الإيديولوجيا والبنية النفسية *
بقلم: كويمبرا دوتوماس
للإيديولوجيا في حالاتها القصوى، مصدران متعارضان كليًّا. المصدر الأول هو البحث المستمر عن التماهي مع مثال للأنا على هيأة استدخال لموضوع مثالي، والخضوع له، وهي عملية لا يتم التوصل إليها بشكل نهائي، أما المصدر الثاني فهو تحقيق عملية تفتُّح وازدهار الفكر في علاقة متطورة مع أحد الموضوعات، وتشغيل الأنا الذي يستعمل لصالحه هذه الوظيفة التي نسميها الأنا المثالي.
عندما نتحدث عن الإيديولوجيا، سواء كانت إيديولوجيا سياسية، أو دينية، أو فلسفية، أو علمية، أو غيرها، فإننا نشير دوماً تقريباً إلى هذا الشكل من الإيديولوجيا المشتقة من بنية عتيقة لعلاقة الذات مع إحدى الموضوعات.
إن الموضوع المثالي الذي تم استدخاله في الذات، إضافة لصبغة مثالية على الجزء الجيد من الموضوع الكلي المقسوم، يشتغل كمصدر للتخفيف من الألم الذي يسببه الموضوع المضطهِد (بكسر الهاء)، الذي هو أيضاً موضوع قد تم استدخاله في الذات. ومعنى ذلك أن الموضوع المثالي صورة تعويضية، تم إنشاؤها لإبعاد الذات عن العلاقة الاضطهادية مع الصورة الشفوية الأولية والمخربة.
وهكذا فإن مثال الأنا هو بقايا هذا الموضوع القدسي، القوي كل القوة، والذي يفرضه الخضوع لمبدأ اللذة، وذلك بغية التوصل إلى الحالة النرجسية التامة التي انتهت مع الميلاد، والتي لا تحققها إلا جزئيًّا فقط وللحظات قصيرة، الغلمة الجنسية من بين كل إشباعات الحياة العادية.
إن الموضوع المثالي، الذي يتم الاحتفاظ به داخل الفرد كجسم أجنبي، هو موضوع مسقط باستمرار على الخارج، لأنه لم يتمثل تمثلاً كليًّا، بسبب طابعه المطلق. وفعلاً فإننا لا يمكن أن نتماهى مع موضوع في غاية الكمال، اللهم إلا عندما يسقط المرء صريع المرض النفسي، أي عندما يتم الاستغناء عن الواقع الخارجي ويحل الهذيان محله.
يمكننا أن نسقط هذا الموضوع المثالي على شخص آخر، لكننا لا يمكن أن نُبقي على هذا الإسقاط، لأن الآخر لا يبلغ درجة التطابق مع الموضوع المثالي. ولا أحد يصل إلى حد الكمال. إلا أن المثل العليا يمكن أن تصلح بالنسبة له كدعامة ملائمة، وخاصة إذا كانت هذه المثل مجسدة في شخص، وإذا لم يكن هناك إلا مثال واحد.
إن الاستيهام الأصلي الكامن خلف المضمون الظاهر للإيديولوجيا، يعبر إذن عن إشباع رغبة لا شعورية ذات قوة نرجسية كبيرة، وهي قوة غالباً ما يتم إسقاطها على أشياء أضفيت عليها صبغة القدسية، بينما ترتبط الرغبة بتجارب الإشباع المبكرة، والتي يبقى الفرد مشدوداً إليها أو ينكص نحوها. وفعلاً فإن تجارب الإشباع هذه هي التي تشعل الرغبة بمجرد عودة حالة الاحتياج، والإحساس بنقص شيء كان موجوداً. وقد أشار إلى ذلك فرويد من قبل: “تبدو الرغبة الأولى وكأنها كانت استثماراً هلوسياً لذكرى الإشباع”.
إن الاستيهام البدائي، عندما يتم إحياؤه بهذا الشكل، غالباً ما يتم تشويهه بواسطة متطلبات الدفاع، وبواسطة المعيش اللاحق.
وبهذا الشكل فإن الأفكار الظاهرة في الإيديولوجيا تمثل، كما هو الأمر في الحلم، العلامة المرضية (العرض) والسمة المزاجية للفرد، وتسوية أو حلاً وسطاً يتدرج بين غلبة جانب التعبير أو الجانب الدفاعي، أو غلبة الدوافع في الشخصية، على الرغم من أن الجانب الغالب هو الدفاع.
وبالتالي فإن الإيديولوجيا تقع على مقربة من تشكيلات رد الفعل (التكوينات العكسية) والعصاب الاستحواذي، أكثر مما تقع على مقربة من الهستيريا والميل إلى الأفعال الاندفاعية.
لاحظنا لدى مريض قمنا بمعالجته، ذي بنية استحواذية، وجود إيديولوجيا تصوفية تدفعه نحو حياة الزهد وكراهية البشر، وبدا أن هذه الإيديولوجيا هي بمثابة قوة دفاعية ضد النزوع إلى الجنسية المثلية، التي هي بدورها موقف دفاعي عن علاقة حلولية مع الأم، سابقة على المرحلة التناسلية.
فهو يشعر في معظم الأوقات أنه منهك، وفي الواقع فإن إيديولوجيته المتشددة والقاسية تجاه ذاته تشل حياته كلها، لأنها تجعله يبدد كل طاقته النفسية في صراع لا جدوى منه، فهو يعزل نفسه، وهكذا تصبح حياته سيراً حثيثاً نحو الانتحار، وهو سير تلعب فيه مثله الخاصة دور الجلاد أو السياف.
ومع ذلك فقد حقق خلال العلاج قسطاً من التقدم، لكن صعوبته في التماهي مع أبيه ومع محلله، جعلته يبقى مرتبطاً بِمُثُل تحول بينه وبين الوصول إلى تفتّح صريح على الفكر والتجربة.
وبالعكس فإن الإيديولوجيات بالمعنى المحدود للكلمة تتعلق بمنظومات من الأفكار، وبتيارات من الفكر، وبنظريات نعرفها جميعاً، والتي تخدم إلى حد كبير ازدهارنا الفكري.
فهي في علاقة مع جملة من التماهيات -وليس الإسقاطات- التي ترتكز على التماهي الثانوي مع الجنس الآخر من الوالدين، أو مع أحدهما من الجنس نفسه، بعد التماهيات البدائية (الإسقاطية) مع الأم والأب، وبعد معاناة التنافس الأوديبي، وبعد أداء دور الموضوع بالنسبة لأحد الوالدين الذي هو من الجنس نفسه. وفي عملية التماهي هاته مع أحد الوالدين الذي ينتمي إلى الجنس نفسه خلال المرحلة الأوديبية، نعثر على مصدر الأنا المثالي الذي هو وظيفة للأنا.
وبعد المعنى (ومع قبوله كما حدده Luzés في تمييزه بين مثال الأنا والأنا المثالي، وهو التمييز الذي لم ينل موافقة كل المؤلفين، لأن هذه المفاهيم -مثال الأنا والأنا المثالي- مفاهيم مختلطة قليلاً في الأدبيات التحليل-نفسية) فقد سبق لي أن قلت (في هذا المعنى الذي يعطيه Luzés والذي أتبناه): إن الأنا المثالي ليس -كمثال الأنا، ورماً في الجهاز النفسي- شيئاً دخيلاً على الشخصية يتعين علينا قذفه بسبب مطالبه الملحة في الكمال، رغم أننا نستمر في الخضوع له. فالمُثُل هي دوماً أشياء كبيرة بالقياس إلى لا جدوى الإنسان كما يظن الكثيرون، فالأنا المثالي وظيفة للأنا في خدمة تكيفه مع متطلبات الهو، وأوامر الأنا الأعلى ومقتضيات الواقع، وهو شرط الوجود المستقل للذات. وهو ليس كمثال الأنا المرتبط بمبدأ اللذة، بل هو تابع على وجه الخصوص لمبدأ الواقع.
وبعد التماهي مع شخص كنا قد أحببناه ووددنا لو كنا مثله، وبعد الإحباط الذي ألحقه بنا، فإننا نستطيع أن نكتسب معنىً للواقع، وأن نكون ذواتنا، وأن نحقق ازدهار قدرتنا الخاصة.
يمكن أن نجد أنفسنا في عملية تكون الإيديولوجيات، إما أمام إشكالية صراعية بين الهو والأنا الأعلى، وتمتد جذورها إلى العلاقة قبل التناسلية مع الموضوع، أو إلى الحاجة النرجسية، إلى أن يعيش المرء من جديد حالة القدرة الكاملة، أو أمام التعبير، عبر الأنا الضعيف أو المنهك، أي عن المكبوت (الهو) من خلال ألفاظ المثال، وذلك تحت تأثير أنا أعلى بدائي ومتشدد، أو على العكس من ذلك، أمام إعداد مرن لمجموعة من الأفكار، التي يستعملها ويحافظ عليها أنا يستعمل الطاقة الزائدة، ليفهم ما يحيط به فهماً أحسن، وذلك بمراعاة حاجاته الدافعة الخاصة، ومتطلبات واقع الآخرين وحاجاتهم.
وإذا كانت هناك إيديولوجيات (النرجسية) مماثلة في منشئها وغايتها للجنون، فإن هناك إيديولوجيات أخرى -لا أود أن أسميها إيديولوجيات، بل فقط فرضيات بحث- تعكس علامات النضج.
ما قلته الآن يمكن أن ينطبق على كل تعبيرات الفكر الإنساني، بما في ذلك التحليل النفسي -الذي يمكن أن ينزلق في إيديولوجيا مغلقة وبدون منافذ- كما يمكن أن يكون، إذا ما كان منفتحاً على البحث، أداة مثلى لفهم الإنسان.
* خلاصة
لكي نبرز دينامية التكوين النفسي من حيث الارتباط بإيديولوجيا معينة، ندرس قطبي النسيج الإيديولوجي.
في إحدى الجهات، نشاهد إيديولوجيا مغلقة وذات صبغة عقدية متشددة، كما لو كانت ديناً، وهي إيديولوجيا تتولد عن علاقة بموضوع عتيق، قبل تناسلي. أما الموضوع المؤمثل (الذي أضفيت عليه صبغة مثالية)، الموضوع الجزئي غير المؤله، الناتج عن سيادة مبدأ اللذة والقوة الكلية للأفكار، فهو مسقط على المثال - وهو الدعامة الملائمة لهذه الإيديولوجيا- إذ إنه نسيج شبيه بنسيج الهذيان، والبنية النفسية التي تهيئ الإيديولوجيا أو تتلقاها، بنية شبيهة ببنية الذهان.
نورد مثالاً عيادياً:
قبل كل شيء، الإيديولوجيا تقدم نفسها كدفاع ضد النزعة الجنسية المثلية الكامنة. وخلال النكوص نرى أنها تخفي الانهيار في علاقة، مع فقد الموضوع الأولي، وأعمق من ذلك مظاهر قلق ذات ميل عظامي (نسبة إلى داء الإحساس الحاد بالعظمة)، أمام التهديد بعلاقة انصهارية. وهناك صعوبة حادة تتمثل في التماهي مع المحلل كأب -حيث تكون الحركات استدخالية- وهي صعوبة تعوق التقدم.
وفي القطب المقابل، نشاهد الإيديولوجيا المتفتحة، العملية بالمعنى الحقيقي، المشيدة في علاقة بموضوع لاحقة للمرحلة الأوديبية ومتطورة.
وفي هذه الحالة يتقبل الآخر ويعرف به، كما يتم فهم التناقض وعدم التلاؤم، ويعاش المثلث الأوديبي ويتم إعداده بصورة عادية.
في الشكل الأول -الإيديولوجيا بالمعنى الجاري- يشكل قسم الأنا الأعلى البدائي، أي مثال الأنا، ورَماً حقيقياً يخترق الشخصية.
وفي الحالة الثانية، حيث تشكل نظرية من النظريات أو فرضية من الفرضيات مجموعة من الوقائع التي لم تكن من قبل غير ركام من الأشياء الخالية من الدلالة (بوانكاري: العلم والمنهج)، فإن إحدى وظائف الأنا، وهو الأنا المثالي، يتحكم في عملية التكيف الاجتماعي للفرد.
إن التعبير الكامل عن الفكر الإنساني، يمكن أن يتجه صوب الطرف القاتل الذي هو طريق الإيديولوجيا بالمعنى القوي، وذلك عندما تضغط القدرة الطفولية وتفرض علينا الإحساس بها. والتحليل النفسي، لا يفلت هو ذاته من هذا الخطر.
الهوامش:
* العنوان الأصلي للمقال: “حول الإيديولوجيات” منشور بالمجلة الفرنسية للتحليل النفسي (1969م).