعهد العالمي لوحدة الأمة الإسلامية، مؤتمراً عالمياً حول مشكلة الفقر في العالم الإسلامي: الأسباب والحلول ما بين 2، 3 ذو القعدة عام 1425 الموافق لـ 14-15 ديسمبر لعام 2004، والذي تمحور حول ستة محاور أساسية حاولت رصد المشكلة من أبعاد متعددة.

* أعمال اليوم الأول

ناقش المؤتمر موضوع الفقر في العالم الإسلامي من خلال محاور ثلاثة، المحور الأول تحت عنوان البعد السياسي لأسباب الفقر وحلوله في العالم لإسلامي، والذي شكل عنوان الورقة التي تقدم بها الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي سلطنة عمان وقد اشتملت على قسمين حاول من خلالهما مناقشة البعد السياسي وإيجاد حلول له انطلاقاً من الثوابت في التصور الإسلامي للمعضلة. بعد أن قدّم تعريفاً للفقر، استعرض الشيخ التجربة التي عرفتها مصر القديمة في عهد الفراعنة وبابل القديمة، ودور التسلط السياسي في نشوء ظاهرة الفقر بسبب تداعي البناء الاجتماعي ما بين الأغنياء الواجدين والفقراء المحرومين الذين كانوا غالباً ما يتخذونهم عبيداً حتى في أرقى ديموقراطيات العهد القديم أثينا عندما كان هؤلاء العبيد يعجزون عن تسديد الإتاوات. وظل الأمر على هذا الحال، حتى مع قيام الممالك الأوروبية على أنقاض الإمبراطورية الرومانية.

أما فيما يخص العصر الحديث، حاول الشيخ استعراض النظم الاقتصادية التي اعتبرها نظماً جائرة عانت البشرية شرها الوبيل ولا تزال، كالرأسمالية التي ولدت مع الثورة الصناعية في الغرب بخصائصها وتصوراتها للعالم وللثروة وللإنسان، والقائمة على المادة المطلقة والمفارقة للدين والأخلاق، فأعطت للفرد حريته المطلقة في الإثراء دون أن تقيم وزناً للمجتمع أو لأنات المحرومين وصرخات المحتاجين، ناهيك عن إباحتها للربا التي شكلت أساسها ومحركها رغم المحاذير التي ما فتئ ينبّه إليها أساتذة الاقتصاد في الغرب نفسه، ويحذّرون من خطر أن يصبح جميع الملاك وأصحاب المصانع أجراء يعملون لحساب أصحاب المال ويدفعون سعر الفائدة مما يجنونه من جيوب المستهلكين عن طريق زيادة أسعار المواد الاستهلاكية.

وكردة فعل ضد هذا الاستغلال، ظهرت الشيوعية كأمل راود الجماهير الكادحة للتخلص من سطوة أرباب العمل والمرابين، إلا أنه سرعان ما تحولت للحرمان والاضطهاد السياسي وأخذت تسوق الجماهير بالسياط للعمل كارهة دون إحساس بالمسؤولية، فضلاً عن أن كل فرد من الأفراد محكوم بإرادة الحزب في أنماط حياته مما جمد الإنتاج بسبب إخماده روح المنافسة والإنتاجية، إنه تعطيل للطاقات وتجميد للملكات.

وقبل تناول القسم الثاني والمتعلق بالحل الإسلامي عرج الشيخ على ظاهرة العولمة التي أصبحت مترادفة مع الفقر والبطالة في العالم أجمع.

إن نظرة الإسلام إلى المال تختلف عن غيرها من الفلسفات والنظم الاقتصادية، فهو إن منح الإنسان حق التملك لا يجعله المالك الحقيقي ذا السلطة المطلق في التصرف، وإنما المال هو مال الله الذي يجب التصرف فيه بإذنه تعالى، باعتبار الإنسان مستخلف فيه {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}. وكما وضع الشارع ضوابط للصرف وضع أخرى للكسب فحرم كسبه عن طريق الربا أخذاً وعطاءً.

والإنفاق في الإسلام خارج محيط الأسرة ينقسم إلى قسمين: إنفاق بمقادير معينة وهي الزكاة الواجبة والتي قرنت بالصلاة في مواضيع عديدة في القرآن، إذ رغم أن الملكية الفردية معترف بما في الإسلام إلا أنها محددة بضوابط حتى لا تكون دُولة بين الإغنياء. هذا فيما يخص المال الخاص أما المال العام فقد جعل الإسلام للمجتمع كله الحق فيه إذ جعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلما في المال النقدي والمشاركة في المحصول الناتج من المزارعة.

جاءت الورقة التالية مشتركة ما بين الأستاذ محمود أحمد أبوليل أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية بجامعة الإمارات العربية المتحدة والأستاذ محمد عبد الرحيم سلطان العلماء - أستاذ الفقه وأصوله بالجامعة نفسها، لتركز على دور الدولة كسلطة تشريعية في حل مشكلة الفقر استناداً إلى الأسس التالية: مبدأ التكافل العام، مسؤولية الدولة في الضمان الاجتماعي. وقد قسم الفقهاء واردات بيت المال طبقاً لمصارفها إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أموال الصدقات، وتشمل زكاة السوائم، وعشور الأراضي، وما أخذه العاشر من تجار المسلمين وهو يشكل مظلة التأمينات الاجتماعية في المجتمع الإسلامي.

القسم الثاني: ويشمل خمس الغنائم والمعادن والركاز.

القسم الثالث: الفيء، وهو يشكل المدخول الرئيسي لبيت المال.

القسم الرابع: الضوائع، وهي اللقطات التي لا صاحب لها، والتركات التي لا وارث لها، ودية المقتول الذي لا ولي له. والمصادرات المشروعة للأموال التي أخذت بطرق السحت والحرام.

وتصرف هذه الواردات لسد حاجة العاجزين والفقراء بشكل عام.

وتستند الدولة في فرض ضرائب الضمان إلى أسس ومبادئ:

أولاً: التكافل العام ومبدأ الإخاء بين المسلمين وهو إلزام الدولة رعاياها بامتثال ما يكلفون به شرعاً بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام، وكما يكون لها حق إجبار المسلمين على الخروج إلى الجهاد إذا تعيّن ذلك، فإنها تملك حق إجبارهم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين إذا امتنعوا عن القيام بها.

ثانياً: حق الجماعة في مصادر الثروة، وفي النعم التي حبا الله بها الإنسان وهي لا تحصى، بمعنى أنها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق حاجاته، فالمشكلة إذن ليست في ندرة الموارد الطبيعية، وإنما في سوء تصرف الإنسان والتوزيع السيئ للثروات.

ثالثاً: حقوق المال سوى الزكاة، فليست الزكاة وحدها مما يجب في مال المسلم بل هناك حقوق أخرى تستحقها الجماعة في مال الأفراد كحق الصدقات حق الضيف، حق الزرع عند الحصاد، قال تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالحق في هذه الآية شيء غير الزكاة.

كما ناقش الأستاذ محمد أحمد عيج الكردي عن شبكة جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا مشكلة الفقر في العالم الإسلامي متناولاً إياها من جانبيها الاقتصادي والفكري أي التصوري لهذه الآفة، فقسم الفقر إلى معنيين: معنى نسبي يتمثل في التفاوت في مستوى المعيشة وهو الفقر والفجوة التي يقربها الإسلام، ثم معنى مطلق ويقصد به مدى إمكانية الفرد في إشباع حاجاته، بغض النظر عن موقف الغير. فما هي الآثار الروحية والأخلاقية للفقر؟.

هناك موقفان رئيسان بالنسبة للفقر: موقف المقدسين له والذين يعتبرونه نعمة من الله تتيح لهم الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة، في حين أن الإسلام ينكر نظرة التقديس هاته لذكره الفقر في معرض الذم دائماً لا المدح فقد قال K: "نعم المال الصالح للرجل الصالح". ثم موقف الجبريين السلبيين الذين يرون الفقر قضاء وقدراً من السماء. ثم موقف دعاة الخير والصدقات، ونظرة الرأسمالية والاشتراكية الفقر. وهي كلها تصورات إما مادية قدرية أو طوباوية لا ترى للإنسان دوراً في تجاوزه. فالإسلام يعتبر الفقر آفة خطيرة لها انعكاسات سلبية على كل من العقيدة والأسرة والمجتمع بالإضافة إلى الفكر ويجب حلها. لذا وفَّر طرقاً عديدة للحد منه دون محاربة لقضاء الله وقدره.

وحاول الأستاذ محمد همام من المغرب أن يجعل مقاربته أكثر شمولية أو كلية أنموذجية إن شئنا استعمال عنوان ورقته: جدلية الفقر والتنمية في العالم الإسلامي: مقاربة معرفية، حيث سعى في مقدمة بحثه إلى تجاوز المعايير الغربية للتنمية والتخلف وهي التي حكمت اشتغالنا في رصد ظاهرة الفقر في العالم الإسلامي.

مع أن القرن العشرين قد عرف تقدماً ووفرة غير مسبوقة في وتيرة الإنتاج، إلا أنه سجل كذلك زيادة في الفقر واستمرار حالات البؤس والحرمان في مناطق لا تفتأ تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، مما أخل بعلاقة الموارد مع نسب التقدم والرفاه الاقتصادي، وهو واقع أصاب الغرب منه حظ وافر. وبما أن العالم الإسلامي- بانتماء جل دوله إلى الجنوب لم يكن سوى جزء في ساحة المعركة بين الشرق والغرب، فقد تأثر كثيراً بالنتائج التي ترتبت عن هذا الصراع وأهمها النزوع المتضخم للعولمة الاقتصادية التي بدأت تنهش الأطراف قبل ارتدادها للمركز، لتزيد من وضع متأزم بفعل تركة الاستعمار الأوروبي لدول العالم الإسلامي وما خلفه من تبعية بنيوية حالت دون نجاح مشاريع الإصلاح فضلاً عن النهوض.

أما المحور الثاني فقد تناول البعد الاقتصادي لأسباب الفقر وفق مبادئ الاقتصاد الإسلامي الذي شكل عنوان البحث الذي تقدم به الأستاذ حسن محمد الرفاعي من كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية ببيروت، وقد استهل بحثه بالتذكير بأهمية إشكالية الفقر بالنظر إلى المؤتمرات والندوات التي انعقدت في الآونة الأخيرة، سواء تلك التي كانت تحت إشراف الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية غير الحكومية. كما أشار إلى أن عنوان "الفقر في العالم الإسلامي" غير دقيق باعتبار أن دول العالم الإسلامي لا تمثل وحدة اقتصادية، بالإضافة إلى اختلاف مفهوم الفقر في الاقتصاد الوضعي والاقتصاد الإسلامي لذا فإن التباين في تشخيص سبب نشوء الفقر، عندما يرى رجال الاقتصاد الوضعي أن السبب يكمن في عدم تكافؤ نمو الموارد الطبيعية مع الزيادة السكانية، يرى رجال الاقتصاد الإسلامي أن في الأرض ما يكفي من "معايش" وأن السبب يعود إلى سوء التوزيع لأن الخطاب الوارد في الآية عام لجميع خلقه {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} وبغض النظر عن هذه المسألة فإن المتفحص في الأحوال والموارد الطبيعية في العالم الإسلامي سيجد أن هذا العالم يشغل مساحة كبيرة تقدر بنحو 2.935 مليون هكتار (22% من مساحة العالم) وهي تمثل نصف مساحة هذا العالم القابلة للزراعة إلى غير ذلك من الثروات الحيوانية والمائية والمعدنية.

إذن فما هي أسباب لفقر؟.

يرى الأستاذ أن السبب الأول يكمن في سيطرة التخلف الاقتصادي على غالب دول العالم الإسلامي، وهو يتجلى في عدم الاستغلال السليم للموارد الطبيعية والبشرية، ثم التبعية التي يعاني منها حسب التطورات التي تحصل في المشهد الدولي وحسب تحول مراكز القوى، وهي آثار تتراوح ما بين القطاع التجاري والمالي والإنتاجي. وبالإضافة إلى عدم التكامل الاقتصادي بين الدول يمكن اعتبار تفاقم الديون هي العائق الأساسي أمام التنمية.

أمّا ورقة الأستاذ أبو يعرب المرزوقي من الجامعة الإسلامية بماليزيا فقد تمحورت حول أسباب تخلف المسلمين الاقتصادي حسب ابن خلدون، عرض فيها مراحل تطور الفكر الاقتصادي في الإسلام والذي يتراوح ما بين تبني الإرث الفارسي والبيزنطي وبين النظرية الاشتراكية والرأسمالية وهي المراحل التي سماها بالمضاعفة. وتميزت المرحلة المضاعفة الأولى ببحث مقومات نظرية للعمران الاقتصادي والتي شكلت محاولة ابن خلدون عنواناً لها، والتي لم تلق اهتماماً كافياً إذ تواصل عصر الانحطاط وظلت الدولة مؤسسة لنهب أموال المواطنين. ويرى المرزوقي أن السر وراء فشل الحضارة العربية الإسلامية في تحديد طبيعة النظام الاقتصادي والمالي المناسبين للقيم الإسلامية هو في عدم تحليل النظريات الخلدونية تحليلاً وافياً، رغم أن جل القراءات التي اشتغلت على الفكر الخلدوني ركزت على دور العصبية دون التنبيه على علاقتها بالعامل الاقتصادي.

ونهج الأستاذان عبد الغني ميلاد الباقول وضو مفتاح أبو غرارة من الجامعة الإسلامية بماليزيا نهجاً أكثر تخصصاً عندما ناقشا أثر العنصر العيني للعملة على انتشار الفقر في العالم الإسلامي، وأكد على ضرورة اشتمال العملة على العنصر العيني من أجل الحفاظ على قوة العملة المتداولة بين المواطنين. وخصّا بالبحث العنصر العيني للعملة الورقية وأثره، وهو يعني ضمان الدولة لقيمة العملة بكونها وسيطاً لتبادل وتقييم السلع، إلا أن ما يحصل في الواقع يناقض هذا تماماً، وفي أكثر من دولة عربية، فالدولة عند تعرضها لأزمات اقتصادية تقوم بطبع نقود لتغطية الحاجة الداخلية من حيث الكم، ولا تهتم بالكيف، مما يؤدي إلى إضعاف قيمة ما بيد المواطن، وهو أحد أسباب الفقر غير المرئية بوضوح. كما قدّم الأستاذان نموذج ليبيا كمثال على ذلك، عندما كان انخفاض قيمة العملة خلال الثمانينات سبباً في انقلاب حياة الناس الاقتصادية وانتشار الفقر.

وحاولت ورقة الأستاذ صالح قادر الزنكي من الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا تسليط الضوء على أهمية المال ومركزيته ومقاصد الشرع فيه وحتى يتم توظيفه كما هو في النشاط الاقتصادي للمسلمين. وذكّر بأهمية موضوع المال في الدراسات الإسلامية وفي أبواب الفقه التي أولاها العلماء كبير اهتمام وتفصيل، ومن خلال علاقة الإنسان بالمال بحسب المنظور الإسلامي الذي يرى في هذا الأخير وسيلة لا غاية، يتحدد نهج التصرف والتملك في المنظومة الإسلامية، وأن من يملك متاعاً أو سلعة يملكه من حيث الظاهر لأنه في الحقيقة بيد الله وللأمة حق فيه. وهذه الإضافة -أي المال إلى الله تعالى- تضفي درع حماية وأمان على الأموال. ثم هناك مقاصد للشارع من المال، ومنها -كما صرح بها ابن عاشور- مقصد التداول، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} أي أن المراد من المال أن يكون متحركاً بين الأمة أفراداً وجماعات، مع ما يستتبع ذلك من منع اكتناز النقود والتعامل بالربا والميسر والقمار.

كما قدّمت الورقة بعض الإرشادات لمعالجة الفقر، وتتمحور هذه الاقتراحات في السماح للبنوك الإسلامية بممارسة الأنشطة الاقتصادية، وإصدار الدولة إرشادات لإنفاق الأموال وتفعيل دور الزكاة والوقف ومؤسسات التكافل الاجتماعي.

وتناول الأستاذ يحيى محمد محمود آثار التنمية العشوائية في القرن التاسع عشر على العالم الإسلامي مصر وتونس نموذجاً عندما خرجت فرنسا من مصر والشام وتركت البلاد مرة أخرى في حضيرة الدولة العثمانية. وعرّج على محاولات الإصلاح في مصر عهد محمد علي باشا، وتجربة الباي في تونس، والفساد الذي صاحب التجربتين وحال دون نجاحهما، بل ألقى البلاد في دوامة من الأزمات والديون. أما عن دور التربية الإنتاجية في معالجة الفقر فقد خصصت لها مداخلة الأستاذ محمود على تجارب بعض الدول الإسلامية.

وخصص المحور الثالث من المؤتمر لمناقشة البعد الروحي والأخلاقي لأسباب الفقر. لذا تمحورت ورقة الأستاذ عبد المجيد النجار من مركز البحوث والدراسات بباريس حول البعد العقدي في الإنتاج والآثار التحفيزية التي يوفرها قبل أن يتعرض هذا البعد إلى الانحراف، ومن ثم إلى انتشار الفقر الذي يرى الأستاذ في سوء توزيع الثروات وضعف الإنتاج أهم أسبابه.

وتحدث الأستاذ عبد الله بن إبراهيم من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عن الأخطار المترتبة من جرّاء انتشار الفقر في المجتمعات، كما بحث وسائل معالجتها. وعاد الأستاذ محمد يوسف من جامعة الإمارات للحديث عن البعد الروحي والأخلاقي لأسباب الفقر.

وحاولت مداخلة الأستاذ صالح بن عبد الله من جامعة أم القرى أن تكون أكثر عملية من خلال تقديم بعض التطبيقات العملية المعاصرة، التي حاولت معالجة مشكلة الفقر، وقد مهّد لها بالحديث عن منهجية الإسلام في معالجة الفقر من خلال تفعيل دور الفرد وبذل الأسباب.

وسعت دراسة الأستاذ عثمان بن صالح من المملكة العربية السعودية إلى رصد أهم المؤتمرات الطبية الدالة على واقع مشكلة الفقر، والوقوف على إبراز الآثار الأخلاقية الناجمة عن المشكلة في العالم الإسلامي. كما قدّم الأستاذ قطب مصطفى من المعهد العالي لوحدة الأمة الإسلامية بماليزيا قراءة في كتاب الفاضل أحمد الدلجي حول الفلاكة في القرن الثامن الهجري. والذي تناول فيه مسألة الفقر تناولاً رصيناً. أما محتويات القراءة فقد وزعت على ثلاث مباحث، عُني أولها بتقديم نبذة عن الكتاب ومؤلفه، وتصدى المبحث الثاني لتحليل العلاقة بين الفلاكة والقدر، أما المبحث الثالث فقد تناول الآثار الأخلاقية. وتكمن أهمية طرح الكتاب في معالجته العلمية لعلاقة الفقر بالقدر أو بالأفلاك وهو سبب تسميتها بالفلاكة.

* أعمال اليوم الثاني

تمحورت أعمال اليوم الثاني حول البعد الاجتماعي والثقافي لأسباب الفقر، لذا كانت مداخلة الأستاذ أبو بكر باقادر عن الزكاة ومصارفها محاولة لإثارة موضوع الزكاة من منظور علم الاجتماع والإسناد إلى بعض مفاهيمه وطروحاته، بما أن رواد علم الاجتماع اهتموا بالعلاقة بين القيم الدينية والنشاط الاقتصادي فإن دراسة الزكاة يمكن اعتبارها مدخلاً لدراسة أثر العلاقة بين التدين والنشاط المؤدي إلى الثروة. لأنه لا زكاة دون وجود الوفرة والتي لا تتأتى بغير الكد والجهد والإنتاج. إضافة إلى حق المجتمع في هذه الوفرة الراكدة، ويكفي للتدليل على أهميتها اقترانها بشروط الإسلام إلى جانب الشهادتين.

ويرى الأستاذ ضرورة اضطلاع الدولة بمهمة جمع الزكاة والإشراف على توزيعها بشكل منظم ومحدد، عن طريق مؤسسات أهلية تشرف عليها هذه الهيئات الحكومية حتى لا تتعارض الزكاة مع الضرائب والمكوس، وانطلاقاً من آية الزكاة والتي عددت -إن لم نقل حصرت- من تجب في حقهم الزكاة، سعى الأستاذ إلى مقابلة المعايير الفقهية التاريخية بالمصطلحات المعاصرة. ومن خلال دراسة فريضة الزكاة أيضاً.

تناول الأستاذ علاء الدين خروفة من الجامعة الإسلامية بماليزيا مسألة الفقر والوسائل التي تساعد عل التغلب عليه، حيث سجل أن الأمة ارتكبت تقصيراً في حق الزكاة لما لها من أهمية بالغة في المجتمع كما قام بجرد من تجب في حقهم الزكاة، بالإضافة إلى ما تحققه من توازن بين الفرد و الجماعة.

أما الأستاذ عوض من الجامعة الإسلامية الله فقد جمع ما بين الثقافي والاجتماعي في معالجته لظاهرة الفقر في العالم الإسلامي، وذلك عندما اختل التوازن الاجتماعي الذي سنه الإسلام، وكذلك الإخلال بأسس التربية الإسلامية القويمة، القائمة على القران الكريم.

ونتيجة لضغط مشكل الفقر في العالم الإسلامي، فقد انعكس ذلك على الإنتاج الأدبي في القصص المعاصرة، فكانت مداخلة الأستاذ محمد السيد من قسم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية العالمية عن القصص العربي القديم، والحديث وكذلك القصص القرآني. فقد حفل التراث القديم بكثير من الحكايات والتي حظيت المشكلات الاجتماعية بنصيب وافر منها استمر إلى بداية بواكير القصة العربية الحديثة، كما نجد مثلاً عند عبد الرحمن الشرقاوي في روايته "الأرض" التي اعتبرها المتدخل تطويراً لـ"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، التي تناول فيها الفلاحين المحاصرين بأسوار الإقطاعيين.

وقسمت ورقة الأستاذ إحسان موسى من جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا أسباب الفقر إلى اجتماعية موضوعية وأخرى ذاتية وإلى أسباب أعم وأشمل كالعولمة، أما بالنسبة إلى مساهمة الإسلام في معالجة الفقر فقد ركّز على أهمية دوره من خلال حثه على العمل وعدم مد اليد إلى الناس، وجعل اليد العاملة من أحب الأيدي إلى الله تعالى. مع ذلك لم يهمل الإسلام دور الجماعة في هذه العملية من خلال، التكافل الاجتماعي وكفالة الأرحام والأقارب وغير الأقارب.

واقتصر بحث الأستاذ إسماعيل حسانين على التوجيهات الإسلامية الخاصة باستغلال الثروات والموارد الطبيعية من الزراعة وخزانات المياه، للحد من الفقر في الدول الإسلامية النامية. كما ركّز على اعتماد المنهجية الإسلامية في مقاربة المشكل. وعلى نفس منوال الأوراق السابقة ركزت كل من مداخلة أبي سعيد محمد من ماليزيا والأستاذ الحسين زايد من كلية العلوم بالرباط وعبدالله باريسي من جامعة زايد على الفقر في المنظور الإسلامي.

وطبيعي أن مناقشة مشكلة الفقر ستقود إلى علاقتها بظاهرة العولمة، وعولمة الفقر فكان المحور الخامس عن العولمة ومشكلة الفقر في العالم الإسلامي ومكافحة الفقر في ماليزيا دراسة حالة.

تناول الأستاذ كاظم الوالي من جامعة الإمارات أساليب العولمة في زيادة عدد فقراء العالم، من خلال زيادة عبء البلدان النامية من الديون، وارتفاع فائدتها، وخفض أسعار العملات، مع تقديم إحصائيات زيادة على عدد الفقراء في العالم منذ القرن التاسع عشر. وأشار أيضاً إلى أهمية الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي من خلال توصياته في زيادة الفقر في بلدان العالم الثالث، كمطالبته بتحرير التجارة، وخصخصة القطاعات الحكومية. ونفس الإشكالية ناقشتها ورقة الأستاذ ناصر يوسف من جامعة ملايا بماليزيا.

ولتقييم تجربة دولة مسلمة في مجال محاربة الفقر، قدم الأستاذ محمد شريف بشير من جامعة العلوم الإسلامية نموذج ماليزيا في إدارة التنمية القومية في الفقر ما بين 1970 و2000 بدءاً من السياسة الاقتصادية الجديدة إلى سياسة التنمية القومية بالإضافة إلى الرؤية الاستراتيجية لعام 2020، وتناول الأستاذان شريانتي حسين ومحمد شريف دور المؤسسات الحكومية والأهلية في تقليل آثار الفقر في ماليزيا.

وللحديث عن دور المرأة في عملية التنمية، خصص المحور السادس للحديث عن ثنائية المرأة في التنمية الشاملة في المجتمعات الإسلامية، وبدأ الحديث سماحة الشيح محمد علي التسخيري عن أربع مواضيع في الإسلام والتنمية، دور المرأة في عملية التنمية الاجتماعية، أشار إلى لقاءات ومؤتمرات الأمم المتحدة في هذا الصدد، وموقفنا منها، ثم دور المنظمات غير الحكومية، وبعد أن قدّم الشيخ نظرة الإسلام إلى مفهوم التنمية والذي اعتبره واجباً حضارياً لتكون الأمة شاهدة على الناس، وقسم الوسائل في تنمية الإنتاج إلى فكرية وأخرى تشريعية، كما ناقش مفاهيم علاقة الإنتاج بالتوزيع والتداول في المنظورين الماركسي والرأسمالي قبل توضيح الموقف الإسلامي منها.

ولإبراز الدور الذي كفله الإسلام للمرأة جرّد الأستاذ ثقيل بن ساير -رئيس محكمة الاستئناف الشرعية بقطر- مكانة المرأة لدى الأمم السابقة في اليونان والرومان إلى أن منحها الإسلام حق العمل والكد والتعليم إضافة إلى الحقوق السياسية.

وترى الأستاذة مريم آيت أحمد علي من جامعة ابن طفيل بالمغرب أن قضية تهميش المرأة هي أحد أهم أسباب إعادة التنمية في المجتمعات الإسلامية. ولمواجهة هذه التحديات اقترحت الأستاذة سبل وآليات إدماج المرأة في التنمية سواء في مجال الصحة والبيئة أو الإعلام وفي المجالين الاقتصادي والسياسي، وترى الأستاذة أن هذه القضية لا تخص المرأة وحدها بل هي قضية مركزية، في مسألة التطور والتنمية باعتبار أن التنمية الإنسانية في الجوهر هي نزوع دائم لترقية الحالة الإنسانية للبشر، جماعات وأفراداً سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، ولقد اعتمدت الأستاذة على مفاهيم علم الاجتماع التي رأت في التنمية المجتمعية مخرجاً للأزمة المعرفية التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم.

أما الأستاذ منجد مصطفى بهجت من الجامعة الإسلامية العالمية فضل تناول الصورة الشعرية لدى معروف الرصافي عن اقتران مشهد الفقر بالمرأة في العالم الإسلامي من خلال حالة العراق.

وأشارت الأستاذة فريدة صادق من نفس الجامعة إلى أهمية دور المرأة الاجتماعي في معالجة مشكلة الفقر. فيما ركزت الأستاذة عصمت نصر عبد الحميد على دور تعدد الزوجات في الحد من الفقر لاحتمال ضرورته في بعض الحالات. وناقشت الأستاذة غالية بوهدة من الجامعة الإسلامية العالمية مفهوم ثنائية المرأة والتنمية لدى الغرب والعالم الإسلامي، وتضارب الإيديولوجيات الكامنة وراء الأسباب الحقيقية لدفع وتشجيع مشاركة المرأة في التنمية الوطنية.

ولقد ختم المؤتمر أعماله بإصدار مجموعة من التوصيات، أهمها تأسيس معهد عالمي لمكافحة الفقر عن طريق القيام بالدراسات النظرية والتطبيقية التي يمكن أن يستعين بها صناع القرار في العالم الإسلامي، مع جمع المعلومات والإحصائيات في الموضوع، وتقديم الاستشارات، وتنظيم مؤتمرات وندوات حول مسائل الفقر وسبل مكافحته، تبادل المعلومات والتجارب بين دول العالم الإسلامي، تأسيس مجلس عالمي على مستوى العالم الإسلامي يتكون من المهتمين بمشكله الفقر ومكافحته، كما دعا المؤتمر الدول الإسلامية إلى الانفتاح على بعضها البعض من خلال فتح الحدود بهدف تعزيز التعاون والشراكة وتسهيل انسياب العملة والسلع والخدمات من دولة إلى أخرى.

ودعا المؤتمر الدول الإسلامية إلى إخراج المسائل المتعلقة بالزكاة جبايةً وتوزيعاً وبالصدقات وسواها من وجوه الخير والبر من الدائرة الفردية إلى المؤسساتية ضماناً لوصولها إلى المستحقين.