شعار الموقع

الإيديولوجيا

جوزيف غابــل 2005-10-17
عدد القراءات « 917 »

الإيديولوجيا*

بقلــــم: جوزيف غابــل

 

يحتل مشكل تحديد المفاهيم مكانة هامة في علم السياسة. فقد لاحظ
(
F. Bertier) أن “هناك ميلاً في العلوم نحو المزيد من الدقة، وسعياً نحو محاولة استبدال الكلمات العائمة في المنطق الصوري برموز محددة تحديداً جيداً، أما في لغة السياسة فالأمر عكس ذلك حيث تهيمن باستمرار أشد أنواع الخلط سوءاً”.

وقد جمع Kluchohn وKrober بضع مئات من التعاريف المختلفة للثقافة، ولعل محاولة مماثلة بالنسبة للإيديولوجيا ستعطي بدون شك النتيجة نفسها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مفهوم الإيديولوجيا -وهو مفهوم أكثر تسيُّساً من مفهوم الثقافة- مصاب بالدوغمائية، فكثيراً ما يتم تقديم تعريف ليس أكثر ولا أقل نسبية من تعريف آخر، لكنه مكرّس من طرف إحدى السلطات، مما جعله ينسب للمتمسكين بتعريفات مخالفة له صفات الجهل والالتباس.

ولعل أحسن طريقة -إن لم تكن الطريقة الوحيدة- للتوصل إلى حد أدنى من الموضوعية، هي تجميع التعاريف المختلفة لاستخلاص “نموذج مثالي”، نتصوره من حيث قيمته الأداتية. وهكذا فإننا بمقابل المطالبة الوهمية بموضوعية مطلقة، نقدم بذلك نوعاً من الذاتية المقبولة وذات “الأداء الوظيفي”.

وستأتي حقًّا فترة تؤدي فيها نتائج العديد من البحوث إلى تعريفات يقبلها الجميع. وهذا الطور قد بلغته العلوم الطبيعية والقطاع الكمي من العلوم الإنسانية، لكن علم السياسة بعيد عن ذلك، هل هناك تعريف واحد مقبول من طرف الجميع، لمفاهيم في مثل أهمية “الفاشيّة”، “اليسار” أو “اليمين”. لذلك فلن نندهش للمكانة المخصصة هنا للبحث عن تعريف، إن هذا البحث ليس فقط مقدمة أولية للعمل العلمي في علم الاجتماع السياسي، بل هو بعد من أبعاد هذا الأخير.

-1-
تمييزات أساسية: المفهوم المحايد والمفهوم القدحي

لعل من المهم بادئ ذي بدء أن نسجل التباساً أساسياً: إن لفظ “إيديولوجيا” يستخدم أحياناً بمعنى محايد، حتى لا نقول بمعنى مدحي، وأحياناً يستعمل بمعنى نقدي (قدحي). يشير رايمون آرون إلى وجود “نوع من التردد، في الاستعمال الجاري، بين الاستخدام القدحي النقدي، أو الجدالي للإيديولوجيا -الإيديولوجيا هي الفكرة الخاطئة، وتبرير المصالح والأهواء- والاستخدام المحايد، أي التنظيم المتفاوت في الدقة لموقف تجاه الواقع الاجتماعي أو السياسي، والتأويل النسقي بهذا القدر أو ذاك لما هو موجود ولما هو مأمول، وفي النهاية فإن أي خطاب فلسفي هو خطاب إيديولوجي. في هذه اللحظة تصبح الإيديولوجيا لفظاً مدحياً لا قدحياً” (آرون: ثلاث دراسات حول العصر الصناعي)، يميل الماركسي الأصولي، منذ بعض الوقت، نحو الرجوع إلى الاستخدام المحايد (هـ. شامبر. انظر أيضاً التعريف اللاحق لألتوسير) مما هو مؤشر في الوقت نفسه على ابتعاده عن التصورات الخاصة بماركس وعن مظاهر تقدم عملية أدلجة الماركسية لحساب فوزها السياسي.

الإيديولوجيا والبنية الفوقية

هناك تمييز ثانٍ مهم فيما يخص نتائجه الإبستمولوجية، وهو التمييز بين البنية الفوقية والإيديولوجيا. وهو تمييز مرتبط بالتمييز الذي يقيمه بعض المؤلفين الأنجلو ساكسون بين أصل وتحديد Détermina اجتماعي للفكر: مفهوم الأصل يشير إلى مجرد علاقة علية اجتماعية، في حين أن لفظ تحديد يعبر بالأحرى عن الانتماء إلى بنية جزئية “كفاحية”، يمكن أن نتوجس فيها نوعاً من “التعسف”. والبنيات الفوقية، حسب هذا التعريف، من أصل اجتماعي، أما فيما يخص الإيديولوجيات فهي محددة بواسطة الانتماء إلى كلية فرعية: طبقة، جيل، كيان أخلاقي أو ثقافة فرعية. “قانون الوسط” المشهور يقدم لنا، من وجهة النظر السوسيولوجية، مثالاً جيداً للإيديولوجيا، معرفة على أنها تقنين للمصالح الخاصة بكلية جزئية “كفاحية”.

تصنيف كارل مانهايم

يمكننا -إذا ما قمنا بتبسيط تصنيف مانهايم- أن نميز المفهوم الجزئي والخاص (الجدالي) للإيديولوجيا، عن مفهومها الشمولي والعام (البنيوي). فالأول يتضمن بوعي الأنانية العادية في الحياة السياسية: الإيديولوجيا هي الفكر السياسي للآخر. وهو بالإضافة إلى ذلك يظل في المستوى النفسي، ويعني إما التضليل المقصود، أو الخطأ الراجع إلى “وضعية طبقية”. وبالنسبة للمفهوم الكلي (البنيوي) فإن الأدلجة عملية عامة تطبع كل أشكال الفكر الملتزم، وهو ما يفسر أن الفئة التي تحمل الوعي الصحيح، بالنسبة لمانهايم، ليست هي البروليتاريا المنخرطة في الحركة التاريخية، بل هي فئة المثقفين الخالية من الارتباطات.

المقولة المركزية في هذا المفهوم الكلي والعام ليست إذن هي التضليل المقصود أو الخطأ، بل هي تحول الجهاز المفهومي للفكر من خلال منظور خاص. وعلى العموم فإن في ذلك تطبيقاً لنسبية اينشتاين في ميدان الفكر السياسي.

إن هذا التصنيف -من بين أعمال مانهايم المتشابكة والمعرضة غالباً للانتقاد- ما يزال إلى الآن صالحاً. فهو يمكننا من فرز بقايا التمركز الاجتماعي الذي يطبع الماركسية، والذي يمكن أن يصيب نقدها الإيديولوجي بالعقم. إن إلصاق تهمة التضليل المقصود بإيديولوجيا الخصم، معناه إغلاق الباب أمام التحليل السوسيولوجي. وبالإضافة إلى ذلك فهو يمكن من ربط مشكل الإيديولوجيا بمشكل الوعي الخاطئ.

يشير ريمون آرون من جهته إلى أن قضية الاستلاب وقضية الوعي الخاطئ “قضيتان متلازمتان” (من عائلة مقدسة إلى أخرى. دراسة في الماركسيات المتخيلة).

الإيديولوجيا والوعي الخاطئ

لا نستطيع هنا الموافقة على الرأي التبسيطي لبول كاهن (P. kahn)، الذي يدعي أن مانهايم “يطابق بين الوعي والمفهوم الكلي للإيديولوجيا”، فالأشياء أكثر تعقيداً من ذلك. فبالنسبة للمفهوم الجزئي والخاص للإيديولوجيا -أو بعبارة أخرى بالنسبة للفكر السياسي المتحيز-، نجد أن مسألة العلاقات بين الإيديولوجيا والوعي الخاطئ ليست مطروحة، فالقول بأن فكر الخصم يتطور في مناخ من الوعي الخاطئ، معناه أن نوفر له ظروفاً مخففة. ومن ناحية أخرى فإن المسألة، في هذا المنظور، لن تكون متعلقة بتطبيق مقولة نقدية على الفكر السياسي الخاص بنا، أما فيما يخص المفهوم الكلي والعام للإيديولوجيا، فإن علاقاته بالوعي الخاطئ هي نفس العلاقات التي ارتآها و. باريتو W. Pareto بين المشتقات والبقايا، فالإيديولوجيا هي التعبير -أو إذا شئنا التبلور النظري- عن الوعي الخاطئ.

وبفضل هذا التعريف، فإن الإيديولوجيا هي دوماً قرينة الوعي الخاطئ. لكن يمكن أن تكون هناك أشكال كثيفة من الوعي الخاطئ دون تبلور نظري حقيقي. فدرجة تأدلج مجال سياسي ما ليست بالضرورة متناسبة مع شدة وكثافة وعي الخاطئ. فالتمركز حول الذات، وهو قوي في ولايات الجنوب، تمركز متأدلج قليلاً فقط، في حين أن نزعة التمركز الألماني حول الذات كانت، عكس ذلك، جد متبلورة نظرياً.

الإيديولوجيا واليوتوبيا

يهدف تصنيف مانهايم إلى توضيح هذه المسألة المهمة، ومع ذلك فإن مؤلف “الإيديولوجيا واليوتوبيا” عندما يتناولها ينتاب مساره نوع من التذبذب المثير للانتباه. يتصور مانهايم أن الإيديولوجيا واليوتوبيا مرتبطان بالوعي الخاطئ. كما أنهما كليهما “متعاليان على الكائن الاجتماعي”. فالإيديولوجيا، من حيث إنها متجهة صوب الماضي، ستكون وظيفتها هي الحفاظ على الوضع الاجتماعي، في حين أن اليوتوبيا، وهي مشرئبة نحو المستقبل هي عامل ثوري. ومدلول “التعالي على الكينونة الاجتماعية” يحتاج، في نظر الشخص ذي التصور التاريخاني، إلى دليل، إذ إن الإيديولوجيا “وهي مركزة حول الماضي”، ستكون بالأحرى متجاوزة من طرف الكينونة الاجتماعية بدل أن تكون مجاوزة لها. وبالإضافة إلى ذلك فإن مانهايم يتجاهل الالتباس الكبير لمفهوم اليوتوبيا، الذي يعني أحياناً سلوكاً فردياً فصامياً، وفراراً إلى أحلام عقيمة، ويشير أحياناً أخرى إلى الجماعات التي تحلم باللاممكن لتحقق الممكن. الشكل الأول لليوتوبيا يتجاهل التاريخ (ر.روير Ruyer)، في حين يتدخل الشكل الثاني فيه بقوة. في إطار هذا الاستعمال الثاني سيقترب مفهوم اليوتوبيا بالأحرى من مفهوم الأسطورة الاجتماعية.

وهذان الشكلان يقبلان في النهاية زمانين تاريخيين مختلفين: اليوتوبيا السيكولوجية تندرج ضمن مكان ذي صبغة زمنية، في حين أن اليوتوبيا الاجتماعية السياسية تقع في زمن انفجاري. وبالتالي فإن من الخطر دمجهما في مفهوم واحد، وأن نعتبر أن هذين المدلولين يتضمنان الوعي الخاطئ، فهذا أمر ممكن، بل ومحتمل، لكن مفهوم الوعي الخاطئ ذاته سيصيبه حينئذ الالتباس الخاص باليوتوبيا، وسيدل تارة على موقف متطرف ذي نزعة فكرية (عقلانية معتلة)، وتارة أخرى على دوار في العمل. أما القيام بصياغتهما معاً صياغة مفهومية، فهي محاولة لا غبار عليها من الناحية المنطقية، لكنها عقيمة منهجياً. لأنها ستحول دون إمكان تطوير نوع من البحث الشمولي.

إن هذا الفحص الأولي، قد أبرز بعض الصعوبات المتعلقة ببحث يتعين عليه الاختيار بين العقم والتعسف. من الضروري إذن إبعاد التعريف “المحايد” للإيديولوجيا، هذا المفهوم الذي لن يفتح الآفاق عملياً إلا على بحوث مونوغرافية. كما أن مفهومها الجدالي (“الجزئي” و”الخاص” حسب تعبير مانهايم)، هو ذاته مشحون بالإيديولوجيا، بحيث لا يصلح كأداة للبحث.

يجب أن يكون هناك تمييز بين مدلولي الإيديولوجيا والبنية الفوقية ذاتها، بمساعدة معايير كالفرق بين الأصل والتحديد. ولعل هذا التمييز لن يكون دوماً سهلاً. فالعلم بنية فوقية ذات أصل اجتماعي. ونظرياته يمكن مع ذلك أن تدخل في سياقات إيديولوجيا يتحكم في توجهها الانتماء إلى بنيات فرعية نضالية. ومع ذلك فإن هذا التمييز ضروري ولا مناص منه. إن من الصعب التوصل إلى نظرية شاملة حول ظاهرة يعرفها كل باحث بطريقته الخاصة. لكننا يمكن أن نحد من اعتباطيتها إذا نظرنا إليها نظرة مفتوحة، وإذا أشرنا بدون لبس إلى السمة الأداتية للتعارف المستعملة. ولنذكر الجرَّاح الذي يستبدل أدواته باستمرار خلال العملية.

وهكذا كان علينا أن نتخلى، لأسباب تقنية، عن دراسة ظاهرة الالتقاء الإيديولوجي، التي هي مع ذلك ظاهرة مهمة، والمقصود منها القرابة القائمة حول بعض الموضوعات، بين إيديولوجيات بورنهام (P. Burnham)، بمثابة فرعين من الإيديولوجيا التحكمية والتوجيهية. والحال أن المفهوم التقليدي للإيديولوجيا من حيث هي “منظومة شاملة لتأويل العام التاريخي - السياسي” (ر. آرون: ثلاث دراسات في العصر الصناعي)، ربما كان مفهوماً أكثر إجرائية، بالنسبة لهذا البحث الخاص، من مفهومها النقدي. بتطرقنا لهذا الباب، يكون للباحث كامل الحق في أن “يغير أدواته” شريطة أن يشير إلى ذلك بدون لبس.

-2-
تعريف الإيديولوجيا ومحاولة إنشاء نموذج مثالي

“نحصل على نموذج مثالي، بتضخيمنا -من جانب واحد- لوجهة نظر واحدة، أو لعدة وجهات نظر، وبالربط بين العديد من الظواهر المنعزلة، المشتتة والمتكتمة، التي نعثر عليها أحياناً بأعداد وفيرة وأحياناً بأعداد ضئيلة، وقد لا نعثر عليها في بعض الأحيان، والتي ننظمها تبعاً لوجهات النظر السابقة المختارة من جانب واحد، بقصد تشكيل وحدة متجانسة” (ماكس فيبر: “بحوث في نظرية العلم”).

سنستعرض إذن عدداً من التعريفات الكلاسيكية للظاهرة الإيديولوجية، بهدف استخراج “نموذج مثالي”. وليست أية واحدة من هذه التعريفات “صحيحة ولا خاطئة”. فكل منها تعكس أحد جوانب الظاهرة الإيديولوجية، التي تظهر للملاحظ بارزة بشكل خاص. وهكذا فالعملية التركيبية هي هنا خطوة نحو الموضوعية.

بعض النصوص

- “الإيديولوجيا عملية يقوم بها ذلك الذي يظن أنه يفكر بوعي، دون شك، لكن بوعي خاطئ، إن القوى الحقيقية التي تحركه تظل غير معروفة لديه، وإلا فلن تكون تلك عملية إيديولوجية. وهكذا يتخيل قوى خاطئة أو ظاهرة. وبما أن الأمر يتعلق بعملية فكرية، فهو يستخلص منها مضمون وشكل الفكر الخاص، سواء من فكره الخاص أو من فكرة السابقين عليه. إنه أمام مواد فكرية على وجه الخصوص، وبدون أن يتفحصها عن كثب، فهو يعتبر هذه المواد آتية من الفكر، ولا تراه يهتم بما إذا كان لها أصل أبعد من الفكر ومستقل عنه. وهذه الطريقة في التفكير بالنسبة له هي البداهة عينها. لأن كل فعل إنساني يتم بواسطة ومن خلال الفكر، يبدو له في آخر المطاف قائماً أيضاً على الفكر” (أنجلس).

- “لا يهمنا هنا تاريخ الطبيعة، وهو ما ندعوه بالعلوم الطبيعية، لكن علينا أن نهتم بتاريخ البشر، لأن الإيديولوجيا كلها تقريباً تؤول إما إلى تصور مغلوط لهذا التاريخ، أو إلى تجريد كامل لهذا التاريخ” (ماركس).

- “الإيديولوجيا منظومة (ذات منطق خاص ونظام داخلي خاص) من التمثلات (صور - أساطير - أفكار أو مفاهيم حسب الحالات) المتمتعة بنوع من الوجود، وبدور تاريخي في مجتمع محدد. وبدون أن نتطرق إلى مشكل العلاقات بين العالم وماضيه (الإيديولوجي)، نقول بأن الإيديولوجيا، من حيث هي منظومة من التمثلات، تتميز عن العلم من حيث أن الوظيفة العملية - الاجتماعية تتغلب فيها على الوظيفة النظرية (أو وظيفة المعرفة)” (ألتوسير).

- “نعني بالإيديولوجيات تلك التأويلات للوضعية، هذه التأويلات التي ليست نتاج تجارب ملموسة، بل هي نوع من المعرفة المشوهة لهذه التجارب، التي تستهدف طمس معالم الوضعية الحقيقية، والتي تؤثر على الفرد كضغط خارجي” (مانهايم).

- “الإيديولوجيا منظومة شاملة لتأويل العالم التاريخي - السياسي” (ر. آرون).

- “وظيفة الإيديولوجيا هي تقديم توجيهات تتعلق بالعمل الفردي والجماعي” (م. رودنسون).

- “الإيديولوجيا هي التعبير الفكري المتحدد تاريخياً عن وضعية المصالح” (مينيك).

- “الإيديولوجيا مركب من الأفكار أو التمثلات تبدو للذات وكأنها تأويل للعالم أو لوضعيتها الخاصة. والتي تقدم لها حقيقتها المطلقة، لكنها تقدمها على شكل وهم تبرر به الذات نفسها وتخفي ذاتها. وبصورة أو بأخرى، لكن كل ذلك في مصلحتها المباشرة. أن نعتبر فكراً ما فكراً إيديولوجيا معناه أن نكشف عن خطأ، وأن نكشف القناع عن الشر، وأن ننعت فكراً ما بأنه إيديولوجي معناه أن نأخذ عليه كونه كاذباً وغير مستقيم، وليس هناك ما هو أعنف من هذا الهجوم” (ياسبرز).

استنباطات حول المضمون

يشير (ف. شاتليه) إلى أن الإيديولوجيا مشيئة، فهي تهدف إلى “إبقاء الوضع الحالي للأشياء، فهي في جوهرها مضادة للتاريخ. ويشير (م. رودنسون) من جهته، إلى الطابع الثنائي للإيديولوجيا، هذا الطابع الذي يصادر على “التنقيص من قيمة كل الصراعات غير تلك التي يجد المرء نفسه منخرطاً فيها”. أي إضفاء صبغة مثالية على الجماعة التي ينتمي إليها الشخص، و”إضفاء صبغة شيطانية” على الخصم. ومقال رودنسون في غاية الأهمية بالنسبة لموضوعنا، لأنه يظهر تواجد عناصر إيديولوجية في فكر ماركس، أي عناصر تضرب جذورها في وجوده كمناضل، بجانب معطيات علمية.

وقد أقام (ل. غولدمان) تمييزاً مفيداً بين الإيديولوجيا ورؤية العالم. وهذه الأخيرة بالنسبة له - في الحدود المرسومة من طرف الوضعية التاريخية - رؤية شاملة، أما الإيديولوجيا فهي ترتبط بنظرة جزئية، ومن حيث إن غولدمان ماركسي ملتزم، فهو يخص الطبقات “الصاعدة” بميزة امتلاك “رؤية شمولية، وفي ذلك ترويج للدلالة التاريخية للستالينية. وتحت هذا التحفظ نجد لدى غولدمان عنصرين ضروريين في إنشاء “النموذج المثالي” للإيديولوجيا، وأهمية المقولة الجدلية التي هي الكلية، حيث تكون الإيديولوجيا رؤية مبعدة للنظرة الشمولية، وغير جدلية، وكذا فكرة المعامل المتمركز للأنا، فالإيديولوجيا هي في الغالب التعبير عن وهم المركزية. العنصر الأول يحيلنا إلى مفهوم امتلاك الوعي (awarness) كما حدده كارل مانهايم في مرحلته الأنجلو ساكسونية، أما العنصر الثاني فيحيلنا إلى بعض مظاهر سيكولوجية الطفل، فقد أبرز جان بياجيه فعلاً وجود شكل من “اللاتاريخية الخاصة بالطفل” وأظهر أيضاً وجود شكل من الأخلاق “الموضوعية” الإيديولوجية جداً، والتي هي أخلاق تنصب على النتائج لا على النيات. والحال أننا نميز بين مركزية الأنا، وتضاؤل الحس الجدلي، أكثر من مجرد تعايش، فمن الممكن أن نستنبط أحدهما من الآخر. وإمكانية مثل هذا الاستنباط تظهر جيداً فائدة أحد أشكال منهج الفهم في علم الاجتماع. والإيديولوجيا الستالينية يمكن أن تصلح هنا كنموذج. ففي العالم الذهني الذي تخلقه الستالينية يتضمن الموقع المركزي، المتميز للحزب - أو بالأحرى للمركب: حزب - روسيا - ستالين - منطقياً رؤية ثنائية للتاريخ، متصوراً على أنه صراع بين مجموعتين متجانستين. ومن ثمة الميل إلى المطابقة والتوحيد بين مختلف عناصر الطرف الآخر (انظر “مسلمة العدو الوحيد” لجان ماريدوميناك في كتابه الدعاية السياسية)، وكذا إلى تفسير التاريخ على أنه تحقق خارجي لمؤامرة تقع خارج التاريخ (م.سيربر). وإذا كانت المطابقة، من وجهة النظر الإبستمولوجية، تقنية صالحة (إ.ميرسون) فهي في الوقت نفسه تقنية مضادة للجدل. فالإيديولوجيا يحركها فكر مضاد للجدل أساساً، وما ظاهرة “المطابقة المتسلسلة”، التي أشار إليها ريمون آرون في “أفيون المثقفين”، إلا وجه من ظاهرة أعم، تهم من بين ما تهم، علم النفس المرضي. وبمجرد الاعتراف بالطابع التمركزي للإيديولوجيا حول الأنا -وهو ليس سوى النتيجة المنطقية لدورها كأداة كفاح-، فإن اللاتاريخية الإيديولوجية التي تحدث عنها ماركس، تصبح بدورها ضرورة منطقية.

يظهر هذا “الاستنباط المفهومي” بوضوح كبير في حالة الستالينية، ويمكننا استعمال هذا المثال كعنصر برهان بالمماثلة في حالات أخرى، لا يفسح فيها تعقد معطيات الظهور إلا للتواجد فقط، ومن ناحية أخرى فإن التاريخ الحالي قد تفكل بمهمة تقديم البرهان العكسي على هذه الفرضية، كتشتت المعسكر الشيوعي.

ليس من الضروري -وعلى كل حال من الصعب في إطار محدد- الإكثار إلى ما لا نهاية من أمثلة “الاستنباط المفهومي”، ويمكننا الآن أن نقترح “لوحة فكرية متجانسة”، (أو بالأحرى متناسقة)، عن الإيديولوجيا، أو بعبارة أخرى “نموذجها المثالي” حسب معايير ماكس فيبر. عناصر هذه اللوحة المتناسقة لا تتواجد فيه فقط مجرد تواجد، إذ يمكننا أن “نستنبط مفهومياً” أحدهما من الآخر: الإيديولوجيا منظومة تعبر بدون تبادل عن المصالح الواعية بهذا القدر أو ذاك لهذه المجموعة، على شكل من أشكال الوعي الزائف.

الإيديولوجيا ورفض النزعة التاريخية

إن ظهور اتجاه ماركسي اليوم يناهض بوعي النزعة التاريخية، أمر يطرح على نظرية الإيديولوجيا مشاكل خاصة. إن هذه النظرية -في رأينا- هي ذاتها إيديولوجيا، من حيث إنها تبرير للاتاريخية و “لمركزية الحاضر” المميزة للفكر السياسي في الفترة الستالينية. توجد فعلاً في الستالينية قطيعة فعلية بين سوسيولوجيا الماضي وسوسيولوجيا الحاضر، فالأولى تعطي الأولوية العِلِّيّة للعامل الاقتصادي، في حين أن إدارة الحزب المقرِّرة (الراء الأولى مشددة ومكسورة)، وفاعلية علية القوم، تتدخلان بفاعليه وقوة في سوسيولوجيا الحاضر. فالستالينية إذن هي مادة الماضي ومثالية الحاضر. فمحاكمات التطهير قد كسرت مظهراً آخر لأولوية الحاضر: التعديل اللاحق لماضي المتهمين من خلال متطلبات الحاضر. “لا يصبح المرء خائناً، بل هو كذلك دوماً”. وتلك هي الأيلية السياسية المحضة. وقد صاغ لوكاتش، منذ 1923م -من حيث هو تاريخاني منسجم مع نفسه- صاغ تحذيراً واضحاً ضد محاولة إعطاء مكانة اجتماعية - تاريخية متميزة للحاضر.

والحال أنه يبدو أن بعض عناصر المذهب الألتوسيري تشكل تبريراً -شعورياً أو لا شعورياً- لهذه النزعة الأيلية. فالامتياز اللامشروع، و”الإيديولوجي”، للحاضر يصبح هنا “علمياً” بفضل استعمال مصطلحات ملائمة. يتحدث ألتوسير عن “الأولوية الإبستمولوجية المشروعة للحاضر على الماضي”، التي يبدو حسبها أن “النظر إلى الماضي من خلال الحاضر” ليس “إيديولوجياً”، بل معرفة “علمية”. وتلك فعلاً، إيديولوجيا في صورتها الخالصة.

إن من الجائز أن نقبل مع الفيبريين فكرة الأولوية المنهجية للحاضر: فالمؤرخ ينتقي الأسئلة التي يطرحها على الماضي من خلال معاييره الحالية. إن الحديث عن أولوية إبستمولوجية يتضمن إمكانية تشويه لاحق للواقع التاريخي بدلالة المتطلبات المتغيرة للحاضر، والأمثلة التي ما تزال قريبة العهد والمتعلقة بالمحاكمات التطهيرية، تظهر أن تلك ليست وجهة نظر متعلقة بالفكر.

من المثير للدهشة أن الألتوسيريين يميلون إلى مؤاخذة النزعة التاريخية، من حيث إنها تهمل الخصوصية التاريخية. “إن المشروع المتمثل في تصور الماركسية كنزعة تاريخية (مطلقة)، يبعث آلياً التأثيرات المتلاحقة لمنطلق ضروري، يهدف إلى اختزال الكلية الماركسية، ومطابقتها مع نسخة معينة من الكلية الهيجلية، وينتهي- حتى وهو يحتاط بالقيام بتمييزات ذات طابع بلاغي، إن قليلاً أو كثيراً- إلى طمس واختزال أو إخفاء الفروق الفعلية التي تفصل بين المستويات “ (ألتوسير وباليبار).

ونحن نود أن نرى أمثلة ملموسة لدعم هذه الاعتبارات الغربية، وفي انتظار دليل مضاد، فإن المتمسكين بالنزعة التاريخية يبدو أنهم أفضل حراس هذه الخصوصية، أكثر من تلاميذ ألتوسير. والمثال المثير، فعلاً، بصدد هذا المسار الذي “ينتهي إلى طمس واختزال أو إخفاء الفروق الفعلية التي تفصل بين المستويات”، يأتي بالضبط من أحد أتباع ألتوسير. فقد كتب E.Terry في كتابه المهم، المخصص لمشكل التطبيقات الإتنولوجية للمادية التاريخية، ما يلي: “نحن نعلم أنه بالنسبة لماركس، لم تظهر الطبقات “في صورتها الخالصة” إلا عندما أرسى نمط الإنتاج الرأسمالي هيمنته. وعندما يصبح نمط إنتاج آخر سائداً -عبودياً أو إقطاعياً مثلاً- فإن الطبقات تقدم على شكل عشائر أو أنظمة أو ظروف”. والإحالة على ماركس هنا إحالة كاملة. يحيل Terry إلى نص كلاسيكي، حقًّا، لكن قيمته العملية الضئيلة قد أشير إليها من طرف (ج. غورفيتش).

وفي هذا الصدد، يأخذ تمييز رودنسون بين “ماركس عالم الاجتماع” و”ماركس المنظر الإيديولوجي”، كل قيمته وفائدته. ليس هناك، من وجهة النظر العلمية، مقياس مشترك بين نضال العبد القديم، الخالي تماماً من أية عناصر طوباوية، وبين نضال البورجوازي سنة 1789م، وهو نضال محمل بيوتوبيا تعادلية، كما أنه ليس من الممكن إقامة تصور مشترك، يضم العشائر الهندوسية الخالية من الحركية الاجتماعية، وفئات ميدلتاون الأمريكية. وعندما قام ماركس بالمطابقة بينهما، فقد مارس كإيديولوجي نوعاً من “المطابقة المتسلسلة”، التي ما تزال بقاياها الإيديولوجية حية إلى اليوم.

ليس هناك أي شيء يسمح لنا باعتبار التاريخ الماضي كمقدمة لحاضر “متميز وممتاز”. اللهم إلا من خلال قبولنا لأرضية وجود معنى خفي للتاريخ، ولا ينقص E.Terry إلا مدلول فكر فوق إنساني وفوق تاريخي حتى يلتحق تصوره بتصور Boussuet، هكذا نرى إذن أنه يكفي أن يدير المرء ظهره لنزعة التاريخية حتى يسقط في الميتافيزيقا، وتلك هي الخلاصة التي ننتهي إليها في هذا الجرد العام.

مقاومة التغير

يمكن كذلك أن نقوم بتحليل مناظر لإيديولوجيا مختلفة تماماً. فالنقد الذي يوجهه محمد جسوس لنظرية التوازن الاجتماعي Equilibrum Theory عند تالكوت بارسنز، يبين أن نظرية ذات طابع علمي يمكن أن تؤدي دور تبرير إيديولوجي. وهنا يمكن أن نشير إلى التوازن مع الوظيفة الإيديولوجية للألتوسيرية، التي رأيناها سابقاً. تظهر الإيديولوجيا في هاتين الحالتين كعامل مقاومة للتغير.

تهدف نظرية التوازن الاجتماعي هاته، “إلى إظهار الكيفية التي يعمل بها مجتمع ما، في حالة ما إذا شكل نظاماً متوازناً توازناً قاراً. تخلق نظرية التوازن تصوراً خاصاً للدينامية الاجتماعية، وهي تساعد على تفسير ثلاثة أنماط من التغيرات الحادثة في التنظيم العالمي: (أ) تغيرات ضرورية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي (“الحركات الدورية” المرحلية، وتمايز البنية الاجتماعية)، (ب) تغيرات أخرى متلائمة مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي (نمو بعض المتغيرات نمواً تراكمياً على مدى طويل)، (ج) وأخيراً التقلبات المحدودة والمقابلة للانعكاس حول وضعية تتميز بالتوازن الاجتماعي.

“ولعل تحليلاً أكثر دقة لهذه النتائج، يكشف أن نظرية التوازن تتضمن عدداً كبيراً من النقائص والحدود التي يمكن أن تؤذي البحث السوسيولوجي.

أولاً: لأنها تركز على القوى ذات المنشأ الخارجي، من حيث إنها هي المصدر الأساسي للتغيرات البنيوية، بحيث يبدو أن نظرية التوازن تكاد توحي بأن التوترات الاجتماعية العنيفة تحدثها أسباب خفية، وربما أسباب لا يمكن معرفتها.

ثانياً: لا تقدم لنا هذه النظرية أي تفسير مقنع لعملية التكيف الجماعي مع التوترات الاجتماعية.

ثالثاً: لأنها تصادر على أن التغيير الاجتماعي هو دوماً حركة تسير في اتجاه التوازن، وفي اتجاه دمج واختزال التوترات الاجتماعية، وبذلك فإن نظرية التوازن تحكم على نفسها بأن تبقى غير قادرة على فهم ديناميكية الثورات، والطفرات الاجتماعية، والانعطافات الفجائية في مسار التطور الاجتماعي.

رابعاً: يبدو أن نظرية التوازن غير قادرة على تفسير وتقديم أهمية وسعة التغير الاجتماعي، لأنها غير قادرة لا على استشراف شدة التوترات البنيوية، ولا على تحليل أنماط التكيف الجماعي التي ينتج عنها تحليل مضبوطً”. (عن الخلاصة الفرنسية لمحمد جسوس).

من أجل أن نبين الدلالة الإيديولوجية لهذه النظرية، يتعين أن نتذكر أهمية نفي التغير في “الإيديولوجيا المنتشرة”، أو بعبارة أخرى في الوعي الزائف - حول الحياة الأمريكية التقليدية. فالأمريكي المتوسط مقتنع صراحة بأن “الآباء المؤسسين” قد خلفوا له سير المجتمع الكامل، واحترامه شبه السحري لـ”دستور” بلاده يعود إلى هذه النفسية عينها. ولعل تاريخ أي بلد ذي أهمية لم يعرف - باستثناء السويد - عدداً قليلاً من التغيرات.

إن النفسية التقليدية للأمريكي المتوسط، يمكن أن تتلاءم مع فكرة التغيرات الميلية التي تذهب في اتجاه التحسن، فالتغيرات البنيوية تفهم فهما سيئا، وتعزى بسهولة إلى تأثيرات خارجية، مما يكتسي في الممارسة العملية صبغة نفور من الأجنبي، بل صبغة نزعة عنصرية. لقد مارست هذه الذهنية تأثيراً على الفكر السياسي للجناح المحافظ في الحزب الجمهوري، بل دمغت بطابعها التعليم العالي في الولايات المتحدة.

هناك “تماثلات” بين هذه الإيديولوجيا المحافظة ونظرية بارسنز، وهي تماثلات مشابهة لتلك التماثلات القائمة بين المتطلبات الإيديولوجية للستالينية والمجهود النظري لحلقة ألتوسير. وهذه الملاحظة لا تتضمن أي حكم ذي قيمة، فنحن نعلم أن مؤرخين في مثل جدية H.Pirenne، قد بينوا أن الاحتكاك الثقافي هو المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي.

ومن ناحية أخرى فإن الخلاصة التاريخية لفترات طويلة من الانعزال، بجانب غياب شبه كامل لتغيرات بنيوية، كما هو الأمر في فترة الطوكوغاوا في اليابان، أو الفترة الاستعمارية في المكسيك، تبرر جزئياً على الأقل نظرية بارسنز. ومع ذلك فإنها لا تنتقدها في كونها تنتمي بكل أحقية لإيديولوجيا قطاع من المجتمع الأمريكي (انظر جوناس أيضاً).

-4-
   الإيديولوجيا والحقيقة

تبقى فقط مشكلة هامة هي مشكلة العلاقة بين الإيديولوجيا والحقيقة، (هـ. لوفيفر و ف. شاتلية: الإيديولوجيا والحقيقة). فدراسة هذا المشكل تتطلب مقالاً خاصاً، لكن هذا البحث سيبقى ناقصاً إن لم يطرح على الأقل الخطوط الأولى للمشكل.

إن التمييز بين الأصل الاجتماعي للمعارف، والتحديد الاجتماعي - السياسي للوعي، يمكننا أيضاً من أن نحل صعوبة اصطدم بها باحثون مرموقون من صنف ريمون أرون (أبحاث فلسفية)، في بحث ينتمي إلى فترة شبابه، والذي كان له مع ذلك فضل طرح المشكل السوسيولوجي للإيديولوجيا في فرنسا لأول مرة. وفعلاً فإن الإقرار بالأصل الاجتماعي لنظرية ما، لا يتضمن أي شك في صلاحيتها المحدودة، أو “المنظورية”، وهكذا مثلاً فالموافقة مع دوركهايم على الأصل الديني لمفهوم الطاقة، لا يسلب مدلول الطاقة الذرية قيمته العملية.

وفي النهاية فإن لسوسيولوجية المعرفة تأثيراً ضئلاً نسبياً على الإبستيمولوجيا أو نظرية المعرفة. وتأدلج (أو أدلجة) النظريات العلمي، هو وحده المشكل المطروح بصدد معامل مصداقية هذه النظريات. وبذلك فإن مشكلنا يجد نفسه مطروحاً ببساطة.

وليس هذا التأدلج ذاته مرادفاً للشك في صدق هذه النظريات. وسنتبنى بصدد هذه النقطة الخلاصات الواضحة لرودنسون. إذ إنه يمكن أن تندمج بعض النظريات العلمية الصحيحة ضمن مجموعات إيديولوجية كبرى. والاستدلال الذي نسمعه أحياناً بأن “هذه النظرية خاطئة لأنها جزء من سياق إيديولوجي معين”، تشكل إقحاماً غير مبرر للإيديولوجيا في ميدان العلم.

يمكن لأية محاولة إيديولوجية أن تلعب دوراً إيجابياً بتمهيدها الميدان أمام محاولة علمية. إن الهوى الإيديولوجي يولد اهتماماً يبقى أحياناً راسخاً بعد انطفاء الأهواء، ويمكن أن يفتتح الطريق لدراسات ذات قيمة علمية.

ومفهوم الخطأ لا يمتلك في العلوم الإنسانية، العمق نفسه الذي يمتلكه في العلوم الطبيعية، وذلك بالضبط بسبب أهمية مدلول المنظور. والحال أن للسياقات السياسية السلطوية ميلاً نحو استعمال لفظ “خطأ” في معناه العلمي، وهو أمر يحيلنا على تصورهم المشيَّأ للواقع الاجتماعي. (أدورنو). إن التأدلج غالباً ما يعمل لصالح انتقاء موجَّه، بين تصورات نظرية ذات قيمة متقاربة، هذا “الاختيار الإيديولوجي” لا يمكن أن يضمن صلاحية النظريات المنتقاة، لكنه لا يضمن إيضاح طابعها الخاطئ.

إن أهمية مفهوم “المطابقة” في الإبستمولوجيا (لدى مييرسون) وفي آليات التأدلج كذلك، يطرح مشاكل خاصة. ما هي الحدود التي تفصل المطابقة (identification) “الجيدة” عن المطابقة “السيئة”؟ سنقتصر هنا - مع إحالة القارئ إلى دراستنا حول “الوعي الزائف” - على تسجيل أن المطابقة العلمية تهدف إلى تبسيط الوقائع المعقدة لجعلها في متناوله، أما المطابقة الإيديولوجية “فتبالغ في تبسيط” الوقائع التي قد تكون بسيطة أحياناً، بغية أن تفوز، مقابل هذه الراحة الفكرية بانضواء الجماعات في إطارها.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الآلية التي وصفها إ. مييرسون (Meyrson) تهدف إلى التعريف بشيء عن طريق تشبيهه بشيء معروف من قبل. إن المطابقة الإيديولوجية تميل إلى جعل الناس يكرهون شيئاً ما، عن طريق تشبيهه ومماثلته بشيء مكروه من قبل (تيتوفرانكو). لكن الحدود غير واضحة، إذ يمكن أن تكون هناك أشكال انتقالية وحالات مختلطة.

إن الضمان الحقيقي لمشروعية مطابقة معينة، هو في النهاية القدرة الجيدة على الإدراك والتمييز، التي هي قدرة يصعب صياغة قانونها صياغة مجردة، بقدر ما هي في الغالب قدرة بديهية في الواقع الملموس. 

 

 

الهوامش:

* عن الموسوعة الشاملة.